منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

اتفقوا على كونه (١) مجازاً في الاستقبال؟ لا يقال (٢) : يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه (٣) كما هو (٤) الظاهر منه عند إطلاقه ، وادّعي أنّه (٥) الظاهر في المشتقات ، إمّا لدعوى الانسباق من

______________________________________________________

أحد الزمانين دلالتهما عليه بالقرينة؟ مع أنّهم اتّفقوا على كون المشتق مجازاً في المستقبل ، فلو كان الزمان داخلا في مفهوم المشتق لم يكن للاتفاق على المجازية مجال ، لمنافاته له.

وبالجملة : فهذا الاتفاق شاهد على خروج الزمان عن مدلول الاسم.

(١) أي : المشتق.

(٢) توضيحه : أنّه يمكن أن يكون مرادهم بالحال في عنوان البحث زمان النطق وهو الحال المقابل للماضي والمستقبل ، لا زمان التلبس ، لوجهين : الأول : أنّ الظاهر من الحال عند إطلاقه هو الزمان المقابل للماضي والمستقبل لا حال التلبس.

(٣) أي : زمان الحال المقابل لأخويه.

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الأول ، وضمير ـ هو ـ راجع إلى ـ زمان الحال ، وضمير ـ منه وإطلاقه ـ راجع إلى ـ الحال ـ.

(٥) أي : زمان الحال ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني.

وحاصله : دعوى ظهور المشتقات ـ بل وغيرها من الصفات الجارية على الذوات كالزوج والحر والرق وغيرها من الجوامد ـ في زمان الحال أيضا ، ومنشأ هذا الظهور : إمّا انصراف إطلاق المشتقات إلى زمان الحال ، وإمّا مقدمات الحكمة ، بأن يقال : إنّ المتكلم في مقام البيان ، وليس في البين قدر متيقن في مقام التخاطب ولا ما يدل على خصوص حال التلبس ، ونتيجة هذه المقدمات هي الحمل على الزمان المقابل للزمانين الماضي والمستقبل ، لأنّ إرادة حال التلبس تحتاج

٢٦١

الإطلاق (١) أو بمعونة قرينة الحكمة (٢).

لأنّا نقول (٣). هذا الانسباق وإن كان مما لا ينكر ، إلّا أنّهم في هذا

______________________________________________________

إلى التنبيه عليها ، بأن يقال : حال التلبس (*) بالإضافة ، إذ لا تدل الحال بدون هذه الإضافة على حال التلبس.

(١) هذا إشارة إلى المنشأ الأوّل للظهور.

(٢) هذا إشارة إلى المنشأ الثاني للظهور.

(٣) هذا دفع الإشكال الّذي تعرض له بقوله : ـ لا يقال ـ.

ومحصل الدفع : أنّ انسباق الحال المقابل لزماني الماضي والاستقبال وان كان مما لا سبيل إلى إنكاره ، إلّا أنّه ليس أمارة على وضع المشتق له ، حيث إنّ التبادر المثبت للوضع هو ما يكون مستنداً إلى حاقِّ اللفظ ، دون ما هو مستند إلى الإطلاق كالمقام ، فإنّ مثل هذا التبادر لا يصلح إلّا لتعيين المراد ، دون تشخيص الموضوع له الّذي هو مورد البحث في مسألة المشتق.

وبالجملة : فالتبادر المستند إلى الإطلاق أو قرينة الحكمة لا يُجدي في إثبات الوضع حتى يكون انسباق الحال المقابل للماضي والمستقبل المستند إلى الإطلاق أو الحكمة أمارة على وضع المشتق لحال النطق لا حال التلبس.

__________________

(*) لا يقال : إنّ للحال المقابل للزمانين نحو تعيُّن أيضا ، وهو يتوقف على البيان ، فمقدمات الحكمة لا تقتضي حمل الحال عليه أيضا.

فانه يقال : إنّه يكفي في المصير إليه كون نفس لفظ الحال بلا قيد قالباً له بحيث لا يصرف عنه إلى حال التلبس إلّا بقرينة صارفة ، بخلاف حال النسبة ، فإنّ لفظ الحال ليس قالباً لها ليحمل عليها بدون القرينة.

٢٦٢

العنوان (١) بصدد تعيين ما وضع له المشتق ، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه (٢).

(سادسها) : أنّه لا أصل (٣) في نفس هذه المسألة (٤) يعوّل عليه عند الشك ، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية (٥)

______________________________________________________

(١) يعني : عنوان المشتق في قولهم : هل المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال أم في الأعم؟.

(٢) أي : من المشتق ، فإنّ تعيين المراد مقام ، وتمييز المعنى الحقيقي عن غيره مقام آخر.

(٣) أي : لا أصل لفظي ، والغرض من عقد هذا الأمر : بيان أنّه هل يمكن تعيين الموضوع له في المشتق من كونه خصوص حال التلبس أو أعم منه ومما انقضى عنه المبدأ بالأصل اللفظي عند الشك وعدم نهوض الأدلة على أحد هذين المعنيين أم لا؟ وحاصل ما أفاده في ذلك : أنّه لا أصل في البين يعيِّن أحد المعنيين ، لأنّ كلًّا من الخصوص والعموم خصوصية مسبوقة بالعدم ، ومع الشك فيهما لا يجري الأصل في شيء منهما كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(٤) أي : مسألة المشتق بحيث يكون مجرى الأصل نفس معناه ، لا ما يترتب عليه من الحكم الفرعي كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(٥) أي : خصوصية حال التلبس.

