الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

أجفانُها مقروحةٌ ودموعُها

مسفوحةٌ والصبرُ منها جامحُ

تهوى لتقبيلِ القتيلِ تضمُّه

بفتيلِ مِعجرِها الدماءُ نَواضحُ (١)

تحنو على النحر الخضيب وتلثمُ

الثغر التريب لها فؤادٌ قادحُ

أسفي على حرَمِ النبوّةِ جئن مط

روحاً هنالك بالعتاب تطارحُ (٢)

يندبن بدراً غاب في فلَكِ الثرى

وهزبرَ غابٍ غيّبتهُ ضرائحُ

هذي أخي تدعو وهذي يا أبي

تشكو وليس لها وليٌّ ناصحُ

والطهرُ مشغولٌ بكربِ الموتِ من

ردِّ الجوابِ وللمنيّةِ شابحُ (٣)

ولفاطم الصغرى نحيبٌ مقرحٌ

يذكي الجوانحَ للجوارحِ جارحُ

عِلجٌ يعالجُها لسلبِ حليِّها

فتظلُّ في جهدِ العفافِ تطارحُ (٤)

بالردنِ تسترُ وجهَها وتمانع ال

ملعون عن نهبِ الرِّدا وتكافحُ

تستصرخُ المولى الإمامَ وجدَّها

وفؤادُها بعد المسرّةِ نازحُ

يا جدُّ قد بلغَ العدى ما أمّلوا

فينا وقد شمتَ العدوُّ الكاشحُ

يا جدُّ غابَ وليُّنا وحميُّنا

وكفيلُنا ونصيرُنا والناصحُ

ضيّعتمونا والوصايا ضُيِّعت

فينا وسهمُ الحورِ سارٍ سارحُ

يا فاطمَ الزهراءَ قومي وانظري

وجهَ الحسينِ له الصعيدُ مصافحُ

أكفانه نسجُ الغبار وغُسلُه

بدمِ الوريدِ ولم تنحْهُ نوائحُ

وشبوله نهبُ السيوفِ تزورُها

بين الطفوفِ فراعلٌ وجوارحُ (٥)

__________________

(١) المِعجر والعجار : ثوب تلفّه المرأة على استدارة رأسها.

(٢) تطارح : تجاوب. (المؤلف)

(٣) الشابح من شبح شبحاً الجلد : مدّه بين أوتاد ، [ شبح ] الرجل : مدّه كالمصلوب. (المؤلف)

(٤) تطارح : تباعد. (المؤلف)

(٥) فراعل جمع الفرعل : ولد الضبع. الجوارح جمع الجارحة : ذات الصيد من السباع والطير والكلاب. (المؤلف)

٨١

وعلى السنانِ سنانٌ رافعٌ رأسَهُ

ولجسمِه خيلُ العداةِ روامحُ (١)

والوحشُ يندبُ وحشةً لفراقِهِ

والجنُّ إن جنَّ الظلامُ نوائحُ

والأرضُ ترجفُ والسماءُ لأجلِه

تبكي معاً والطيرُ غادٍ رائحُ

والدهر من عظم الشجى شقّ الردا

أسفاً عليه وفاضَ جفنٌ دالحُ (٢)

يا للرجالِ لظلمِ آلِ محمدٍ

ولأجل ثارهمُ وأين الكادحُ (٣)

يضحى الحسينُ بكربلاءَ مرمّلاً

عريانَ تكسوه الترابُ صحاصحُ (٤)

وعيالُه فيها حيارى حسّرٌ

للذلِّ في أشخاصِهنَّ ملامحُ (٥)

يُسرى بهم أسرى إلى شرِّ الورى

من فوق أقتابِ الجمالِ مضايحُ (٦)

ويُقاد زين العابدين مغلّلاً

بالقيدِ لم يُشفِقْ عليه مسامحُ

ما يكشف الغمّاء إلاّ نفحةٌ

يُحيي بها الموتى نسيمٌ نافحُ

نبويّةٌ علويّةٌ مهديّةٌ

يشفى بريّاها العليلُ البارحُ

يضحى مناديها ينادي يا لثا

راتِ الحسينِ وذاك يومٌ فارحُ

والجنُّ والأملاكُ حول لوائِه

والرعبُ يقدمُ والحتوفُ تُناوحُ (٧)

و... و... في جذعيهما

خفضاً ونصب الصلب رفع فاتحُ

و... و... والإثم وال

عدوان في ذلِّ الهوانِ شوائحُ

لعنوا بما اقترفوا وكلُّ جريمةٍ

شبّت لها منهم زنادٌ قادحُ

__________________

(١) روامح من رمحته الدابّة : رفسته. (المؤلف)

(٢) الدالح : الكثير الماء. (المؤلف)

(٣) الكادح : الذي جهد نفسه في العمل. (المؤلف)

(٤) صحاصح جمع الصحصح : الأرض الجرداء المستوية ذات حصى صغار. (المؤلف)

(٥) الملاح : ما بدا من محاسن الوجه ومساويه. (المؤلف)

(٦) المضايح : المقالي والمخاصم. (المؤلف)

(٧) تناوح : تقابل. (المؤلف)

٨٢

يا ابن النبيِّ صبابتي لا تنقضي

كمداً وحزني في الجوانح جانحُ (١)

أبكيكمُ بمدامعٍ تترى إذا

بخلَ السحابُ لها انصبابٌ سافحُ

فاستجلِ من مولاك عبد ولاك من

لولاك ما جادت عليه قرائحُ

برسيّةً كملتْ عقودُ نظامِها

حلّيةً ولها البديعُ وشائحُ (٢)

مدّتْ إليك يداً وأنت منيلُها

يا ابن النبيِّ وعن خطاها صافحُ

يرجو بها (رجبُ) القبولَ إذا أتى

وهو الذي بك واثقٌ لك مادحُ

أنت المعاذُ لدى المعادِ وأنت لي

إن ضاق بي رَحبُ البلادِ الفاسحُ

صلّى عليك اللهُ ما سكبَ الحيا

دمعاً وما هبَّ النسيمُ الفائحُ

وله في رثاء الإمام السبط صلوات الله عليه قوله :

