منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٢

انّما تكون في الإرادة التكوينية وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الإرادة التشريعية وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف ، وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة

______________________________________________________

بحيث لا يكون فيه صلاح إذا صدر عن قهر وإجبار ، ومن المعلوم : أنّ هذه الإرادة التشريعية تتخلف عن المراد ، ولا ضير في هذا التخلف ، لعدم كون هذه الإرادة علة تامة لوجود الفعل في الخارج حتى يمتنع التخلف ، بل علة لنفس التشريع ، وفائدتها إحداث الداعي في العبد ليوجد الفعل بإرادته واختياره ، فوجود الفعل منوط بإرادة العبد ، لا بإرادته تعالى التكوينية ، إذ المفروض عدم تعلقها به.

وبالجملة : فالمراد بالإرادة التشريعية هو فعل العبد الّذي يوجد تارة ويبقى على العدم أُخرى ، فمحصل الجواب عن الإشكال : أنّ الطلب والإرادة الحقيقيّين موجودان في تكاليف الكفار والعصاة ، ولا يلزم شيءٌ من محذوري التكليف الصوري ، وتخلُّف الإرادة عن المراد.

أمّا الأوّل ، فلوجود الطلب الحقيقي الموجب لكون التكليف حقيقياً لا صورياً.

وأمّا الثاني ، فلما عرفت من عدم استحالة التخلف في الإرادة التشريعية ، واختصاص ذلك بالإرادة التكوينية المفروض فقدانها في التكاليف الشرعية ، لعدم احتياجها إليها ، بل هي مخلّة فيها ، لما عرفت من توقف المصلحة على صدور الفعل عن اختيار العبد ، وإنّما المحتاج إليه في كون التكليف جدياً حقيقياً لا صورياً هو الإرادة التشريعية.

٤٠١

والإيمان (١) ، وإذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان (٢)

إن قلت (٣) : إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته (٤) تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد فلا يصح أن يتعلق بها (٥) التكليف ، لكونها (٦) خارجة عن الاختيار المعتبر فيه (٧) عقلا (٨).

______________________________________________________

(١) لعدم تخلُّف الإرادة التكوينية عن المراد ، والمفروض تعلُّقها بإيمان شخص وإطاعته كتعلق الإرادة التشريعية بذلك ، فلا محيص عن اختياره للإيمان والإطاعة.

(٢) لفرض تعلق الإرادة التكوينية بكفره أو عصيانه المعلوم عدم تخلفها عن المراد.

(٣) توضيحه : أنّه إذا تعلقت إرادته تعالى التكوينية بإيمان شخص وإطاعته ، أو تعلقت بكفره وعصيانه امتنع تعلُّق التكليف بهذه الأُمور ، لصيرورتها غير مقدورة للعبد بعد تعلق إرادته تعالى التكوينية بها الموجبة لضرورية وجودها ، فلا يبقى حينئذٍ اختيارٌ للعبد يوجب صحة التكليف بها ، وعلى هذا فيكون العبد مضطرّاً إلى اختيار الكفر والعصيان أو الإطاعة والإيمان ، وليس هذا إلّا الجبر الّذي يلتزم به الأشعري.

(٤) أي : التكوينية التي لا تتخلف عن المراد.

(٥) أي : الإطاعة والإيمان ، والكفر والعصيان.

(٦) تعليل لعدم صحة تعلق التكليف بالإيمان والإطاعة والكفر والعصيان ، ومحصل التعليل : خروج الأُمور المذكورة عن الاختيار المعتبر عقلاً في التكليف بسبب تعلق الإرادة التكوينية الإلهية بها.

(٧) أي : في التكليف.

(٨) قيد ل ـ المعتبر ـ.

٤٠٢

قلت : إنّما يخرج بذلك (١) عن الاختيار لو لم يكن تعلق الإرادة بها (٢) مسبوقة (٣) بمقدماتها (٤) الاختياريّة (٥) ، وإلّا (٦) فلا بد من صدورها

______________________________________________________

(١) أي : بتعلق الإرادة التكوينية الإلهية بالإيمان وغيره مما ذكر.

(٢) أي : بالإيمان وسائر العناوين المذكورة ، ومحصل هذا الجواب هو : أنّ الإرادة التكوينية تارة تتعلق بفعل العبد مطلقاً سواء أراده أم لا ، بل يوجد الفعل بلا إرادته واختياره ، لوجوب صدوره بعد صيرورته مراداً تكوينياً له تعالى شأنه ، فلا يؤثر قدرة العبد وإرادته في فعله أصلا.

(وأُخرى) تتعلق بفعل العبد بما له من المبادئ الموجبة لاختياريّته في حدّ ذاته ، بحيث لا يكون الفعل ذا صلاح إلّا مقيّداً بكونه صادراً عن العبد بقدرته وإرادته.

