منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

أيضا (١) ، وذلك (٢) لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائيّ ، كما أنّ الأمر (٣) في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب ، والمنصرف (٤) عنها (٥) عند إطلاقها هو

______________________________________________________

(١) يعني : كالأمر ، فكلٌّ من لفظي الأمر والطلب منصرف إلى خصوص الإنشائي وان فرض كون الموضوع له هو الجامع بين الحقيقي والإنشائيّ.

(٢) أي : الانصراف المزبور ناش عن كثرة الاستعمال في الطلب الإنشائيّ.

فمحصل ما ذكره المصنف : أنّه ـ بعد تسليم كون لفظ الأمر موضوعا للطلب المطلق الجامع بين الحقيقي والإنشائي ـ يدّعي انصرافه إلى خصوص الطلب الإنشائيّ بحيث يكون هو المنسبق إلى الذهن حين الإطلاق كالوضع له ، ويصح سلب الأمر عن الطلب الحقيقي القائم بالنفس ما لم ينشئه المولى بصيغة ـ افعل ـ وما في معناها.

(٣) هذا الأمر بمعنى الحال والشأن.

وحاصله : أنّ الإرادة عكس الطلب ، إذ الّذي تنصرف إليه الإرادة عند إطلاقها هي الإرادة الحقيقية القائمة بالنفس ، والّذي ينصرف إليه الطلب هو الإنشائيّ المتحقق بقول أو فعل ، فالاختلاف بين الطلب والإرادة إنّما يكون فيما ينصرف إليه كل منهما ، إذ المعنى الّذي ينصرف إليه الطلب هو الإنشائيّ ، والّذي تنصرف إليه الإرادة حين إطلاقها هو الإرادة الحقيقية ، وإلّا فكلٌّ من هذين اللفظين موضوع لمعنى واحد وهو الطلب الجامع بين الحقيقي والإنشائيّ ، فالطلب الحقيقي عين الإرادة الحقيقية ، كما أنّ الطلب الإنشائيّ عين الإرادة الإنشائية ، فلا فرق بينهما إلّا في المعنى الّذي ينصرف كل من لفظي الطلب والإرادة إليه.

(٤) سوق العبارة يقتضي ان يقال : «إذ المنصرف» أو «حيث إنّ المنصرف».

(٥) أي : عن الإرادة عند إطلاقها.

٣٨١

الإرادة الحقيقية (١) ، واختلافهما (٢) في ذلك (٣) ألجأ بعض أصحابنا (٤) إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة ، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة من اتحادهما ، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق

______________________________________________________

(١) التي هي من الكيفيات النفسانيّة الموجودة بموجباتها التي ستذكر إن شاء الله تعالى.

(٢) يعني : واختلاف لفظي الطلب والإرادة.

(٣) أي : في المعنى الّذي ينصرف إليه كل من هذين اللفظين كما عرفت آنفا ، غرضه : التنبيه على منشأ توهم المغايرة بين الطلب والإرادة.

وحاصله : أنّ اختلاف لفظي الطلب والإرادة في المعنى المنصرف إليه كل منهما ألجأهم إلى الالتزام بالمغايرة ، حيث إنّهم زعموا أنّ المتبادر من كل منهما معنى حقيقي له ، ومن المعلوم : مغايرة الطلب الإنشائيّ ـ الّذي هو المتبادر من لفظ الطلب ـ للإرادة الحقيقية التي ينصرف إليها لفظ الإرادة.

(٤) كالمحقق الخوانساري في رسالته المعمولة في مقدمة الواجب ، حيث استدل على مغايرة الطلب للإرادة ردّا على المحقق السبزواري بقوله : «إذا كان الطلب هو الإرادة وكان المطلوب من الصيغة الموضوعة للطلب إعلام المخاطب بحصول الإرادة في النّفس ، فيلزم أن يكون وضع الجمل الطلبية لغوا غير محتاج إليه ، وتكون مفهوماتها مما لا يتعلق بتصورها غرض أصلا ، وهو باطل» إلى آخر ما حكاه عنه في البدائع ، وقال المحقق التقي (قده) في حاشيته على المعالم في مباحث مادة الأمر ما لفظه : «ثانيها : انّهم اختلفوا في كون الطلب المدلول للأمر نفس الإرادة أو غيرها ـ إلى ان قال ـ بعد كلام طويل : فظهر بما قررنا قوة القول بمغايرة الطلب للإرادة» انتهى.

٣٨٢

في المقام وإن حققناه في بعض فوائدنا (١) ، إلّا أنّ الحوالة لما لم تكن عن المحذور خالية (٢) والإعادة (٣) ليست بلا فائدة (٤) ولا إفادة (٥) كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضا ، فاعلم : أنّ الحق كما عليه أهله (٦) وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشاعرة (٧) هو اتحاد الطلب والإرادة ، بمعنى : أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد (٨) ، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء

______________________________________________________

(١) المطبوعة منضمة مع حاشيته على فرائد شيخنا الأعظم الأنصاري (قده).

(٢) إمّا لعدم حضور النسخة عنده ، وإمّا لمشقة الرجوع إليها.