توضيحه : أنّه يرد على استصحاب عدم لحاظ هذه الخصوصية إشكالان :

أحدهما : أنّه معارض باستصحاب عدم لحاظ العموم للمنقضي عنه المبدأ ، فإنّ كُلًّا من خصوصيتي التلبس والانقضاء مما يحتاج إلى التصور واللحاظ ، وكلٌّ منهما حادث مسبوق بالعدم ، فمع الشك في كلٍّ منهما يجري فيه أصل عدمه ، فيسقط الأصلان بالمعارضة ، لعدم كون أحدهما أثراً للآخر حتى لا يتحقق التعارض بين

٢٦٣

مع (١) معارضتها (*) بأصالة عدم ملاحظة

______________________________________________________

الأصلين الجاريين فيهما.

ثانيهما : أنّه لا دليل على اعتباره في تعيين الموضوع له ، لأنّ الثابت عند العقلاء هو اعتباره في تعيين المراد لا في تشخيص الموضوع له ، فلا سبيل إلى إحرازه بالأصل المزبور. وان شئت فقل : إنّ الأصل المذكور حجة في تعيين المراد ، لا في كيفية الإرادة ، وأنّها بنحو الحقيقة أو المجاز مع العلم بالمراد ، فالمشتق إذا استعمل في المنقضي عنه المبدأ فالمراد معلوم وكيفية الإرادة مجهولة.

(١) هذا هو الإشكال الأوّل ، وقد عرفت تقريبه.

__________________

(*) لا يخفى أنّه إن أُريد بأصالة عدم لحاظ الخصوصية الاستصحاب ، فلا يجري حتى تصل النوبة إلى التعارض ، لعدم ترتب أثر شرعي عليه ، وذلك لأنّ موضوع الأثر ـ وهو الوضع للأعم ـ لا يثبت باستصحاب عدم لحاظ الخصوصية إلّا بناءً على الأصل المثبت ، لكون الخصوصية والعموم متضادين ، وإثبات أحدهما بنفي الآخر من الأصل المثبت. نعم بناءً على كونهما من قبيل الأقل والأكثر لا تجري أصالة عدم لحاظ العموم ، حيث إنّه لأقليته يعلم بلحاظه على كل حال سواء لوحظ الخاصّ أو العام ، حيث إنّ لحاظ الخاصّ يقتضي لحاظ العام مع أمر زائد وهو خصوصية الخاصّ.

والحاصل : أنّ العموم ملحوظ قطعاً ، فلا يجري فيه الأصل فلا تعارض في البين ، هذا. إلّا أن يقال : إنّ الخصوص ان كان هو الملحوظ فمن المعلوم أنّ العام المتصور في ضمنه هو ذاته لا بوصف العموم ، وعليه فلا مانع من جريان الأصل في العموم ، لكون لحاظه بهذا الوصف مشكوكاً فيه. وإن أُريد بها الأصل العقلائي الّذي هو من الأُصول اللفظية فالمثبت منها وان كان حجة ، إلّا أنّ الشأن

٢٦٤

العموم (١) ـ لا دليل ـ على اعتبارها في تعيين الموضوع له (٢). وأمّا (٣) ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز إذا دار الأمر بينهما (٤) لأجل (٥) الغلبة ـ فممنوع ـ ، لمنع الغلبة (٦) أوّلاً ، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها (٧)

______________________________________________________

(١) الشامل للتلبس والانقضاء معاً.

(٢) الّذي هو المقصود هنا ، لأنّ البحث إنّما هو في المعنى الّذي وضع له المشتق لا فيما يراد به.

(٣) إشارة إلى ما قد يتوهم من إمكان إثبات وضع المشتق للأعم بأصل آخر وهو الغلبة ، تقريب التوهم : أنّه إذا دار أمر اللفظ بين كونه مشتركاً معنوياً بين معنيين أو أزيد وبين كونه حقيقة في أحدهما ومجازاً في الآخر حُكم بالأوّل ، لغلبته أي كونه أكثر من الثاني ، ففي المقام يثبت وضع المشتق للأعم للغلبة.

(٤) أي : بين الحقيقة والمجاز وبين الاشتراك المعنوي.

(٥) متعلق بقوله : «ترجيح» وقد دفع المصنف (قده) هذا التوهم بوجهين.

(٦) إشارة إلى الوجه الأوّل ، وحاصله : منع الصغرى وهي الغلبة ، إذ لم يثبت أكثرية المشترك المعنوي من الحقيقة والمجاز حتى يصار إليه بقاعدة ـ الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب ـ.

(٧) أي : الغلبة ، هذا إشارة إلى الوجه الثاني ، وحاصله : منع الكبرى ، وتقريبه : أنّه بعد البناء على ثبوت الغلبة نمنع حجيتها ، إذ لا دليل على اعتبار الظن الحاصل من الغلبة حتى يرجح به القول بالاشتراك المعنوي ، فإنّ الترجيح فرع الحجية ، والشك في اعتباره كافٍ في عدم جواز الترجيح به كما لا يخفى.

__________________

في أصل حجيتها في إثبات الوضع ، إذ لم يثبت بناءُ من العقلاء على اعتبارها في إثباته. ثم إنّ ظاهر كلام المصنف (قده) بقرينة تعرُّضه فيما بعد للأصل العملي هو : أنّ مراده بأصالة عدم الخصوصية الأصل اللفظي.