ما هاجني ذكرُ ذاتِ البانِ والعلمِ

ولا السلامُ على سلمى بذي سلمِ

ولا صبوتُ لصبٍّ صابَ مدمعُه

من الصبابةِ صبَّ الوابلِ الرزمِ (٣)

ولا على طللٍ يوماً أطلتُ بهِ

مخاطباً لأُهيل الحيِّ والخيمِ

ولا تمسّكتُ بالحادي وقلت له

إن جئتَ سلعاً فسل عن جيرةِ العلمِ (٤)

لكن تذكّرتُ مولاي الحسينَ وقد

أضحى بكربِ البلا في كربلاءَ ظمي

ففاضَ صبري وفاض الدمعُ وابت

عد الرّقاد واقترب السهاد بالسقمِ

وهامَ إذ هَمتِ العبراتُ من عدمٍ (٥)

قلبي ولم أستطعْ مع ذاك منعَ دمي

__________________

(١) الجوانح : الضلوع تحت الترائب ممّا يلي الصدر. الجانح من جنحت السفينة : لزقت بالأرض فلم تمض. (المؤلف)

(٢) وشائح جمع وشاح : شبه قلادة يرصّع بالجوهر تشدّه المرأة بين عاتقها وكشحيها. (المؤلف)

(٣) صبوت من صبا يصبو : حنّ. الصبّ : العاشق. الصبابة : الشوق ورقة الهوى. الوابل : المطر الشديد. الرزم : الذي لا ينقطع رعده. (المؤلف)

(٤) مطلع بديعية صفيّ الدين الحلّي. راجع : ٦ / ٤٤. (المؤلف)

(٥) همت من همى يهمي همياً : سال لا يثنيه شيء. (المؤلف)

٨٣

لم أنسَهُ وجيوشُ الكفرِ جائشةٌ

والجيشُ في أملٍ والدينُ في ألمِ

تطوفُ بالطفِّ فرسانُ الضلالِ به

والحقُّ يسمعُ والأسماعُ في صممِ

وللمنايا بفرسانِ المنى عجلٌ

والموتُ يسعى على ساقٍ بلا قدمِ

مسائلاً ودموعُ العينِ سائلةٌ

وهو العليمُ بعلمِ اللوحِ والقلمِ

ما اسم هذا الثرى يا قومُ فابتدروا

بقولِهم يوصلونَ الكلمَ بالكلمِ

بكربلا هذه تُدعى فقال أجل

آجالُنا بين تلك الهضبِ والأكمِ

حطّوا الرحالَ فحال الموتُ حلَّ بنا

دون البقاءِ وغير الله لم يدمِ

يا للرجالِ لخطبٍ حلَّ مخترم ال

آجالِ معتدياً في الأشهرِ الحرمِ

فها هنا تصبحُ الأكبادُ من ظمأ

حرّى وأجسادُها تروى بفيض دمِ

وهاهنا تصبحُ الأقمارُ آفلةً

والشمسُ في طَفَلٍ والبدرُ في ظُلَمِ

وهاهنا تملكُ الساداتِ أعبدُها

ظلماً ومخدومُها في قبضةِ الخدمِ

وهاهنا تصبحُ الأجسادُ ثاويةً

على الثرى مَطعماً للبوم والرخمِ (١)

وهاهنا بعد بُعد الدار مدفنُنا

وموعدُ الخصمِ عند الواحدِ الحكمِ

وصاح بالصحبِ هذا الموتُ فابتدروا

أُسداً فرائسُها الآسادُ في الأجَمِ

من كل أبيضَ وضّاحِ الجبينِ فتىً

يغشي صلى الحربِ لا يخشى من الضرمِ

من كلِّ منتدبٍ لله محتسبٍ

في اللهِ مُنتجبٍ باللهِ مُعتصمِ

وكلِّ مصطلِمِ الأبطالِ مصطلمِ ال

آجال مُلتمسِ الآمالِ مُستلمِ

وراح ثَمّ جوادُ السبطِ يندبُه

عالي الصهيلِ خليّا طالبَ الخيمِ

فمذ رأته النساءُ الطاهراتُ بدا

يكادمُ (٢) الأرضَ في خدٍّ له وفمِ

برزن نادبةً حسرى وثاكلةً

عبرى ومعلولةً بالمدمعِ السجمِ

__________________

(١) البوم : طائر يسكن الخراب. الرخم : طائر من الجوارح الكبيرة الجثة الوحشية الطباع. (المؤلف)

(٢) يكادم : يعضّ. (المؤلف)

٨٤

فجئن والسبطُ ملقىً بالنصالِ أبت

من كفّ مُستلمٍ أو ثغرِ ملتثمِ

والشمرُ ينحرُ منه النحرَ من حنقٍ

والأرضُ ترجفُ خوفاً من فعالهمِ

فتستر الوجهَ في كمٍّ عقيلتُه

وتنحني فوقَ قلبٍ والهٍ كلمِ (١)

تدعو أخاها الغريبَ المستضامَ أخي

يا ليت طرفَ المنايا عن علاك عمي

من اتّكلتَ عليه في النساء ومن

أوصيت فينا ومن يحنو على الحرمِ

هذي سكينةُ قد عزّتْ سكينتُها

وهذه فاطمٌ تبكي بفيض دمِ

تهوي لتقبيلِهِ والدمعُ منهمرٌ

والسبطُ عنها بكربِ الموتِ في غممِ (٢)

