منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وتعالى ومنتهية إلى مشيته التي هي إعمال قدرته على الإيجاد.

ثانيهما : انتهاء الموجود إليه تبارك وتعالى لا بنفسه كالذوات ، بل بالإقدار عليه كالأفعال الصادرة من العباد ، وهذا الإقدار هو فعله سبحانه على الدوام ، كدوام إفاضاته على الموجودات التكوينية ، وهذا الإقدار يصحّح الانتهاء إلى مشيته جلّ وعلا ، لاستمرار فيضه في جميع آنات الفعل الصادر عن العبد ، ومعلومٌ أنّ المشية بهذا المعنى لا توجب اضطرار العبد في أفعاله ، إذ المفروض أنّها ليست إلّا إقدار العبد عليها بإفاضة شرائط الفاعلية والعلل الناقصة الإعدادية ، فالإطاعة والمعصية منوطتان بالقدرة ، ومن المعلوم أنّها تفاض منه تعالى شأنه ، ويدل عليه ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : «قال الله : يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الّذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوتي أديت فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا قويا» الحديث.

وما رواه الوافي عن الكافي بإسناده عن حفص بن قرط عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسّلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج الله عن سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار» ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن زعم أنّ الخير والشر ... إلخ» بيان لتعلق المشية بالخير والشر ، يعني : أنّ القدرة على الخير والشر حدوثا وبقاء قد تعلقت بها المشية كما عليه الإمامية ، فمتعلق المشية هو

٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

القدرة على الخير والشر لا أنفسهما ، وإلّا كان مناقضا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله» ، حيث إنّ هذه الجملة تنفي أمره سبحانه وتعالى بالشر ، فلو تعلقت المشية بنفس الشر لا بالقدرة عليه لكان مناقضا لعدم الأمر به.

ثم إنّ هذه الرواية في مقام الرد على كلا القولين : الجبر والتفويض ، وإثبات الأمر بين الأمرين ، وذلك لأنّ إسناد المعاصي إلى الله تعالى مساوق للقول بأمره بالفحشاء وهو الجبر ، وقد دلت الرواية على نفي الأمر. كما أنّ استقلال العباد في الأفعال من الخيرات والشرور مساوق للقول بالتفويض الّذي هو إخراج الله عن سلطانه ، وهو منفي أيضا بالرواية ، هذا. وقد ذكر للمشية معان أخر ، ولا يدل شيءٌ منها على الجبر ، وعلى فرض دلالتها عليه لا بد من صرفها إلى ما لا ينافي حكم العقل.

ثم إنّه قد وردت أخبار في تفسير الروايات الواردة في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بسبع خصال ، كرواية المحاسن المتقدمة ، من أراد الوقوف عليها فليراجع البحار (ج ٣) ـ والوافي (ج ١) ـ ونحوهما.

(المقام الثالث) في روايات العنوان الثالث وهي الطينة ، اعلم : أنّه قد وردت أخبار كثيرة يظهر منها اختلاف الطينات من حيث السعادة والشقاوة.

منها : ما رواها في البحار في الجزء الثالث في باب الطينة والميثاق ، ولنذكر

٤٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

واحدا منها ، وهو ما رواه فضيل بن الزبير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «يا فضيل أما علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّا أهل بيت خلقنا من عليين وخلق قلوبنا من الّذي خلقنا منه ، وخلق شيعتنا من أسفل من ذلك ، وخلق قلوب شيعتنا منه ، وانّ عدوّنا خلقوا من سجين ، وخلق قلوبهم من الّذي خلقوا منه ، وخلق شيعتهم من أسفل من ذلك ، وخلق قلوب شيعتهم من الّذي خلقوا منه ، فهل يستطيع أحد من أهل عليين أن يكون من أهل سجين؟ وهل يستطيع أهل سجين أن يكونوا من أهل عليين؟».

والجواب العام عن هذه الأخبار هو : أنّ هناك روايات تدل على تركُّب طينة كل إنسان من طينتين تقتضي إحداهما السعادة والأخرى الشقاوة.

منها : ما رواه البحار في الباب المزبور عن المحاسن بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : «كان في بدو خلق الله أن خلق أرضا وطينة ، وفجر منها ماءها وأجرى ذلك الماء على الأرض سبعة أيام ولياليها ، ثم نضب الماء عنها ، ثم أخذ من صفوة تلك الطينة وهي طينة الأئمة ، ثم أخذ قبضة أخرى من أسفل تلك الطينة وهي طينة ذرية الأئمة وشيعتهم ، فلو تركت طينتكم كما تركت طينتنا لكنتم أنتم ونحن شيئا واحدا. قلت : فما صنع بطينتنا؟ قال : إنّ الله عزوجل خلق أرضا سبخة ، ثم أجرى عليها ماء أجاجا أجراه سبعة أيام ولياليها ثم نضب عنها الماء ، ثم أخذ من صفوة تلك الطينة وهي طينة أئمة الكفر ، فلو تركت طينة عدونا كما أخذها لم يشهدوا الشهادتين : أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكونوا يحجون البيت ، ولا يعتمرون ، ولا يؤتون الزكاة