٢٦٥

ثانياً (*). (وأمّا الأصل العملي) فيختلف في الموارد ، فأصالة البراءة في مثل ـ أكرم كل عالم ـ (١) يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب ، كما أنّ قضية الاستصحاب وجوبه (٢) لو كان الإيجاب قبل الانقضاء (**). فإذا

______________________________________________________

(١) مما يكون الشك فيه في حدوث التكليف.

توضيحه : أنّه ـ بعد أن نفي الأصل اللفظي المثبت لوضع المشتق للأعم أو الأخص ـ تعرّض لما يقتضيه الأصل العملي من الحكم الفرعي ، فقال : إنّ تشريع الحكم تارة يكون بعد انقضاء البداء كما إذا قال : «أكرم كل عالم» مثلا بعد انقضاء العلم عن الذات المتصفة به ، وأُخرى يكون قبل انقضائه عنها. فان كان بعده ، فمقتضى أصل البراءة عدم الوجوب ، لأنّ المشتق ان كان حقيقة في الأعم فوجوب إكرامه ثابت ، وإن كان حقيقة في خصوص حال التلبس فإكرامه غير واجب ، فالشك في معنى المشتق أوجب الشك في حدوث الوجوب ، ومقتضى أصالة البراءة عدمه. وإن كان تشريعه قبل انقضاء العلم عنها ، فمقتضى الاستصحاب بقاء وجوبه ، إذ المفروض القطع بوجوب إكرامه قبل زوال العلم عنه ، فبعده يشكّ في ارتفاع الوجوب ، إذ على تقدير وضع المشتق للأعم فالحكم باقٍ ، وعلى تقدير وضعه للأخص فالحكم مرتفع ، وحيث إنّ الحكم مشكوك فيه ، فالاستصحاب يقتضي بقاءه.

(٢) أي : وجوب الإكرام.

__________________

(*) لا يخفى أنّ المناسب تقديم التعرض للغلبة على أصالة عدم الخصوص أو العموم إن أراد بها الأصل العملي أعني الاستصحاب ، لترتب جريانه على فقد الدليل من الغلبة وغيرها من الأدلة التي لا يرجع معها إلى الأُصول العملية.

(**) بل الأصل الجاري في هذه الصورة ليس إلّا البراءة أيضا ، ضرورة أنّ منشأ الشك في بقاء الحكم هو إجمال المفهوم وعدم تبيّن حدوده ، ولا مجال لجريان

٢٦٦

عرفت ما تلوناه عليك ، فاعلم : أنّ الأقوال في المسألة وان كثرت (١) إلّا أنّها حدثت بين المتأخرين بعد ما كانت ذات قولين (٢) بين المتقدمين ، لأجل (٣) توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى (٤)

______________________________________________________

(١) وصارت ستة ، خمسة منها باعتبار المبادئ ، وواحد منها باعتبار الأحوال الطارئة في الاستعمال كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(٢) وهما : القول بكون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ ومجازاً في غيره ، والقول بكونه حقيقة في الأعم منه ومما انقضى عنه المبدأ.

(٣) متعلق بقوله : «حدثت» وغرضه من هذه العبارة : بيان منشأ حدوث الأقوال بين المتأخرين.

(٤) من حيث الفعلية والشأنية والملكية وغيرها ، وهو المنشأ الأوّل لحدوث بعض الأقوال بين المتأخرين ، حيث إنّهم تخيّلوا أنّ المشتق حقيقة في المنقضي عنه التلبس إذا كان المبدأ ملكة أو قوة أو صنعة ، فإنّ المشتق يطلق حقيقة على الذات

__________________

الاستصحاب فيه ، لكون إجمال المفهوم موجباً للشك في بقاء الموضوع الموجب لعدم جريان الاستصحاب ، لأنّ إحراز بقاء الموضوع مما لا بدّ منه في جريانه ، ولذا لا نقول بجريانه في جميع موارد تبدُّل حال وزوال وصف من أوصاف الموضوع ، لاحتمال دخله فيه ، ولذا يشكل جريان الاستصحاب في مثل الماء المتغير الزائل تغيُّره من قِبَل نفسه وإن أمكن دفعه فيه بإرجاع الشك إلى كيفية علّية التغيُّر للنجاسة ، وأنّه علة لها حدوثاً وبقاءً أو حدوثاً فقط ، إذ بهذا الاعتبار يصير الحكم مشكوكاً فيه فيستصحب.

وبالجملة : ففي المفهوم المردد كالمقام لا يجري الاستصحاب ، بل الجاري في كلتا الصورتين إنّما هو البراءة.

٢٦٧

أو بتفاوت (١) ما يعتريه (٢) من الأحوال (٣) ، وقد مرّت الإشارة (٤) إلى أنّه (٥) لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده (٦) ، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار وهو اعتبار (٧) التلبس في الحال (٨) وفاقاً لمتأخري الأصحاب والأشاعرة ، وخلافاً لمتقدميهم والمعتزلة ، ويدلّ عليه (٩) تبادر خصوص

______________________________________________________

بعد انقضاء المبدأ عنه إذا كان المبدأ من هذا القبيل ، وأمّا إذا كان من قبيل الفعل كالقيام والقعود ، فيطلق المشتق على من انقضى عنه المبدأ مجازاً.