فيمنع الدمُ والنصلُ الكسيرُ به

عنها فتنصلُّ لم تبرح ولم ترمِ

تضمُّه نحوها شوقاً وتلثمُه

ويخضبُ النحرُ منه صدرَها بدمِ

تقول من عظمِ شكواها ولوعتِها

وحزنُها غيرمنقضٍ ومنفصمِ

أخي لقد كنتَ نوراً يستضاءُ به

فما لنور الهدى والدين في ظلمِ

أخي لقد كنتَ غوثاً للأراملِ يا

غوثَ اليتامى وبحرَ الجودِ والكرمِ

يا كافلي هل ترى الأيتامَ بعدَكَ في

أسر المذلّةِ والأوصابِ (٣) والألمِ

يا واحدي يا ابن أُمِّي يا حسينُ لقد

نال العدى ما تمنّوا من طلابهم

وبرّدوا غلل الأحقادِ من ضغنٍ

وأظهروا ما تخفّى في صدورهم

أين الشفيقُ وقد بان الشقيقُ وقد

جار الرفيقُ ولجُّ الدهر في الأزمِ (٤)

مات الكفيلُ وغابَ الليثُ فابتدرتْ

عُرْجُ الضباعِ على الأشبال في نهمِ

وتستغيثُ رسولَ اللهِ صارخةً

يا جدُّ أين الوصايا في ذوي الرحمِ

__________________

(١) الكلم ، من كلمه كلماً : جرحه. (المؤلف)

(٢) غُمَم بضمّ المعجمة جمع الغمّة : الحيرة واللبس. (المؤلف)

(٣) الأوصاب جمع الوصب راجع : ص ٥٥. (المؤلف)

(٤) الأزم : من أزم الدهر القوم : استأصلهم. وأزم بصاحبه : لزم. وأزم الحبل : أحكم فعله. والأزم جمع الأزمة : الشدّة. (المؤلف)

٨٥

يا جدُّ لو نظرتْ عيناك من حزنٍ

للعترةِ الغرِّ بعد الصونِ والحشمِ

مشرّدين عن الأوطانِ قد قهروا

ثكلى أسارى حيارى ضُرِّجوا بدمِ

يُسرى بهنَّ سبايا بعد عزِّهمُ

فوق المطايا كَسَبي الرومِ والخدمِ

هذا بقيّةُ آلِ الله سيّدُ أه

ل الأرضِ زينُ عبادِ اللهِ كلِّهم

نجلُ الحسينِ الفتى الباقي ووارثُه

والسيّدُ العابدُ السجّادُ في الظلمِ

يُساق في الأسر نحو الشام مهتضماً

بين الأعادي فمن باكٍ ومبتسمِ

أين النبيُّ وثغرُ السبطِ يقرعُه

يزيدُ بغضاً لخيرِ الخلق كلّهم

أينكتُ الرجسُ ثغراً كان قبّلَهُ

من حبِّه الطهرُ خيرُ العربِ والعجمِ

ويدّعي بعدها الإسلامَ من سفهٍ

وكان أكفرَ من عادٍ ومن ارمِ

يا ويلَهُ حين تأتي الطُهرُ فاطمةٌ

في الحشرِ صارخةً في موقفِ الأممِ

تأتي فيُطرقُ أهلُ الجمعِ أجمعُهمْ

منها حياءً ووجهُ الأرض في قتمِ (١)

وتشتكي عن يمينِ العرشِ صارخةً

وتستغيثُ إلى الجبّارِ ذي النقمِ

هناك يظهرُ حكمُ اللهِ في ملاً

عصَوا وخانوا فيا سحقاً لفعلهم

وفي يديها قميصٌ للحسينِ غدا

مضمّخاً بدمٍ قرناً إلى قَدمِ

أيا بني الوحيِ والذكرِ الحكيمِ ومن

ولاهمُ أملي والبرءُ من ألمي

حزني لكم أبداً لا ينقضي كمداً

حتى المماتِ وردِّ الروحِ في رممِ

حتى تعود إليكم دولةٌ وُعدِتْ

مهدّيةً تملأُ الأقطارَ بالنعمِ

فليس للدين من حامٍ ومُنتصرٍ

إلاّ الإمامُ الفتى الكشّافُ للظلمِ

القائمُ الخلفُ المهديُّ سيّدُنا

الطاهرُ العلمُ ابنُ الطاهرِ العلمِ

بدرُ الغياهبِ تيّارُ المواهبِ مَن

 ـ صورُ الكتائبِ حامي الحلِّ والحرَمِ (٢)

__________________

(١) الأقتم : الذي يعلوه سواد ليس بالشديد ، وقيل : هو الذي فيه حمرة وغبرة.

(٢) الغياهب جمع الغيهب : الظلمة ، الشديد السواد من الليل. التيّار : موج البحر الهائج. الكتائب جمع الكتيبة : القطعة من الجيش أو الجماعة من الخيل. (المؤلف)

٨٦

يا ابن الإمامِ الزكيّ العسكريّ فتى ال

هادي التقيّ عليِّ الطاهرِ الشيمِ

يا ابن الجوادِ ويا نجل الرضاءِ ويا

سليلَ كاظم غيظٍ مَنبعِ الكرمِ

خليفةَ الصادقِ المولى الذي ظهرت

علومُه فأنارتْ غيهبَ الظلَمِ

خليفةَ الباقرِ المولى خليفةَ زي

ن العابدين عليٍّ طيِّب الخيمِ

نجلَ الحسينِ شهيدِ الطفِّ سيّدِنا

وحبّذا مفخرٌ يعلو على الأممِ

نجلَ الحسينِ سليلَ الطُهرِ فاطمةٍ

وابن الوصيّ عليٍّ كاسِر الصنمِ (١)

