الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

مكتوب على ساق العرش : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، محمد رسول الله ، ووزيراه أبو بكر الصدّيق وعمر الفاروق.

قال الدارقطني كما في تاريخ بغداد (١٣ / ٢٨٦) : هذا إسناد ضعيف لا يثبت ، أبو سهل ونصر بن حريش ضعيفان. وقال العقيلي (١) كما في لسان الميزان (٢) (٣ / ٢٦) : عبد الله بن إسماعيل منكر الحديث لا يُتابع على شيء من حديثه. والحديث مع هذا مرسل والحسن البصري لا يروي عن رسول الله ولم يدركه وللخطيب طريق بهذا اللفظ ليست فيه كلمة : ساق ، ووزيراه. وفي إسناده أحمد بن رجاء بن عبيدة ، قال الخطيب في تاريخه (٤ / ١٥٨) : مجهول.

٧ ـ طريق ابن عساكر فيه عبد العزيز الكتاني ، ليّنه الذهبي (٣) كما في لسان الميزان (٤) (٤ / ٣٣) ، وفيه الحارث بن زياد المحاربي ، قال الذهبي (٥) وغيره : ضعيف مجهول كما في اللسان (٦) (٢ / ١٤٩) ، وفيه من لا يُعرف ولا توجد له ترجمة في المعاجم.

ولابن عساكر (٧) طريق آخر بالإسناد عن محمد بن عبد بن عامر المعروف بوضع الحديث (٨) عن عصام بن يوسف ضعّفه ابن سعد ، وخطّأه ابن حبّان (٩) ، وقال

__________________

(١) الضعفاء الكبير : ٢ / ٢٣٤ رقم ٧٨٤.

(٢) لسان الميزان : ٣ / ٣٢٥ رقم ٤٤٩٣.

(٣) ميزان الاعتدال : ٢ / ٦٣٠ رقم ٥١١١.

(٤) لسان الميزان : ٤ / ٤٠ رقم ٥١٩٤.

(٥) ميزان الاعتدال : ١ / ٤٣٣ رقم ١٦١٨.

(٦) لسان الميزان : ٢ / ١٩٠ رقم ٢١٨٥.

(٧) تاريخ مدينة دمشق : ٣٠ / ٢٠٤ رقم ٣٣٩٧.

(٨) راجع الجزء الخامس من كتابنا هذا : ص ٢٥٩ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٩) الثقات : ٨ / ٥٢١.

١٢١

ابن عدي (١) : روى أحاديث لا يُتابع عليها. كما في لسان الميزان (٢) (٤ / ١٦٨).

ويرشدك إلى صحّة قول الفيروزآبادي والعجلوني ما أوضحناه في الجزء الخامس (ص ٢٩٧ ـ ٣٣٢) من تفنيد مائة منقبة مكذوبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مختلقة لأبي بكر ولزبائنه بحكم الأئمّة والحفّاظ. وكذا ما زيّفناه من خمس وأربعين رواية موضوعة في الخلافة في صفحة (٣٣٣ ـ ٣٥٦) كلُّ ذلك بقضاء من رجالات الفنِّ نظراء : ابن عديّ ، الطبراني ، ابن حبّان ، النسائي ، الحاكم ، الدارقطني ، العقيلي ، ابن المديني ، أبو عمر ، الجوزقاني ، المحبّ الطبري ، الخطيب البغدادي ، ابن الجوزي ، أبو زرعة ، ابن عساكر ، الفيروزآبادي ، إسحاق الحنظلي ، ابن كثير ، ابن القيِّم ، الذهبي ، ابن تيميّة ، ابن أبي الحديد ، ابن حجر الهيثمي ، ابن حجر العسقلاني ، الحافظ المقدسي ، السيوطي ، الصغاني ، الملاّ علي القاري ، العجلوني ، ابن درويش الحوت ، وغيرهم.

