منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

في نفي الصفة ممكن المنع حتى في مثل : ـ لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ـ مما يعلم أنّ المراد نفي الكمال ، بدعوى (١) استعماله في نفي الحقيقة في مثله (٢) أيضا (٣) بنحوٍ من العناية ، لا على الحقيقة ، وإلّا (٤) لما دلّ على المبالغة ، فافهم (*). (رابعها) دعوى القطع بأنّ طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة (٥)

______________________________________________________

(١) الباء للسببية ، يعني : يمكن منع استعمال هذا التركيب في الصفة بسبب دعوى استعماله في نفي الحقيقة ادّعاءً.

(٢) أي : في مثل ـ لا صلاة لجار المسجد ـ ممّا عُلم بعدم إرادة نفي الحقيقة من هذا التركيب فيه.

(٣) يعني : كالموارد التي عُلم بإرادة نفي الحقيقة من هذا التركيب فيها.

(٤) أي : وإن لم يكن هذا التركيب مستعملاً في نفي الحقيقة لما دلّ على المبالغة.

(٥) محصل هذا الوجه الاعتباري هو : أنّ حكمة الوضع (لمّا كانت) إفهام الأغراض ، وهي مترتبة على التام ، لأنّه منشأ الآثار ومحط الأغراض (جرت) طريقة الواضعين على وضع الألفاظ لخصوص الصحيح ، والشارع لم يتجاوز عن هذه الطريقة ، بل سلك مسلكهم ووضع الألفاظ لخصوص الصحيح ، إذ وضعها

__________________

(*) إشارة إلى : أنّ الأخبار المثبتة للآثار وإن كانت ظاهرة في ذلك لمكان أصالة الحقيقة ، ولازم ذلك كون الموضوع للأسماء هو الصحيح ، ضرورة اختصاص تلك الآثار به ، إلّا أنّه لا يثبت بأصالتها كما لا يخفى ، لإجرائها العقلاء في إثبات المراد ، لا في أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز ، فتأمّل جيّداً.

١٤١

كما هو (١) قضية الحكمة الداعية إليه (٢) ، والحاجة (٣) وان دعت أحياناً إلى استعمالها في الناقص أيضا (٤) ، إلّا أنّه (٥) لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة ، بل ولو كان مسامحة تنزيلا للفاقد منزلة الواجد ، والظاهر أنّ الشارع غير متخطٍّ عن هذه الطريقة (٦). ولا يخفى أنّ هذه الدعوى (٧) وان كانت غير بعيدة (*) ،

______________________________________________________

للجامع بين الصحيح والفاسد ينافي الحكمة المذكورة ، لعدم انفهام الصحيح تعيّنيّاً ليترتب عليه الغرض إلّا بالقرينة ، فلا بد من وضع الألفاظ للمركبات التامة.

(١) الضمير راجع إلى : ـ وضع الألفاظ ـ.

(٢) أي : إلى الوضع ، والمراد بالحكمة الداعية إلى الوضع هو التفهيم.

(٣) إشارة إلى توهم ، وهو : أنّ الحاجة لا تختص باستعمالها في الصحيح حتى يدّعى وضعها له ، بل الحاجة إلى استعمالها في الفاسد أيضا موجودة ، فالداعي إلى وضعها للأعم متحقق ، فدعوى وضعها للأعم غير بعيدة.

(٤) يعني : كاستعمالها في التام.

(٥) هذا دفع التوهم المذكور ، وحاصله : أنّ الحاجة المزبورة لا تقتضي كون الاستعمال في الناقص على وجه الحقيقة ليثبت بها الوضع للأعم ، لإمكان أن يكون الاستعمال في الناقص بالعناية ، وتنزيل الفاقد منزلة الواجد.

(٦) أي : طريقة الواضعين.

(٧) أي : دعوى القطع بكون طريقة الواضعين وضع الألفاظ للمركبات التامة

__________________

(*) بل بعيدة جداً ، لأنّها تخرّص بالغيب ، حيث إنّها موقوفة على أُمور لم تثبت (أحدها) كون وضع ألفاظ العبادات كأسماء المركبات الخارجية ، وقد مرّ في تصوير الجامع فساده. (ثانيها) أن تكون حكمة الوضع منحصرة في

١٤٢

إلا أنّها قابلة للمنع (١) ، فتأمل. (٢) وقد استدل للأعمي أيضا بوجوه : (منها) تبادر الأعم (٣) ، وفيه : أنّه قد عرفت الإشكال (٤) في تصوير الجامع الّذي لا بد منه ، فكيف يصح

______________________________________________________

(١) إذ مجرد نفي البعد عن إفادته للقطع ليس موجباً للقطع الفعلي ، مضافاً إلى أنّه على تقدير إفادة هذا الوجه الاعتباري للقطع يختص اعتباره بالقاطع دون غيره ، وقد عرفت عدم انحصار حكمة الوضع بالوضع لخصوص الصحيح ، فدعوى وضعها للأعم غير مجازفة.

(٢) لعلّه إشارة إلى بعض ما ذكرنا أو كله.

(٣) أي : الجامع بين الصحيح والفاسد.

(٤) من أنّه كيف يتصور الجامع بين الافراد الصحيحة والفاسدة؟ فإنّ لازمه دخل المفقود في المسمى وعدمه ، وليس ذلك إلّا من اجتماع النقيضين ، ومع هذا الإشكال كيف تصح دعوى تبادر الأعم؟ لأنّ تبادر معنى من لفظ موقوف على تحققه في عالم التصور ، وبدون ذلك لا يتصور التبادر.