يا بنَ النبيِّ ويا ابن الطُهرِ حيدرةٍ

يا ابن البتولِ ويا ابن الحلِّ والحرمِ

أنت الفخارُ ومعناه وصورتُه

ونقطةُ الحكمِ لا بل خطّةُ الحكمِ

أيّامُكَ البيضُ خضرٌ فهي خاتمةُ

الدنيا وختمُ سعودِ الدينِ والأممِ

متى نراك فلا ظلمٌ ولا ظُلَمُ

والدينُ في رغَدٍ والكفرُ في رغمِ

أقبل فسبلُ الهدى والدينِ قد طمستْ

ومسَّها نصَبٌ والحقُّ في عدمِ

يا آلَ طه ومن حبّي لهم شرفٌ

أعدُّه في الورى من أعظمِ النعمِ

إليكمُ مِدحةً جاءت منظّمةً

ميمونةً صغتُها من جوهرِ الكلمِ

بسيطةً إن شذَتْ أو أُنشدَتْ عطرتْ

بمدحِكمْ كبساطِ الزهرِ منخرمِ

بكراً عروساً ثكولاً زفّها حزنٌ

على المنابرِ غيرَ الدمعِ لم تسمِ

يرجو بها (رجبٌ) رحبَ المقامِ غداً

بعد العناءِ غناءً غيرَ منهدمِ

يا سادةَ الحقِّ ما لي غيرَكم أملٌ

وحبُّكم عدّتي والمدحُ معتصمي

ما قدرُ مدحيَ والرحمنُ مادحُكمْ

في هل أتى قد أتى مع نون والقلمِ

حاشاكم تحرموا الراجي مكارمَكمْ

ويرجعُ الجارُ عنكم غيرَ محترمِ

أو يختشي الزلّةَ (البرسيُّ) وهو يرى

ولاكمُ فوق ذي القربى وذي الرحمِ

إليكمُ تحفُ التسليمِ واصلةٌ

ومنكمُ وبكم أنجو من النقمِ

صلّى الإلهُ عليكم ما بدا نسمٌ (٢)

وما أتت نسماتُ الصبحِ في الحرمِ

__________________

(١) راجع من هذا الجزء : ص ٩ ـ ١٣. (المؤلف)

(٢) نسم جمع النسمة : الإنسان أو كلّ دابة فيها روح. (المؤلف)

٨٧

وله قوله :

أما والذي لِدَمي حلّلا

وخصَّ أُهيل الولا بالبلا

لئن أُسقَ فيه كؤوسَ الحمامِ

لما قال قلبي لساقيه لا

فموتي حياتي وفي حبِّهِ

يلذُّ افتضاحيَ بين الملا

فمن يسلُ عنه فإنَّ الفؤا

دَ تسلّى وما قطُّ آناً سلا

مضت سنّةُ اللهِ في خلقِهِ

بأنَّ المحبَّ هو المبتلى

وله قوله :

لقد أظهرتَ يا حاف

ظُ سرّا كان مخفيّا

وأبرزتَ من الأنوا

رِ نوراً كان مطويّا

به قد صرت عند الله

والساداتِ علويّا

ومقبولاً ومسعوداً

ومحسوداً ومرضيّا

فطبْ نفساً وعِشْ فرداً

وكن طيراً سماويّا

غريباً يألف الخلو

ةَ لا يقربُ إنسيّا

غدا في الناس بالخلو

ةِ والوحدة منسيّا

وإن أصبحت مرفوضاً

بسهمِ البغض مرميّا

فلم يبغضك إلاّ من

أبوه الزنجُ بصريّا (١)

عمانيّا مراديّا

مجوسيّا يهوديّا

لهذا قد غدا يبغ

 ـ ض ذاك الطينَ كوفيّا

وفي المولدِ والمحت

 ـ د برسيّا وحلّيا

وله في الغزل قوله :

لقد شاع عنّي حبُّ ليلى وإنَّني

كلفتُ بها عشقاً وهمتُ بها وجدا

__________________

(١) كذا.

٨٨

وأصبحت أُدعى سيّداً بين قومِها

كما أنَّني أصبحتُ فيهم لها عبدا

ألاقي الورى في حبِّها في تنكّرٍ

فذا مانحٌ صدّا وذا صاعرٌ خدّا

وذا عابسٌ وجهاً يطوِّل أنفَهُ

عليَّ كأنّي قد قتلتُ له ولدا

ولا ذنبَ لي في هجرِهم لي وهجرهم

سوى أنَّني أصبحتُ في حبِّها فردا

ولو عرفوا ما قد عرفتُ ويمّموا

حماها كما يمّمتُه أعذروا حدّا

وظنّوا وبعضُ الظنِّ إثمٌ وشنّعوا

بأنّ امتداحي جاوزَ الحدَّ والعدّا

فو اللهِ ما وصفي لها جاز حدَّهُ

ولكنّها في الحسنِ قد جازت الحدّا

هذه جملة ما وقفنا عليه من شعر شيخِنا الحافظ البرسي وهي (٥٤٠) بيتاً ، ولا يوجد فيها كما ترى شيء ممّا يرمى به من الارتفاع والغلوّ ، فالأمر كما قال هو :

وظنّوا وبعض الظنِّ إثمٌ وشنّعوا

بأنَّ امتداحي جاوز الحدّ والعدّا

فو الله ما وصفي لها جاز حدّه

ولكنَّها في الحسن قد جازت الحدّا

توجد ترجمته (١) في أمل الآمل ، ورياض العلماء ، ورياض الجنّة في الروضة الرابعة ، وروضات الجنات ، وتتميم الأمل للسيّد ابن أبي شبانة ، والكنى والألقاب ، وأعيان الشيعة ، والطليعة ، والبابليات.

ولم نقف على تاريخ ولادة شاعرنا الحافظ ووفاته ، غير أنَّه أرّخ بعض تآليفه بقوله : إنَّ بين ولادة المهدي عليه‌السلام وبين تأليف هذا الكتاب خمسمائة وثمانية عشر سنة. فيوافق (٧٧٣) ، أخذاً برواية (٢٥٥) في ولادة الإمام المنصور صلوات الله عليه ، ومرَّ في تاريخ بعض كتبه أنّه أرخه ب (٨١٣) ، ولعلّه توفّي حدود هذا التاريخ والله العالم.

__________________

(١) أمل الآمل : ٢ / ١١٧ رقم ٣٢٩ ، رياض العلماء : ٢ / ٣٠٤ ، روضات الجنّات : ٣ / ٣٣٧ رقم ٣٠٢ ، الكنى والألقاب : ٢ / ١٦٦ ، أعيان الشيعة : ٦ / ٤٦٥ ـ ٤٦٨ ، البابليات : ١ / ١١٨ رقم ٤١.