(٣) يعني : لمّا لم تكن الإعادة خالية عن الفائدة ، لكنّه بحسب الصناعة يصير هكذا : «إلّا أنّ الإعادة لمّا لم تكن مع الفائدة» وهذا غلط واضح ، أمّا لزوم هذا المعنى الغلط ، فوجهه : أنّ ـ الإعادة ـ معطوف على اسم ـ تكن ـ ، وحيث إنّ نفي النفي في قوله : «ليست بلا فائدة» للإثبات يتحصل منه : أنّ الإعادة لمّا لم تكن مع الفائدة ، ومن الواضح غلطيّته ، فلا بد من حذف ـ ليست ـ بأن يقال : «ولم تكن الإعادة بلا فائدة». إلّا أن يقال : إنّ ـ الإعادة ـ معطوف على نفس كلمة ـ الحوالة ـ ليكون المعنى هكذا : إلّا أنّ الإعادة ليست بلا فائدة.

(٤) كالتذكُّر لمن لاحظ الفوائد.

(٥) لمن لم يلاحظ الفوائد أو لاحظها ولكن نسي ذلك.

(٦) وهم العدلية.

(٧) القائلين بمغايرتهما ، لما سيأتي في كلام المصنف (قده).

(٨) فيكون لفظا الطلب والإرادة من الألفاظ المترادفة كالإنسان والبشر ، لأنّ المفروض وحدة المعنى الموضوع له فيهما (*).

__________________

(*) قد عرفت : أنّ ملاحظة موارد استعمال الطلب تشهد بمغايرة الطلب

٣٨٣

الآخر (١) ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية.

وبالجملة : هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا (٢) ، لا أنّ (٣) الطلب الإنشائيّ الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه كما عرفت متحد مع الإرادة الحقيقية

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ لازم الترادف كون الفرد الخارجي لأحدهما هو الفرد الخارجي للآخر ، وان شئت فقل : إنّ مطابق أحدهما عين مطابق الآخر.

(٢) وذهنا ، إذ الموضوع له فيهما طبيعة واحدة ، كما عرفت في مثل الإنسان والبشر ، ولازم ذلك اتحادهما في كل مرتبة ، فالطلب الحقيقي عين الإرادة الحقيقية والإنشائي عين الإرادة الإنشائية ، نعم يختلفان باختلاف المرتبة ، فإنّ الطلب الإنشائيّ غير الإرادة الحقيقية ، وهكذا.

(٣) معطوف على ـ لفظيهما ـ غرضه : اتحادهما في كل مرتبة من الإنشاء والمفهوم والوجود الخارجي ، واختلافهما مع اختلاف المرتبة ، ولذا لا يكون الطلب الإنشائيّ الّذي ينصرف إليه لفظ الطلب هو الإرادة الحقيقية التي ينصرف إليها لفظ الإرادة.

وبالجملة : فالطلب الإنشائيّ الّذي هو صفة قائمة باللفظ ليس متحدا مع الإرادة الحقيقية التي هي صفة قائمة بالنفس ، لأنّهما صفتان متضادتان يمتنع اتحادهما في الخارج.

__________________

للإرادة ، لأنّه كما مرّ عبارة عن السعي نحو شيء للظفر به ، فليس الطلب مجرد الشوق المؤكّد المسمى بالإرادة ، بل هو التصدي لإيجاد شيء بإعمال بعض مقدمات وجوده ، ولكن هذه المغايرة لا تثبت ما رامه الأشعري القائل بكون الطلب صفة في النّفس غير الإرادة مدلولا عليه بالكلام اللفظي ، بداهة أنّ الطلب على ما ذكرنا ليس من صفات النّفس ، بل من أفعال الجوارح التي هي أجنبية عن الصفات القائمة بالنفس.

٣٨٤

التي ينصرف إليها إطلاقها (١) أيضا (٢) ، ضرورة (٣) أنّ المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس ، فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد (٤) ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فإنّ (٥) الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون (٦) هو الطلب (٧) غيرها (٨) سوى ما هو مقدمة

______________________________________________________

(١) الضميران راجعان إلى الإرادة.

(٢) يعني : كانصراف لفظ الطلب إلى خصوص الإنشائيّ.

(٣) تعليل لعدم اتحاد الطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية ، وقد عرفت وجه المغايرة وامتناع اتحادهما ، حيث إنّ الطلب الإنشائيّ هو الطلب الاعتباري المتحقق بقول أو فعل ، والإرادة الحقيقية هي الصفة القائمة بالنفس الناشئة عن أسباب خاصة ، فأين أحدهما من الآخر؟ وكيف يتحدان مع ما بينهما من المغايرة؟ (٤) وأنّ المراد بالعينية هو اتحادهما مع وحدة الرتبة ، لا مع اختلافها.

(٥) بيان للوجدان الّذي جعله برهانا على العينية والاتحاد.

وحاصله : أنّ الإنسان إذا راجع وجدانه عند طلب شيء لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها تسمى بالطلب سوى مقدمات الإرادة ، فلا بد من الالتزام باتحاد الطلب والإرادة ، ومجرد انصراف الطلب حين إطلاقه إلى الإنشائيّ وانصراف الإرادة عند إطلاقها إلى الحقيقية لا يوجب تغايرهما مفهوما وإنشاء وخارجا وإن دعا ذلك بعض الإمامية والأشاعرة إلى القول بتغايرهما.