__________________

تفهيم الصحيح ليكون المقام كذلك ، وهو ممنوع ، لعدم الوجه في انحصار حكمة الوضع في المقيس عليه في ذلك ، وعلى فرض التسليم لم يحرز كون حكمة الوضع الشرعي في ألفاظ العبادات ذلك ، لقوة احتمال كون الغرض من التسمية الأعم من الصحيح وإن كانت الآثار المعنوية مترتبة على الصحيح لترتبها على المأمور به.

(ثالثها) العلم بعدم تخطّي الشارع عن طريقة الواضعين بعد تسليم بنائهم على الوضع لخصوص الصحيح لتصح دعوى القطع بوضع الشارع لألفاظ العبادات للصحيح فقط ، وفيه : أنّه لا سبيل إلى هذا العلم لا عقلاً ولا نقلاً.

١٤٣

معه (١) دعوى التبادر. و (منها) عدم صحة السلب عن الفاسد (٢) وفيه منع ، لما عرفت (٣). و (منها) صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم (٤) ، وفيه (٥)

______________________________________________________

(١) أي : مع الإشكال المتقدم في تصوير الجامع بين الصحيح والفاسد.

(٢) يعني : عدم صحة سلب الصلاة بما لَها من المعنى عن الصلاة الفاسدة ، فلا يصح أن يقال : الصلاة الفاسدة كصلاة الحائض ليست بصلاة ، بل يصح حملها عليها ، فيقال : الصلاة الفاسدة صلاة ، كما يقال : الصلاة الصحيحة صلاة.

(٣) في الدليل الثاني من أدلة الصحيحي من صحة سلب الصلاة عن الفاسدة بالمداقة وإن صح إطلاقها عليها بالمسامحة.

(٤) بتقريب : أنّ الانقسام إلى الصحيح والفاسد دليل على الوضع للأعم وأنّ الفاسد موضوع له أيضا ، وإلّا يلزم انقسام الشيء إلى نفسه وإلى غيره ، وهو باطل ، للزوم اشتمال المقسم على الأقسام ، ولذا يصح حمله عليها ، فيقال الاسم كلمة والفعل كلمة ، ففي المقام لو لم يكن الفاسد قسماً من الموضوع له أيضا لم يكن المقسم مشتملاً عليه ، فلا يصح التقسيم ، وقد عرفت صحته.

(٥) حاصله : أنّ مجرد الاستعمال في الأعم لا يشهد بالوضع له إلّا من باب كون الأصل في الاستعمال الحقيقة ، ومن المعلوم : أنّ قِوام اعتبار الأصل بعدم قيام دليل على خلافه ، وقد عرفت الأدلة الدالة على وضع ألفاظ العبادات لخصوص الصحيح ، ومعها لا وجه للتشبث بكون الأصل في الاستعمال الحقيقة ، هذا (*) ، فلا بد أن يكون الاستعمال في الأعم بلحاظ المعنى المجازي ، لا بلحاظ الموضوع له.

__________________

(*) ظاهر كلام المصنف (قده) تسليم كون الأصل في الاستعمال الحقيقة لو لا الوجوه الدالة على الوضع للصحيح ، لكنه مبنيّ على حجية

١٤٤

أنّه إنما يشهد على أنّها للأعم لو لم تكن هناك دلالة على كونها (١) موضوعة للصحيح ، وقد عرفتها (٢) ، فلا بد أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ ولو بالعناية. (ومنها) استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة (٣) كقوله عليه الصلاة والسلام : «بني الإسلام على الخمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، ولم يناد أحد بشيءٍ كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ، فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة» فإنّ (٤) الأخذ بالأربع

______________________________________________________

(١) أي : ألفاظ العبادات.

(٢) أي : الدلالة على كونها موضوعة للصحيح ، فلا يشهد التقسيم إلّا بالاستعمال في الجامع بين الصحيح والفاسد ، ولا يشهد بالوضع للأعم أصلا.

(٣) ملخص هذا الدليل : أنّ لفظ ـ الصلاة ـ وغيره من ألفاظ العبادات قد استعمل في غير واحدة من الروايات في الفاسدة ، حيث إنّ الأخذ بالأربع في الرواية الأُولى مع البناء على اعتبار الولاية في صحة العبادات ـ كما هو الحق على ما يظهر من بعض الروايات وأفتى به جماعة من الأصحاب ـ يدل على الاستعمال في الفاسدة ، لعدم تمشّي العبادة الصحيحة حينئذٍ من غير أهل الولاية ، فلا بد أن تكون ألفاظ العبادات موضوعة للأعم ليصدق أخذهم بالأربع ، لوضوح عدم صدق أخذهم بها مع البناء على الوضع للصحيح.

(٤) هذا تقريب الاستدلال بالرواية على الوضع للأعم ، وقد عرفته

__________________

أصالة الحقيقة مطلقا حتى مع العلم بالمراد ، والشك في كونه حقيقة ، وهو خلاف مختاره (قده) ، فإنّ أصالة الحقيقة حجة في الشك في المراد مع العلم بالمعنى الحقيقي.