٨٩
٩٠

المغالاة في الفضائل

لمّا وقع غير واحد من شعراء الغدير نظراء المترجم ـ البرسي ـ في شبك النقد والاعتراض ، ورُموا بالغلوِّ ؛ وجاء غير واحد من المؤلّفين (١) فشنَّ عليهم الغارات بالقذف والسباب المقذع فيهمّنا إيقاف الباحث على هذا المهمِّ حتى لا يستهويه اللغب والصخب ، ولا يصيخ إلى النعرات الطائفية الممقوتة ، وقول الزور ، فنقول :

الغلوّ على ما صرّح به أئمّة اللغة (٢) كالجوهري والفيّومي والراغب وغيرهم هو تجاوز الحدِّ ، ومنه غلا السعر يغلو غلاء ، وغلا الرجل غلوّا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِداتها ، قال الحرث بن خالد المخزومي :

خمصانةٌ قلقٌ موشّحُها

رَودُ الشبابِ غلا بها عظمُ

ومنه قوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تغالوا في النساء فإنَّما هنَّ سقيا الله» (٣) وقول عمر : لا تغالوا في مهور النساء (٤). والغلوُّ ممقوت لا محالة أينما كان وحيثما كان في أيِ

__________________

(١) كابن تيميّة ، وابن كثير ، والقصيمي ، وموسى جار الله. ومن لفّ لفّهم. (المؤلف)

(٢) صحاح اللغة : ٦ / ٢٤٤٨ ، المصباح المنير : ٢ / ٤٥٢ ، المفردات : ص ٣٦٤.

(٣) البيان والتبيين : ٢ / ٢١ [ ٢ / ١٩ ـ ٢٠ ]. (المؤلف)

(٤) راجع الجزء السادس من الكتاب : ص ٩٦. (المؤلف)

٩١

أمر كان ، ولا سيّما في الدين وعليه ينزّل قوله تعالى في موضعين (١) من الذكر الحكيم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) ويعني في ذلك كما ذكره المفسّرون (٢) غلوّ اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم ، وغلوّ النصارى فيه حتى جعلوه ربّا ؛ فالإفراط والتقصير كلّه سيّئة. والحسنة بين السيِّئتين كما قاله مطرف بن عبد الله ، وقال الشاعر :

وأوفِ ولا تستوفِ حقَّكَ كلَّهُ

وصافحْ فلم يستوفِ قطُّ كريمُ

ولا تغلُ في شيءٍ من الأمرِ واقتصد

كلا طرفي قصدِ الأُمور ذميمُ

وقال آخر :

عليكَ بأوساطِ الأُمور فإنَّها

نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعبا

وقال مولانا أمير المؤمنين : «إنَّ دين الله بين المقصّر والغالي فعليكم بالنمرقة الوسطى فبها يلحق المقصّر ، ويرجع إليها الغالي» (٣) غير أنّ من الواجب تعيين الحدِّ الذي لا يجوز في الدين أن يتجاوزه الإنسان لاستلزام الغلوِّ والكذب تارة ، والإغراء بالجهل أخرى ، وبخس الحقوق الواجبة آونة ، لا ما دأبت عليه أمّة من الرمي بالغلوِّ كلّ قائل ما لا يروقها ، وتحدوها العصبيّة العمياء إلى التجهّم أمام القول بما لا يلائم ذوقها ، ومن هذا الباب أكثر ما تُرمى به الشيعة الإماميّة من الغلوِّ لاعتقادهم أو روايتهم فضائل لأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد طفحت بها الصحاح والمسانيد ، وتدفّقت بنقلها الكتب والمؤلّفات ، حيث لم يُقِم من نَبزَهم به لأئمّة الهدى وزناً تقيمه الحقيقة ويقتضيه مقامهم الأسمى ، ذلك المقام الشامخ المستنبط من الكتاب والسنّة والاعتبار الصحيح والقضايا الخارجية الصادقة المتسالم عليها بين الأمّة ، لو لا أنّ هناك من يتعامى أو يتصامم عن رؤية هذه وسماع هاتيك ، أو تقصر منّته العلمية عن تحليل

__________________

(١) النساء : ١٧١ والمائدة : ٧٧.

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٢١ [ ٦ / ١٦ و ١٦٣ ]. (المؤلف)

(٣) ربيع الأبرار للزمخشري [ ٢ / ٦٣ ]. (المؤلف)

٩٢

الفلسفة الصحيحة ، أو يقصر باعه عن الإحاطة بالكائنات التاريخيّة ، من الذين استأسرهم الهوى وتدهور بهم الجهل إلى هوّة التيه والضلال ، فعدّوا من الغلوِّ الفاحش القول بعلم الغيب فيهم ، أو إخبارهم عمّا في الضمير ، أو تكلّم الموتى معهم ، أو علمهم بمنطق الطير والحيوانات ، أو إحياء الله الموتى بدعائهم ، أو استجابة دعواتهم في برء الأكمه والأبرص ، وبلّ كلّ ذي عاهة ، أو القول بالرجعة لهم ، أو ظهور كرامة لهم تخرق العادة ، أو الشخوص إلى زيارة قبورهم والتوسّل بهم ، والتبرّك بتربتهم ، والدعاء والصلاة عند مراقدهم ، أو التلهّف والتأسّف على ما انتابهم من المصائب ، إلى كثير من أمثال هذه من مبادئ تراها الشيعة في العترة الهادية من فضائلهم المدعومة بالبرهنة الصحيحة والحجج القويّة ممّا أنكرته أبناء حزم وجوزيّ وتيميّة وقيّم وكثير ومن حذا حذوهم ولفّ لفّهم.