(١) معطوف على قوله : «باختلاف» وهو المنشأ الثاني لحدوث بعض الأقوال بين المتأخرين.

(٢) أي : ما يعتري المشتق.

(٣) يعني : الأحوال الطارئة على المشتق مثل كونه محكوماً عليه أو محكوماً به ، فقال بعضهم باشتراط البقاء في الثاني دون الأول.

(٤) مرّت في الأمر الرابع حيث قال : «رابعها : أنّ اختلاف المشتقات ... إلخ» لكنّه كان في خصوص اختلاف المبادئ دون الأحوال.

(٥) أي : اختلاف المبادئ لا يوجب التفاوت في وضع هيئة المشتق الّذي نحن بصدده.

(٦) من كون الموضوع له خصوص المتلبس بالمبدإ أو الأعم.

(٧) هذا شروع في بيان المذهب المختار.

(٨) أي : في حال الجري بأن يتحد زمانا التلبس والحمل كما تقدم.

(٩) أي : على المختار ، يعني : أنّه لا ريب في أنّ قولنا : «زيد قائم» مثلا ظاهر في تلبس زيد بالقيام حين الحمل والإطلاق ، وهو المتبادر منه وجداناً ، دون الذات الجامعة بين زماني التلبس والانقضاء ، وقد قرر في محله : انّ التبادر أمارة

٢٦٨

المتلبس بالمبدإ في الحال (١) ، وصحة السلب مطلقاً (٢) عما انقضى عنه كالمتلبس به في الاستقبال ، وذلك (٣) لوضوح أنّ مثل ـ القائم ـ والضارب ـ و ـ العالم ـ وما يرادفها من سائر اللغات لا يصدق على من لم (٤) يكن متلبساً بالمبادئ وان كان متلبساً بها قبل الجري والانتساب (٥)

______________________________________________________

الحقيقة (*).

(١) أي : حال الحمل والإطلاق.

(٢) أي : بلا قيد يوجب صرفه عن معناه كتقييد المشتق بالأمس والغد وغيرهما ، فإنّ صحة سلبه بما له من المعنى المرتكز عن الذات التي انقضى عنها المبدأ أمارة كون حمل المشتق عليه مجازاً ، كصحة سلبه فعلاً عمن يتلبس به في المستقبل ، فتبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال علامة كون المشتق حقيقة فيه ، كما أنّ صحة سلب المشتق عما انقضى عنه المبدأ علامة كون المعنى المسلوب مجازاً.

وبالجملة : فالتبادر يثبت الوضع بالنسبة إلى خصوص حال التلبس ، وصحة السلب تثبت المجازية بالنسبة إلى المنقضي عنه المبدأ.

(٣) تقريب لصحة السلب عما انقضى عنه المبدأ.

(٤) الصواب : «من لا يكون متلبساً فعلا بالمبادي ... إلخ» ، إذ غرضه (قدس‌سره) صحة السلب عمن لا يكون متصفاً فعلا بالمبادئ وإن كان متلبساً بها قبله وانقضت عنه.

(٥) أي : قبل الحمل والإطلاق.

__________________

(*) لا ينبغي الإشكال في أصل التبادر ، لكن الكلام في أنّه مستند إلى حاق اللفظ أو الإطلاق ، ولا سبيل إلى إحراز الأوّل ، فلا يكون أمارة ، وقد تقدم في علائم الوضع الإشكال في أمارية التبادر للجاهل به.

٢٦٩

ويصح (١) سلبها (٢) عنه (٣) كيف (٤)؟ وما يضادها (٥) بحسب ما ارتكز من (٦) معناها (٧) في الأذهان يصدق عليه (٨) ، ضرورة صدق القاعد عليه (٩) في حال تلبُّسه بالقعود بعد انقضاء تلبسه بالقيام مع وضوح التضاد بين

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «يصدق».

(٢) أي : سلب القائم والضارب والعالم وما يرادفها من سائر اللغات.

(٣) أي : عمّن لا يكون متلبّساً بالمبادئ فعلا وان كان متلبساً بها قبل ذلك.

(٤) غرضه من هذه العبارة : بيان ما هو السِّر في صحة السلب عمن انقضى عنه المبدأ.

توضيحه : أنّه كيف لا يصح السلب المذكور عنه مع صدق ما يضاد المشتقات المذكورة أعني القائم وما بعده من القاعد عليه؟ وصدق القائم والقاعد حقيقة على ذات واحدة في آنٍ واحد مستلزم لجواز اجتماع الضدين ، فلا بد من صحة سلب القائم عنه حتى يصح حمل القاعد عليه.

(٥) أي : وما يضاد القائم والضارب والعالم وما يرادفها.

(٦) بيان للموصول في قوله : «ما ارتكز».

(٧) الضمير راجع إلى ـ ما ـ الموصولة في قوله : «ما يضادها» والتأنيث باعتبار ما أُريد منه أعني الصفات كالقاعد ونحوه.

(٨) يعني : يصدق ما يضاد القائم وما بعده على غير المتلبس فعلاً بالقيام والضرب والعلم ، ففاعل ـ يصدق ـ ضمير راجع إلى ـ ما يضاده ـ.

(٩) أي : على غير المتلبس بالقيام وما بعده مع تلبسه بالقعود فعلاً ، فيصدق عليه القاعد ، فلو صدق عليه القائم أيضا لزم اجتماع الضدين ، لكون القائم والقاعد بحسب ما لهما من المعنى المرتكز متضادين.