فان تعلقت الإرادة التكوينية بفعل العبد على النحو الأوّل لَزِم الجبر ، إذ المفروض صيرورة الفعل ضروري الوجود بحيث لا تؤثّر قدرة العبد فيه.

وإن تعلقت بفعل العبد على النحو الثاني لا يلزم منه جبر أصلا ، إذ المفروض تعلق إرادته تعالى التكوينية بالفعل ومباديه الاختيارية أيضا ، فلا مجال لنفي الاختيار ، لوجوب الصدور.

وبالجملة : فالجبر مبنيٌّ على تعلق الإرادة التكوينية على النهج الأوّل دون الثاني.

(٣) حال من ضمير ـ بها ـ الراجع إلى الإيمان وسائر العناوين المذكورة.

(٤) الضمير راجع إلى العناوين المذكورة من الإيمان وغيره.

(٥) أي : المقدمات الموجبة لكونها اختيارية.

(٦) أي : وان كان تعلق الإرادة التكوينية بالإيمان وغيره بمبادئها الاختيارية فلا بد من صدور الإيمان وغيره بالاختيار.

٤٠٣

بالاختيار ، وإلّا (١) لَزِم تخلف إرادته عن مراده تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

إن قلت (٢) : إنّ الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما (٣) ، إلّا أنّهما (٤) منتهيان

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم تصدر العناوين المذكورة بالاختيار ـ مع تعلق إرادته تعالى التكوينية بصدورها من العبد باختياره ـ لَزِم تخلُّف إرادته تعالى عن مراده ، بداهة أنّ إرادته عزوجل تعلقت بصدور تلك العناوين باختيار العبد ، فلو صدرت بدونه لزم الخلف.

فالمتحصل : أنّه لا يلزم من تعلق إرادة الله تعالى تكويناً بالإيمان والإطاعة والكفر والعصيان جبرٌ أصلا ، لما مرّ من كون إرادته التكوينية على نحوين ، ويلزم الجبر على أحدهما دون الآخر.

(٢) غرض هذا المستشكل : عدم اندفاع إشكال الجبر بما ذكر من تأثير إرادة الكافر والمؤمن في اختيارية الكفر والإيمان ، ولذا لا يكونان كحركة المرتعش في كونهما خارجين عن الاختيار. وحاصل وجه عدم الاندفاع هو : أنّ إرادة العبد لمّا كانت من الممكنات كانت منتهية إلى إرادة الواجب تعالى شأنه التي هي واجبة ، لكونها عين ذاته عزوجل فإرادة العبد المستندة إلى إرادته جلّت عظمته تكون غير اختيارية ، فيقبح التكليف حينئذٍ بالإيمان وغيره ، لكونه تكليفاً بأمر غير اختياري ، كما يقبح العقاب على الكفر والعصيان ، لأوله بالأخرة إلى ما لا يكون بالاختيار ، فلم يندفع إشكال الجبر بمجرد تأثير إرادة العبد في اختيارية الكفر والإيمان.

(٣) أي : بإرادة الكفر والعصيان من العبد.

(٤) يعني : إلّا أنّ إرادتي الكفر والعصيان منتهيتان إلى أمر غير اختياري.

٤٠٤

إلى ما (١) لا بالاختيار ، كيف (٢) وقد سبقتهما (٣) الإرادة الأزلية والمشية الإلهية؟ ومعه (٤) كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالأخرة بلا اختيار؟.

قلت (٥) : العقاب إنّما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار

______________________________________________________

(١) المراد بالموصول هو الإرادة الإلهية التي تنتهي إليها الممكنات.

(٢) يعني : كيف لا تنتهي إرادة الكفر والعصيان من الكافر والعاصي إلى ما لا بالاختيار؟ والحال أنّه قد سبق هذه الإرادة ـ الإرادةُ ـ الأزلية الإلهية الرافعة للاختيار.

(٣) أي : إرادتي الكفر والعصيان.

(٤) أي : ومع السبق المزبور.

(٥) ملخص هذا الجواب : أنّ المؤاخذة ليست لأجل الاستحقاق حتى يرد عليه الإشكال بأنّه لا استحقاق مع عدم الاختيار ، بل لكونها من اللوازم الذاتيّة المترتبة على الكفر والعصيان الناشئين عن الخبث الذاتي ترتب المعلول على علته ، وإذا انتهى الأمر إلى الذاتي انقطع السؤال بِلم ، لأنّ الذاتي لا يعلّل ، فلا يقال : «لم اختار المؤمن والكافر الإيمان والكفر» ، إذ المفروض أنّهما من لوازم ذاتهما ، ولذا يكون الشقي شقياً في بطن أُمّه والسعيد سعيداً كذلك ، كما في النبوي (١) ، و «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» (٢) كما في بعض الروايات ، فالسعادة والشقاوة ذاتيتان للناس كذاتية الذهبيّة والفضية للذهب والفضة ، هذا محصل ما أفاده المصنف (قده) في دفع شبهة

__________________

(١) روضة الكافي ص ٨١ طبع طهران سنة ١٣٧٧ ، الفقيه ، ج ٤ ص ٢٨٨ طبع النجف ، توحيد الصدوق ص ٢٥٧.