ولعلّ لهم العذر في ذلك بأنَّ الذي يرتئونه في الخليفة لا يزيد على أنَّه رجل يقطع السارق ويقتصُّ من القاتل ، ويحفظ الثغور ، ويدحر الهرج في الأوساط ، ويجمع الفيء ويقسم ، إلى أمثال هذه ممّا هو شأن الملوك والأمراء في الأمم والأجيال ، وتُعرب عنه خطب أبي بكر وعمر لمّا استخلفا (١) ، واستخلاف عثمان ومعاوية وابنه الطاغي ، وهلمّ جرّا ، وحديث عبد الله بن عمر وحميد بن عبد الرحمن كما يأتي بيانه.

وهم لا يوجبون في الخليفة قوّةً في النفس منبعثةً عن نزاهة وقداسة وعصمة يتصرّف بها صاحبها في الكائنات كيفما اقتضته المصلحة ، ويبصر المغيَّب بعين بصيرته ، أو بنور بصره الذي لا يقلُّ عن أشعّة (رنتجن) التي يبصر صاحبها الأمعاء من وراء الجلد الغليظ وتُري ما في قبضة الماسك بيده من ظهر اليد ، وبلغت بها القوّة حتى أخذت بها الصورة الشمسيّة من وراء سياج الصندوق الحديدي.

والذي يخبت في القوى النفسيّة إلى مثل التنويم المغناطيسي الصناعي ، أو

__________________

(١) راجع الجزء السادس من الكتاب : ص ١٩١ وهذا الجزء فيما يأتي. (المؤلف)

٩٣

استحضار الأرواح واستخدامها للجواب عن كلِّ مسألة يريدها الإنسان ممّا في وراء عالم الشهود بقوّة نفسه ، كيف يسعه إنكار ردّ الأرواح إلى الأجسام بإذن ربِّها لدعاء وليٍّ ، أو مقدرة صدِّيق موهوبة له من بارئ كيانه؟ وليس على الله بعزيز (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وكذلك من يشهد : أنَّ الطائرات الجوّية تطوي مئات من الفراسخ في آونة قصيرة ، وكان يستدعي ذلك إشغال أشهر من الزمن يوم كانوا يطوونها على الظهور ، أنّى يُسيغ له حِجاه أن ينكر طيّ الأرض لمن يحمل بين جنبيه قوىً مفاضةً من المبدأ الحقِّ سبحانه : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (٢).

ومثله : الذي يبصر المذياع وهو ينقل الأصوات من أبعد المسافات فيسمعها كأنَّه يتلو القرآن الكريم ، أو يُلقي خطابته ، أو يسرد أخباره ، أو يغنّي بأهازيجه إلى جنبه ، فهو لا يسعه إنكار ما يشابه ذلك في إمام حقّ مؤيَّد من عند الله (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣).

ونظيره : المتكلّم الذي تُمثَّل له بالقوى الممثِّلة صورةُ من يخاطبه ويتكلّم معه في الهاتف من صقعٍ شاسعٍ كأنّه يراه وينظر إليه من كَثَب (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٤).

وأمثال هذه في المكتشفات الحديثة من آثار الكهرباء وغيره كثيرة ذلّلت فيهم المعضلات التي كانت تقصر عنها العقول السذّج قبل هذا اليوم ، ولعلّ في المستقبل الكشّاف يكون ما هو أعظم وأعظم من هذه كلّها ، فإنَّ العلم لم يقف على حدّ ،

__________________

(١) غافر : ٦٨.

(٢) النمل : ٨٨.

(٣) فاطر : ٢٢.

(٤) الأنعام : ٧٥.

٩٤

ولا دلّت البرهنة على وصول الكشف إلى غايته المحدودة ، فمن الجائز أن يتدرّج إلى الأمام كما تدرّج في هذه القرون الأخيرة جلّت قدرة بارئها.

أنا لا أُحاول جعل تلكم المعاجز وكرامات الأولياء من قبيل ما ذكرته من مجاري الناموس الطبيعيِّ ، ولو أنَّها لا يعدوها الإعجاز حتى لو كانت على تلك المجاري ، لأنَّها حدثت يوم لم تكن هذه الآثار مكتشفة ، ولا عرفها أحدٌ من الناس ، حتى إنَّه لو فاهَ بها أحدٌ لما كانوا يحفلون به إلاّ بالهزء والسخريّة معتقدين بأنّه يلهج بالمحال ، فصدورها من إنسان هذا ظرفه وتلك أحوال أمّته ، ولم يعهد أنّه دخل كلِّية أو تخرّج على يد أستاذ لا يعدوه أن تكون معجزة ، لكنّا نعتقد أنَّ أولئك الأئمّة ـ بما أنَّهم مقيّضون لإصلاح الأمّة ولا يكون إلاّ بخضوعها لهم. وأقوى الحجج لاستلانة جماحها لذلك الخضوع هو صدور المعجزات والخوارق ـ لهم صلة بالمبدأ الأقدس يسدّدهم بها من فوق عالم الطبيعة ، وهو لازم اللطف الواجب على الله سبحانه من تقريب البعيد إلى ما ذكرناه من الاكتشافات الحديثة لتقريب الأذهان وشحذها ، وإيقاف المنصف على الحقائق. وقد فصّلنا القول في بعض الموضوع في الجزء الخامس (ص ٥٢ ، ٦٥).