١٤٥

لا يكون بناءً على بطلان عبادات تاركي الولاية إلا إذا كانت أسامي للأعم (١) وقوله عليه‌السلام : «دعي الصلاة أيام أقرائك» ضرورة (٢) أنّه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحة النهي عنها ، لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها. وفيه أنّ الاستعمال أعم من الحقيقة (٣) ، مع أنّ المراد في الرواية الأُولى (٤)

______________________________________________________

(١) إذ لو كانت أسامي للصحيح لم يكونوا آخذين بها ، لفرض فساد عباداتهم ، وصريح الرواية هو أخذهم بها.

(٢) هذا تقريب الاستدلال ، وحاصله : أنّ الوضع للصحيح يستلزم عدم صحة النهي ، إذ المفروض عدم تمشّي الصلاة الصحيحة من الحائض ، فلا تقدر عليها ، ومن المعلوم اعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ، وبدونها لا يصح النهي ، فعلى القول بالوضع للصحيح يمتنع النهي ، فلا بد من الوضع للأعم ليصح النهي عنها ، فهذه الرواية تدل على الوضع للأعم.

(٣) إذ لم تثبت حجية أصالة الحقيقة مطلقا ولو مع العلم بالمراد والشك في كونه معنى حقيقيا وإن نسب القول بحجيتها مطلقا إلى السيد علم الهدى (قدس‌سره) فكون الأصل في الاستعمال الحقيقة غير ثابت ، والمفروض أنّ الاستدلال مبنيّ على ذلك.

(٤) هذا الجواب مختص بالرواية الأُولى ، وحاصله : منع استعمال لفظ ـ الصلاة ـ وغيرها في تلك الرواية في الأعم ، بل قامت القرينة ـ وهي بناءُ الإسلام على الخمس ـ على الاستعمال في خصوص الصحيحة ، فلا وجه للاستدلال بها على الوضع للأعم ، فالجواب عن الرواية الأُولى يكون من وجهين :

أحدهما : كون الاستعمال أعم من الحقيقة ، وهو مشترك بينها وبين غيرها من الروايات.

١٤٦

هو خصوص الصحيح ، بقرينة أنّها مما بُني عليها الإسلام ، ولا ينافي ذلك (١) بطلان عبادة منكري الولاية ، إذ لعل (٢) أخذهم بها (٣) إنّما كان بحسب اعتقادهم لا حقيقة ، وذلك (٤) لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعم ، والاستعمال (٥) في

______________________________________________________

ثانيهما منع استعمال ألفاظ العبادات في الأعم ، وهو مختص بها ولا يعم سائر الروايات.

(١) يعني : ولا يُنافي إرادة خصوص الصحيح من العبادات المذكورة في الرواية بطلانُ عبادة منكري الولاية ، غرضه من ذلك : دفع توهم ، أمّا التوهم فحاصله : أنّ دعوى إرادة خصوص الصحيح بقرينة بناء الإسلام على الخمس تنافي أخذ الناس بالأربع ، مع البناء على بطلان عبادة تاركي الولاية ، إذ لا يمكن الجمع بين إرادة خصوص الصحيح ، وبين فساد عباداتهم كما لا يخفى. وأما الدفع فسيأتي.

(٢) هذا دفع التوهم المذكور ، ومحصله : منع استعمال ألفاظ العبادات ـ في رواية بناء الإسلام على خمس ـ في الأعم ، بل في خصوص الصحيح ، إذ الناس أخذوا بالأربع معتقدين بصحتها ، فالألفاظ لم تستعمل إلّا في الصحيح ، غاية الأمر أنّ تاركي الولاية أخطئوا في تطبيق الصحيح على عباداتهم.

(٣) أي : بالأربع.

(٤) يعني : وأخذهم بالأربع بحسب اعتقادهم لا يقتضي استعمال الألفاظ في الفاسد أو الأعم حتى تثبت دعوى القائل بوضعها للأعم.

(٥) حاصله : أنّ دعوى الاستعمال في خصوص الصحيح وكون الخطأ في مقام التطبيق لا تختص بقوله عليه‌السلام في الرواية الأُولى : «فأخذ الناس بأربع» بل تعم غيره مثل قوله عليه‌السلام في تلك الرواية أيضا : «فلو أنّ أحدا صام نهاره ... إلخ»

١٤٧

قوله عليه‌السلام : «فلو أنّ أحدا صام نهاره ... إلخ» كان كذلك ـ أي بحسب اعتقادهم ـ أو للمشابهة (١) والمشاكلة ، وفي (٢) الرواية الثانية النهي للإرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة ، وإلّا (٣) كان الإتيان بالأركان وسائر ما يعتبر في الصلاة ،

______________________________________________________

فإنّ صوم الفاقد للولاية وإن كان فاسدا ، إلا أنّ إطلاق الصوم عليه إنّما هو لاعتقاده الصحة ، فالمستعمل فيه هو الصحيح ، غاية الأمر أنّه وقع الخطأ في التطبيق كما تقدم.

(١) معطوف على قوله : «كذلك» فيكون الاستعمال في الفاسد مجازا بعلاقة المشابهة الصورية ، فالمتحصل : أنّ هذه الرواية لا تدل على وضع ألفاظ العبادات للأعم.