(٢) روضة الكافي ص ١٧٧ ، الفقيه ، ج ٤ ، ص ٢٧٣.

٤٠٥

الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتيّة اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإنّ السعيد سعيد في بطن أُمّه والشقي شقي في بطن أُمّه ، والناس معادن كمعادن

______________________________________________________

الجبر (*).

__________________

(*) لكنك خبير بأنّ ما أفاده ليس دافعاً لشبهة الجبر بل هو مثبت لها ، إذ المفروض كون السعادة والشقاوة ذاتيتين ، والإيمان والكفر والإطاعة والعصيان من لوازمهما التي لا تنفك عنهما ، وعلى هذا كيف يحسن التكليف بهما والعقاب عليهما؟ وحسن مؤاخذة الموالي العرفية لعبيدهم على مخالفتهم لأوامرهم وعدم الاعتداد باعتذارهم بأنّ المخالفة مستندة إلى الأمر الذاتي وهو الشقاوة أقوى شاهد على عدم كون العصيان من اللوازم الذاتيّة القهرية ، وأنّه ناشٍ عن ترجيح وجوده على عدمه ، واختيار فعله على تركه ، وكون المؤاخذة عندهم مترتبة على الفعل الاختياري ، هذا. مضافاً إلى دلالة الروايات على عدم الجبر ، وأنّ كُلًّا من الطاعة والعصيان يكون باختيار العبد ، مثل ما رواه الوافي عن توحيد الصدوق والاحتجاج عن اليماني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيءٍ فقد جعل لهم السبيل إلى أخذه ، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه» وما رواه الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون» وما رواه الكافي أيضا عن يونس عن عدة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال له رجل : جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي ، قال : الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها» الحديث ، إلى غير ذلك من الروايات الصريحة أو الظاهرة في نفي الجبر ، ولا ينافي ذلك ما رواه الوشّاء عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «سألته فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد ، قال :

٤٠٦

الذهب والفضة كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل (*) فانقطع سؤال أنّه لم جعل

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الله أعز من ذلك ، قلت : فجبرهم على المعاصي ، قال : الله أعدل وأحكم من ذلك قال : ثم قال الله تعالى : يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك» وذلك لأنّ المراد بأولويّته عزوجل بالحسنات أمره بها وإعطاء القوة عليها والتوفيق لها ، والمراد بأولوية العبد بالسيئات هو : أنّه تعالى نهاه عنها ، وأوعد عليها ، ووهب له القوة ليصرفها في الطاعات ، فخالف ربه وصرفها في السيئات. كما لا ينافيه الأخبار الواردة في القضاء والقدر والمشية والفطرة والطينة ، ولا يثبت بها الجبر كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

(*) لعلّه أراد بذلك ما عن جماعة من الفلاسفة «من أنّ العقاب والثواب ليسا من معاقب خارجي ومنتقم غضبان ينتقم من عدوه لإزالة ألم الغيظ ، والتشفي عن حرقة لهب الغضب المستحيل في حقه تعالى شأنه ، بل هما من اللوازم الذاتيّة للأفعال الحسنة والقبيحة المنتهية إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين».

وأنت خبير بما فيه أوّلاً : من أنّ الثواب والعقاب ـ على ما دلّت عليه الآيات والروايات ـ جزاءٌ من الله تعالى بالعمل الحسن والقبيح ، والثواب ـ على ما عرّفه المتكلمون ـ هو النّفع المستحق المقارن للتعظيم ، والعقاب هو الضرر المستحق المقارن للاستخفاف ، ومع الجبر لا استحقاق ، لعدم كون الفعل اختياريا للعبد ، وتجسُّم الأعمال على ما في بعض الروايات لا يدل على كون ذلك من قبيل اللوازم الذاتيّة ، بل ذلك المجسم هو الّذي جعل جزاءً للعمل.

وثانياً : من أنّ الثواب والعقاب لو كانا ذاتيين للعمل لم يكن وجه لتوقيف العباد في مواقف الحساب للسؤال عنهم على ما صرّح به قوله تعالى :

٤٠٧

السعيد سعيداً والشقي شقياً ، فإنّ السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وإنّما

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

«وقفوهم أنهم مسئولون».

وثالثاً : من أنّ ذاتيتهما تُنافي ما ورد من العفو عن بعض الذنوب بالشفاعة أو غيرها ، إذ لا معنى للعفو حينئذٍ.