٢٧٠

القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى كما لا يخفى. وقد يقرّر هذا (١) وجهاً على حدة (٢) ويقال (٣) : لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني ، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينها (٤) مضادة بل مخالفة ، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدإ الآخر (٥). ولا يرد على هذا التقرير (٦) ما أورده بعض الأجلة من

______________________________________________________

(١) أي : لزوم اجتماع المتضادين.

(٢) أي : دليلا مستقلا في مقابل صحة السلب ، ويسمى ببرهان التضاد ، فيمكن إثبات هذا المدعى به من دون أن يكون ضميمة لصحة السلب ومتمِّما لها.

(٣) يعني : ويقال في تقريب برهان التضاد ما ملخصه : أنّه لا شبهة في مضادة الصفات المأخوذة من المبادئ التي يكون بين معانيها تضاد ارتكازي كالقائم والقاعد والعالم والجاهل ، وحينئذٍ فإذا انقضت صفة عن ذات متصفة بها ثم تلبست الذات بضد تلك الصفة ، فإذا بنينا على كون المشتق موضوعاً للأعم لَزِم صدق الصفة المنقضية على الذات حين اتصافها بضدها ، كصدق القائم على من انقضى عنه القيام وتلبس بالقعود في حين اتصافه بالقعود ، وبديهي : أنّ صدق الصفات المتقابلة على موضوع واحد في آنٍ واحد علامة كونها صفات متخالفة ، لا متضادة ، لأنّ جواز اجتماعها من شأن الصفات المتخالفة كالبياض والحموضة ، لا المتضادة ، وهو خلاف ما فرضناه من كون المبادئ متضادة.

(٤) أي : بين الصفات المأخوذة من المبادئ المتضادة.

(٥) يعني : مع أنّ مقتضى تضاد المبادئ تضاد الصفات المأخوذة منها أيضا.

(٦) أي : تقريب تضاد الصفات المأخوذة من المبادئ المتضادة ارتكازاً.

٢٧١

المعاصرين (١) من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط (٢) ، لما (٣) عرفت

______________________________________________________

(١) وهو المحقق الرشتي (قده) في البدائع ، فإنّه بعد تقرير الاستدلال بأنّ مفهوم أبيض بعد عروض السواد إن كان فانياً كان الصدق مجازياً ، وإلّا لزم تصادق المتضادين ، قال ما لفظه : «قلت : وهذا الاستدلال في غاية السقوط ونهاية الفساد ، لأنّ مفهوم أبيض على القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق ليس مضاداً لمفهوم أسود ، بل النسبة بينهما على هذا القول نسبة التخالف بطريق العموم من وجه لا نسبة التضاد كما لا يخفى ، فالجسم العارض له السواد بناءً على هذا القول مادة لاجتماع المفهومين فلا إشكال» انتهى. وملخص ما يستفاد من كلامه (قده) في رد برهان التضاد هو لزوم الدور ، لأنّ الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ منوط بالتضاد ، إذ المفروض كونه دليلا على الوضع لخصوص حال التلبس ، فإذا توقف التضاد على الوضع للمتلبس بالخصوص لزم الدور ، فإنّ قول المحقق الرشتي (قده) : «لأنّ مفهوم أبيض على القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ ... ـ إلى قوله ـ : ليس مضاداً لمفهوم أسود» كالصريح في توقف التضاد على اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق ، والمراد ب ـ اشتراط بقاء المبدأ ـ هو الوضع لخصوص حال التلبس ، فهذا البرهان لا يخلو عن محذور الدور ، وان شئت فقل : إنّ التضاد لا يصلح لأن يكون برهاناً على الوضع للأخص.

(٢) أي : عدم اشتراط التلبس ، والمراد به الوضع للأعم ، إذ لا تضاد حينئذٍ ، بل تكون الصفات مثل ـ القائم والقاعد ـ متخالفة لا متضادة.

(٣) تعليل لقوله : «ولا يرد على هذا التقرير ... إلخ» ومحصل وجه عدم الورود هو : أنّ التضاد لا يتوقف على الوضع لخصوص حال التلبس حتى يلزم الدور ، بل التضاد يكون ارتكازياً بين الصفات كارتكازيته بين مباديها ، فلا يرد على برهان التضاد إشكال الدور أصلا.

٢٧٢

من ارتكازه بينها (١) كما في مباديها (٢). ان قلت : لعل ارتكازها (٣) لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط (٤). قلت : لا يكاد يكون لذلك (٥)

______________________________________________________

(١) أي : من ارتكاز التضاد بين الصفات.

(٢) أي : مبادئ الصفات كالقيام والقعود والعلم والجهل وغيرها.

(٣) أي : ارتكاز المضادة بين الصفات ، وهذا إشكال على ما ذكره المصنف (قدس‌سره) من كون التضاد ارتكازياً وغير منوط بالوضع لخصوص حال التلبس. وحاصل الإشكال : أنّ ارتكاز التضاد لعلّه ناشٍ من الانسباق الإطلاقي لا من حاق اللفظ ، وبتقريب أوضح : أنّ ارتكاز التضاد لا يُثبت الوضع لخصوص حال التلبس إلّا إذا نشأ من الوضع ، وهذا غير ثابت ، لاحتمال كونه ناشئاً من الإطلاق ، لا من حاق اللفظ حتى يكون دليلاً على الوضع للأخص ، ومن المعلوم : أنّ التبادر الإطلاقي ليس من أمارات الوضع ، فمجرد ارتكازية التضاد لا يصلح لإثبات الوضع لخصوص حال التلبس.

