منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

السنة بهذا المعنى ، إلّا أنّ البحث في غير واحدة من مسائلها كمباحث الألفاظ وجملة من غيرها (١) لا يخص الأدلة بل يعم غيرها (٢) وان كان المهم معرفة أحوال خصوصها (٣) كما لا يخفى. ويؤيد ذلك (٤) تعريف الأصول بأنّه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية وان كان الأولى (٥) تعريفه بأنّه صناعة يعرف

______________________________________________________

(١) كمباحث الاستلزامات.

(٢) لكون المفروض عروض هذه العوارض بواسطة أمر أعم ، فلا تخرج عن العرض الغريب.

(٣) أي : خصوص الأدلة ، هذا إشارة إلى الجواب المتقدم عن الفصول.

(٤) أي : كون موضوع علم الأصول الطبيعي المتحد مع موضوعات مسائله المتشتتة لا خصوص الأدلة الأربعة ، وجه التأييد هو ظهور القواعد في العموم ، فيراد بها كل قاعدة مهدت للاستنباط سواء كان موضوعها من الأدلة الأربعة أم غيرها. ولعل التعبير بالتأييد دون الأدلة لأجل احتمال كون اللام للعهد ، فالمراد حينئذٍ هو القواعد التي تكون موضوعاتها من الأدلة الأربعة ، أو لاحتمال كون التعريف بذلك تعريفاً بالأعم والله العالم.

(٥) هذه الأولوية تعيينية كالأولوية في قوله تعالى : «وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض» لفساد تعريف المشهور عند المصنف من وجوه :

(الأول) : اشتماله على العلم وهو فاسد ، لما تقدم من أنّ علم الأصول عبارة عن نفس المسائل لا العلم بها. ويمكن أن يكون نظرهم في أخذ العلم في تعريفه إلى أن الغرض من كل علم لا يترتب إلّا على العلم بقواعده ومسائله ، فإنّ القدرة على الاستنباط مثلا تتوقف على العلم بالقواعد الأُصولية لا على تلك القواعد

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

بوجودها الواقعي (*).

(الثاني) : أن تعريف المشهور ظاهر في أنّ المناط في كون المسألة أُصولية هو فعلية وقوعها في طريق الاستنباط ، وعدم كفاية شأنية الوقوع كذلك في أُصولية المسألة ، ولما كان ذلك فاسداً عدل عنه المصنف إلى قوله : «يمكن أن يقع» لوضوح أنّ المسائل الأصولية كبريات لا يترتب عليها الاستنباط الفعلي إلّا بعد انضمام صغرياتها إليها ، فلو لم تنضم إليها صغرى لم يقدح ذلك في أُصوليتها ، فعدول المصنف عن تحديد المشهور إلى إمكان الوقوع في طريق الاستنباط في محله.

(الثالث) : أنّ تعريف المشهور لا يشمل جميع المسائل الأصولية ، لاختصاصه بما يقع في طريق الاستنباط كمسألة حجية خبر الواحد وحجية أحد الخبرين المتعارضين وحجية الظواهر وما شابهها ، وعدم شموله لما لا يقع في طريق الاستنباط كالأصول العملية التي هي وظائف للشاك في مقام العمل من دون استنباط حكم منها لأنّها بأنفسها أحكام بناءً على إمكان الجعل للحكم الظاهري وترخيص في ترك الواقع بناءً على عدمه ، فلا تقع الأصول العملية كحجية الخبر في طريق استنباط الحكم أصلا. وكمقدمات الانسداد بناءً على الحكومة ، فانّه لا علم بالحكم في مورده

__________________

(*) لكن لا يخفى ما في التعبير بالصناعة من الإشكال أيضا ، لأنّ المراد بها ظاهراً هو الملكة ، ولازمه خروج نفس القواعد عن علم الأصول ، وهو كما ترى ، فالأولى تعريفه بنفس القواعد. ولعلّ الداعي إلى أخذ الصناعة في التعريف دون العلم كما صنعه المشهور هو : أنّه ليس لعلم الأصول قواعد مضبوطة كسائر العلوم حتى يعرَّف بالعلم بالقواعد ، بل علم الأصول صناعة يقتدر بها على تأسيس قواعد يمكن وقوعها في طريق الاستنباط ، فتدبر.

٢٢

بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي (١) ينتهي إليها في مقام العمل بناء (٢) على أن مسألة حجية الظن على الحكومة ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية (٣) من الأصول (٤) كما هو كذلك (٥) ، ضرورة أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات.

(الثاني) : الوضع (٦) هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما

______________________________________________________

لا واقعياً ولا ظاهرياً. أمّا الأوّل ، فلأنّ المفروض انسداد باب العلم بالاحكام الواقعية ، وأمّا الثاني : فلعدم جعلٍ للشارع فيه بعد فرض عدم حجية الظن شرعاً ، وهذا بخلاف تعريف المصنف (قده) المشتمل على قوله : «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» فإنّه يشمل ما لا يقع في طريق الاستنباط كالأصول العملية وحجية الظن حكومة.

(١) معطوف على قوله : «التي يمكن ان تقع ... إلخ».

(٢) متعلق بقوله : «أو التي ينتهي».

(٣) دون الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، فإنّها خارجة عن علم الأصول ، لعدم استنباط حكم كلي منها.

(٤) خبر لقوله : «ان مسألة حجية الظن ... إلخ».

(٥) يعني : بحسب الواقع ونفس الأمر.