(٦) الأولى تأنيث ـ يكون ـ وكذا الضمير المنفصل بعده.

(٧) كما يقول به الأشاعرة.

(٨) الظاهر أنّه من سهو الناسخ ، للاستغناء عنه بقوله : «غير الإرادة».

٣٨٥

تحققها (١) عند (٢) خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه والتصديق بفائدته (٣) ، وهو (٤) الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه (٥) لأجلها (٦).

وبالجملة : لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة (٧) والإرادة هناك صفة (٨) أخرى قائمة بها يكون هو الطلب ، فلا محيص عن اتحاد الإرادة والطلب وأن يكون (٩) ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا

______________________________________________________

(١) أي : الإرادة ، يعني : ليس في النّفس غير الإرادة ومقدماتها صفة أخرى تسمى بالطلب كما هو مدّعى الأشاعرة.

(٢) هذا شروع في بيان مبادئ الإرادة وهي خطور الشيء ، وتصور فائدته ، والتصديق بها ، والميل إليه ، وهيجان الرغبة إليه.

(٣) ينبغي ذكر تصور الفائدة والتصديق بها قبل الميل وهيجان الرغبة.

(٤) بيان لقوله : «ما هو مقدمة» يعني : أنّ الجزم بدفع الأمور المانعة عن الطلب لأجل ما في الشيء من الفائدة مقدمة للطلب ، لا أنّه الطلب النفسيّ الّذي يدعيه الأشعري.

(٥) أي : طلب الشيء.

(٦) أي : لأجل فائدته.

(٧) وهي مبادئ الإرادة.

(٨) اسم ـ يكون ـ.

(٩) معطوف على ـ اتحاد ـ يعني : فلا محيص عن اتحاد الطلب والإرادة وعن كون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك عضلاته في الفعل المباشري والمستتبع لأمر عبيده في الفعل غير المباشري هو المسمى بالطلب والإرادة.

٣٨٦

كذلك (١) مسمى (٢) بالطلب والإرادة كما يعبر به (٣) تارة وبها (٤) أخرى كما لا يخفى. وكذا (٥) الحال في سائر الصيغ الإنشائية والجمل الخبرية ، فإنّه لا يكون

______________________________________________________

(١) أي : لا بالمباشرة ، وهذه الإرادة تسمى بالتشريعية ، كما أنّها في الفعل المباشري تسمى بالتكوينية.

(٢) خبر ـ يكون ـ.

(٣) يعني : كما يعبّر عن الشوق المؤكد بالطلب تارة (*).

(٤) أي : وبالإرادة أخرى.

(٥) حاصله : أنّه كما لا نجد في النّفس غير الإرادة صفة أخرى قائمة بها تسمى تلك الصفة بالطلب عدا مقدمات الإرادة ، كذلك لا نجد في كل كلام يصدر من المتكلم سواء كان إنشائيا أم إخباريا غير مضمونه صفة أخرى قائمة بالنفس تسمى بالكلام النفسيّ.

توضيحه : أنّا لا نجد في الجمل الإنشائية صفة نفسانية غير إنشاء التمني والترجي والطلب والدعاء والملكية والزوجية والحرية ونحوها ، ولا نجد في الجمل الخبرية ما عدا وقوع النسبة أو لا وقوعها شيئا آخر يسمى ذلك بالكلام النفسيّ.

وبالجملة : فلا نجد بعد الفحص عما في النّفس من الصفات صفة زائدة على الإرادة تسمى بالطلب في صيغ الأمر ليكون ذلك هو الكلام النفسيّ ، وكذا في الإنشائيات الأخر والجمل الخبرية كما عرفت ، ففي جميع الجمل الإنشائية الطلبية وغيرها وكذا الجمل الاخبارية لا يوجد صفة زائدة على مضامينها تسمى بالكلام النفسيّ.

__________________

(*) قد عرفت : أنّ الطلب هو التصدي لإيجاد شيء ، فلا يطلق على الصفة النفسانيّة.

٣٨٧

غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس من الترجي والتمني والعلم إلى غير ذلك صفة (١) أخرى كانت قائمة بالنفس. وقد دلّ اللفظ عليها كما قيل (٢):

______________________________________________________

(١) اسم ـ يكون ـ.

(٢) القائل هو الأخطل الشاعر كما في الشوارق في مبحث تكلمه تعالى شأنه ، يعني كما قيل : بأنّ هناك صفة أخرى غير الإرادة قائمة بالنفس وأنّ اللفظ قد دلّ عليها ، فإنّ مقتضى هذا البيت هو كون الكلام في الفؤاد ، وإنّما اللفظ جعل دليلا عليه وحاكيا عنه ، ففي النّفس صفة تسمى بالكلام. ثم إنّ هذا البيت مما استدل به الأشاعرة على ثبوت الكلام النفسيّ (*).

__________________

(*) لكن فيه أوّلا : عدم اعتباره ، إذ ليس هو مأثورا عن معصوم من نبي أو وصي.