٤٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولا يصدقون ، ولا يعلمون شيئا من أعمال البر ، ثم قال : أخذ الله طينة شيعتنا وطينة عدونا ، فخلطهما وعركهما عرك الأديم ، ثم مزجها بالماء ، ثم جذب هذه من هذه ، فقال : هذه في الجنة ولا أبالي ، وهذه في النار ولا أبالي ، فما رأيت في المؤمن من دعاوة وسوء الخلق واكتساب سيئات فمن تلك السبخة التي مازجته من الناصب وما رأيت من حسن خلق الناصب وطلاقة وجهه وحسن بشره وصومه وصلاته فمن تلك السبخة التي أصابته من المؤمن».

ومنها : غير ذلك من الروايات الدالة على تركُّب الطينة من جزءين يقتضي أحدهما السعادة والآخر الشقاوة ، ومقتضى هذا التركُّب كون وصفي السعادة والشقاوة بالنسبة إلى اختيار العبد على حد سواء.

وأما ما يجاب به عن أخبار الطينة «من أنّها ليست قابلة لجعل الشقاوة والسعادة ، لكونها من الجوامد التي لا تحس ولا تشعر ، ومحلهما هو الأرواح ، لتوجه التكاليف إليها كما دلت عليه الروايات واختلاف الطينات كاشف عما اختاروه في عالم العهد».

فمرجعه إلى إنكار أخبار الطينة مع كثرتها ، ولا منافاة بين توجه التكليف إلى الأرواح وبين كون الطينة مقتضية للسعادة والشقاوة ، كاختلاف سائر الطينات فيما لها من الاستعدادات الموجبة لاختلاف الآثار. وكذا المياه ، فإنّ اختلافها بحسب الآثار يشهد بذلك ، فراجع البحار وغيرها ، ولاحظ الروايات الواردة فيها ، مثل ماء الفرات الّذي ورد فيه «أنّ تحنيك الولد به يحبِّبه إلى الولاية» وماء السماء الّذي ورد فيه «أنّه يدفع الأسقام» ، وماء زمزم الّذي ورد فيه «أنّه

٤٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

شفاء من كل داء» وماء نيل مصر الّذي ورد فيه «أنّه يميت القلب» ، بل هذا الاختلاف موجود في النباتات أيضا ، فلا غرو في كون الجمادات التي لا تحس ولا تشعر مقتضية للسعادة والشقاوة كاقتضائها لغيرهما كدفع الأسقام ، فجعل اختلاف الطينات كاشفاً عمّا اختاروه في عالم العهد لا مؤثِّراً كما ترى. لكن من المعلوم : أنّ مجرد المقتضي لا يوجب الجبر ، وإنّما ذلك شأن العلة التامة ، وقد عرفت أنّ ما يكون من الأخبار ظاهراً في ذلك لا بدّ من صرفه عن ظاهره بحكم العقل والآيات والروايات المتجاوزة عن حد التواتر ـ كما قيل ـ الظاهرة أو الصريحة في نفي الإلجاء وأمّا الآيات التي توهم دلالتها على الاضطرار فكثيرة ، ولا نتعرض لها تفصيلا ، خوفاً من الإطالة في البحث الاستطرادي ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إليها ، فنقول :إنّها على طوائف :

الأُولى : ما ظاهره الاضطرار مع الاقتران بالقرائن السابقة واللاحقة على خلافه ، كقوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».

والجواب عنها هو : أنّها مختصة بالكفار المتعصبين في الكفر والجحود وعداوتهم للإسلام والمسلمين بمثابة لا ينفعهم الإنذار ، دون سائر الكفار المنتفعين بالإنذار وهداية سيد الأنبياء وأوصيائه الأُمناء صلوات الله عليهم من الآن إلى يوم اللقاء ، بل والعلماء الأتقياء ، فإنّ كثيراً من الكفار اهتدوا إلى الإسلام ، والطائفة المتعصبة منهم لم تنتفع بهداية وإرشاد وتخويف وإنذار ، لعنادهم للحق

٤٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المستند إلى اختيارهم للكفر ، وصاروا كالأنعام ، بل هم أضل ، فلا يفقهون بقلوبهم ولا يسمعون بآذانهم ، ولا يبصرون بأعينهم ، ولمّا وصل كفرهم إلى أعظم مراتبه (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ـ الآية ـ ومن المعلوم : عدم دلالة الآية بإحدى الدلالات على كونهم مجبورين على الكفر ، إذ لا تدل إلّا على عدم تأثرهم بالإنذار ، لبلوغهم غاية مراتب الكفر والشقاوة ، فإنّ وصولهم إلى هذه المرتبة التي لا يؤثّر معها الإنذار ليس بالإلجاء ، لعدم دلالة الآية عليه أصلا ، فلو سلم عدم قدرتهم على الإيمان حينئذٍ كان ذلك مستنداً إلى الاختيار ، فيكون من صغريات قاعدة : الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وبالجملة : فمثل هذه الآية لا يدل على أزيد من عدم تأثير الإنذار فيهم ، وأمّا بلوغهم إلى غاية مرتبة الشقاء التي لا يؤثر معها التخويف فلا يدل على أنّ بلوغهم إليها كان بالإلجاء والاضطرار أصلا ، وربما يكون ذلك بالمبادئ الاختيارية.