(٦) هذا ثاني الأمور المبحوث عنها في المقدمة ، وقبل الخوض في بيان الوضع لا بأس بالتنبيه على أمر ، وهو : أنّهم اختلفوا في دلالة الألفاظ على معانيها على أقوال ثلاثة : (الأول) كون الدلالة ذاتية صرفة. (الثاني) كونها جعلية كذلك. (الثالث) كونها بالذات والجعل كليهما ، والأوّل والثالث باطلان ، لما ذكر في الكتب المبسوطة ، فخيرها أوسطها.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّه قد وقع الخلاف في معنى الوضع ، فمنهم من فسّره بالالتزام والتعهد كالفاضل النهاوندي ومن تبعه ، ومنهم من فسّره

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بأنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بلا اعتماد على معنى كما عن الفصول ، أو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه كما عن غيره ، ومنهم من فسره بجعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، ومنهم من فسره بجعل الهوهوية والاتحاد بين اللفظ والمعنى. فحقيقة الوضع على هذا هي الاتحاد الاعتباري بينهما الناشئ عن الجعل أو كثرة الاستعمال. ثم اختلفوا أيضا في أنّ الواضع هل هو الله تعالى شأنه كما عن جماعة ومنهم أبو الحسن الأشعري أم هو البشر كيعرب بن قحطان كما عن غيرهم؟ والغرض الإشارة إلى هذه الجهات دون التعرض لها تفصيلا ، فإنّه ينافي وضع التعليقة وان كان الحق أنّ الواضع هو المخلوق لقوة أودعها فيه خالق الموجودات جلّ وعلا يضعون بها ألفاظاً لإبراز ما في ضمائرهم من المعاني ، كما يخترعون بتلك القوة صناعات عجيبة ثم يضعون لها ألفاظاً كالراديو والتلفن والتلغراف وغير ذلك. وكيف كان فلنعطف عنان البحث إلى ما أفاده المصنف (قده) ومحصله : أنّه (لمّا لم تكن) التعريفات المذكورة في كتب القوم للوضع خالية عن المسامحة إمّا لأخذ فائدة الوضع وهي الدلالة على المعنى في مفهومه ، وإمّا لجعل الوضع بمعناه المصدري غير الشامل للوضع التعيني (عدل) عنها إلى تعريفه بما في المتن ، وهو يرجع إلى معنى اسم المصدر القابل للانقسام إلى التعييني والتعيني ، لأنّ الوضع ان لوحظ باعتبار صدوره فهو مصدر ، وان لوحظ باعتبار نفسه فهو اسم مصدر ، والفرق بينهما اعتباري. وكيف كان فالوضع كما يكون له وجود تكويني كجعل حجر على حجر كذلك يكون له وجود تشريعي يوجد بإنشاء من بيده الاعتبار نظير سائر الأُمور الاعتبارية المتحققة بالإنشاء كالملكية والزوجية وغيرهما. ثم إنّ الوضع بالمعنى المذكور في المتن يكون من صفات اللفظ ، لصحة توصيف اللفظ به بأن يقال : اللفظ الموضوع ، كما أنّه بمعنى تعهد الواضع أو تخصيص اللفظ بالمعنى من صفات الواضع.

٢٤

ناشئ من تخصيصه (١) به تارة ومن كثرة استعماله فيه أُخرى ، وبهذا المعنى (٢) صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني كما لا يخفى. ثم إنّ الملحوظ (٣) حال الوضع إمّا يكون معنى عاماً فيوضع اللفظ له تارة ولأفراده ومصاديقه أُخرى ، وإمّا يكون معنى خاصاً لا يكاد يصح إلّا وضع اللفظ له دون العام ، فتكون الأقسام ثلاثة ، وذلك لأنّ العام (٤) يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه

______________________________________________________

(١) أي : تخصيص الواضع اللفظ بالمعنى.

(٢) أي : اختصاص اللفظ بالمعنى.

(٣) لما كان الوضع من الأمور الإنشائية المتقومة بالتصور واللحاظ كسائر الإنشائيات التي لا توجد إلا بذلك وكان أمراً نسبياً متقوماً باللفظ والمعنى ، فلا بد من أن يلاحظ الواضع حين الوضع كلًّا من اللفظ والمعنى. ثم إنّ الوجوه المتصورة عقلاً في الوضع أربعة ، لأنّ المعنى الملحوظ إمّا كلّي وإمّا جزئي ، وعلى الأوّل إمّا أن يضع اللفظ بإزائه ، وإمّا أن يضعه بإزاء أفراده ، ويسمى أوّلهما بالوضع العام والموضوع له العام ، وثانيهما بالوضع العام والموضوع له الخاصّ. وعلى الثاني إمّا يضع اللفظ بإزائه وإمّا بإزاء الكلي الجامع بين ذلك المعنى الجزئي الملحوظ حين الوضع وبين غيره من الجزئيات المشاركة له في ذلك الكلي ، ويسمى الأول بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، والثاني بالوضع الخاصّ والموضوع له العام ، والممكن من هذه الأربعة هو ما عدا الأخير لما سيذكره المصنف (قده).