(٢) معطوف على قوله : «في الرواية» لكن العبارة على هذا لا تخلو عن حزازة ، إذ مقتضى هذا العطف هو أن يقال : مع أنّ المراد في الرواية الأُولى النهي للإرشاد ، وهذا كما ترى ، فحق العبارة أن تكون هكذا : «مع أنّ المراد في الرواية الثانية أيضا هو خصوص الصحيح ، لأنّ النهي للإرشاد ... إلخ». وكيف كان فغرضه من ذلك : ردّ الاستدلال بالرواية الثانية على الوضع للأعم ، بتقريب : أنّ الصلاة قد استعملت في صلاة الحائض الفاسدة قطعا. ومحصل الرد : أنّ الصلاة لم تستعمل إلا في الصحيحة ، لأنّ النهي للإرشاد إلى مانعية الحيض ، كالنهي عن لبس ما لا يؤكل لحمه في الصلاة في كونه إرشادا إلى المانعية ، ومن المعلوم : أنّ المانعية ملحوظة في الصحيحة دون الفاسدة ، وليس النهي مولويا حتى يقال : إنّ الصلاة الصحيحة مع النهي غير مقدورة ، فلا بد من إرادة الفاسدة حتى لا يلغو النهي.

(٣) أي : وإن لم يكن النهي للإرشاد إلى المانعية لَزِم من كون النهي مولويا حرمةُ الصلاة ذاتا على الحائض ، كما ذهب إليه بعض.

١٤٨

بل بما يسمى في العرف بها ، ولو أخل بما لا يضر الإخلال به بالتسمية (١) عرفا محرما على الحائض ذاتا وإن لم تقصد به القربة (٢) ، ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية ، فتأمّل جيّدا (٣).

(ومنها) : أنّه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه (٤) بترك الصلاة في

______________________________________________________

(١) متعلق بقوله : «يضر» وقوله : «محرما» خبر «كان الإتيان».

(٢) لامتناع قصد القربة بما يكون منهيا عنه بالنهي المولوي الكاشف عن المفسدة الموجبة للمبغوضية المنافية للمحبوبية والمقربية ، والنهي المولوي يكشف عن كون متعلقه ذا مفسدة وحراما ذاتيا ، ولا يظن من المستدل بالرواية الالتزام بالحرمة الذاتيّة.

(٣) لعله إشارة إلى : أنّه لا محذور في الالتزام بالحرمة الذاتيّة للعبادة على الحائض كما اختاره المصنف على ما هو ببالي في كتابه شرح التبصرة ، فالعمدة في الجواب عن الاستدلال بهذه الرواية هي : دعوى ظهور خطاب «دعي الصلاة أيام أقرائك» في المانعية ، كما ثبت ذلك في أمثال هذا النهي.

(٤) كالعهد واليمين ، ومحصل هذا الوجه الّذي استدل به الأعمي هو : أنّه لا شبهة في صحة تعلق النذر ونحوه بترك الصلاة في الأمكنة التي تكره فيها الصلاة كالحمام والمقابر وغيرهما ، كما لا شبهة في تحقق الحنث بإتيان الصلاة في تلك الأمكنة ، ومن تسلُّم هاتين المقدمتين نستكشف كون الصلاة اسما للأعم من الفاسد ، إذ لو كانت اسما لخصوص الصحيح لزم منه إشكالان : (الأول) : عدم تحقق الحنث ، لعدم القدرة على إتيان الصلاة الصحيحة في تلك الأمكنة بعد صيرورتها بسبب النذر منهيا عنها ، وفاسدة لاقتضاء النهي عن العبادة فسادها ، مع أنّ المسلّم حصول الحنث بفعلها في تلك الأمكنة ، فلا بد أن تكون الصلاة اسما للأعم.

١٤٩

مكان تكره فيه ، وحصول الحنث بفعلها ، ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة لا يكاد يحصل به (١) الحنث أصلا ، لفساد الصلاة المأتي بها ، لحرمتها (٢) كما لا يخفى ، بل يلزم المحال (٣) ، فإنّ النذر (٤) حسب الفرض قد تعلق بالصحيح منها (٥) ، ولا تكاد تكون معه (٦) صحيحة ، وما يلزم من فرض

______________________________________________________

(١) أي : بفعل الصلاة.

(٢) الناشئة من النذر ، لأنّ النذر أوجب النهي عن الصلاة في الأمكنة المكروهة ، وقد ثبت في محله : اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها.

(٣) هذا هو الإشكال الثاني ، وحاصله : أنّ الصلاة إن كانت اسما لخصوص الصحيح يلزم المحال ، ضرورة أنّ الصلاة المنذور تركها هي الصحيحة ، وبالنذر صارت محرمة وفاسدة ، فلا يمكن فعلها على وجه صحيح ، فينحل النذر ، لخروج الصلاة بسبب هذا النهي المفسِد للعبادة عن متعلق النذر ـ وهو خصوص الصحيح ـ فيلزم من وجود النذر عدمه.

(٤) هذا تقريب المحالية وقد عرفته مفصلا ، والحاصل : أنّه من تسلُّم الأمرين ـ وهما صحة النذر ، وحصول الحنث ـ يستفاد كون الصلاة اسما للأعم ، وإلّا يلزم أن يكون موجودا ومعدوما في زمان واحد ، وهو محال.

(٥) أي : من الصلاة.

(٦) أي : مع النذر المذكور ، حاصله : أنّه لا يمكن بقاء الصلاة الصحيحة ـ المنذور تركها في الأمكنة المكروهة ـ على صحتها بعد تعلق النذر بها ، وأمّا بناء على الأعم فلا يلزم شيء من الإشكالين المتقدمين ، لكون متعلق النذر حينئذٍ نفس الطبيعة الجامعة بين الصحيح والفاسد ، ومن المعلوم : أنّ انتفاء أحد الفردين ـ وهو الصحيح ـ بسبب النهي الناشئ عن النذر لا يوجب انتفاء الطبيعة ، فيحصل الحنث بالصلاة الصحيحة لو لا النذر.