(٤) أي : لا لأجل كون التلبس شرطاً في صدق المشتق بحسب الوضع ، والأولى تبديله ب ـ حاق اللفظ ـ ، يعني : أنّ الارتكاز لعلّه لأجل الانسباق من الإطلاق ، لا من حاق اللفظ حتى يكون دليلا على الوضع لخصوص حال التلبس.

(٥) أي : لأجل الانسباق الإطلاقي. ومحصل ما أفاده في دفع الإشكال هو : أنّ الانسباق الإطلاقي مشروط بشرط وهو كثرة استعمال المشتق في خصوص حال التلبس حتى تكون هذه الكثرة سبباً لانصراف الإطلاق إليه ، والمفروض فقدان هذا الشرط في المقام ، ضرورة كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر ، وهذه الكثرة مانعة عن انصراف الإطلاق إلى خصوص حال التلبس ، وعلى هذا فلا بد أن يكون انسباق حال التلبس مستنداً إلى حاقِّ اللفظ ، فيكون حينئذٍ أمارة على الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ.

٢٧٣

لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر. إن قلت : على هذا (١) يلزم أن يكون في الغالب (٢) أو الأغلب (٣) مجازاً ، وهذا (٤) بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع. لا يقال (٥):

______________________________________________________

(١) أي : بناءً على كثرة استعمال المشتق أو أكثريته في موارد الانقضاء يلزم أن يكون استعماله فيها مجازاً في الغالب إذا كان كثيراً ، وفي الأغلب إذا كان أكثر ، ومن المعلوم أنّ المجاز خلاف الأصل.

(٢) هذا في صورة كثرة الاستعمال.

(٣) هذا في صورة أكثرية استعماله في موارد الانقضاء من استعماله في موارد التلبس بالمبدإ الّذي هو الموضوع له حسب الفرض.

(٤) أي : وكون الاستعمال في الغالب أو الأغلب مجازاً بعيد ، إذ لا يلائمه حكمة الوضع التي هي إبراز المعاني المحتاج إليها في المحاورات بالألفاظ الموضوعة لها. وجه عدم الملاءمة أنّ هذه الحكمة تقتضي وضع الألفاظ لتلك المعاني لمسيس الحاجة إليها دون المعاني التي يكون الابتلاء بها نادراً أو الحاجة إليها قليلة ، فإنّ الوضع لهذه المعاني دون المعاني الكثيرة الابتلاء لا يلائم حكمة الوضع ، وعليه فالحكمة تقتضي الوضع للأعم من التلبس والانقضاء ، لا لخصوص المتلبس الّذي يكون نادراً بالنسبة إلى المنقضي عنه المبدأ.

(٥) هذا إشكال على ما ذكره من استبعاد مجازية استعمال المشتق في موارد الانقضاء في الغالب أو الأغلب.

وحاصله : أنّه لا وجه لاستبعاد ذلك بعد وضوح كون أكثر المحاورات مجازات ، فالاستبعاد المزبور الّذي جعل غير ملائم لحكمة الوضع لا يُثبت وضع المشتق للأعم.

٢٧٤

كيف (١) وقد قيل بأنّ أكثر المحاورات مجازات ، فإنّ ذلك (٢) ـ لو سُلِّم ـ فإنّما هو لأجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد ، نعم ربما يتفق ذلك (٣) بالنسبة إلى معنى مجازي لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه ، لكن أين

______________________________________________________

(١) يعني : كيف يكون هذا الاستعمال المجازي الكثير بعيداً غير ملائم لحكمة الوضع وقد قيل : إنّ أكثر المحاورات مجازات؟

(٢) المشار إليه هو كون أكثر المحاورات مجازات ، وهذا إشارة إلى دفع الإشكال الّذي ذكره بقوله : «لا يقال».

وحاصله : ـ بعد تسليم مجازية أكثر المحاورات ـ أنّ المقصود بهذه الكثرة هو تعدُّد المعاني المجازية بالنسبة إلى معنى حقيقي واحد كلفظ الأسد الموضوع لمعنى واحد مع استعماله في معانٍ مجازية عديدة كالرجل الشجاع وغيره ، ومن المعلوم : أنّ هذه الكثرة الموجودة في المحاورات غير قادحة في الوضع لمعنى واحد ، وغير موجبة لكون الوضع للجميع بل المقصود بالكثرة القادحة في حكمة الوضع وغير الملاءمة لها هو كون استعمال كل لفظ في المعنى المجازي الواحد أكثر من استعماله في معناه الحقيقي الواحد ، فإنّ هذه الكثرة لا تلائم حكمة الوضع وهي وضع اللفظ للمعنى الّذي تكثر الحاجة إليه ، والمفروض كون الحاجة إلى المعنى الانقضائي في المشتق أكثر من المعنى التلبُّسي ، فحكمة الوضع تقتضي وضع المشتق للأعم ، وكون استعماله في المنقضي عنه المبدأ حقيقة لا مجازاً.

(٣) المشار إليه : أكثرية الاستعمال في معنى اللفظ المجازي الواحد من الاستعمال في معناه الحقيقي كذلك.