وثانيا : عدم ظهوره فيما ادعوه من كون الطلب صفة زائدة في النّفس غير الإرادة ومباديها ، بل لا يدل إلّا على معنى قائم بالنفس من العلم في الاخبار والتمني والترجي والاستفهام الحقيقية في تلك الصيغ ، والإرادة في الأوامر ، والكراهة في النواهي ، قال القوشجي في شرح التجريد :

«والحاصل : أنّ مدلول الكلام اللفظي الّذي يسميه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر ، والإرادة في الأمر ، والكراهة في النهي. وأمّا بيت الشاعر فإمّا لاعتقاده ثبوت كلام نفسي تقليدا ، وإمّا لأنّ المقصود الأصلي من الكلام هو الدلالة على ما في الضمائر ، وبهذا الاعتبار يسمى كلاما ، فأطلق اسم الدال على المدلول ، وحصره تنبيها على أنّه آلة يتوصل بها إليه ، فكأنّه هو المستحق لاسم تلك الآلة ، والأشاعرة يدّعون أنّ نسبة أحد طرفي الخبر إلى الآخر قائمة بنفس المتكلم ومغايرة للعلم ، لأنّ المتكلم قد يخبر عما لا يعلمه ، بل يعلم خلافه

٣٨٨

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقد انقدح مما حققناه (١) : ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر (٢) مع عدم الإرادة (٣) كما في صورتي الاختبار والاعتذار (٤) من (٥) الخلل ، فإنّه (٦) كما لا إرادة حقيقة في الصورتين لا طلب

______________________________________________________

(١) يعني : من ثبوت الطلب والإرادة الحقيقيّين والإنشائيين.

(٢) متعلق باستدلال ـ وحاصل استدلال الأشاعرة بذلك هو : أنّه في الأوامر الامتحانية يكون الأمر موجودا بدون الإرادة ، فهذا الانفكاك دليل على مغايرة الطلب والإرادة ، لوجوده دونها في الأوامر الاختبارية.

(٣) أي : مع عدم الإرادة الحقيقية ، فالطلب موجود بدون الإرادة.

(٤) أي : إظهار عذره في مؤاخذة عبده لدفع اللوم عن نفسه ، فيأمر عبده بشيء ولا يريد منه الفعل ، بل يريد بأمره رفع لوم الناس في ضرب عبده باعتذار أنّ العبد قد عصاه ، فإنّ الطلب في صورتي الاختبار والاعتذار موجود بدون الإرادة.

(٥) بيان ل ـ ما ـ الموصولة في قوله : «ما في استدلال الأشاعرة».

(٦) الضمير للشأن ، وهذا بيان للخلل.

وحاصله : فقدان الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية معا في صورتي الاختبار والاعتذار ، لا أنّ الطلب موجود بدون الإرادة ، قال القوشجي بعد

__________________

أو يشك فيه ، وأنّ المعنى النفسيّ الّذي هو الأمر غير الإرادة ، لأنّه قد يأمر الرّجل بما لا يريده ، كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا ، وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ، ليظهر عذره عند من يلومه» انتهى.

٣٨٩

كذلك (١) فيهما ، والّذي يكون فيهما (٢) إنّما هو الطلب الإنشائيّ الإيقاعي (٣) الّذي هو مدلول الصيغة أو المادة (٤) ولم يكن بيّنا ولا مبيّنا في الاستدلال مغايرته (٥) مع الإرادة الإنشائية.

وبالجملة : الّذي يتكفله الدليل ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقية والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف (٦) عن مغايرتهما (٧) وهو (٨) ممّا لا محيص عن

______________________________________________________

العبارة التي نقلناها عنه آنفا : «واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ، إذ لا طلب فيهما أصلا كما لا إرادة قطعا» انتهى.

(١) يعني : حقيقة في صورتي الاختبار والاعتذار.

(٢) أي : في صورتي الاختبار والاعتذار.

(٣) يعني : لا الطلب الحقيقي حتى يقال : إنّ عدم الإرادة الحقيقية مع وجود الطلب الحقيقي في هاتين الصورتين يكشف عن تغاير الطلب والإرادة الحقيقيّين.

(٤) أي : مادة الأمر أو غيرهما من آلات إنشاء الطلب.

(٥) اسم ـ يكن ـ يعني : أنّ مغايرة الطلب الإنشائيّ للإرادة الإنشائية لم تكن من لوازم الدليل المزبور لا باللزوم البيِّن بالمعنى الأخص ولا بالمعنى الأعم ، إذ غاية ما يستفاد منه هو انفكاك الطلب الإنشائيّ عن الإرادة الحقيقية ، وهذا مما لا نزاع فيه ، لأنّ مورد البحث هو مغايرة الطلب الحقيقي للإرادة الحقيقية ، والدليل المزبور لا يقتضيها كما هو واضح.

(٦) صفة ـ الانفكاك ـ.

(٧) أي : الإرادة الحقيقية والطلب الإنشائيّ.

(٨) أي : الانفكاك بين الإرادة الحقيقية وبين الطلب الإنشائيّ.

٣٩٠

الالتزام به كما عرفت (١) ، ولكنه (٢) لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا ، لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والإنشائي كما لا يخفى. ثم إنّه يمكن مما حققناه (٣) أن يقع الصلح بين الطرفين (٤) ولم يكن نزاع في البين بأن (٥) يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا ، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الإنشائيّ من الطلب كما هو (٦)

______________________________________________________

(١) حيث قال : «لا أن الطلب الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه» إلى آخره.