(٤) هذا تعليل لإنكار القسم الرابع ـ وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العام ـ خلافاً لجماعة منهم المحقق صاحب البدائع ، وملخص ما أفاده المصنف في وجه الإنكار هو : أنّ الخاصّ بما هو خاص ـ كزيد ـ لا يصلح لأن يكون وجهاً للعام كالإنسان ، ولذا لا يصح حمل الخاصّ عليه ، فلا يقال : «الإنسان زيد» بخلاف العام ، فإنّه

٢٥

بما هو كذلك (١) ، فإنّه (٢) من وجوهها (٣) ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه ، بخلاف الخاصّ ، فإنّه بما هو خاص لا يكون وجهاً للعام ولا لسائر الأفراد ، فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها أصلا ولو بوجه ، نعم ربما يوجب تصوره تصور

______________________________________________________

يصلح لأن يكون وجهاً للخاص ، ولذا يصح حمله عليه فيقال : «زيد إنسان».

وبالجملة : خصوصية الخاصّ توجب مباينته للعام كمباينته لسائر الافراد ، فكما يباين زيد عمراً وبكراً وغيرهما من أفراد الإنسان لتباين خصوصياتها كذلك يباين الإنسان الّذي هو الطبيعة اللابشرط ، لما بين الماهية بشرط شيءٍ : وبين الماهية اللابشرط القسمي من التنافي المانع عن الاتحاد المقوِّم للحمل وعن كونه وجهاً للماهية اللابشرط وهي العام. وان شئت فقل في تقريب المنع عن هذا القسم الرابع : بأنّ المعنى الملحوظ حين الوضع ان كان جزئياً حقيقياً فكيف يعقل أن يضع الواضع اللفظ بإزاء المعنى العام الشامل له وللأفراد المتماثلة له؟ إذ لازمه الوضع لمعنى لم يتصوره حال الوضع أصلا ، لأنّ المفروض عدم كون الخاصّ وجهاً للعام حتى يكون تصوره تصور العام بوجه ، فلا يعقل الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، هذا (*).

(١) أي : بما هو عام ، لأنّه باعتبار لا بشرطيته متحد مع الأفراد وجوداً فيصح أن يكون آلة للحاظها.

(٢) يعني : فإنّ العام لأجل لا بشرطيته ....

(٣) أي : من وجوه الأفراد والمصاديق.

__________________

(*) إلا أن يقال : إنّ التصور التفصيليّ التحليلي للخاص تصور إجمالي للعام ، وهذا المقدار كافٍ في صحة الوضع له وإن لم يكن الخاصّ وجهاً له كما يكشف عنه عدم صحة حمله على العام ، فمجرد علّية تصور الخاصّ لتصور العام يكفي في صحة الوضع للمعنى العام ، فتدبر.

٢٦

العام بنفسه فيوضع له اللفظ فيكون الوضع عاماً كما كان الموضوع له عاماً ، وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فإنّ الموضوع له وهي الافراد لا يكون متصوراً إلّا بوجهه وعنوانه وهو العام ، وفرق (*) واضح بين تصور الشيء بوجهه (١) وتصوره بنفسه (٢) ولو كان بسبب تصور أمر آخر (٣) ، ولعل خفاء ذلك على بعض الأعلام وعدم تمييزه بينهما كان موجباً لتوهم إمكان ثبوت قسم رابع وهو أن يكون الوضع خاصاً مع كون الموضوع له عاماً ، مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمل (٤). ثم إنّه لا ريب في ثبوت الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ كوضع الأعلام (٥) وكذا الوضع العام والموضوع له العام

______________________________________________________

(١) كما في الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

(٢) كما في الوضع والموضوع له العامين إذا استلزم تصور الخاصّ تصور العام كتصور الخاصّ بكنهه المستلزم لتصور العام الّذي في ضمنه.

(٣) كتصور الإنسان الناشئ عن تصور زيد ، فإنّ تصوره علة لتصور الإنسان.

(٤) قد عرفت آنفاً إمكان هذا القسم الرابع وإن لم يكن الخاصّ وجهاً للعام كالعكس ، لكن التصور الإجمالي كافٍ في الوضع ، والمفروض أنّ التصور التحليلي للخاص يستلزم تصور العام إجمالاً ، وبه يندفع إشكال عدم تصور المعنى العام لا تفصيلا ولا إجمالا إذا كان المعنى الملحوظ حين الوضع خاصاً. فالحق إمكان القسم الرابع وفاقاً لصاحب البدائع وغيره كإمكان الأقسام الثلاثة الأُخرى.

(٥) أي : الأعلام الشخصية كوضع زيد مثلا ، فإنّ الوضع وهو المعنى الملحوظ

__________________

(*) وضوح الفرق بينهما كصحة الحمل في أحدهما ـ وهو ما إذا كان العام وجهاً للخاص دون الآخر ـ لا يمنع عن التصور الإجمالي الكافي في الوضع.

٢٧

كوضع أسماء الأجناس (١). وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاصّ فقد توهم (٢) أنّه وضع الحروف وما ألحق بها من الأسماء (٣) ، كما توهم أيضا (٤) أنّ المستعمل فيه

______________________________________________________

جزئي كجزئية الموضوع له ، إذ اللفظ موضوع لنفس ذلك المعنى المتصور ، فكل من الوضع والموضوع له خاص.

(١) سواء كانت أسماءً لما اخترعه أهل هذه الأعصار كالطيارات والسيارات والمكائن وغيرها ، أم لما خلقه الله سبحانه وتعالى كالماء والحنطة والشعير وغيرها.

(٢) المتوهم جماعة منهم السيد الشريف.

(٣) المشابهة للحروف شباهة افتقارية أو وضعية أو معنوية كأسماء الإشارات والموصولات وغيرهما.