ورابعاً : من عدم انطباق حدِّ الذاتي على السعادة والشقاوة اللتين يترتب عليهما الثواب والعقاب ، أمّا الذاتي الإيساغوجي ـ وهو الجنس والفصل ـ فواضح ، وأمّا الذاتي البرهاني ـ وهو ما ينتزع عن نفس الذات من دون حاجة إلى ضم ضميمة كإمكان الإنسان وغيره من الماهيات الإمكانية ـ فلوضوح عدم كون السعادة والشقاوة كذلك ، لأنّهما من الصفات العارضة للنفس كسائر الأوصاف النفسانيّة.

وخامساً : من أنّه ـ بعد تسليم كونهما ذاتيتين ـ لم ينهض دليل عقلي ولا نقلي على كونهما بنحو العلة التامة كقبح الظلم وحُسن الإحسان ونحو ذلك حتى يلزم الجبر ، فيمكن أن تكون ذاتيتهما بنحو الاقتضاء ، كقبح الكذب ، ومن المعلوم أنّ مجرد وجود المقتضي لا يكفي في ثبوت الجبر بعد القدرة على إيجاد المانع عن تأثيره ، ولا يدل الخبران المذكوران على العلية التامة أصلا.

أمّا الخبر الأوّل ، فلأنّ المراد بالسعيد والشقي في بطن الأُم هو علمه سبحانه وتعالى بكونه شقياً أو سعيداً وهو في بطن أُمه ، فعن ابن أبي عمير قال : «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشقي من شقي في بطن أُمه والسعيد من سعد في بطن أُمّه ، فقال : الشقي من علم الله وهو في بطن أُمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في

٤٠٨

أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد وسر بشكست). قد انتهى الكلام في المقام

______________________________________________________

.................................................................................................

______________________________________________________

بطن أُمّه أنّه سيعمل أعمال السعداء» الحديث (١).

وأمّا الخبر الثاني ، فالظاهر منه هو تنزيل الناس منزلة المعادن في أنّه كما تكون المعادن من حيث المالية والجهات الموجبة لتنافس الخلق وتزاحمهم عليها مختلفة جداً ومتفاوتة جزماً ، كذلك الناس ، فإنّهم في الأخلاق والصفات متفاوتون كتفاوت المعادن فيما عرفت ، فلا دلالة في هذا الخبر على كون السعادة والشقاوة ذاتيتين بمعنى العلّة التامة كما هو قضية الجبر ، ولو سلمنا دلالة الخبر على كونهما ذاتيتين ، فالمتيقن منه ذاتيتهما بنحو الاقتضاء لا العلية التامة ، وقد مر : أنّ مجرّد الاقتضاء لا يثبت الجبر ، ولو سلم ظهور هذا الخبر أو غيره من الروايات في كون السعادة والشقاوة ذاتيتين بمعنى العلة التامة فلا سبيل إلى حجيته ، لعدم مكافأته للضرورة العقلية التي هي كالقرينة المتصلة ، وللآيات والروايات المتواترة بل المتجاوزة عن حد التواتر النافية للجبر ، فلا محيص عن التأويل أو الحمل على التقية ، لما قيل : «من أنّ الجبر أشهر مذاهب العامة» ، أو الطرح.

فتلخص مما ذكرنا : عدم لزوم الجبر من ناحية ذاتية السعادة والشقاوة.

وأمّا من ناحية الإرادة ، فإن أُريد بها إرادته تعالى شأنه ، فقد عرفت أنّ المراد بها هو علمه باشتمال فعل العبد الصادر عنه باختياره على المصلحة ، لا مطلقاً ولو صدر عنه قهراً ، ومن المعلوم أنّ هذه الإرادة لا توجب الجبر. وإن أُريد بها إرادته تعالى التي تنتهي إليها الممكنات ، فلا تستلزم الجبر أيضا ، وتوضيحه يتوقف على بيان مقدمة ذكرها بعض المحققين (قده) وهي : «أنّ الفاعل ينقسم

__________________

(١) البحار ـ ج ٣ ـ باب السعادة والشقاوة.

٤٠٩

إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام ، ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام.

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

باعتبار إلى ما منه الوجود وإلى ما به الوجود ، والمراد بالأوّل : مفيض الوجود ومعطيه ، وهو منحصر في واجب الوجود جلّ وعلا ، وبالثاني : مباشر الفعل الّذي يفاض عليه الوجود ويكون مجرى فيضه ، فيجري منه فيض الوجود إلى غيره ، وهو منحصر في غير واجب الوجود جلّت عظمته ، لإباء صرافة وجوده عن الاتحاد مع الممكنات حتى يباشر الحركات.

وبالجملة : فمعطي الوجود هو الواجب تعالى شأنه ، ومجرى فيض الوجود هو الممكن.