(٢) يعني : ولكن هذا الانفكاك لا يضر بدعوى اتحاد الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية ، لما مرّ من اعتبار وحدة الرتبة في عينيتهما ، فالطلب الحقيقي متحد مع الإرادة الحقيقية دون الطلب الإنشائيّ معها ، لاختلاف المرتبة ، فمغايرة الطلب الحقيقي للإرادة الإنشائية وبالعكس لا تنافي عينيتهما مع اتحادهما مرتبة كالحقيقيين والإنشائيين.

(٣) أي : من اتحاد الطلب والإرادة وعينيتهما مفهوما ووجودا.

(٤) أي : العدلية والمعتزلة القائلين بالاتحاد ، والأشاعرة القائلين بالمغايرة.

(٥) هذا تقريب وجه الصلح بين الطرفين.

ومحصله : أنّه يمكن أن يكون مراد من يثبت اتحاد الطلب والإرادة اتحادهما مفهوما ومصداقا وإنشاء ، بمعنى أنّهما متحدان في هذه الجهات مع وحدة المرتبة بحيث يكون كل منهما عين الآخر في تلك المرتبة. ومراد من ينفي اتحادهما تغايرهما مع اختلاف المرتبة كالطلب الإنشائيّ والإرادة الحقيقية ، فإنّهما متغايران ولا يتحدان أصلا ، وبهذا الوجه يقع الصلح بين الطرفين ويصير النزاع بينهما لفظيا.

(٦) أي : الطلب الإنشائيّ كثيرا ما يراد من إطلاق لفظ الطلب.

٣٩١

كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه ، والحقيقي (١) من الإرادة كما هو (٢) المراد غالبا منها حين إطلاقها (٣) ، فيرجع النزاع لفظيا (٤) ، فافهم (٥).

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «الإنشائي» يعني : ويكون المراد بالاثنينية اثنينية الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقية ، وهذا مما لا إشكال فيه كما تقدم.

(٢) الأولى تأنيث الضمير ، لرجوعه إلى ـ الإرادة ـ فالحق أن يقال : «كما هي المرادة» ، كما أن الأولى : تأنيث «الحقيقي» أيضا ، بأن يقال : «والحقيقية من الإرادة» كما لا يخفى (٣) مرجع هذا الضمير وضمير «منها» هي ـ الإرادة ـ.

(٤) كما صرح بذلك المحقق التقي في حاشية المعالم بقوله : «وقد يرجع إلى ذلك كلام القائلين بالاتحاد ، فيعود النزاع لفظيا ، إلّا أنّه لا يخلو عن بعد» انتهى.

(٥) لعله إشارة إلى إباء بعض أدلة القائلين بالتغاير عن هذا الصلح ، لصراحته في المغايرة بين الطلب والإرادة الحقيقيّين كالشعر المذكور ، إذ الطلب الإنشائيّ ليس في الفؤاد ، وكذا دليلهم الآتي ، إذ لا إشكال في اعتبار الطلب الحقيقي في تكليف الكفار ، فإنّ قضية الصلح المزبور أن يكون الموجود من الطلب في تكليفهم هو الإنشائيّ منه ، ومن المعلوم : بطلانه كما ثبت في محله ، هذا.

مضافا إلى : أنّ حمل الطلب في كلامهم على الإنشائيّ لا يدفع المحذور الّذي ألجأهم إلى القول بالكلام النفسيّ الّذي من مصاديقه الطلب في الأوامر ، حيث إنّ الطلب الإنشائيّ حادث مثل الكلام المركب من الحروف والأصوات ، وغرض الأشاعرة من الالتزام بالكلام النفسيّ هو ثبوت طلب قديم قائم بذاته تعالى شأنه ليندفع به محذور قيام الحوادث بذاته تعالى ، ومن المعلوم : عدم اندفاعه بجعل الطلب عندهم هو الإنشائيّ منه ، لوضوح كونه من الحوادث ، مع أنّ المسلمين

٣٩٢

دفع وهم : لا يخفى أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من نفي غير الصفات المشهورة (١) وأنّه (٢) ليس صفة أخرى (٣) قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا

______________________________________________________

كافة اتفقوا على أنّه تعالى متكلم ، واختلفوا فيما يراد به وفي كونه حادثا أو قديما ، فعن المعتزلة : «أنّ كلامه أصوات وحروف قائمة بغيره لا بذاته» ، وعن الحنابلة والكرامية : «أنّه أصوات وحروف قائمة بذاته تعالى» ، وعن الأشاعرة : «أنّ كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف ، بل معنى قائم بذاته يسمى الكلام النفسيّ». ثم المحكي عن المعتزلة والكرامية : «أنّه حادث» ، وعن الأشاعرة والحنابلة : «أنه قديم» ، فمذهب الأشاعرة في الكلام الّذي اتفقوا على كونه من صفاته تعالى هو أنّه معنى قديم قائم بذاته تعالى ، وحيث إنّه لم يكن ذلك بعلم ولا إرادة ولا كراهة لعدم كون هذه الأمور كلاما ، اضطرّوا إلى تفسيره في الخبر بالنسبة ، وفي الإنشاء بالطلب والمنع ونحوهما ، فالطلب عندهم صفة قائمة بذاته سبحانه وتعالى قديم ، فلا مجال لأن يريدوا به الطلب الإنشائي ، لعدم قدمه كالكلام اللفظي ، ولعدم كونه من صفات النّفس.