الثانية : ما ورد في ثبوت جميع ما كان وما يكون وما هو كائن في أمّ الكتاب أو اللوح المحفوظ والجواب عنها واضح ، لأنّه كالجواب عن العلم في عدم التأثير ، فثبوت جميع الأعمال بمبادئها الاختيارية في اللوح المحفوظ لا ربط له بالجبر أصلا.

الثالثة : الآيات التي تدل على تعلق مشيته تعالى بالأفعال والتروك الظاهرة في تبعيتهما لها ، وهي على قسمين :

أحدهما : ما ظاهره النهي عن إسناد الفعل إلى العبد نفسه إلّا أن يشاء

٤٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الله كقوله تعالى : «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ» ، فيدل على عدم فاعلية العبد لفعله وإناطتها بمشيته تعالى ، وليس هذا إلّا الإلجاء.

والجواب عنه هو : أنّ هذه الآية في مقام الرد على المفوضة القائلين بأنّ العبد هو الفاعل ، وأنّه المحصِّل لجميع شرائط الفاعلية ومقتضياتها ، إلّا أن يمنع الله عزوجل عن تأثير فاعليته بمشيته ، ومحصل ما يستفاد من هذه الآية الشريفة هو النهي عن القول بكون العبد فاعلا تاما إلّا أن يشاء الله تعالى ـ أي يمنعه عن الفعل ـ كما زعمه المفوضة ، إذ من المعلوم : أنّ العبد ليس فاعلا تاما أي محصلا لشرائط فاعليته ، لكنه ليس مستلزما للجبر ، لما مرّ من أنّ العبد يعمل مختارا بما أفاضه الله تعالى عليه من القدرة.

ثانيهما : ما ظاهره استناد الضلالة والهداية إلى مشيته تعالى ، كقوله عزوجل : «يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وغيره مما هو بمضمونه.

والجواب عن ذلك : أنّ الهداية تطلق على معان :

الأوّل : الهداية التكوينية ، وهي إفاضة الوجود على الكائنات ، وجعلها منظمة لتترتب عليها الغايات والأغراض.

الثاني : الهداية التشريعية ، وهي إنزال الكتب ، وإرسال الرسل ، ونصب الأوصياء ، وإيجاد سائر وسائل التبليغ والإرشاد ، وهي المرادة بقوله تعالى : «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» فمعنى الهداية حينئذ إراءة طريق الحق ، فان شاء العبد سلكه وإن شاء تركه.

الثالث : الهداية الموصلة إلى المطلوب بحيث لا يبقى للعبد اختيار في عدم

٤٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

قبولها ، كقوله تعالى في سورة الأنعام الآية ١٥٠ : «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» وقد أريدت الهداية بهذا المعنى في جملة من الروايات التي ذكرها في الجزء الثالث من البحار في باب الهداية والضلالة ، فراجع.

الرابع : إيجاد مقتضيات الخير والعبودية على نحو لا ينافي الاختيار ، كتولّد العبد في جامعة حاوية للفضيلة وفاقدة للرذيلة ، أو من أبوين تقيّين ، وأمثال ذلك مما له دخل إعدادي في التوجه إلى الخير والطاعة ، والتحرز عن الشرّ والمعصية.

فالجواب : أنّ المراد من الهداية التي استعملت فيما ظاهره استناد الهداية والضلالة إلى مشيته تعالى هو هذا المعنى الرابع. فقد ظهر إلى هنا فائدتان :

الأولى : وجه الالتئام بين الآيات التي تدل على أنّه تعالى هدى الناس جميعا ، وبين الآيات التي تدل على أنّه تعالى إنّما هدى بعضهم دون بعض.

تقريبه : أنّ المراد بالهداية في الطائفة الأولى هو معناها الثاني أعني الهداية التشريعية ، والمراد بها في الطائفة الثانية هو معناها الثالث أعني الهداية الموصلة إلى المطلوب.

الثانية : الجواب عن الآيات الظاهرة في استناد الهداية والضلالة إلى مشيته تعالى.

تقريبه : أنّه إذا شاء هداية العبد تعلقت مشيته تعالى بتوجيه مقتضيات الخير وعلله الناقصة المعدّة إلى العبد بحيث لا تنافي الاختيار ، وإذا شاء ضلالته تعلّقت مشيته تعالى بسلب تلك المقتضيات عنه ، من دون منافاة بين هذا التعلُّق واختيار العبد.