وينقسم الفاعل باعتبار آخر إلى الفاعل بالطبع ، وبالقسر ، وبالاختيار.

والمراد بالأوّل : ما يكون فعله باقتضاء طبيعته بلا شعور وإرادة كالنار ، فإنّ إحراقها ليس بإرادة ولا شعور ، بل باقتضاء طبعها.

والمراد بالثاني : ما يكون الفاعل بالإضافة إلى الفعل كالموضوع لعرضه ، فإسناد الفعل إليه يكون بضرب من المسامحة ، إذ الفاعل حقيقة غيره ، كتحريك يد الغير ، فإنّ مباشر التحريك هو الفاعل ويد المتحرك محل الحركة ، وليس المتحرك هو الفاعل إلّا مسامحة.

والمراد بالثالث : ما يكون صدور الفعل منه منوطاً بعلمه وقدرته وإرادته ، فهذه الصفات مصحِّحات فاعليته بالفعل». إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ المراد من انتهاء الفعل إلى إرادة الباري تعالى ان كان انتهاء إرادة العبد ـ لإمكانها ـ إلى إرادة الله عزوجل فلا يضرّ ذلك بالفاعلية التي هي شأن الممكنات ، إذ العبد بذاته وصفاته وأفعاله لا وجود له إلّا بإفاضة الوجود من الباري تعالى ، لأنّه

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مفيض الوجود ، دون الممكن الّذي هو مجرى فيض الوجود كما تقدم ، ويستحيل أن يكون الممكن المحتاج إلى الوجود مفيضاً للوجود ، فلا منافاة بين انتهاء إرادته ـ لإمكانها ـ إلى إرادته سبحانه وتعالى ، وبين كون فعله اختياريا له مع فرض علمه وقدرته وإرادته.

وإن كان المراد من الانتهاء : انتهاء الإرادة إلى الباري عزوجل على حدّ انتهاء الفعل إلى فاعل ما به الوجود حتى يلزم الجبر ، فهو مستحيل في حقه تعالى ، لما مر آنفاً من إباء صرافة وجوده عن الاتحاد مع الممكنات.

والحاصل : أنّ الانتهاء إلى فاعل ما منه الوجود لازم لا أنّه ضائر ، لأنّه تعالى مفيض الوجود ومعطيه ، فوجود كل ممكن منه عزوجل فهذا الانتهاء ضروري ، ولكن لا يلزم منه الجبر ، إذ الّذي يتوقف عليه الجبر هو انتهاء الفعل إليه تعالى انتهاءه إلى ما به الوجود ، لكنه مستحيل في حقه تعالى ، لما عرفت.

وبالجملة : فالانتهاء المتحقق لازم وغير ضائر ، والانتهاء الضائر المثبت للجبر غير متحقق ، هذا ما يتعلق بإرادته سبحانه وتعالى.

وأمّا إرادة نفس العبد فلا توجب الجبر أيضا ، لعدم كونها علة تامة لوجود الفعل في الخارج بحيث يصير العبد مسلوب الاختيار ، كما يشهد به الوجدان السليم ، حيث إنّ الإرادة المفسّرة بالشوق المؤكد لا تسلب الاختيار ، بل هو مع هذا الشوق يقدر على كل من الفعل والترك ، ولا يصير الفعل به ضروري الوجود ، غاية الأمر أنّ الشوق المؤكّد يكون داعياً إلى اختيار الفعل وترجيحه على الترك ، بل يشهد بذلك البرهان أيضا ، لتخلف الإرادة عن المراد أحياناً ، كما إذا لم يكن

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إرادة للعبد ، ومع ذلك يوجد الفعل كراهة ، لخوف أو اضطرار أو نحوهما ، فإنّ الشوق المؤكّد حينئذٍ مفقود ، ومع ذلك يؤتى بالفعل ، فيعلم من ذلك عدم كون الإرادة علة تامة ، وعدم توقف الفعل عليها ، لوجوده بدونها في صورة الكراهة ، وقد اتضح من هذا البيان أمران :

أحدهما : أنّه لا وجه لما عن الفلاسفة من كون مناط الفعل الاختياري هو سبقه بالإرادة المفسرة بالشوق المؤكد ، وذلك لما عرفت من صدور الفعل أحياناً من فاعل بالاختيار بدون الإرادة أصلا.

ثانيهما : أنّه لا وجه لجعل الإرادة بمعنى الشوق المؤكد علة تامة لوجود الفعل في الخارج ، لما مرّ آنفاً من قيام الوجدان والبرهان على خلافه.