١٥٠

وجوده عدمه محال. قلت : لا يخفى أنّه لو صحّ ذلك (١) لا يقتضي إلّا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح لا عدم وضع اللفظ له شرعا ، مع (٢) أنّ الفساد

______________________________________________________

(١) يعني ذلك الاستدلال ، وحاصل جواب المصنف (قده) عن هذا الاستدلال هو : أنّ تعلق النذر بالصحيح وإن كان يستلزم الإشكالين المتقدمين ، لكن ليس مقتضاه وضع اللفظ شرعا للأعم كما هو المدعى ، إذ لو فرض وضع اللفظ له وقصد الناذر خصوص الصلاة الصحيحة لم ينعقد النذر أيضا ، فامتناع نذر الصلاة الصحيحة لا يكشف عن الوضع للصحيح أصلا. وإن كان غرض المستدل إثبات الوضع للأعم لسبب الاستعمال فيه في باب النذر استنادا إلى كون الأصل في الاستعمال الحقيقة ، ففيه ما مر مرارا : من أنّ الاستعمال أعم من الحقيقة.

(٢) هذا جواب آخر عن الدليل المذكورة ، وحاصله : أنّ الصلاة في الأمكنة المكروهة قبل تعلق النذر صحيحة ، ولذا لو أتى بها قبل انعقاد النذر صحت بلا إشكال ، والفساد الناشئ عن النذر لا يمكن دخله في موضوعه ، لتأخره عنه رتبة ، فالنذر لا يتعلق إلّا بتلك الصلاة الصحيحة المتقدمة رتبة على النذر ، فلا يلزم المحال ، إذ المراد بصحة الصلاة المنذورة صحتُها قبل النذر وإن صارت فاسدة بالنذر ، فيتحقق الحنث بإتيان الصحيحة لو لا النذر ، نعم لا يتحقق الحنث بإتيان الفاسدة من غير ناحية النذر ، كاختلال شرط من شرائطها من الطهارة وقصد القربة وغيرهما. والحاصل : أنّ الاستحالة التي ادعاها القائل بالأعم على تقدير الوضع للصحيح إنّما تلزم إذا كان المنذور ترك الصلاة الصحيحة مطلقا يعني حتى بعد تعلق النذر بها ، لما تقدم في وجهه. أمّا إذا كان المنذور ترك الصلاة الصحيحة قبل تعلق النذر وإن صارت فاسدة بعد تعلقه ، فلا يستلزم

١٥١

من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقه ، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها (١). ومن هنا (٢) انقدح : أن حصول الحنث انما يكون لأجل الصحة لو لا تعلقه (٣). نعم (٤) لو فرض تعلقه (٥) بترك الصلاة المطلوبة بالفعل (*) لكان منع

______________________________________________________

المحال ، وسيأتي استدراك المصنف (قده) لهذه الصورة بقوله : «نعم لو فرض ... إلخ» وبهذا الجواب يظهر وجه اندفاع الاستحالة التي ادعاها القائل بالأعم على تقدير الوضع للصحيح ، لاستعمال الصلاة في الصحيحة لو لا النذر.

(١) الضميران راجعان إلى : ـ الصحة ـ ووجه عدم اللزوم : أنّ المراد الصحة هو الصحة قبل تعلق النذر ، والفساد الناشئ عن النذر لا يؤثِّر في متعلّقه حتى يوجب انحلاله ، وإذ لا يعقل أن يكون أثر الشيء رافعا لذلك الشيء ، لاستحالة رفع المعلول لعلته ، فلا يعقل ارتفاع النذر بالفساد الناشئ من قبله كما لا يخفى.

(٢) يعني : ومن كون الصحة المقصودة في النذر هي الصحة السابقة على النذر.

(٣) أي : تعلق النذر.

(٤) هذا استدراك على قوله : «ومن هنا انقدح» وحاصله : أنّ منع حصول الحنث في محله إذا كان المنذور ترك الصلاة الصحيحة بالفعل يعني : الصحة بقول مطلق ولو بعد تعلق النذر ، بداهة عدم القدرة على فعل الصلاة الصحيحة بالفعل مع فرض صيرورتها بسبب النذر منهيا عنها ، كما تقدم سابقا.

(٥) أي : النذر.

__________________

(*) أي ولو مع النذر ، ولكن صحته كذلك مشكل ، لعدم كون الصلاة معه صحيحة مطلوبة ، فتأمل جيّدا.

١٥٢

حصول الحنث بفعلها بمكان من الإمكان (١). بقي أُمور:

الأول : أنّ أسامي المعاملات إن كانت موضوعة للمسببات (٢) فلا مجال (٣) للنزاع في كونها (٤) موضوعة للصحيحة أو الأعم ، لعدم اتصافها بهما (٥) كما لا يخفى ، بل بالوجود تارة وبالعدم أُخرى ، وأما إن كانت موضوعة للأسباب ، فللنزاع فيه (٦) مجال (٧) ، لكنه لا يبعد دعوى

______________________________________________________

(١) يعني : فقول المستدل : «أنه لا شبهة في حصول الحنث» ممنوع والمفروض أنّ هذا كان أحد الأمرين اللّذين توقف عليه دليله على الوضع للصحيح.