(٤) المتوهم هو التفتازاني على ما قيل (*).

__________________

(*) ولا بأس بالتعرض إجمالاً للأقوال المذكورة في وضع الحروف.

(منها) ما عن نجم الأئمة الشيخ الرضي من أنّ الحرف لا معنى له أصلا ، بل جعل علامة على خصوصية معنى مدخوله ، فكما يكون الرفع علامة على فاعلية زيد مثلا في قولنا : «قام زيد» كذلك يكون ـ في ـ علامة على ظرفية مدخوله كالدار في قولنا «زيد في الدار» هذا. وفيه (أولا) أنّه مجرد دعوى لا برهان عليه ، وصِرف إمكانه لا يكفي في الوقوع. (وثانياً) أنّه خلاف ما اتفقوا عليه من انقسام الكلمة إلى اسم وفعل وحرف ، وعزل الحرف عن المعنى يستلزم انحصار الكلمة في الأولين. (وثالثاً) أنّه يستلزم التجوز في الاستعمالات ، توضيحه : أنّ «الدار» مثلا وضعت لذات معناها وهي البناء الموجود العيني الجوهري ، وخصوصية ظرفيتها لزيد مثلا خارجة عنه ، وحينئذٍ فان لم يكن لكلمة «في» معنى الظرفية يلزم التجوز في استعمال كلمة «الدار» في معناها المتخصص بهذه الخصوصية ، وهو كما ترى ، فلا بد أن تكون الخصوصية مدلولة لكلمة «في».

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نعم قيل بصحة دعوى العلامية في علائم الإعراب كالرفع ، إذ الدال على الفاعلية التي هي النسبة الصدورية أو الحلولية هي الهيئة الكلامية. فمقايسة الحروف على مثل الرفع في غير محلها ، بل هذه الدعوى في المشبه به أعني به علائم الإعراب أيضا في حيز المنع ، فتدبر.

ومنها : الأقوال المترتبة على وضع الحروف لمعانٍ في مقابل قول من جعلها علامة لخصوصية مدخولها.

(أحدها) : أنّها وضعت لمعنى لوحظ حالة للغير ونعتاً له بحيث لا يتصور في الذهن بنفسه ومع الغض عن الغير كالأعراض الخارجية التي لا توجد مستقلة بل في موضوعاتها ، حتى قيل : «إنّ وجوداتها في أنفسها عين وجوداتها لموضوعاتها» فالمعنى الحرفي حالة لمعنى آخر وقائم به كالعرض ، وليس كالمعنى الاسمي القائم بنفسه ، هذا.

وفيه : أنّ المعنى الحرفي لو كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى طرفين بل إلى طرف واحد كالأعراض الخارجية.

(ثانيها) : أنّها وضعت للنسب والارتباطات المتقومة بالطرفين مثلا قولنا :

«سرت من البصرة» يدل على مفهومي السير والبصرة اللذين هما مدلولا «سرت» والبصرة» والنسبة الابتدائية بينهما التي هي معنى «من» فلو لم تكن كلمة «من» في الكلام لم يكن لهذه النسبة دال ، فمعنى «من» هي النسبة الابتدائية ، كما أنّ معنى «إلى» هي النسبة الانتهائية ، وهكذا سائر الحروف.

ومن هنا يظهر : أنّ حال الهيئات ـ لدلالتها على النسب والارتباطات من الصدورية والقيامية والإيجادية والطلبية وغيرها ـ حال الحروف بناءً على هذا القول.

٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فالأسماء تدل على المعاني الاستقلالية ، والحروف تدل على النسب والارتباطات التي بينها ، ولا فرق بين أقسام الحروف من الجارة وغيرها في الدلالة على النسب ، فإنّ لفظة «يا» مثلا تدل على النسبة الندائية المتقومة بالمنادي والمنادى. وقد ظهر مما ذكرنا : أنّ المعنى الحرفي بذاته غير مستقل وغير متصور بالاستقلال كالمعنى الاسمي ، إذ النسبة متقومة بالمنتسبين ، فليس عدم استقلاله ناشئاً من اللحاظ كما هو مقتضى القول الآتي.

(ثالثها) ما في المتن تبعاً للفصول : من أنّ المعنى إذا لوحظ آلياً فهو معنى حرفي وإذا لوحظ استقلالياً فهو معنى اسمي ، فالتفاوت بين المعنى الحرفي والاسمي إنّما هو باللحاظ من دون فرق بينهما في نفس المعنى وهويته ، إذ الموضوع له في كل من الاسم والحرف هو الماهية المبهمة المعرّاة عن قيد الاستقلال وعدمه. فكما لم تلاحظ الاستقلالية جزءاً في معاني الأسماء لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، فكذلك لم تلاحظ الآلية التي هي كون المعنى حالة للغير جزءاً لمعاني الحروف ، لما سيذكره المصنف (قده) من الوجوه الثلاثة الدالة على عدم أخذ لحاظ الآلية جزءاً للمعاني الحرفية.