٤٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أمّا عدم منافاة توجيه مقتضيات الخير إلى العبد لاختياره فواضح ، إذ المفروض توقف صدور الفعل مع تلك المقتضيات على اختياره ، وأمّا عدم منافاة سلبها لاختياره مع توقف الفعل عليها فلأنّ العبد لمّا ترك الخير باختياره ، وصرف ما أفاض عليه ربُّه من مقتضيات الخير في غير محله ، واختار من الشقاوة مرتبة لا يليق معها بتوفيق الطاعة وبعد المعصية ـ سلب ـ الله تعالى عنه تلك المقتضيات ، وأوكله إلى نفسه الجانية الأمّارة بالسوء.

الطائفة الرابعة : الآيات التي ادعيت صراحتها في اضطرار العباد في أفعالهم وتروكهم ، كقوله تعالى في سورة الأنفال : «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ رَمى» فإنّه كالصريح في كون فاعل الرمي هو الله تعالى ، وليس ذلك إلّا الإلجاء ، والجواب عنه : أنّ إسناد الرمي إليه تعالى مع أنّ الرامي هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بد أن يكون لنكتة ، إذ لو كان الإسناد على وجه الحقيقة لزم التناقض ، لأنّه تعالى أسند الرمي أوّلا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أسنده إلى نفسه تعالى ، فالإسناد الثاني يكون لعناية وهي كون الرمي والغلبة على الكفار من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لئلا يتفاخر المسلمون بعضهم على بعض بأنّه ظفر على الكفار بقتلهم وأسرهم ، قال في مجمع البيان : «ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس وغيره : أنّ جبرئيل عليه‌السلام قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا التقى الجمعان لعلي عليه‌السلام : أعطني قبضة من حصا الوادي ، فناوله كفا من حصا عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فانهزموا ، فعلى هذا إنّما أضاف الرمي إلى نفسه ، لأنّه لا يقدر

٤٢٩

وهم ودفع ، لعلك (١) تقول : إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل (٢) لزم بناء على أن

______________________________________________________

(١) هذا تقريب الوهم الّذي هو من أدلة القائلين بمغايرة الطلب للإرادة ، ومحصل تقريبه : أنّه على تقدير اتحاد الطلب والإرادة يلزم أن يكون المنشأ بصيغة الطلب في الخطابات الشرعية هو العلم بالصلاح ، إذ المفروض كون الإرادة التشريعية هو هذا العلم ، وذلك بديهي البطلان ، لأنّ القابل للإنشاء هو الأمور الاعتبارية كالملكية والزوجية ونحوهما ، لا الأمور الحقيقية الخارجية كالقيام والقعود والعلم وغيرها مما له وجود حقيقي ، إذ لا معنى لتعلق إنشاء الطلب بما هو حاصل في الخارج ، ومن المعلوم أنّ العلم من الصفات الحقيقية التي لا يتعلق بها الإنشاء ، خصوصا فيه سبحانه وتعالى ، لأنّ علمه عين ذاته المقدسة. وأمّا بناء على مغايرة الطلب للإرادة فلا يلزم هذا الإشكال أصلا ، حيث إنّ المنشأ حينئذ هو مفهوم الطلب ، لا الإرادة التشريعية التي هي العلم بالصلاح حتى يلزم أن يكون المنشأ عين العلم بالصلاح كما هو قضية قياس المساواة.

(٢) كما ذكره بقوله : «دون الإرادة التشريعية وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف» انتهى.

__________________

أحد غيره على مثله ، فانه من عجائب المعجزات» انتهى. ومثله : إسناد القتل إلى نفسه تعالى فيما قبله وهو قوله عزوجل : «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ» وقد عرفت سابقا الجواب العام عن كل ما يكون صريحا أو ظاهرا في الجبر من آية أو رواية وهو احتفافه بقرينة عقلية هي كقرينة لفظية متصلة مانعة عن انعقاد الظهور للفظ. هذا ما أردنا إيراده إجمالا في نفي الجبر ، واستقصاء جهات البحث في مسألة الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين يستدعي وضع رسالة مستقلة فيها ، نسأل الله تعالى شأنه أن يوفقنا لذلك عاجلا.

٤٣٠

تكون (١) عين الطلب كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم ، وهو بمكان من البطلان (٢). لكنك غفلت (٣) عن أنّ اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنما

______________________________________________________

(١) أي : الإرادة.

(٢) لما عرفت في تقريب الوهم من عدم تعلق الإنشاء إلّا بالموجودات الاعتبارية.

(٣) هذا دفع للتوهم المذكور ، وحاصله : أنّ المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب ، لا الطلب الخارجي الّذي هو عين الإرادة التشريعية التي هي العلم بالصلاح ، فلا يلزم إنشاء العلم بالمصلحة الّذي هو من الموجودات الحقيقية ، إذ موطن اتحاد الإرادة التشريعية مع العلم بالصلاح هو الوجود الخارجي لا المفهوم ، لأنّ صفاته جلّ وعلا عين ذاته ، فالوحدة وجودية لا مفهومية (*) ، والإنشاء متعلق بالمفهوم ، لا الوجود حتى يلزم إنشاء الوجود الخارجي ، فلا تنافي بين صحة إنشاء الطلب بالصيغة ، وبين اتحاد الطلب والإرادة.