وبالجملة : فملاحظة جملة من أدلة الأشاعرة على التغاير تأبى عن جعل النزاع بينهم وبين الإمامية والمعتزلة لفظيا ، وإن شئت الوقوف على ذلك مفصلا فراجع البدائع.

(١) وهي العلم في الجمل الخبرية ، والإرادة والكراهة وغيرهما في الجمل الإنشائية.

(٢) معطوف على ـ نفى ـ وضمير ـ أنه ـ للشأن.

(٣) يعني : غير تلك الصفات المشهورة ، والغرض من هذا الدفع هو : أنّه (قد يتوهم) من ردِّ الأشاعرة القائلين بالكلام النفسيّ ، ببيان : أنّ الكلام إمّا خبر وإمّا إنشاء ، وليس في الخبر صفة زائدة على تصور الموضوع والمحمول والنسبة

٣٩٣

مدلولا للكلام اللفظي كما يقول به الأشاعرة أن (١) هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام (*).

______________________________________________________

والعلم بها تسمى بالكلام النفسيّ ، كما أنّه ليس في الإنشاء صفة زائدة على الصفات النفسانيّة من الإرادة والتمني والترجي والنداء والاستفهام وغيرها تسمى بالكلام النفسيّ (أنّ الجمل) الإنشائية تدل على هذه الصفات ، والجمل الخبرية تدل على العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها.

وبالجملة : فملخص التوهم الناشئ عن ردِّ الأشاعرة هو : كون هذه الصفات مدلولات للإنشاء والاخبار ، فالمراد بالكلام النفسيّ هو هذه الصفات ، لا ما عن الأشاعرة القائلين بأنّه صفة أخرى قائمة بالنفس.

وحاصل الدفع : أنّ غرض الأصحاب ليس كون الصفات المشهورة مدلولات للكلام كما سيظهر.

(١) خبر ـ ليس ـ في قوله : «ليس غرض الأصحاب».

__________________

(*) الوجه في عدم تعلق غرض الأصحاب والمعتزلة بكون الصفات المشهورة مدلولات للكلام الخبري والإنشائي هو : أنّهم في مقام ردِّ الأشاعرة القائلين بالكلام النفسيّ الّذي هو صفة زائدة على الصفات المشهورة تصحيحا لكلامه تعالى ، ولذا قالوا بقدمه وكونه قابلا لأن يكون مدلولا للكلام اللفظي ليصح إطلاق المتكلم عليه جل وعلا ، ومن المعلوم : أنّ الأصحاب والمعتزلة في غنى عن إثبات كون الصفات الأخر مدلولات للكلام اللفظي ، لأنّ ردّهم للأشاعرة لا يتوقف على ذلك ، بل يتوقف على نفي صفة زائدة على الصفات النفسيّة من العلم والإرادة والكراهة في القضايا الخبرية والإنشائية التي ينحصر فيهما الكلام وينقسم إليهما ، فإثبات كون مدلول الكلام ما ذا لا دخل له في الردِّ المزبور ، إذ مقصودهم

٣٩٤

فان قلت (١) : فما ذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟ قلت : أما الجمل الخبرية فهي دالة (٢) على ثبوت النسبة بين طرفيها (٣) أو نفيها (٤) في نفس الأمر من ذهن (٥) أو خارج (٦) كالإنسان نوع (٧) أو كاتب (٨) ، وأمّا الصيغ

______________________________________________________

(١) تقريبه : أنّه بعد إنكار الصفة القائمة بالنفس المسماة بالكلام النفسيّ الزائدة على الصفات المشهورة ، وإنكار كون تلك الصفات مدلولات للكلام الخبري والإنشائيّ أيضا ، فما ذا يكون مدلولاً عليه عند الأصحاب والمعتزلة بالجمل الخبرية والإنشائية.

(٢) حاصله : أنّ الجمل الخبرية لا تدل إلّا على ثبوت النسبة أو عدمها في نفس الأمر ، ولا تدل على العلم بالثبوت وعدمه.

(٣) وهما الموضوع والمحمول.

(٤) يعني : أو نفي النسبة.

(٥) كما إذا كان المحمول من المعقولات الثانية التي موطنها الذهن.

(٦) كما إذا كان المحمول من الموجودات الخارجية كالكتابة والقيام والقعود ونحوها من الخارجيات.

(٧) هذا مثال لما إذا كان الثبوت في الذهن ، إذ النوعية كالجنسية والفصلية من المعقولات الثانية.

(٨) يعني : ك ـ الإنسان كاتب ـ وهذا مثال لما إذا كان الثبوت في الخارج ، فإنّ ظرف الكتابة هو الخارج.

وبالجملة : فالجملة الخبرية لا تدل إلّا على ثبوت النسبة في موطنه ، وأمّا

__________________

نفي ما ادعاه الأشاعرة من ثبوت صفة زائدة على الصفات المشهورة من دون نظرهم إلى تعيين مداليل الجمل الخبرية والإنشائية.