(رابعها) ما أفاده شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) وهو يعتمد على أربعة أركان :

(الأول) : أنّ المعاني الحرفية إيجادية لا إخطارية ، توضيحه : أنّه ليس للمعنى الحرفي مفهوم متصور في الذهن كالمفاهيم الاسمية ، بل المعاني الحرفية هي النسب والارتباطات التي توجد في موطن الاستعمال ، فكلمة «من» مثلا وضعت

٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لإيجاد الربط الابتدائي بين السير والبصرة في مثل قولك : «سر من البصرة إلى الكوفة» وكلمة «على» لإيجاد النسبة الاستعلائية بين زيد والسطح ، في مثل «زيد على السطح» ، وهيئة «زيد قائم» لإيجاد النسبة القيامية بين زيد وقائم ، ومثلها سائر الحروف والهيئات. وبالجملة : فلا تقرر للمعنى الحرفي في الذهن حتى يتصور ، بل تقرره وتحصله موطن الاستعمال ، فالحروف آلات لإيجاد معانيها لا كواشف عن مداليلها.

(الثاني) : أنّ المعاني الحرفية لا استقلال لها في هوية ذاتها ، بل هي قائمة بغيرها ، بداهة أنّ النسب والارتباطات التي تحكيها الحروف والهيئات لا تقوم بذاتها ، لكونها قائمة بالطرفين ، وإلى هذا ينظر قولهم «الحرف ما دل على معنى في غيره» ، فإنّ معنى كلمة «من» هي الابتدائية التي تقوم بما يليها من البصرة ونحوها.

(الثالث) : أنّ تلك المعاني الإيجادية لا موطن لها إلّا وعاء الاستعمال ، ولا تقرر لها في شيء ، من أوعية الواقع والاعتبار والذهن ، فليس الموضوع له في الحروف مفاهيم النسب والارتباطات ، بل مصاديقها الموجودة في موطن الاستعمال في مقابل القول بالإخطارية المنوطة باللحاظ والتصور وتعدد وعاء التحصل والتقرر ، فإنّ لازم الإيجادية هو وحدة عالم التقرر والتحصل ، فوجود المعنى الحرفي حدوثاً وبقاء يدور مدار الاستعمال.

(الرابع) : أنّ المعاني الحرفية مغفول عنها وغير ملتفت إليها حال إيجادها ، كالألفاظ التي يراد بها معانيها ، فإنّ النّظر إلى الألفاظ حينئذٍ آليّ كالنظر إلى المرآة ان كان الغرض معرفة حال المرئي ، فإنّ المعنى الحرفي بناءً على كونه إيجادياً لا يمكن

٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن يكون ملتفتاً إليه قبل الاستعمال أصلا ، لتوقف الالتفات إليه على تصوره في الذهن والمفروض أنّه لا وجود له في غير موطن الاستعمال ، فكيف يمكن تصوره قبل الاستعمال؟ ويترتب على عدم وجوده قبل الاستعمال امتناع الإطلاق والتقييد اللحاظيين فيه ، هذا. ثم استدل المحقق النائيني (قده) على القول بالإيجادية على ما يستفاد من كلمات مقرري بحثه الشريف بوجوه ثلاثة :

(الأول) : الخبر الّذي رواه أبو الأسود الدؤلي عن مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين ، قال : «قال عليه‌السلام : الاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره» تقريب الاستدلال به : أنّ في العدول عن الإنباء في الحرف إلى الإيجاد دلالة على عدم تقرُّر لمعنى الحرف في غير وعاء الاستعمال حتى يدل عليه الحرف ويحكي عنه كحكاية أخويه عن معنييهما ، بل الحرف آلة لإيجاد معناه ، هذا.

(الثاني) : أنّ حرف النداء في مثل «يا زيد» لا يمكن أن يكون حاكياً عن النسبة الندائية المتقررة في غير موطن الاستعمال ، إذ لا نداء ولا منادي ولا منادى قبل الاستعمال ، بل هذه العناوين توجد بنفس الاستعمال ، فلا وجود لها قبله ، فيوجد بحرف النداء مصداق لمفهوم النداء ، فالمعنى الحرفي مصداق للمعنى الاسمي.

(الثالث) : أنّه لا شك في أنّ مفاهيم أجزاء الجمل سواء كانت تامة أم ناقصة واسمية أم فعلية وخبرية أم إنشائية مفاهيم بسيطة مستقلة في الأذهان غير مرتبطة بعضها ببعض كالماء والكوز ، فإنّهما موضوعان لمفهومين متغايرين

٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا يرتبط أحدهما بالآخر بحيث لا يمكن تأليف كلام منهما ، فلو استعملت كلمة ـ في ـ في مفهوم النسبة الظرفية لا في حقيقتها فما الرابط بين هذين المفهومين الاسميين المستقلين؟ فلا بد أن تكون الحروف والهيئات موضوعة لمصاديق النسب والارتباطات ليتحقق الربط بينهما ، فالموجد للارتباط بين المفاهيم المتغايرة هي الحروف والهيئات ، هذا. وأنت خبير بما في الجميع ، إذ في الأول وهو الخبر أولا : أنّه مرويّ عن طرق العامة. وثانياً : اختلاف متنه ، لأن المحكي عن بعض النسخ هكذا : «والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل» والترجيح بعلوّ المضمون على فرض صحته في نفسه غير ثابت هنا ، لما سيظهر من وهن إيجادية المعاني الحرفية. وثالثاً : أنّه يمكن أن يكون وجه العدول عن الإنباء في الحروف إلى الإيجاد ملاحظة كون النسب والارتباطات التي هي المعاني الحرفية الرابطة بين المفاهيم الاسمية علة لتحقق الهيئة في الذهن كعلية النسب والارتباطات الخارجية لتحقق هيئة في الخارج ، كالهيئة السريرية الحاصلة بارتباطات خاصة بين قطعات الخشب. ولمّا كانت الحروف حاكية عن النسب التي هي علة لوجود تلك الهيئة ، صحت إضافة الإيجاد عناية إلى نفس الحروف الحاكية عنها ، فتدبر.