__________________

(*) لكن عن جماعة من المعتزلة اتحاد الإرادة والعلم مفهوما ، بل استظهر ذلك أيضا من عبارة المحقق الطوسي (قده) في التجريد ، حيث قال في مبحث الكيفيات النفسانيّة : «ومنها الإرادة والكراهة ، وهما نوعان من العلم» انتهى ، قال العلامة (قده) في شرحه : «وهما نوعان من العلم بالمعنى الأعم ، وذلك لأنّ الإرادة عبارة عن علم الحي أو اعتقاده أو ظنه بما في الفعل من المصلحة ، والكراهة علمه أو ظنه أو اعتقاده بما فيه من المفسدة ، هذا مذهب جماعة ، وقال آخرون : إنّ الإرادة والكراهة زائدتان على هذا مترتبتان عليه ، لأنّا نجد من أنفسنا ميلا إلى الشيء أو عنه مترتبا على هذا العلم ، وهو يفارق الشهوة ، فإنّ المريض يريد شرب الدواء ولا يشتهيه» انتهى.

٤٣١

يكون خارجا لا مفهوما ، وقد عرفت أنّ المنشأ ليس إلّا المفهوم (١) ، لا الطلب الخارجي ، ولا غرو أصلا في اتحاد الإرادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى ، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة ، قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه (٢) : «وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه».

______________________________________________________

(١) أي : مفهوم الطلب.

(٢) غرضه من نقل كلام المولى سيد الوصيين عليه أفضل صلوات المصلين هو الاستشهاد به على اتحاد صفاته تعالى وعينيتها لذاته جل وعلا.

توضيحه : أنّ الإخلاص له هو تجريده تعالى عن الزوائد والثواني ليكون بسيطا حقيقيا ، وإلّا لم يكن بسيطا كذلك ، وبساطته الحقيقية تتوقف على نفي الصفات عنه ، إذ بدونه يصير مقرونا بشيء أي صفة زائدة على ذاته ، ومن قرنه بغيره فقد جعل له ثانيا في الوجود ، ولازمه تركُّبه من جزءين ، وهذا ينافي بساطته الحقيقية ، إذ لو كان في الوجود غيره سواء كان صفة أم غيرها لم يكن بسيطا حقيقيا ، فالتوحيد المطلق هو أن لا يعتبر معه تعالى غيره مطلقا ، هذا في الصفات المغايرة لذاته تعالى في الوجود. وأمّا الصفات غير المغايرة لها وجودا بأن تكون عينها بحيث يكون الذات بذاته مصداقا لجميع النعوت الكمالية من دون قيام أمر زائد بذاته الأحدية جلّ وعلا ، فهي غير منفية عنه تعالى شأنه ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : «ليس لصفته حد محدود» ، فلا منافاة بين هذه الجملة :

«ليس لصفته حد محدود» وبين قوله عليه‌السلام : «وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» ، وقوله عليه‌السلام : «فمن وصفه قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزاء» وذلك لأنّ ما يثبت الصفات له تعالى ناظرٌ إلى الصفات

٤٣٢

الفصل الثاني : فيما يتعلق بصيغة الأمر ، وفيه مباحث :

الأوّل : أنّه ربما يذكر للصيغة معان (١) قد استعملت (٢) فيها ، وقد عدّ منها الترجي ، والتمني (٣) ، والتهديد (٤) ، والإنذار (٥) والإهانة (٦) ، والاحتقار (٧) ، والتعجيز (٨) ، والتسخير (٩) إلى غير ذلك (١٠) ،

______________________________________________________

التي هي عين ذاته وجودا ، وما ينفي الصفات عنه بحيث صار نفيها مدار التوحيد ناظر إلى الصفات التي تكون مغايرة لذاته وجودا وموجبة للتركب كصفاتنا ، حيث إنّها فينا زائدة على ذواتنا وقائمة بنا نحو قيام.

(١) قد أنهاها بعض إلى نيِّف وعشرين.

(٢) ستأتي المناقشة في استعمال الصيغة فيها عند تعرض المصنف لها.

(٣) كقول إمرئ القيس بن حجر الكندي :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

حيث إنّه لمّا فرض استحالة انجلاء الليل الطويل تمني انجلاءها بالأمر به.

(٤) كقوله تعالى : «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» على ما قيل.

(٥) كقوله تعالى : «قُلْ تَمَتَّعُوا» ويمكن رجوعه إلى التهديد ، لأنّه إبلاغ في مقام التخويف ، فليتأمّل.

(٦) كقوله تعالى : «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ».

(٧) نحو قوله تعالى : «بل أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ».

(٨) كقوله تعالى : «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ».