(تكملة) قد عرفت أنّ الاختيار في أفعال العباد مما لا بدّ منه في صحة التكليف ، وإلّا يلزم الظلم ، ضرورة أنّ العقاب على فعل غير اختياري قبيح عقلا ، لكونه ظلماً لا يصدر عن الحكيم ، فلو كان هناك ما يكون ظاهراً في الجبر أو موهماً له فلا بد من تأويله أو طرحه أو حمله على التقية ، ولمّا كان هناك روايات توهم دلالتها على الجبر ، فلا بأس بالتعرض الإجمالي لها فنقول مستعيناً به تعالى ومتوسلا بوليّه صلى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وعجل فرجه وأدرك بنا أيامه :

إنّ الروايات المشار إليها تشتمل على ثلاثة عناوين :

أحدها : عنوان القضاء والقدر.

ثانيها : عنوان المشية.

ثالثها : عنوان الفطرة والطينة ، فهنا مقامات ثلاثة :

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

(الأوّل) في روايات العنوان الأوّل ، وهي بين مطلقة ومجملة ومبينة ، وحيث إنّ المدار على المبينة فلا جدوى في تعرض الأُوليين ، لاشتمال الثالثة على نفس لفظي القضاء والقدر مع تفسيرهما ، ونقتصر من هذه الطائفة الثالثة على رواية واحدة ، لوفائها بالمرام ، وهي ما نقله الوافي عن الكافي مرفوعاً ، وعن الصدوق عليه الرحمة في التوحيد مسنداً ـ هكذا ـ : «أحمد بن عمران الدقاق عن محمد بن الحسن الطائي عن سهل عن علي بن جعفر الكوفي ، قال : سمعت سيدي علي بن محمد عليهما‌السلام يقول : حدثني أبي محمد بن علي عن أبيه الرضا عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه الحسين عليهم‌السلام» ومتن الرواية في الكافي على ما في الوافي هو هذا : «كان أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسّلام جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أبقضاء من الله وقدره؟ فقال له : أمير المؤمنين عليه‌السلام : أجل! يا شيخ : ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدره ، فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين ، فقال له : مه يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيءٍ من حالاتكم مكرهين ، ولا إليه مضطرين ، فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيءٍ من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين؟ وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ، فقال له : وتظن أنّه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً ، انّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي ، والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لأئمة

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للمذنب ، ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان ، وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان ، وقدريّة هذه الأُمة ومجوسها ، إنّ الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُطع مكرهاً ، ولم يُملّك مفوضاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ، وذلك ظنّ الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار ، فأنشأ الشيخ يقول :

أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً

جزاك ربك بالإحسان إحسانا

تقريب دلالة هذا الخبر على الجبر هو : ظهور قول السائل : «عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين» في ذلك ، حيث إنّه ـ بعد بيان الإمام عليه‌السلام : «انّ مسيرنا إلى أهل الشام كان بقضاء الله تعالى وقدره» ـ استبعد استحقاق الأجر ، ولذا قال عليه الصلاة والسّلام له : «مه يا شيخ ... إلخ» وكذا قوله : «وكيف لم نكن في شيءٍ من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا .. إلخ» فإنّه كالصريح في اعتقاده الجبر بعد كون مسيرهم بالقضاء والقدر ، ولذا أجابه أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : «وتظن أنّه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً ... إلخ» والّذي يستفاد منه أُمور :

الأوّل : انقسام القضاء والقدر إلى حتميين وغير حتميين ، وأنّ الموجب للجبر واضطرار العباد في أفعالهم ليس إلّا القسم الأوّل ، ثم بيّن عليه‌السلام مفاسده

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من استلزامه لبطلان الثواب والعقاب والأمر والنهي ... إلخ ، ففسّر عليه‌السلام القضاء والقدر ـ اللّذين كانا في المسير إلى الشام ـ بأنّهما لم يكونا من القسم الحتمي ، لأنّ الحتمي يوجب بطلان التكليف والبعث والزجر والثواب والعقاب.

فالمتحصل : ثبوت الملازمة بين القضاء الحتمي وبين ارتفاع الاختيار المبطل للتكليف والثواب والعقاب.

الثاني : بقاء التكليف والاختيار وعدم الاضطرار مع القضاء غير الحتمي ، لعدم كونه رافعا للقدرة والاختيار.

الثالث : عدم تمليكه العباد بحيث ينافي سلطانه عظمت كبرياؤه كما هو مذهب المفوضة ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «ولم يملك مفوضا» صريح في نفي التفويض.

الرابع : أنّ الجبر يستلزم أولوية المذنب بالإحسان من المحسن ، لأنّه لا يرضى بالذنب والمخالفة ، وأولوية المحسن بالعقوبة من المسيء ، لأنّه لا يرضى بالإحسان والموافقة.