فهلمَّ معي إلى أُناس يشنِّعون على الشيعة بإثبات تلكم النسب ، ويقذفونهم بالغلوِّ والكفر والشرك وهم يثبتونها لغير واحد من أوليائهم ، وذكروا أضعاف ما عند الشيعة من تلكم الفضائل المرميّة بالغلوِّ في تراجم العاديِّين من رجالهم ، ونشروها في الملأ واتّخذوها تاريخاً صحيحاً من دون أيِّ غمز وإنكار في السند ، ومن غير مناقشة ونظرةٍ صحيحة في المتون ، كلّ ذلك حبّا وكرامة لأولئك الرجال ، وحبُّ الشيء يعمي ويصمّ ، وهذه السيرة مطّردة فيهم منذ القرن الأول حتى اليوم ، ولا يسع لأيِّ باحثٍ رميُ أولئك المؤلِّفين الحفّاظ بالضلال والشرك والغلوِّ وخروجهم عمّا أجمعت عليه الأمّة الإسلاميّة كما

٩٥

هم رموا الشيعة بذلك ، على أنّ الباحث يجد فيما لفّقته يد الدعاية والنشر ، ونسجته أكفُّ المخرقة والغلوِّ في الفضائل ، عجائب وغرائب أو قل : سفاسف وسفسطات ، تبعد عن نطاق العقل السليم ، فضلاً عن أن تكون مشروعة أو غير مشروعة. وإليك البيان :

٩٦

الغلوّ في أبي بكر

ليس من العسير الشديد عرفان حدود أيِّ فرد شئت من الصحابة ، إذ التاريخ ـ مع ما فيه من الخبط والخلط ، مع ما نسجت عليه أيدي المعرّة الأثيمة ، مع ما طمس صحيحه بالفتن المظلمة في أدوارها وقرونها الخالية ، مع ما لعبت به الأهواء المضلّة بالتحريف والاختلاق ، مع ما دسَّ فيه عباقرة الإفك والافتعال ، مع ما سوِّدت صفحاته بآراء تافهة ، ونظريّات سخيفة ، ومبادئ فاسدة ، ونعرات طائفيّة ، ومخاريق قوميّة ، وجنايات شعوبيّة ـ فيه رمز من الحقيقة ، لا يختلط للناقد البصير زُبده بخاثره ، وصحيحه بسقيمه ، ويسع له أن يستخرج المحض بالمخض ، يتّخذ منه دروس الحقائق ، ويعرف به حدود الرجال ، ومقاييس السلف ، ومقادير الأمم الغابرة.

ومن اللازم المحتوم علينا النظرة في تراجم الشخصيّات البارزة من رجال الإسلام سلفاً وخلفاً بعين الإكبار دون عين رمصة ، ولا سيّما من عُرف منهم بالخلافة الراشدة بين الملأ الدينيِّ ولو بالانتخاب الدستوري الذي ليس له أيّ قيمة وكرامة في سوق الاعتبار وميزان العدل : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (١) (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٢)

__________________

(١) القصص : ٦٨.

(٢) الأحزاب : ٣٦.

٩٧

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (١). (٢) (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣)

فصاحب النبيّ الأعظم في الغار ، والمهاجر الوحيد معه في الرعيل الأوّل من المهاجرين السابقين يهمّنا إكباره وإعظامه ، ويُعَدُّ من الجنايات الفاحشة بخس حقّه ، والتقصير في تحديد نفسيّاته ، والخروج عن قضاء العدل فيها ، والنزول على حكم العاطفة.

ونحن لا نحوم حول موضوع الخلافة وأنّها كيف تمّت؟ كيف صارت؟ كيف قامت؟ كيف دامت؟ وأنّ الآراء فيها هل كانت حرّة؟ ووصايا المشرِّع الأعظم هل كانت متّبعة؟ أو كانت للأهواء والشهوات يوم ذاك حكومة جبّارة هي تبطش وتقبض ، وهي ترفع وتخفض ، وهي ترتق وتفتق ، وهي تنقض وتبرم ، وهي تحلُّ وتعقد.

لا يهمّنا البحث عن هذه كلّها بعد ما سمعت أُذن الدنيا حديث السقيفة مجتمع الثويلة ، وقُرِّطت بنبإ تلك الصاخّة الكبرى ، والتحارش العظيم بين المهاجرين والأنصار ، (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ* خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٤).

ما عساني أن أقول؟ والتاريخ بين يدي الباحث يدرسه بأنّ كلّ رجل من سواد الناس يوم ذاك كان يرى الفوز والسلامة لنفسه في عدم التحزّب بأحد من تلكم الأحزاب المتكثّرة ، وترك الاقتحام في تلك الثورات النائرة ، وكانت الخواطر تهدِّده بالقتل مهما أبدى الشقاق ، أو التحيّز إلى فئة دون فئة ، بعد ما رأت عيناه فِرند الصارم

__________________

(١) القمر : ٣.

(٢) الروم : ٤.

(٣) الأنعام : ١٢٧.

(٤) الواقعة : ١ ـ ٣.

٩٨

المسلول ، وسمعت أُذناه نداء محزّ (١) يتوعّد بالقتل كلَّ قائل بموت رسول الله ، ويقول : لا أسمع رجلاً يقول : مات رسول الله إلاّ ضربته بسيفي. أو يقول : من قال : إنَّه مات علوت رأسه بسيفي ، وإنّما ارتفع إلى السماء (٢).

يصيح من قالَ نفسُ المصطفى قُبِضت

عَلَوتُ هامته بالسيف أبريها (٣)

بعد ما تشازرت الأمّة وتلاكمت وتكالمت وقام الشيخان يعرض كلٌّ منهما البيعة لصاحبه قبل أخذ الرأي من أيّ أحد ، كأنَّ الأمر دبّر بليل ، فيقول هذا لصاحبه : ابسط يدك فلأبايعك. ويقول آخر : بل أنت. وكلٌّ منهما يريد أن يفتح يد صاحبه ويبايعه ، ومعهما أبو عبيدة الجرّاح حفّار القبور بالمدينة (٤) يدعو الناس إليهما (٥) ، والوصيُّ الأقدس والعترة الهادية وبنو هاشم ألهاهم النبيّ الأعظم وهو مسجّىً بين يديهم وقد أغلق دونه الباب أهله (٦) ، وخلّى أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينه وبين أهله فوَلوا (٧) إجنانه (٨) ومكث ثلاثة أيّام لا يُدفن (٩) أو من يوم الاثنين إلى يوم

__________________

(١) المحزّ : الرجل الغليظ الكلام. (المؤلف)