(٩) كقوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

(١٠) كالتسوية نحو قوله تعالى : «فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا» إذ لا يختلف الحال بالنسبة إليهم من حيث الصبر وعدمه ، والدعاء كقوله تعالى : «اللهم (اغْفِرْ لِي)

٤٣٣

وهذا (١) كما ترى ، ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها (٢) بل لم تستعمل إلّا في إنشاء الطلب (*) ، إلّا أنّ الداعي إلى

______________________________________________________

والتكوين كقوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) إلى غير ذلك من المعاني التي ذكرت للصيغة.

(١) يعني : واستعمال الصيغة في هذه المعاني كما ترى.

غرضه : أنّ الصيغة لم تستعمل في شيء من تلك المعاني ، بل استعملت في إنشاء الطلب ، ولكن الداعي للإنشاء هي تلك المعاني ، إذ الداعي إلى الإنشاء (تارة) يكون هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي ، وهو الّذي ينصرف إليه إطلاق الصيغة على ما تقدم في الفصل الأول ، (وأخرى) يكون أحد الأمور المتقدمة ، فينشأ الطلب بداعي الترجي أو التمني أو الإهانة أو غيرها من المعاني المتقدمة ، وعليه فالصيغة لم تستعمل إلّا في معنى واحد وهو إنشاء الطلب ، وتلك المعاني دواع للإنشاء ، وأجنبية عن مدلول الصيغة ، فلا تستعمل الصيغة في التهديد والتعجيز وغيرهما أصلا.

(٢) أي : من المعاني المتقدمة.

__________________

(*) في العبارة مسامحة ، لأنّ ظاهرها كون المستعمل فيه إنشاء الطلب ، وهو خلاف ما ذكره في أوّل الكتاب من نفي البعد عن كون الإنشائية والإخبارية من مقوِّمات الاستعمال ، وخارجتين عن المعنى المستعمل فيه ، كخروج الاستقلالية والآلية عن المعنى الاسمي والحرفي. وعليه فالظاهر : أنّ مراده كون المستعمل فيه هو الطلب الإنشائيّ في مقابل الطلب الحقيقي ، لكن قد تقدم في المعاني الحرفية : أنّ الهيئات موضوعة بالوضع الحرفي ، فهي كالحروف وضعت للنسب ، فهيئة الأمر موضوعة للنسبة الطلبية ، فقوله : ـ صلِّ ـ مثلا يدل على نسبة المادة إلى المخاطب نسبة طلبية.

٤٣٤

ذلك (١) كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي يكون أُخرى أحد هذه الأُمور (٢) كما لا يخفى ، وقصارى ما يمكن أن يدعى (٣) أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك (*)

______________________________________________________

(١) أي : إلى إنشاء الطلب.

(٢) أي : الترجي والتمني وغيرهما من الأُمور المتقدمة.

(٣) توضيحه : أنه قد عرفت أنّ الصيغة لم تستعمل إلّا في إنشاء الطلب ، فهي حقيقة فيه سواء كان الداعي إلى الإنشاء هو البعث أم التهديد أم غيرهما ، ومن المعلوم : أنّ اختلاف الدواعي لا يوجب اختلافاً في المدلول ، نعم غاية ما يمكن أن يقال هو : أنّ الصيغة وُضعت لإنشاء الطلب إذا كان بداعي البعث والتحريك ، فاستعمالها في إنشاء الطلب بهذا الداعي يكون على وجه الحقيقة ، وبسائر الدواعي كالتمني والترجي وأخواتهما يكون على وجه المجاز ، وعلى كل حال ليست الصيغة مستعملة في التهديد وغيره من الأُمور المزبورة ، بل المستعمل فيه هو إنشاء الطلب ، غاية الأمر : أنّ هذا الاستعمال حقيقي إن كان الإنشاء بداعي الجد أي البعث نحو المطلوب الواقعي ، ومجازي إن كان بداعٍ آخر كالتهديد وأخواته.

__________________

(*) قد مرّ سابقا : امتناع دخل ما هو من شئون الاستعمال في الموضوع له بحيث يكون المعنى في مقام الوضع مقيّدا به ، والغرض الداعي إلى استعمال الصيغة في إنشاء الطلب يكون من شئون الاستعمال ، فيمتنع دخله في المعنى الموضوع له ، بل المعنى واحد مطلقا سواء كان الداعي هو البعث أم التهديد أم غيرهما ، وعليه فيكون استعمال الهيئة في إنشاء الطلب بأي داع كان على نحو الحقيقة ، نعم لا بأس بدعوى ظهور الإنشاء في كونه بداعي البعث والتحريك بحيث يحمل اللفظ عليه

٤٣٥

لا بداع آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها (١) بعثا حقيقة ، وإنشاؤه بها (٢) تهديدا مجازا (٣) ، وهذا (٤) غير كونها مستعملة في التهديد وغيره (٥) فلا تغفل.

______________________________________________________

(١) أي : بالصيغة.

(٢) يعني : وإنشاء الطلب بالصيغة.

(٣) لأنّه بناء على ما أفاده من وضع الصيغة لإنشاء الطلب الناشئ عن داعي الجد تكون هذه المعاني مغايرة للمعنى الموضوع له.