(٢) كالزوجية والملكية ، والحرية والرقية ، وغيرها من الاعتباريات المترتبة على العقود والإيقاعات.

(٣) لأنّه ـ بناء على كون ألفاظ المعاملات أسامي للمسببات ـ لا يتصور فيها نزاع الصحيح والأعم ، حيث إنّ المسببات كالملكية ونحوها أُمور بسيطة دائرة بين الوجود والعدم ، وليست مركبات حتى يتصف التام والناقص منها بالصحّة والفساد.

(٤) أي : أسامي المعاملات.

(٥) أي : لعدم اتصاف المسببات بالصحّة والفساد ، لما عرفت آنفا من بساطتها ، بل هي تتصف بالوجود تارة والعدم أُخرى ، فالملكية مثلا إمّا موجودة وإمّا معدومة ، ولا معنى لاتصافها بالصحّة والفساد.

(٦) أي : في كونها موضوعة للصحيحة أو الأعم.

(٧) لكون الأسباب كالبيع المركب من الإيجاب والقبول وغيرهما مركبات ، فيمكن اتصافها بالصحّة تارة إذا استجمعت جميع الأجزاء

١٥٣

كونها (١) موضوعة للصحيحة أيضا (٢) ، وأنّ الموضوع له هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعا وعرفا ، والاختلاف بين الشرع والعرف (٣)

______________________________________________________

والشرائط ، وبالفساد أُخرى إذا لم تكن.

(١) أي : أسامي المعاملات.

(٢) يعني : كألفاظ العبادات ، وحاصله : أنّ المختار في المعاملات هو المختار في العبادات ، فكما أنّ ألفاظ العبادات موضوعة لخصوص الصحيحة ، فكذلك ألفاظ المعاملات ، فإنّها أسام للعقود الصحيحة ـ أي المؤثّرة ـ كالبيع ، فإنّه اسم لخصوص ما هو المؤثر في الملكية ، وكالنكاح ، فإنّه اسم لخصوص ما هو المؤثر في علقة الزوجية ، وهكذا سائر العقود.

وبالجملة : فألفاظ المعاملات وضعت لما هو المؤثِّر واقعا في الآثار المرغوبة منها من دون تفاوت في ذلك بين العرف والشرع.

(٣) دفع لما قد يتوهم : من أنّه كيف يكون معنى العقد هو الصحيح بنظر كل من الشرع والعرف؟ مع أنّ الشرع قد خالف العرف في بعض الموارد كبيع الصبي المميز ، فإنّه صحيح بنظر العرف وفاسد بنظر الشرع ، وهكذا سائر العقود ، وهذا دليل على عدم كون الصحة عند الشرع والعرف بمعنى واحد ، بل يدل على أنّ ألفاظ المعاملات أسامٍ للصحيحة شرعا وللأعم عرفا ، وليست موضوعة للصحيح شرعا وعرفا ، هذا حاصل التوهم. وقد دفعه المصنف (قده) بأنّ هذا الاختلاف بين الشرع والعرف لا يرجع إلى الاختلاف في المعنى ، حتى يقال : إنّ المعاملات أسامٍ للصحيحة شرعا وللأعم عرفا ، بل يكون الاختلاف في محقِّق الصحيح ومصداقه ، فالشارع يخطّئ العرف فيما يراه صحيحا وينبهه على أنّ الشيء الفلاني دخيل في العقد المؤثر ولو كان العرف

١٥٤

فيما يعتبر (١) في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف بينهما (٢) في المعنى ، بل (٣) الاختلاف في المحققات والمصاديق ،

______________________________________________________

ملتفتاً إلى دخل ذلك في صحة العقد لما خالف الشرع ، فالعرف قد يشتبه في تطبيق الصحيح الواقعي الّذي هو الموضوع له على ما لا يكون مؤثراً واقعاً ، والشارع ينبهه على خطائه ، فالصحيح شرعاً هو الصحيح عرفاً ، فلا يكون الأول أخص من الثاني.

(١) كبلوغ المتعاقدين والقبض في بعض العقود ، وغير ذلك.

(٢) أي : بين الشرع والعرف ، لكون المؤثر واقعاً الّذي هو المسمى واحداً.

(٣) يعني : بل يوجب الاختلاف بين الشرع والعرف الاختلاف في المحقِّقات دون المعنى الموضوع له (*).

__________________

(*) الظاهر : أنّ الاختلاف بينهما إنّما هو في نفس المعنى الموضوع له لا في محقِّقاته ، ضرورة أنّ العرف يرى عدم دخل البلوغ أو القبض في المجلس مثلا في بعض العقود في مفهوم البيع وغيره ، والشارع يرى دخلهما فيه ، فلا محيص عن كون الاختلاف في نفس المعنى لا في المصداق ، فحينئذٍ يكون العقد العرفي أعم من الشرعي بناء على كون ألفاظ المعاملات أسامي لخصوص الصحيح. وأمّا بناءً على كونها أسامي للأعم ـ كما لا يبعد ذلك ـ فلا يكون العرفي أعم من الشرعي ، بل كلاهما موضوعان للأعم من الصحيح والفاسد.

ولا ينافي الوضع للأعم تبادر الصحيحة منها ، لأنّ التبادر المثبت للوضع لا بدّ أن يستند إلى حاقِّ اللفظ ، وذلك غير ثابت هنا ، ومع الشك في كونه مستنداً إلى حاقِّ اللفظ أو الإطلاق لا يكون أمارة على الوضع ، وإجراء أصالة عدم القرينة لا يجدي في أمارية التبادر كما تقدم في بحثه.