٣٩٥

الإنشائية فهي على ما حققناه في بعض فوائدنا (١) موجدة لمعانيها في نفس الأمر أي (٢) قصد ثبوت معانيها وتحققها (٣) بها ، وهذا (٤) نحو من الوجود ، وربما يكون هذا (٥) منشئاً لانتزاع اعتبار (٦) مترتب عليه شرعاً أو عرفاً آثار كما هو

______________________________________________________

إدراك المتكلم لذلك كتصور طرفي القضية فلا تدل عليهما الجملة أصلا ، نعم تدل عليهما بالدلالة العقلية ، لتوقف الاخبار عليهما كتوقفه على وجود مخبر.

(١) وهي الفوائد المطبوعة مع حاشيته على الفرائد كما تقدم أيضا.

(٢) تفسير لقوله : «موجدة» ، و ـ قصد ـ فعل ماضٍ مبني للمفعول.

وحاصله : إيجاد معانيها وجوداً بسيطاً على نهج الهليات البسيطة ، لا إيجاد شيءٍ لشيءٍ كما هو قضية الهليات المركبة.

وتوضيح كلام المصنف (قده) : أنّ الجمل الإنشائية وُضعت لإيجاد مفاهيمها في وعاء الاعتبار في قبال وعائي الخارج والذهن ، فإنّ الوجود الإنشائيّ من أنحاء وجود المفاهيم ، وقد يكون هذا السنخ من الوجود منشئاً لآثار وموضوعاً لأحكام كما في العقود والإيقاعات ، كإنشاء التمليك في البيع والصلح والهبة وغيرها ، وإنشاء الزوجية والحرية والطلاق ونحو ذلك مما يترتب عليه الأحكام التكليفية والوضعيّة كما لا يخفى.

(٣) معطوف على ـ ثبوت ـ أي : قصد تحقق معاني الصيغ الإنشائية بتلك الصيغ.

(٤) أي : الإيجاد الإنشائيّ نحو من أنحاء الوجود.

(٥) أي : الوجود الاعتباري الإنشائيّ.

(٦) كالزوجية والملكية والحرية ونحوها من الأُمور الاعتبارية التي رتب عليها أحكام شرعاً كوجوب النفقة ، وجواز الوطء ، والتوارث ، وحرمة التزويج

٣٩٦

الحال في صيغ العقود والإيقاعات ، نعم (١) لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني بالدلالة

______________________________________________________

بالخامسة ، وحرمة الجمع بين الأُختين ، ونكاح الأم ، وغيرها من الأحكام الشرعية المترتبة على الزوجية ، هذا في إنشاء الزوجية ، وكذا الحال في إنشاء الملكية ، فإنّه بإنشائها يصير المثمن ملكاً للمشتري والثمن ملكاً للبائع ، وهذه الملكية الاعتبارية منشأ لأحكام شرعية ، كجواز تصرف المالك وحرمة تصرف غيره فيه عقلا وشرعاً وعرفاً ، وهكذا سائر الأُمور الاعتبارية الإنشائية التي يترتب عليها آثار شرعية وعرفية.

(١) استدراك على ما ذكره من كون الصيغ الإنشائية موجدة لمعانيها وجوداً إنشائياً لا وجوداً حقيقياً ، يعني : أنّ مدلولها المطابقي هو إنشاء مفاهيمها ، ولكن يمكن الالتزام بدلالتها على وجود تلك الصفات حقيقة أيضا بالدلالة الالتزامية العقلية بأن كانت موضوعة لإنشاء معانيها ، بشرط أن يكون الداعي إلى إنشائها ثبوت تلك الصفات في النّفس ، فإنشاء الترجي بكلمة ـ لعل ـ أو التمني بكلمة ـ ليت ـ إنّما يصح إذا كان ناشئاً عن ترجٍّ نفساني أو تمنٍّ كذلك ، أو الدلالة الالتزامية العرفية الناشئة عن كثرة الاستعمال في إنشاء المفاهيم بداعي وجود تلك الصفات في النّفس ، وهذه الكثرة توجب انصراف الإطلاق إلى وجود تلك الصفات.

وبالجملة : فدلالة الصيغ الإنشائية على وجود الصفات في النّفس إمّا التزامية عقلية وضعية وإمّا عرفية إطلاقية ، (فتوهم) دلالة الجمل الخبرية وضعاً على العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، وكذا توهم دلالة الجمل الإنشائية على نفس تلك الصفات (فاسد) بل الدلالة على ذلك التزامية كما عرفت.

٣٩٧

الالتزامية (١) على ثبوت هذه الصفات حقيقة ، إما (٢) لأجل وضعها (٣) لإيقاعها (٤) فيما إذا كان الداعي إليه (٥) ثبوت هذه الصفات ، أو (٦) انصراف إطلاقها (٧) إلى هذه الصورة (٨) ، فلو لم تكن هناك قرينة (٩) كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها (١٠) لأجل (١١) قيام الطلب والاستفهام وغيرهما بالنفس وضعاً (١٢) أو

______________________________________________________

(١) أي : العقلية الوضعيّة كما مر آنفاً.

(٢) إشارة إلى الدلالة الالتزامية العقلية الوضعيّة.