وحاصله : أنّه كما لا ينافي كثرة المجازات بالنسبة إلى معنى واحد حكمة الوضع ولا توجب الوضع للجميع ، كذلك لا يُنافي حكمة الوضع كثرة الاستعمال

٢٧٥

هذا (١) مما إذا كان دائماً كذلك (٢) ، فافهم (٣). قلت (٤)

______________________________________________________

في معنى مجازي واحد ، لكثرة الحاجة إليه إذا كانت من باب الاتفاق ، ولا توجب هذه الكثرةُ الاتفاقية الوضعَ للأعم ، لكن إذا كان الاستعمال المجازي في المعنى الواحد دائماً كثيراً جداً كاستعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ ، فحكمة الوضع حينئذٍ تقتضي وضع اللفظ له أو للأعم منه ومن المتلبس بالمبدإ ، حيث إنّ مجازيته في المنقضي عنه تنافي حكمة الوضع.

(١) يعني : لكن أين استعمال اللفظ في معنى مجازي ـ إذا كان أكثر من معناه الحقيقي من باب الاتفاق ـ من استعماله فيه دائماً كالمشتق المستعمل في المنقضي عنه المبدأ؟ فإذا كان استعماله في المجازي دائمياً لا اتفاقياً ، فلا بد من البناء على كون استعماله في المنقضي عنه المبدأ على نحو الحقيقة ، لكون كثرة استعماله فيه دائمية لا اتفاقية.

(٢) أي : كثيراً أو أكثر.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ هذه الكثرة الدائمية أيضا لا توجب الوضع للأعم ، إذ بعد مراعاة العلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي فلا محالة يكون الوضع دخيلا في صحة الاستعمال المجازي ، فكثرة المجاز لا تنافي حكمة الوضع. إلّا أن يقال : بعدم الاعتداد بالعلاقة المزبورة ، لكون الاستعمال المجازي منوطاً باستحسان الطبع له ، فلا يكون حينئذٍ للوضع دخل فيه ، فتبطل حكمته بكثرة الاستعمال المجازي. أو إلى : أنّ عدم جواز مخالفة حكمة الوضع لا فرق فيه بين الواحد والكثير. أو إلى وجه آخر.

(٤) هذا دفع الإشكال الّذي تعرض له بقوله : «إن قلت : على هذا يلزم أن يكون في الغالب ... إلخ» وكان محصله : منافاة مجازية استعمال المشتق في

٢٧٦

مضافاً (١) إلى أنّ مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد (٢) بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه (٣) أنّ

______________________________________________________

الغالب أو الأغلب في المنقضي عنه المبدأ لحكمة الوضع ، فلا بد من الالتزام بوضع المشتق للأعم ، ثم سجّل هذا الإشكال بقوله : «لا يقال كيف وقد قيل ... إلى قوله : دائماً كذلك» والغرض من الكل : إثبات وضع المشتق للأعم ، وإلّا يلزم لغوية الوضع وبطلان حكمته. وكيف كان فقد أجاب المصنف عن الإشكال المزبور بوجهين :

أحدهما : أنّ مجرد استبعاد كون استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ في الغالب أو الأغلب مجازاً غير ضائر ، لأنّه لا يُقاوِم الأدلة التي أقيمت على وضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ ، وأمّا المنافاة لحكمة الوضع ، فلا بأس بها بعد وقوع تخلف الحكمة في الأوضاع كثيراً ، فمرجع هذا الوجه إلى تسليم كثرة المجازات وعدم قدحها في المدعي.

ثانيهما : أنّ كثرة المجازات ممنوعة ، لأنّها إنّما تلزم بناءً على عدم إمكان استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس ، وأمّا بناءً على إمكانه بلحاظه ، فلا يغلب الاستعمال المجازي على الحقيقي أصلا ، لما تقدم سابقاً من أنّ إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس يكون على وجه الحقيقة اتفاقاً ، فإذا قال : ـ جاء الضارب ـ مثلاً بعد انقضاء الضرب عنه وأراد حال التلبس ـ يعني : من كان قبل مجيئه ضارباً ـ كان هذا الإطلاق إطلاقاً حقيقياً لا مجازياً.

(١) إشارة إلى الوجه الأوّل.

(٢) وهو الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ.

(٣) يعني : على المراد ـ وهو الوضع لخصوص حال التلبس ـ ، والمراد بالوجوه المتقدمة هو التبادر ، وصحة السلب ، والتضاد الارتكازي.

٢٧٧

ذلك (١) إنّما يلزم لو لم يمكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس ، مع أنّه (٢) بمكان من الإمكان ، فيراد من ـ جاء الضارب أو الشارب وقد انقضى عنه الضرب والشرب ـ جاء الّذي كان ضارباً وشارباً قبل مجيئه (٣) حال التلبس بالمبدإ ، لا حينه (٤) بعد الانقضاء كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال (٥) وجعله (٦) معنوناً بهذا

______________________________________________________

(١) إشارة إلى الوجه الثاني ، والمشار إليه هو غلبة المجاز الناشئة عن استعماله في المنقضي عنه المبدأ.

(٢) أي : مع أنّ استعماله بلحاظ حال التلبس ـ ليتحد زمانا الإطلاق والتلبس ويكون على وجه الحقيقة ـ بمكان من الإمكان ، ومعه لا داعي إلى ارتكاب المجاز بسبب استعماله في المنقضي عنه المبدأ ، لا بلحاظ حال التلبس ، وعليه فيمكن فرض كون جميع استعمالات المشتق على نحو الحقيقة عدا استعماله فيما سيتلبس به في المستقبل الّذي هو مجاز بالاتفاق.