(٤) يعني : واستعمال الصيغة في إنشاء الطلب مجازا إذا كان بداعي التهديد أو غيره من أخواته غير استعمالها في نفس التهديد أو غيره.

(٥) يعني : كما هو ظاهر كلمات القوم ، لظهورها في كون الصيغة مستعملة في التهديد وغيره من الأُمور المذكورة.

__________________

عند التجرد عن القرينة الدالة على نشوء الإنشاء عن داع آخر ، ويمكن الاستدلال لهذه الدعوى بوجوه :

الأول : غلبة الاستعمال في ذلك بمثابة توجب ظهور اللفظ في كون الإنشاء بداعي الجد ، ويكفي في تحقق الغلبة الموجبة للظهور لحاظها بالنسبة إلى مجموع سائر دواعي الإنشاء وإن لم تتحقق بالإضافة إلى كل واحد منها.

الثاني : أنّ الأصل العقلائي يقتضي أن يكون الإنشاء بنحو الجد ، وذلك لاستقرار سيرة العقلاء في محاوراتهم على موافقة إرادتهم الاستعمالية لإرادتهم الجدية بحيث لو تخالفتا لنبّهوا على ذلك وصرّحوا بتخالفهما.

الثالث : أنّ مقدّمات الحكمة تقتضي الحمل على كون الإنشاء بداعي الجد ، لاحتياج نشوه عن داع آخر إلى بيان زائد ، لما مرّ في الوجه الثاني من الأصل العقلائي ، فإنّ مخالفة الأصل تحتاج إلى التنبيه والبيان ، فلاحظ.

٤٣٦

إيقاظ (١) : لا يخفى أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ الإنشائية ، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة (٢) يكون الداعي غيرها (٣) أُخرى ، فلا وجه (٤) للالتزام بانسلاخ

______________________________________________________

(١) توضيحه : أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر من كونها مستعملة في إنشاء الطلب بدواع مختلفة على نحو الحقيقة ، لكون الموضوع له ـ وهو إنشاء الطلب في الجميع ـ واحدا ، وعدم اختلاف مدلول الصيغة باختلاف دواعي الإنشاء ـ يجري ـ في سائر الصيغ الإنشائية من التمني والترجي وغيرهما ، حيث إنّها أيضا تستعمل في إنشاء هذه المفاهيم أي الترجي والتمني والاستفهام وغيرها بدواع مختلفة ، مثلا أدوات الاستفهام تستعمل في إنشاء مفهوم الاستفهام تارة بداعي التعلم وإزالة الجهل ، وأُخرى بداعي التوبيخ ، وثالثة بدواع أُخرى مذكورة في محلها ، وكذا أدوات النداء وغيرها.

والحاصل : أنّ جميع الصيغ الإنشائية لا تستعمل إلّا في معنى واحد وهو الإنشاء ، والاختلاف إنّما يكون في دواعي الإنشاء ، وذلك لا يوجب اختلافا في المدلول.

(٢) يعني : كإنشاء الطلب بصيغة الأمر بداعي الطلب الحقيقي.

(٣) يعني : غير تلك الصفات ، كإنشاء الاستفهام بداعي التهكُّم أو التقرير أو غيرهما.

(٤) حاصله : أنّه بعد ما تقدم ـ من أنّ الصيغ الإنشائية تستعمل دائما في إنشاء مفاهيمهما بدواع مختلفة مع كون الاستعمال على وجه الحقيقة ـ يظهر عدم الوجه لما قيل من انسلاخ صيغ الترجي والاستفهام ونحوهما ممّا يقع في كلامه

٤٣٧

صيغها (١) عنها (٢) ، واستعمالها في غيرها (٣) إذا وقعت في كلامه تعالى ، لاستحالة (٤) مثل هذه المعاني في حقّه تبارك وتعالى ممّا لازمه العجز أو الجهل (٥) وأنّه (٦) لا وجه له (٧) ، فإنّ (٨) المستحيل إنّما هو الحقيقي

______________________________________________________

تعالى عن معانيها من التمني وغيره ممّا لازمه العجز كما في التمني والترجي أو الجهل كما في الاستفهام ، وذلك لأنّ المستحيل في حقه تعالى هو الترجي والاستفهام الحقيقيان ، لا إنشاؤهما بدواع أُخر غير داعي ثبوتهما ، وما ذكروه من الانسلاخ مبنيّ على استعمال الصيغ في نفس الصفات المزبورة من التمني وأخواته. وأمّا بناء على استعمالها في الإنشاء كما ذكرنا فلا وجه للانسلاخ أصلا.

(١) أي : صيغ التمني أو الترجي أو الاستفهام.

(٢) أي : عن التمني والترجي والاستفهام وغيرها من الصفات.

(٣) يعني : واستعمال الصيغ في غير الصفات الحقيقية من التمني وأخواته.

(٤) تعليل للالتزام بالانسلاخ ، واستحالة التمني الحقيقي مثلا عليه تعالى بديهية.

(٥) الأوّل في التمني والترجي ، والثاني في الاستفهام.