وفي الثاني ـ وهو عدم إمكان حكاية حرف النداء عن النسبة الندائية ـ أوّلا :

أنّه أخص من المدعى ، لعدم تطرقه في الجمل الخبرية المشتملة على النسب التحقيقية ، لحكاية الهيئة فيها عن الارتباط الذهني المتحقق قبل وعاء الاستعمال ، فلاحظ.

وثانياً : أنّ الفرق بين مثل «يا زيد» وبين سائر الجمل الإنشائية تحكُّم ، لامتناع تأليف الكلام من حرف واسم ، فلهذا الكلام مقدر وهو كلمة «أدعو» مثلا

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كما قدّره النحويون.

ومن الواضح أنّ للدعوة نسبة صدورية إلى المتكلم الّذي يقال له المنادي (بالكسر) والدال على هذه النسبة هيئة «أدعو» ونسبة المدعوية إلى طرفه وهو زيد في المثال المدعو بالمنادى (بالفتح) والدال على هذه النسبة هي لفظة «يا» ، ولا بد من تصور أجزاء الكلام بما لها من المفاهيم الاستقلالية والروابط الموجبة لارتباطها وتألف الكلام منها ليتحقق التطابق بين القضية المعقولة والملفوظة ، من غير فرق في ذلك بين الجمل الإنشائية والاخبارية.

والحاصل : أنّه كما يعتبر تصور المفاهيم الاستقلالية التي تدل عليها أطراف القضية من المسند والمسند إليه كذلك يعتبر تصور النسب والارتباطات التي تدل عليها الحروف والهيئات ، فإنّ كل متكلم لا يلقي كلامه إلى مخاطبه إلا بعد تصور مضمونه من المفاهيم المستقلة وروابطها ، فالكلام الملقى إلى الطرف كما يشتمل على الألفاظ التي تدل على المفاهيم المستقلة ، كذلك يشتمل على الحروف والهيئات التي تحكي عن الارتباطات والنسب ، وهل يمكن إلقاء كلام مفيد بدون التصور المزبور بعد وضوح لزوم التطابق بين القضية المعقولة والملفوظة كما أشرنا إليه آنفاً؟ وثالثاً : أنّه لا معنى لمصداقية النسبة الندائية الموجدة بحرف النداء في موطن الاستعمال لمفهوم النداء الّذي هو معنى اسمي ، وذلك لعدم انطباق ضابط المصداقية على المعنى الحرفي ، فإنّ ضابطها هو صحة وقوع المصداق مسنداً إليه والمفهوم مسنداً نظير «زيد إنسان» ، ومن المعلوم عدم صحته في المقام ، ضرورة عدم صحة وقوع الحرف مسنداً إليه ، وإلّا لخرج عن كونه حرفاً كما هو واضح

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وفي الثالث ـ وهو كون مفاهيم أجزاء الجمل بسائط مستقلة في الذهن ـ أولا : ما مر آنفاً من أنّ القضية الملفوظة كما تحتاج إلى وجود رابط يربط أطرافها ، كذلك القضية المعقولة تتوقف على وجود رابط بين أجزائها الذهنية ، فالملقي للكلام المفيد يحتاج أوّلاً إلى تصور الأطراف والربط بينها ليتمكن من إلقائه ثانياً. وببيان أوضح : كما أنّ الماهيات المبهمة اللابشرط المقسمي التي وضعت لها الألفاظ ـ بناءً على المذهب الصحيح الّذي اختاره السلطان في وضع أسامي الأجناس ـ تحتاج إلى حاكٍ يحكي عنها ، كذلك الخصوصيات الطارئة عليها كتخصص السير بكونه من البصرة في قوله : «سر من البصرة» ، وتقيّد الصوم بكونه من الطلوع إلى الغروب في قوله : «صم من الطلوع إلى الغروب» وغير ذلك ، فإنّ الحاكي عن نفس الطبيعة المهملة لا يغني عما يحكى عن خصوصيتها ، لعدم دلالته عليها ، فكلّ من الطبيعة وخصوصياتها تحتاج إلى دالٍّ يخصها ، ولذا نحتاج في إثبات الإطلاق إلى مقدمات الحكمة ، إذ المفروض أن اللفظ لا يدل إلّا على نفس الطبيعة المهملة المعراة عن كل خصوصية وارتباط. فنتيجة هذا البيان كون مداليل الحروف والهيئات كمداليل الأسماء إخطارية لا إيجادية.

وثانياً : أنّ إيجادية المعاني الحرفية تستلزم محذوراً لم يلتزم به أحد ، وهو خروج جميع القيود عن حيّز الطلب المنشأ بالهيئة وتوضيحه منوط بتقديم أمرين مسلّمين :

أحدهما : أنّ الطلب لا يتعلق إلّا بما يكون مقدماً عليه رتبة ، لتأخر الحكم عن موضوعه تأخر المعلول عن علته.

ثانيهما أنّ وحدة رتبة علّتين تستلزم وحدة رتبة معلوليهما ، إذا عرفت

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

هذين الأمرين فاعلم : أنّه إذا قال المولى : «سِر من البصرة إلى الكوفة» ففيه دلالات : «إحداها» دلالته على مفهومين اسميين وهما مفهوما : السير والبصرة.