(٣) الأولى تقديمه بأن يقال : جاء الّذي كان قبل مجيئه ضارباً أو شارباً حال التلبس بالمبدإ.

(٤) يعني : لا حين المجيء بحيث يكون زمان المجيء ظرفاً للجري والنسبة مع فرض انقضاء المبدأ عنه ، إذ لو كان كذلك لكان مجازاً ، لمغايرة زماني الجري والتلبس.

(٥) أي : حال الانقضاء ، فإذا كان الجري بهذا اللحاظ ، فلا محيص عن كونه مجازاً.

(٦) معطوف على قوله : «الاستعمال» والضمير راجع إلى الموصول في قوله : «جاء الّذي كان ضارباً» ، يعني : كي يكون جعل من صدر عنه الضرب

٢٧٨

العنوان (١) فعلاً (٢) بمجرد تلبسه قبل مجيئه ، ضرورة أنّه (٣) لو كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين (٤).

(وبالجملة) (٥) : كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق

______________________________________________________

والشرب قبل مجيئه معنوناً بعنوان كونه ضارباً وشارباً فعلاً بسبب تلبسه بالضرب والشرب قبل المجيء ، فإنّه إذا كان كذلك يصير الجري فعلياً والتلبس انقضائياً ، وحيث إنّ الجري لم يكن بلحاظ حال التلبس ، فلا محالة يكون مجازاً.

(١) أي : عنوان الضاربية والشاربية.

(٢) الباء للسببية يعني : أنّ جعله معنوناً بهذا العنوان يكون بسبب تلبسه بالمبدإ.

(٣) أي : المشتق ، وهذا تعليل لِما أفاده من إمكان كون الاستعمال في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبس حتى لا يلزم مجاز.

وحاصله : أنّ المشتق لو كان موضوعاً للأعم من حالة التلبس لصحّ لحاظ كل من التلبس والانقضاء في موارد الانقضاء ، وكان الاستعمال على نحو الحقيقة ، لاختصاص المجازية بوضع المشتق لخصوص حال التلبس ، وعدم كون الاستعمال في موارد الانقضاء بلحاظه.

(٤) أي : التلبس والانقضاء ، لكون كلٍّ منهما فرداً للمعنى الحقيقي.

(٥) هذا ملخص ما أفاده في دفع إشكال المعترض ، حيث اعترض على التبادر باحتمال كونه ناشئاً من الإطلاق ، فلا يصلح لأن يكون علامة للوضع ، لأنّ التبادر المثبت للوضع هو المستند إلى حاق اللفظ لا إلى إطلاقه.

ومحصل ما ذكره في دفع هذا الاعتراض هو : أنّ التبادر الإطلاقي في مورد البحث مشروط بعدم كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء ، والمفروض وقوعها فيها

٢٧٩

خصوص حال التلبس من الإطلاق (١) ، إذ (٢) مع عموم المعنى وقابلية

______________________________________________________

ومع ذلك يكون تبادر خصوص حال التلبس متحققاً ، فلا محيص عن كونه مستنداً إلى حاقِّ اللفظ دون الإطلاق ، وإلّا لكان المتبادر هو خصوص حال الانقضاء ، لأنّه الّذي ينصرف إليه إطلاق اللفظ نظراً إلى كثرة الاستعمال في موارده ، وعليه فهذا التبادر من أمارات الوضع.

(١) يعني : فلا يكون هذا التبادر ناشئاً من إطلاق اللفظ حتى لا يثبت به الوضع ، بل هو ناشٍ عن حاقّه ، فيثبت به.

(٢) تعليل لقوله : «تمنع عن دعوى انسباق ... إلخ» لكنّه لا ينطبق على المدّعى ، وهو عدم كون تبادر حال التلبس إطلاقياً مع كثرة الاستعمال فيما انقضى عنه المبدأ ، والعلّة عبارة عن أنّ الاستعمال في حال الانقضاء لا يستلزم أن يكون مجازاً حتى يرد عليه الإشكال المتقدم وهو كونه خلاف حكمة الوضع ، وجه عدم لزوم المجازية مطلقاً هو : أنّه على القول بالأعم يمكن أن يكون استعماله في المنقضي عنه المبدأ حقيقة ولو لأجل انطباق المعنى العام الموضوع له عليه ، وعلى القول بالأخص يمكن أن يكون الجري بلحاظ حال التلبس ، بل لا بد أن يكون بهذا اللحاظ ، لأنّه من صغريات دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والمجازي الّذي يقدم فيه الحقيقة على المجاز ، حيث إنّ المعنى المستعمل فيه لفظ المشتق مردّد بين المعنى الحقيقي إذا كان الاستعمال بلحاظ حال التلبس وبين المعنى المجازي إذا كان بلحاظ حال الانقضاء ، فلا يُعلم أنّ لفظ المشتق قد استعمل في معناه الحقيقي أو المجازي ، وفي مثله لا بدّ من الحمل على المعنى الحقيقي كما هو قضية أصالة الحقيقة.

وبالجملة : فإشكال لزوم المجازية التي هي خلاف مقتضى حكمة الوضع ـ بناءً على وضع المشتق لخصوص حال التلبس ـ مندفع بعدم لزومها أصلا ، لما عرفت.

٢٨٠