وبالجملة : فجبر المسيء على الإساءة يستلزم إحسانا في مقابله ، وجبر المحسن على الإحسان مع عدم رضاه به يوجب عقابا. وهذا الوجه هو ما أفاده في الوافي ، وقد وجهه غيره بتوجيهات أخر تركنا التعرض لها خوفا من الإطالة المنافية لوضع التعليقة. وقوله عليه‌السلام : «وقدرية هذه الأمة ومجوسها» إشارة إلى النبوي المشهور : «القدرية مجوس هذه الأمة» ووجه تسميتهم بالمجوس هو مشاركتهم للمجوس في سلب الفعل عن العبد ، فإنّ المجوس يسندون الخيرات إلى الله تعالى والشرور إلى إبليس لعنه الله. وكيف كان فالخبر المزبور أوضح

٤١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المراد بالقضاء والقدر ، فيحمل غيره من الأخبار المطلقة والمجملة عليه ، كما يحمل لأجله ما دلّ على استحالة تخلُّف الكائنات عما قضى عليه ، كرواية الدقاق المحكية عن البحار الدالة على أنّه إذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء ، وغيرها من الروايات التي تدل على تبعية المقضي عليه للقضاء بنحو الاستلزام على القضاء والقدر الحتميين.

والحاصل : أنّ معنى القضاء والقدر في مورد البحث هو غير الحتميين كما دلّ عليه الخبر المبسوط المتقدم ، لأنّه قرينة على إرادة المعنى المذكور من سائر الروايات أيضا ، ومع الغض عن قرينيته لا ظهور للفظ القضاء فيما أراده الجبري مع كثرة المعاني التي استعمل فيها خصوصا في القرآن الكريم ، فإنّ مادة القضاء بتصاريفها المتشتتة قد وردت فيه وأريد بها معان متعددة :

منها : قوله تعالى في سورة يوسف الآية (٦٨) : «إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها». فإن معناه كما في تفسير مجمع البيان هو الإزالة ، أي : أزال به اضطراب قلبه ، وجعله بمعنى العلم كما عن بعض الأعلام لم يظهر له مأخذ.

ومنها : قوله تعالى في سورة الحجر الآية (٦٦) : «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ» ، فإنّ معناه كما في مجمع البيان هو الإعلام ، يعني : أعلمنا لوطا وأخبرناه وأوحينا إليه ما تنزل به من العذاب.

ومنها : قوله تعالى في سورة يونس الآية (٩٣) : «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» فإنّ معناه الحكم ، وبهذا المعنى ورد في موارد عديدة من القرآن المجيد ، كقوله تعالى في سورة النمل الآية (٨٠) : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ

٤١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بِحُكْمِهِ) ، وكقوله تعالى في سورة إسرائيل الآية (٢٤) : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» على قول يأتي ، وكقوله تعالى في سورة النساء الآية (٦٨) : «ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ» ، بل وروده بهذا المعنى في القرآن المجيد أكثر من غيره كما لا يخفى على من لاحظ ذلك.

ومنها : قوله تعالى في سورة المؤمن الآية (٢٢) : «وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» ، والمراد به الفصل كما في مجمع البيان ، ويمكن إرجاع ما عن بعض الأعلام ـ من كون معناه هنا هو القول ـ إليه.

ومنها : قوله تعالى في سورة السبإ الآية (١٤) : «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ» ، قال في مجمع البيان : «فلما حكمنا على سليمان بالموت ، وقيل : معناه أوجبنا على سليمان الموت» انتهى ، وجعله بعض الأعلام بمعنى الحتم ، ويمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر.

ومنها : قوله تعالى في سورة إسرائيل الآية (٢٤) «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» قال في مجمع البيان : «أي أمر ربك أمرا باتا ، عن ابن عباس والحسن وقتادة ، وقيل : ألزم وأوجب ربك ، عن الربيع بن أنس ، وقيل : أوصى عن مجاهد».

ومنها : قوله تعالى في سورة حم السجدة الآية (١١) : «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ» قال في مجمع البيان : «أي صنعهن وأحكمهن وفرغ من خلقهن» انتهى ، فالمراد بالقضاء حينئذ هو الخلق.

ومنها : قوله تعالى في سورة طه الآية (٧٦) : «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ»

٤١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والخطاب لفرعون أي : فاصنع ما أنت صانعه على إتمام وإحكام ، وقيل : معناه فاحكم ما أنت حاكم.

ومنها : قوله تعالى في سورة القصص الآية (٣٠) : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي أوفاه وأتمه ، وكذا ـ قضيت ـ فيما قبله «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ».