(ثانيتها) دلالته على الارتباط الخاصّ بينهما ، وهو تقيّد السير بكون مبدئه البصرة ومنتهاه الكوفة. (ثالثتها) دلالته على الطلب ، ولما كان الطلب والارتباط بين السير والبصرة معلولين للأداة والهيئة اللتين هما في رتبة واحدة ، فلا محالة يكون نفس الطلب والارتباط أيضا في رتبة واحدة ومتأخرين عن مفهومي السير والبصرة ، وقد مرّ في الأمر الأول : أنّ الطلب لا يتعلق إلا بما يتقدم عليه رتبة ، فلا يتعلق بما هو في رتبته أو متأخر عنه ، ولازم وحدة رتبتي الطلب والإضافة بين مفهومي السير والبصرة هو عدم تعلق الطلب بالإضافة ، وكون المطلوب مطلق السير وإن لم يكن ابتداؤه من البصرة ، وهذا مما لم يلتزم به أحد ، إذ المسلم عندهم في مثل هذه القضية هو جعل القيد متعلق الطلب ، وكون المطلوب السير المتخصص بخصوصية كذائية لا مطلق السير. ولا يرد هذا المحذور على القول بإخطارية المعاني الحرفية ، لأنه يتصور المعنى الاسمي مقيداً بالخصوصية ويطلبه كذلك ، فيكون القيد متصوراً قبل تعلق الطلب به. نعم في مقام الدلالة يكون الدالان على القيد والطلب في رتبة واحدة ، لكنه لا يقدح ، لعدم استلزام عرضية الكاشفين لعرضية المنكشفين كما لا يخفى. وثالثاً : أنّه يلزم تأخر الارتباط المترتب على الحروف أو الهيئات عما يقوم به من المفهومين الاسميين وعدم كونه في رتبتهما ، توضيحه :

أنّ الارتباط المعلول للأداة يوجد في وعاء الاستعمال ، وهو متأخر عن تصور المفهومين اللذين يقوم بهما الارتباط ، فمع تصور مفهوم زيد بدون ارتباطه بالقيام

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وتصور مفهوم القيام بدون ارتباطه بزيد كيف يحصل الارتباط بينهما بالحروف أو الهيئات مع عدم انقلاب الواقع عما هو عليه من الإطلاق وعدم الارتباط؟ إذ المفروض وجود كل منهما غير مرتبط بالآخر ، فلا يرتبطان بما يوجد في مرحلة الاستعمال المتأخر عن مقام التصور ، فتدبر. ورابعاً : أنّه يلزم من إيجادية المعنى الحرفي إنكار القضية المعقولة ، لعدم رابط ذهني يربط الطرفين ، أو الالتزام بإمكان تألف القضية من دون ارتباط بين طرفيها ، وكلاهما كما ترى. وخامساً : أنّ إيجادية المعنى الحرفي تستلزم تحصيل الحاصل ، لأن مقتضى القضية المعقولة هو ثبوت الارتباطات والنسب الخاصة بين طرفي القضية قبل وعاء الاستعمال ، فعلى القول بالإيجادية يلزم إيجاد الارتباط الموجود قبل الاستعمال ، وهذا بخلاف القول بالإخطارية ، إذ الحروف أو الهيئات ليست إلا حاكية عن النسب والارتباطات الموجودة قبل الاستعمال كما لا يخفى.

خامسها : ما عن صاحب الحاشية من التفصيل بين الحروف بالإيجادية في بعضها كحروف النداء والترجي ، والإخطارية في بعضها الآخر. وقد ظهر فساد هذا التفصيل مما ذكرناه في بطلان القول الرابع فلا نعيده. فتحصل من جميع ما ذكرنا :

أنّه لا وجه للقول بإيجادية المعاني الحرفية أصلا ، لا في الكل ولا في البعض.

وأمّا كيفية وضع الحروف وأنّها من أي قسم من الأقسام الثلاثة الممكنة ، فالحق أنّها من قبيل الوضع العام والموضوع له العام. (وتوهم) عدم إمكان عمومية الموضوع له فيها ، لعدم جامع ذاتي قابل للتعقل في الذهن بدون أطرافه بين الارتباطات التي هي المعاني الحرفية ، بحيث ينطبق عليها انطباق الكلي الطبيعي

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على مصاديقه ، إلّا مفهوم الربط الّذي هو معنى اسمي ، ولذا ذهب المشهور على ما قيل إلى كون الموضوع له في الحروف خاصاً (فاسد) ، لأنّ الجامع المفهومي الذاتي بين المعاني الحرفية بحيث يكون نسبته إليها نسبة الكلي إلى مصاديقه وان كان غير ممكن لاستلزامه انقلاب المعنى الحرفي إلى الاسمي ، إلّا أنّ جهة الاشتراك بين أشخاص صنف كالنسبة الابتدائية المدلول عليها بكلمة ـ من ـ التي هي الجهة المشتركة بين أفراد هذا الصنف تجدي في عمومية الموضوع له ، لأنّ المفهوم العام الاسمي المتصور حين الوضع كما يكون مرآة للخصوصيات والأفراد كذلك يكون مرآة لتلك الجهة المشتركة ، فلا مانع من جعل الموضوع له كالوضع في الحروف عاماً ، لأنّ عمدة مستند المنكر لعموم الموضوع له في الحروف هو عدم إمكان وجود جامع ذاتي بين هذه النسب الخاصة بحيث يكون ذلك كليّاً طبيعياً وتلك النسب مصاديقه ، وبَعد إمكانه ومساعدة الوجدان عليه لا بد من الالتزام به.