(٦) الضمير للشأن ، وهذا تأكيد لقوله : «لا وجه للالتزام».

(٧) أي : للالتزام بالانسلاخ.

(٨) هذا ردّ التعليل الّذي ذكره بقوله : «لاستحالة مثل هذه المعاني ... إلخ» وحاصله : فقدان علّة الانسلاخ وهي الاستحالة ، وذلك لأنّ المستحيل في حقه تعالى هو الاستفهام والتمني والترجي الحقيقية ، حيث إنّها مستلزمة للجهل والعجز المستحيلين في حقه تعالى شأنه دون إنشائها ، والمفروض انّ صيغها كما تقدم لا تستعمل في نفس تلك الصفات حتى تلزم الاستحالة المزبورة ، بل تستعمل في إنشائها ، وهو لا يستلزم محذورا ، لأنّ إنشاءها ليس إلّا إيجاد النسب الخاصة.

٤٣٨

منها (١) ، لا الإنشائيّ الإيقاعي الّذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة ، كما عرفت ، ففي (٢) كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعية الإنشائية أيضا (٣) ، لا لإظهار ثبوتها (٤) حقيقة ، بل لأمر آخر (٥) حسبما يقتضيه الحال من إظهار المحبة (٦) أو الإنكار (٧) أو التقرير (٨) إلى غير ذلك (٩). ومنه (١٠)

______________________________________________________

(١) أي : من التمني وأخواته.

(٢) هذه نتيجة الرد على القائل بالانسلاخ.

وحاصله : أنّ صيغ التمني ونحوه قد استعملت في كلامه تعالى في إنشاء مفهوم التمني ونحوه كاستعمالها فيه في كلامنا.

(٣) يعني : كما أنّها تستعمل في معانيها الإيقاعية الإنشائية في كلامنا.

(٤) أي : ثبوت معانيها حقيقة ، فإنّ إظهارها مستحيل في حقه تعالى شأنه.

(٥) أي : لداع آخر غير إظهار ثبوت معانيها الحقيقية.

(٦) كقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أو (تَتَّقُونَ) عقيب الأمر بالإيمان مثلا ، فإنّ المقام يناسب محبوبية ما يقع عقيب ـ لعلّ ـ كما لا يخفى.

(٧) الإبطالي كقوله تعالى : «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ» ، والتوبيخي كقوله تعالى : «أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ» فإنّ المقام يناسب كون إنشاء مفهوم الاستفهام بداعي الإنكار.

(٨) كقوله تعالى : «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ».

(٩) من التهكم كقوله تعالى : «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» والتعجب كقوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» ، أو الاستبطاء كقوله تعالى : «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ» وغير ذلك.

(١٠) أي : ومن استعمال صيغة الاستفهام في إنشاء مفهومه ، لا في الاستفهام

٤٣٩

ظهر : أنّ ما ذُكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا (١).

(المبحث الثاني) في أن الصيغة حقيقة في الوجوب (٢) أو الندب (٣) أو فيهما (٤) أو في المشترك بينهما (٥) وجوه بل أقوال (٦) لا يبعد تبادر الوجوب

______________________________________________________

الحقيقي ـ ظهر ـ أنّ ما ذكره علماء الأدب من عدة معان لصيغة الاستفهام ليس في محله ، إذ المفروض أنّ المستعمل فيه في صيغة الاستفهام واحد وهو الإنشاء ، والاختلاف إنّما يكون في الدواعي من الاستفهام الحقيقي والإنكاري وغيرهما ، وهذا الاختلاف لا يوجب استعمال الاستفهام في المعاني المتعددة ، فلا ينبغي جعلها من معاني الاستفهام كما هو ظاهر كلمات علماء العربية.

(١) يعني : مثل صيغة الأمر.

(٢) الظاهر : أنّ المراد به هو النسبة الطلبية المصحِّحة لاعتبار الوجوب الاعتباري ، والوجه في اعتباره هو : أنّ الأمر لمّا كان مبرزا للإرادة مع عدم الترخيص في ترك المراد يصح انتزاع الوجوب بمعنى وقوع المادة في صفحة التشريع على المخاطب ، فإذا اقترن مع الترخيص في الترك لا يصح اعتبار الوجوب.

(٣) بأن تكون موضوعة لإبراز الإرادة مع الترخيص في ترك المراد ، فإنّ هذا المعنى قابل لأن يكون منشأ لاعتبار الندب منه.

(٤) بأن يكون موضوعا تارة للمعنى الأوّل المنتزع عنه الوجوب ، وأُخرى للمعنى الثاني المنتزع عنه الندب ، فالصيغة حينئذ تكون مشتركا لفظيا.

(٥) بأن يكون الموضوع له هو الجامع بينهما ، وهو مطلق الطلب ، فالصيغة مشترك معنوي.

(٦) قد أنهاها بعضهم إلى ثمانية ، الأربعة المذكورة في المتن ، والوقف ، والاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب والإباحة ، والاشتراك المعنوي بينها ، والاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد.

٤٤٠