ومنها : قوله تعالى في سورة البقرة الآية (٢٧) : «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» قال في مجمع البيان في تفسير ـ قضي ـ : «معناه فرغ من الأمر وهو المحاسبة وإنزال أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار» انتهى ، فالمراد بالقضاء هنا الفراغ ، وكذا في قوله تعالى في سورة يوسف على نبينا وآله وعليه‌السلام الآية (٤٢) : «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» قال في مجمع البيان : «أي فرغ من الأمر الّذي تسألان» انتهى. والغرض من ذكر معاني القضاء في القرآن الكريم هو : أنّه مع كثرتها والإغماض عن قرينية مثل الرواية المزبورة على إرادة القضاء غير الحتمي في أفعال العباد لا محيص عن التوقف ، لإجمال معنى القضاء ، فروايات القضاء لا يظهر منها جبر أصلا ، إذ مع النّظر إلى القرينة المزبورة يراد به القضاء غير الحتمي الّذي قد مرّ عدم إيجابه للجبر.

ومع الغض عنها يكون مجملا ، ولا يستفاد منه شيء ، فلا يصح الاستدلال بتلك الروايات على الجبر وارتفاع الاختيار عن العبد في أفعاله ، ولو سلم عدم الإجمال ، فلا يصح الاستدلال به أيضا ، لأنّه إن كان بمعنى العلم فليس علة حتى

٤١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يكون علمه تعالى بفعل العبد موجبا للجبر ، مثلا علم زيد بمسافرة عمرو باختياره في الغد لا يوجب اضطرار عمرو إلى المسافرة ، وكذا الحال في الإعلام ، لوضوح أنّ الإخبار بفعل الغير الصادر عن فاعله بإرادته واختياره لا يرفع الاختيار حتى يلزم الجبر.

وإن كان بمعنى الحكم والأمر ، فلأنّه إن أريد بهما الأمر والنهي المصطلحان ، فلا يستلزمان الجبر أيضا ، وإلّا لم يقدر الكفار والفساق على المخالفة. وإن أريد بهما غير الأمر والنهي المصطلحين ، فإن كان المراد به الحتم فسيأتي الكلام فيه ، وإن كان غيره فلا بد من بيانه والنّظر فيه.

وأمّا الحتم والخلق والفعل وغيرها مما هو ظاهر في الجبر ، فالجواب العام عنها هو : أنّها محفوفة بالقرينة الصارفة لها عن ظاهرها ، وهي حكم العقل بعدم اضطرار العباد إلى أفعالهم وتروكهم. وهذا الحكم العقلي كالقرينة المتصلة اللفظية المانعة عن انعقاد ظهورها فيما يوجب الإلجاء والاضطرار من لفظ القضاء.

(المقام الثاني) في روايات العنوان الثاني وهي المشية ، والمراد بها عند أهل اللغة والفلسفة هي الإرادة ، وقد يفرق بينهما : بأنّ معناها التقدير إن أسندت إلى الله تعالى ، والإرادة إن أسندت إلى العبد ، وعلى كل حال ، فقد اتفق المسلمون بل أكثر الملّيين على أنّها من صفات الله تعالى شأنه وإن اختلفوا في كونها من الصفات الذاتيّة كالعلم والقدرة ، أو من الصفات الفعلية كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتكلم ، فذهبت الفلاسفة إلى أنّها من الصفات الذاتيّة ، لكن الحق

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أنّها من الصفات الفعلية ، لتعلق قدرته تعالى بها ، ضرورة أنّه جلّ وعلا قادر على أن يشاء وأن لا يشاء ، كما يدلّ عليه ما رواه في البحار عن المحاسن عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المشية محدثة» ، بخلاف العلم ونفس القدرة ، فإنّهما ليسا كذلك. وكيف كان ، فالروايات الواردة في المشية وان كانت كثيرة جدا ، إلّا أنّ في نقل إحداها كفاية ، وهي ما رواه في البحار عن المحاسن بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بهذه الخصال السبع بمشية وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة منهن فقد كفر» ، ومشيته تعالى تقتضي وجود الشيء كما استدلّ على ذلك بعض الأفاضل على ما في فروق اللغات لجدنا السيد الأجل شيخ مشايخ الإسلام السيد نور الدين نجل العلامة المحدث الجزائري (قدهما) بقوله تعالى : (ما شاءَ اللهُ) كان» وعلى مغايرة الإرادة للمشية بقوله تعالى : «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وبقوله تعالى : «وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ» إذ من المعلوم حصول العسر والظلم بين الناس الدال على أنّ الإرادة لا تقتضي وجود المراد انتهى ملخصا. وكيف كان فالمشية منه تبارك وتعالى المتعلقة بالموجودات هي إفاضة الوجود عليها ، وإنفاذ فياضيته التامة فيها ، فكل موجود ينتهي وجوده إليه تعالى شأنه ، وهذا الانتهاء يكون على نحوين :

أحدهما : انتهاء الموجود بنفسه إلى إعمال قدرته كالذوات على اختلافها وكثرتها ، والعلائق الكونية كعلاقة العلية والمعلولية ، وعلاقة الغايات بالمغياة والمواد والصور وغيرها مما صيّر العالم متكوّنا بها ، فإنّ هذه كلّها أفعاله سبحانه

٤٢٠