وأمّا عدم خصوصية كل من الوضع والموضوع له في الحروف ، فلعدم قابلية أشخاص المعاني الحرفية للتصور بدون توسيط معنى اسمي ، وإلّا خرجت عن كونها معاني حرفية ، ولعدم تناهيها وعدم تعقل استحضار ما لا نهاية له بالصور التفصيلية كما هو شأن الوضع الخاصّ. وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاصّ فلا مجال له أيضا ، لأنّ عمدة نظر القائل به كما مر آنفاً إلى عدم إمكان وجود جامع ذاتي بين هذه النسب الخاصة بحيث يكون ذلك كلياً طبيعياً وتلك النسب مصاديقه ، ولكن قد عرفت إمكانه ومساعدة الوجدان على الالتزام به. وأمّا الوضع العام والموضوع له العام والمستعمل فيه الخاصّ ، ففساده غني عن البيان ، إذ لازمه لغوية

٣٨

فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاماً (١). والتحقيق حسبما يؤدي إليه النّظر الدّقيق : أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها (٢) حالهما (٣) في الأسماء (٤) وذلك لأنّ (٥) الخصوصية المتوهمة ان كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئياً خارجياً ، فمن الواضح أنّ كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك (٦)

______________________________________________________

(١) فالمتحصل من عبارة المتن وغيرها : أنّ الأقوال في كيفية وضع الحروف ثلاثة : (الأول) الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، وهو المنسوب إلى جماعة منهم السيد الشريف. (الثاني) عمومية كل من الوضع والموضوع له ، مع خصوصية المستعمل فيه ، وهو المعزي إلى التفتازاني. (الثالث) عمومية كل واحد من الثلاثة ، وهو الّذي أشار إليه المصنف (قده) بقوله : «والتحقيق ... إلخ».

(٢) أي : في الحروف.

(٣) أي : حال الموضوع له والمستعمل فيه.

(٤) يعني : أسماء الأجناس في كون الموضوع له والمستعمل فيه فيها عامين.

(٥) تعليل لكون الموضوع له في الحروف عاماً ، وسيأتي توضيحه.

(٦) أي : جزئياً خارجياً بل كلياً كلفظة ـ من ـ في قوله : «سر من البصرة

__________________

الوضع وبطلان حكمته ، لأن المفروض عدم استعمالها في المعنى الموضوع له ، وقبح وضع لفظ لمعنى لا يستعمل فيه أصلا ظاهر. فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنّ المعاني الحرفية إخطارية لا إيجادية ، وأنّها نسب وارتباطات ، وأنّ كلًّا من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عام ، وأنّ المعاني الحرفية وان كانت قائمة بالمفاهيم الاسمية كقيام الاعراض بموضوعاتها ، إلا أنّ بينهما فرقاً واضحاً ، وهو : أنّ الاعراض بما أنّها من الماهيات قابلة للتصور بالاستقلال ، كتصور مفهوم السواد والبياض ، بخلاف المعاني الحرفية ، فإنّها غير قابلة له كذلك ، بل تتصور مع الأطراف.

٣٩

بل كلياً ، ولذا التجأ بعض الفحول (١) إلى جعله جزئياً إضافياً ، وهو كما ترى (٢) وان كانت هي الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً ، حيث إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفياً إلّا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته القائمة به ، ويكون حاله

______________________________________________________

إلى الكوفة» ، فإنّ الابتداء الّذي استعمل فيه لفظة ـ من ـ كلي ذو مصاديق كثيرة ، ومن المعلوم أنّها قد استعملت في الابتداء الكلي بلا عناية ، فلو كان الموضوع له الابتداء الجزئي لما كان استعمالها في الابتداء الكلي بلا عناية ، هذا وملخص ما أفاده بقوله : «لأن الخصوصية المتوهمة ... إلخ» هو أنّه ان أُريد بها لوازم الوجود الخارجي ، ففيه : أنّه غير مطرد ، لكثرة استعمال الحروف في المعنى الكلي بدون علاقة مجازية ، مثل لفظة ـ من ـ في مثل قوله : «سر من البصرة إلى الكوفة» لكون المعنى المستعمل فيه لفظة ـ من ـ هو الابتداء الكلي.

وإن أُريد بالخصوصية المتوهمة : اللحاظ الذهني الّذي هو ـ كلوازم الوجود الخارجي ـ موجب لجزئية المعنى الملحوظ ذهناً ، ولصيرورة المعنى الحرفي القائم بالغير ، كقيام العرض بموضوعه جزئياً ذهنياً ، ففيه : أنّ المعنى الحرفي وان كان يصير باللحاظ جزئياً ذهنياً ، إلّا أنّ هذا اللحاظ يمتنع أن يكون دخيلا في المستعمل فيه ، لما يرد عليه من الإشكالات الثلاثة الآتية في كلام المصنف (قده).

(١) وهو المحقق التقي صاحب الحاشية على ما قيل أو صاحب الفصول على ما قيل أيضا.

(٢) لأنّ مناط الكلية وهو قابلية الانطباق على الكثيرين موجود في الجزئي الإضافي ، فيرجع الأمر إلى ما أفاده المصنف من كون الحروف موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام.

٤٠