١٥٥

وتخطئة (١) الشرع العرف في (٢) تخيل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره محققاً لِما هو المؤثر كما لا يخفى ، فافهم (٣).

الثاني (٤) : انّ كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها ـ كألفاظ العبادات ـ كي لا يصح التمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار

______________________________________________________

(١) معطوف على ـ الاختلاف الثالث ـ يعني : الاختلاف بين الشرع والعرف يوجب الاختلاف في المحقِّق ، ويوجب تخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد المؤثر واقعاً بدون ما اعتبره الشارع في تأثيره محققاً ومصداقاً لِما هو المؤثر ، فيكون التخطئة في التطبيق لا في نفس المعنى.

(٢) متعلق بقوله : «وتخطئة».

(٣) لعله إشارة إلى : أنّ الاختلاف في المصداق مبنيّ على أن يكون هناك مفهوم مبيّن عند الشرع والعرف ، وهذا غير ظاهر ، لقوة احتمال كون الاختلاف بينهما في نفس المفهوم ، فلا مجال حينئذٍ للتخطئة في المصداق ، فتدبر.

(٤) الغرض من عقد هذا الأمر : دفع إشكال أورد على القائلين بالصحيح في المعاملات. أمّا الإشكال فحاصله : أنّه ـ بناءً على هذا القول ـ تكون ألفاظ المعاملات مجملة ، فلا يصح التمسك بإطلاق أدلتها ، مع وضوح استقرار ديدنهم على التمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار شيءٍ في المعاملة.

وأمّا الدفع ، فمحصله : أنّه فرق واضح بين العبادات والمعاملات ، حيث إنّ العبادات بناءً على الوضع للصحيح ماهيات مخترعة شرعية غير معلومة للعرف ، فمع عدم معرفة تلك الماهيات لا يصح التمسك بالإطلاق ، لكون الشك في الموضوع الّذي لا يتصور معه الإطلاق كما لا يخفى. وهذا بخلاف المعاملات ، فإنّها أمور عرفية وليست مخترعة شرعية ، والأدلة الشرعية كقوله تعالى :

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

«أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ونحوه إمضائية لا تأسيسية ، والممضى هو المعاملة العرفية ، فالشارع لم يخترع مفهوم المعاملة حتى يكون مجملاً ويرجع الشك فيه إلى موضوع الإطلاق كي لا يمكن التمسك به ، بل زاد على المعاملة العرفية قيوداً لا ترتبط بالمفهوم ، فإذا كان الشارع في مقام البيان صح التمسك بالإطلاق إذا شك في شرطية شيءٍ في تأثير المعاملة العرفية ، وعلى هذا فلا يلزم إجمال الخطاب حتى لا يجوز التمسك بالإطلاق بناءً على كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيح ، كما يلزم ذلك في العبادات بناءً على كونها أسامي للصحيحة ، لما عرفت من إجمال معنى الصحيح في العبادات الموجب لعدم جواز التمسك بالإطلاق ، ووضوح معنى الصحيح في المعاملات ، لكونه عرفيّاً والإمضاء الشرعي وارداً عليه من دون تصرف للشارع في المفهوم العرفي (*).

__________________

(*) لا يخفى : أنّه ـ بناءً على كون ألفاظ المعاملات أسامي شرعاً لخصوص الصحيحة ـ لا محيص عن دخل الأمور التي جعلها الشارع شروطاً للتأثير في معنى المعاملة ، فحينئذٍ يختلف معناها عرفاً وشرعاً ولا يمكن التمسك بالإطلاق ، لعدم إحراز موضوعه وهو الصحيح. نعم لا بأس بالإطلاق المقامي ـ بعد إحراز كونه في مقام البيان ، وبيّن دخل أمور في المعاملة ـ كما تقدم نظيره في العبادات بناءً على وضعها للصحيحة ، إذ عدم البيان حينئذٍ مخلٌّ بالغرض ، هذا والحق أن يقال : إنّ أدلة المعاملات لا يستفاد منها أزيد من كونها إمضاءً للمعاملات العرفية ، ولم يستعمل الشارع ألفاظها إلّا في مفاهيمها العرفية من دون تصرف منه فيها ، ودخل القيود في تأثيرها شرعاً إنّما استفيد من دوال أخرى ، وليست مقوِّمة لمفاهيمها ، فقوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ، وكذا ما دل

١٥٧

شيء في تأثيرها شرعاً ، وذلك (١) لأنّ إطلاقها لو كان مسوقاً في مقام البيان (٢) ينزّل (٣) على أنّ المؤثّر عند الشارع هو المؤثر عند أهل العرف ، ولم يعتبر في تأثيره عنده (٤) غير ما اعتبر فيه عندهم (٥) ، كما ينزّل عليه (٦) إطلاق كلام غيره ، حيث إنّه منهم (٧)

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا يوجب إجمالها» ، ودفع لإشكال الإجمال على القول بالصحيح.

(٢) هذا شرط التمسك بالإطلاق ، إذ لو كان في مقام الإهمال أو الإجمال فلا يصح التمسك به.

(٣) إذ لو كان المؤثر عنده غير ما هو المؤثر عند العرف لَكان عليه البيان ، وإلّا لأخلّ بالغرض ، فمقتضى الإطلاق المقامي هو الرجوع إلى ما يراه العرف مؤثراً.