(٣) أي : وضع صيغة الطلب والاستفهام ... إلخ.

(٤) أي : الصفات.

(٥) أي : إلى الإيقاع.

(٦) معطوف على ـ وضعها ـ وهو إشارة إلى الدلالة الالتزامية العرفية.

(٧) أي : إطلاق صيغة الطلب وأخواته.

(٨) أي : صورة كون الإيقاع بداعي ثبوت الصفات المزبورة.

(٩) على خلاف كون الإنشاء بداعي وجود تلك الصفات في النّفس.

(١٠) أي : بصيغة الطلب أو الاستفهام أو غيرهما.

(١١) خبر لقوله : «كان إنشاء الطلب» يعني : لو لم تكن قرينة على عدم كون الإنشاء بداعي وجود الصفات حقيقة كان إنشاء الطلب وغيره بالصيغة لأجل قيام الطلب وغيره من الصفات الحقيقية بالنفس ، فيحمل الإنشاء مع عدم القرينة المزبورة على كونه بداعي وجود تلك الصفات في النّفس.

(١٢) الظاهر أنّه مفعول له ، يعني : أنّ ثبوت الإنشاء بداعي وجود تلك الصفات حقيقة إنّما هو لأجل الوضع أي الدلالة الالتزامية العقلية الوضعيّة ، ولأجل انصراف الإطلاق إليه.

٣٩٨

إطلاقاً (١). إشكال (٢) ودفع : أمّا الإشكال فهو : أنّه يلزم بناءً على اتحاد الطلب والإرادة في تكليف الكفار بالايمان بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان إمّا أن لا يكون هناك تكليف جدّي (٣) إن لم يكن هناك إرادة ، حيث إنّه لا يكون

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «وضعاً» والمراد به هو الدلالة الالتزامية العرفية الإطلاقية التي تقدم بيانها آنفاً.

(٢) هذا رابع الوجوه التي ذكرها في البدائع لإثبات مغايرة الطلب للإرادة وحاصله : أنّه بناءً على اتحادهما وعينيّتهما يلزم أحد المحذورين في باب تكليف الكفار بالايمان والعصاة بالعمل بالأركان :

الأوّل : كون التكليف صورياً إذا لم يكن هناك إرادة ، والآخر : تخلُّف المراد عن الإرادة إذا كان التكليف جدّياً ، وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل ، فلكونه خلاف الإجماع القائم على أنّ الكفار والعصاة معاقبون على الكفر والعصيان ، فلا محيص عن كونهم مكلفين بالتكليف الحقيقي ، وهو خلف.

وأمّا الثاني ـ وهو كون التكليف جدياً ـ فلاستلزامه تخلُّف المراد عن الإرادة ، إذ المفروض كون الطلب الحقيقي عين الإرادة الحقيقية ، فالله تبارك وتعالى أراد منهم الإيمان والعمل بالفروع ، فلم يؤمنوا ولم يعملوا ، ويمتنع تخلف المراد عن إرادته تعالى ، لأنّه جلّ وعلا «إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فلا محيص عن تغاير الطلب والإرادة ، والالتزام بوجود الطلب الحقيقي في تكليف الكفار والعصاة ، دون الإرادة الحقيقية.

(٣) هذا إشارة إلى المحذور الأوّل وهو كون التكليف صورياً.

٣٩٩

حينئذٍ (١) طلب حقيقي ، واعتباره (٢) في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي وإن (٣) كان هناك إرادة فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا يكاد تتخلف (إِذا أَرادَ) الله (شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وأمّا الدفع (٤) فهو : أنّ استحالة التخلف

______________________________________________________

(١) أي : حين عدم الإرادة ، إذ المفروض عينية الطلب والإرادة ، فانتفاء الإرادة يستلزم انتفاءه.

(٢) يعني والحال : أنّ اعتبار الطلب الحقيقي في التكليف الجدّي ربما يكون بديهياً.

(٣) هذا إشارة إلى المحذور الثاني وهو تخلف المراد عن الإرادة ، وأُسلوب الكلام يقتضي أن يقال : «وامّا أن تتخلف الإرادة عن المراد ان كان هناك إرادة توجب كون التكليف جدياً».

والحاصل : أنّه بناءً على تغاير الطلب والإرادة لا يلزم شيءٌ من المحذورين المتقدمين ، للالتزام بكون تكليف الكفار حقيقياً ناشئاً عن طلب حقيقي دون الإرادة الحقيقية.

(٤) محصل هذا الدفع كما يظهر ذلك من سائر الكلمات أيضا : انّ لله تعالى إرادتين : تكوينية وتشريعية :

أمّا الأُولى ، فهي عبارة عن العلم بالنظام على النحو التام ، وهذه الإرادة تتعلق بذوات الماهيات ، وتفيض عليها الوجود الّذي هو منبع كل خير وشرف ، فالماهيات بمجرد سماع نداء ربّها تطيع أمر خالقها ، ولا تتخلّف الإرادة التكوينية عن المراد أصلا.

وأمّا الثانية ، فهي عبارة عن العلم بوجود المصلحة في فعل العبد إذا صدر عنه بالإرادة والاختيار ، لا بالإلجاء والاضطرار ، لاختصاص المصلحة بذلك

٤٠٠