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ١٩٨ [ ٣ / ٢٠١ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٢٨ [ ٢ / ٤٠ خطبة ٢٦ ] ، تاريخ ابن كثير : ٥ / ٢٤٢ [ ٥ / ٢٦٣ حوادث سنة ١١ ه‍ ] تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٥٦ ، المواهب اللدنيّة للقسطلاني [ ٤ / ٥٤٤ ـ ٥٤٦ ] ، روضة المناظر لابن شحنة [ ١ / ١٨٨ حوادث سنة ١١ ] ، هامش الكامل : ٧ / ١٦٤ ، شرح المواهب للزرقاني : ٨ / ٢٨٠ ، السيرة النبويّة لزيني دحلان ، هامش الحلبيّة : ٣ / ٣٧١ ـ ٣٧٤ [ ٢ / ٣٠٦ ] ، ذكرى حافظ للدمياطي : ص ٣٦ نقلاً عن الغزالي [ في إحياء علوم الدين : ٤ / ٤٣٣ ]. (المؤلف)

(٣) من أبيات القصيدة العمريّة لحافظ إبراهيم [ ديوان حافظ إبراهيم : ١ / ٨١ ] شاعر النيل. (المؤلف)

(٤) راجع الجزء الخامس من هذا الكتاب : ص ٣٦٧ ، ٣٦٨. (المؤلف)

(٥) تاريخ الطبري : ٣ / ١٩٩ [ ٣ / ٢٠٣ حوادث سنة ١١ ه‍ ]. (المؤلف)

(٦) سيرة ابن هشام : ٤ / ٣٣٦ [ ٤ / ٣٠٧ ] ، الرياض النضرة : ١ / ١٦٣ [ ١ / ٢٠٣ ]. (المؤلف)

(٧) ولوا إجنانه : تولّوا دفنه.

(٨) طبقات ابن سعد : ص ٨٢١ ، طبع ليدن ج ٢ من القسم الثاني : ص ٧٦ [ ٢ / ٣٠١ ]. (المؤلف)

(٩) تاريخ ابن كثير : ٥ / ٢٧١ [ ٥ / ٢٩٢ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٥٢. (المؤلف)

٩٩

الأربعاء أو ليلته (١) فدفنه أهله ولم يله إلاّ أقاربه (٢) دفنوه في الليل أوفي آخره (٣) ، ولم يعلم به القوم إلاّ بعد سماع صريف المساحي وهم في بيوتهم من جوف الليل (٤) ولم يشهد الشيخان دفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

بعد ما رأى الرجل عمر بن الخطّاب محتجراً يهرول بين يدي أبي بكر وقد نبر حتى أزبد شدقاه (٦).

بعد ما قرعت سمعه عقيرة صحابيّ بدريّ عظيم ـ الحباب بن المنذر ـ وقد انتضى سيفه على أبي بكر ويقول : والله لا يردُّ عليَّ أحدٌ ما أقول إلاّ حطمت أنفه بالسيف ، أنا جُذيلها المحكّك (٧) وعُذيقها المرجّب ، أنا أبو شبل في عرينة الأسد يُعزى إلى

__________________

(١) طبقات ابن سعد طبع ليدن : ٢ / ٥٨ ، ٧٩ [ ٢ / ٢٧٣ ، ٣٠٥ ] ، سيرة ابن هشام : ٤ / ٣٤٣ ، ٣٤٤ [ ٤ / ٣١٤ ] ، مسند أحمد : ٦ / ٢٧٤ [ ٧ / ٣٩٠ ح ٢٥٨١٧ ] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٩٩ [ ١ / ٥٢١ ، ح ١٦٢٨ ] ، سيرة ابن سيّد الناس : ٢ / ٣٤٠ [ ٢ / ٤٣٤ ] ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٥٢ وقال : الأصح دفنه ليلة الأربعاء ، تاريخ ابن كثير ٥ / ٢٧١ [ ٥ / ٢٩١ حوادث سنة ١١ ه‍ ] وقال : هو المشهور عن الجمهور. وقال : والصحيح أنه دفن ليلة الأربعاء ، السيرة الحلبيّة : ٣ / ٣٩٤ [ ٣ / ٣٦٥ ] ، شرح المواهب للزرقاني : ٨ / ٢٨٤ ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبيّة : ٣ / ٣٨٠ [ ٢ / ٣٠٨ ]. (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ص ٨٢٤ طبع ، ليدن ج ٢ من القسم الثاني : ص ٧٨ [ ٢ / ٣٠٤ ]. (المؤلف)

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٤٩٩ [ ١ / ٥٢١ ح ١٦٢٨ ] ، مسند أحمد : ٦ / ٢٧٤ [ ٧ / ٣٩٠ ح ٢٥٨١٧ ]. (المؤلف)

(٤) الطبقات لابن سعد : ص ٨٢٤ ، طبع ليدن ج ٢ من القسم الثاني : ص ٧٨ [ ٢ / ٣٠٤ ] ، مسند أحمد : ٦ / ٢٧٤ [ ٧ / ٣٩٠ ح ٢٥٨١٧ ] ، سيرة ابن هشام : ٤ / ٣٤٤ [ ٤ / ٣١٤ ] ، تاريخ ابن كثير : ٥ / ٢٧٠ [ ٥ / ٢٩١ حوادث سنة ١١ ه‍ ]. (المؤلف)

(٥) أخرجه ابن أبي شيبة [ في المصنّف : ١٤ / ٥٦٨ ح ١٨٨٩٢ ] كما في كنز العمّال : ٣ / ١٤٠ [ ٥ / ٦٥٢ ح ١٤١٣٩ ]. (المؤلف)

(٦) طبقات ابن سعد : ص ٧٨٧ ، طبع ليدن ، ج ٢ من القسم الثاني : ص ٥٣ [ ٢ / ٢٦٧ ] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٣٣ [ ٢ / ٥٦ خطبة ٢٦ ]. (المؤلف)

(٧) الجذل بالكسر والفتح : أصل الشجرة والعود الذي ينصب للإبل الجرباء لتحتكّ به فتستشفي به

١٠٠