(٤) يعني : في تأثير المؤثر العرفي عند الشارع.

(٥) أي : غير ما اعتبر في المؤثر عند العرف.

(٦) أي : على المؤثر عند العرف كلام غير الشارع.

(٧) يعني : حيث إنّ الشارع من العرف ، فينزّل كلامه على ما عند العرف.

__________________

على عدم نفوذ بيع المنابذة والربا ، وقوله عليه‌السلام : «الصلح جائز» وغير ذلك من أدلة المعاملات لا يفهم منه كالماء والحنطة والخمر والخل وغيرها مما أخذ في الأدلة موضوعاً للحكم إلّا مفهومه العرفي ، فإنّ الشارع لم يتصرف في هذه الموضوعات ، بل جعلها بمفاهيمها العرفية موضوعات للأحكام ، فلا فرق بين «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وغيره من أدلة إمضاء المعاملات وعدمه ، وبين أدلة حلية الماء والحنطة وحرمة الخمر والخنزير في كون الموضوع في الجميع عرفياً ، وعدم التصرف الشرعي فيه أصلا ، فالموضوع في أدلة الإمضاء وعدمه واحد ، وهو المنسبق إلى أذهان العرف.

١٥٨

لو اعتبر (١) في تأثيره ما شكّ في اعتباره كان عليه البيان ونصب القرينة عليه ، وحيث لم ينصب بانَ عدم اعتباره عنده أيضا (٢) ، ولذا (٣) يتمسكون بالإطلاق في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها (٤) موضوعة للصحيح ، نعم (٥) لو شك في اعتبار شيء فيها عرفاً ، فلا مجال للتمسك بإطلاقها في عدم اعتباره ، بل لا بد من اعتباره ، لأصالة عدم

______________________________________________________

(١) هذا تقريب التمسك بالإطلاق ، يعني : ولو اعتبر الشارع شيئاً في تأثير المؤثر العرفي كان عليه البيان ، لأنّه في مقامه.

(٢) يعني : ظهر عدم اعتبار ما شك في اعتباره عند الشارع كعدم اعتباره عند العرف ، ووجه ظهور عدم دخله شرعاً في مؤثريته هو الإطلاق.

(٣) أي : ولأجل كون المؤثر الشرعي هو العرفي من دون تفاوت بينهما إلّا فيما أحرز فيه تخطئة الشارع للعرف يتمسكون في المعاملات بإطلاقاتها ، مع بنائهم على وضع ألفاظ المعاملات للصحيحة.

(٤) أي : ألفاظ المعاملات.

(٥) استدراك على جواز التمسك بالإطلاق ، وحاصله : أنّ الشك في دخل شيء في المعاملة على نحوين :

أحدهما : الشك في دخله في المعاملة العرفية ، بأن يشك في صدق مفهوم المعاملة عرفاً على فاقد ذلك الشيء.

ثانيهما : الشك في دخله في تأثير المعاملة شرعاً مع صدق المفهوم العرفي بدونه ، فإنْ كان الشك على النحو الأوّل ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق ، لعدم إحراز موضوعه وهو المعاملة العرفية ، بل يرجع إلى استصحاب عدم ترتب الأثر. وإن كان على النحو الثاني ، فلا بأس بالتمسك به.

١٥٩

الأثر بدونه (١) ، فتأمّل جيداً.

الثالث (٢) : أنّ دخل شيءٍ وجودي أو عدمي في المأمور به تارة ، بأن يكون داخلا فيما يأتلف منه (٣) ومن غيره

______________________________________________________

(١) أي : بدون ذلك الشيء المشكوك فيه.

(٢) غرضه من عقد هذا الأمر : التنبيه على ما يكون من الأجزاء والشرائط دخيلا في المسمّى بحيث ينتفي بانتفائه ، وما لا يكون دخيلا فيه بحيث لا ينتفي المسمى بانتفائه ، بل يصدق ولو بدونه ، وذلك ليتضح حال التفصيل الّذي التزم به بعض في مسألة الصحيح والأعم من الذهاب إلى الصحيح في الأجزاء وإلى الأعم في الشرائط.

توضيحه : أنّ كيفية دخل شيءٍ في المسمى مختلفة بها يختلف صدق الاسم وعدم صدقه ، وذلك لأنّ ما له دخل فيه قد يكون دخيلاً في الماهية وقد يكون دخيلا في الفرد ، وعلى التقديرين : تارة يكون الدخل بنحو الجزئية وأخرى بنحو الشرطية ، فالصور أربع : الأولى : أن يكون دخيلا في الماهية بنحو الجزئية ، كتكبيرة الإحرام والركوع والسجود والتشهد ، فإنّها أجزاء للصلاة ، وكالتروك العشرة أو الزائدة عليها الدخيلة في ماهية الصوم بنحو الجزئية بناءً على تفسيره بنفس هذه التروك.

(٣) يعني : يأتلف المأمور به من ذلك الشيء الوجوديّ أو العدمي (*) ومن غيره ، وهذه هي الصورة الأولى.

__________________

(*) قد يستشكل في دخل العدم في المأمور به بتقريب : أنّ العدم لا يؤثر في المصلحة ، ومن المعلوم : أنّ الجزء هو المؤثر في المصلحة ، فالعدم لا يصلح لأن يكون جزءاً للمأمور به ، كما أنّ الشرط قد

١٦٠