ويشهد لبطلان تلكم الروايات الجمّة في فضائل الخليفة الأوّل خلوُّ الصحاح الستة والسنن والمسانيد القديمة منها ، فلو كان مؤلّفوها يجدون على شيء منها مسحة من الصحّة بل لو كانوا واقفين عليها ولو على واحدة منها لما أجمعوا على تركها فيرويها متحرّو الزوايا ، ونبّاشة الدفائن ، فيبرزونها إلى الملأ من تحت غبار الهجر ، أو وراء نسج عناكب النسيان ، فيرشدنا ذلك إلى أنَّ مواليد هذه الروايات متأخر تاريخها عن عهد أرباب الصحاح وحسبها ذلك مهانة وضعة. كما أنَّ ما في الصحاح من النزر اليسير ولائد متأخِّرة عن عهد النبيِّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

على أنَّ الخليفة نفسه لو كان على ثقة من صدور شيء من تلكم الأحاديث ولو يسيراً منها من قائلها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان يرى مثل أبي عبيدة الجرّاح حفّار القبور أولى

__________________

(١) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٣٧١ رقم ١٥٣٤.

(٢) لسان الميزان : ٤ / ١٩٤ رقم ٥٦١٩.

١٢٢

منه بالخلافة ، ولما قدّمه على نفسه ، ولما ترك الاحتجاج بها يوم كانت حاجته إليه مسيسة ، ويوم كان الحوار في أمر الخلافة قائماً على قدمٍ وساق ، وطفق كلُّ ذي فضل يُدلي بحججه ، وقد احتدم الجدال حتى كاد أن يكون جلاداً ، واستحرَّ الحجاج حتى عاد لجاجاً ، لكن الرجل لم يكن عنده حجّة ولا لزبانيته إلاّ أنَّه صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار ، وأنَّه أكبر القوم سنّا ـ وكان أبوه أكبر منه لا محالة ـ وقد اختارته الجماعة وانعقدت له البيعة بعد هوس وهياج ركوناً إلى أمثال هذه ممّا لا تثبت بها حجّة ، ولا يخضع لها ذو مسكة ، ولا يصلح بها شأن الأمّة ، ولا يجمع بها شمل ، ولا يتمُّ بها الأمر.

نعم ؛ روي عن أبي بكر أنَّه ذكر في الحجاج له أشياء حذفتها الرواة ولم يذكروا منها إلاّ أنَّه أوّل من أسلم. أو : أوّل من صلّى. عن أبي سعيد الخدري قال : قال أبو بكر : ألست أحقّ الناس بها؟ ألست أوّل من أسلم؟ ألست صاحب كذا؟ ألست صاحب كذا؟ (١)

وعن أبي نضرة (٢) قال : لمّا أبطأ الناس عن أبي بكر قال : من أحقّ بهذا الأمر منِّي؟ ألست أوّل من صلّى؟ ألست؟ ألست؟ ألست؟ فذكر خصالاً فعلها مع النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

__________________

(١) أخرجه الترمذي [ في السنن : ٥ / ٥٧١ رقم ٣٦٦٧ ] ، والبزّار ، وابن حبّان [ في الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ١٥ / ٢٧٩ ح ٦٨٦٣ ] ، وأبو نعيم في المعرفة [ معرفة الصحابة : ١ / ١٥٩ ] ، وابن مندة في غرائب شعبة ، وسعيد بن منصور ، وأبو داود كما في كنز العمّال : ٣ / ١٢٥ [ ٥ / ٥٨٥ ح ١٤٠٤١ ] ، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة : ٣ / ٢٠٩ [ ٣ / ٣١٤ رقم ٣٠٦٤ ] ، وابن كثير في تأريخه : ٣ / ٢٧ [ ٣ / ٣٧ ]. (المؤلف)

(٢) في كنز العمّال : أبي بصرة.

(٣) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى طبع ليدن : ٣ / ١٢٩ [ ٣ / ١٨٢ ] ، وخيثمة الطرابلسي في فضائل الصحابة كما في كنز العمّال : ٣ / ١٢٦ [ ٥ / ٥٩٠ ح ١٤٠٥١ ]. (المؤلف)

١٢٣

ونحن لا نعرف شيئاً ممّا حذفوه من فضائله المزعومة أو اختلقوا نسبته إليه إذ من الممكن ـ بل المحقّق ـ أنَّه لم يقل شيئاً ، وإنما اصطنعوا له هذه الصورة لإيهام أنَّه كانت له يوم ذاك فضائل مسلّمة ، لكن نعطف النظرة على المذكور من تلك المناقب وهو كون الخليفة أوّل من أسلم. أو : أوّل من صلّى ، ولم يكن كذلك. والقول به يخالف رأي النبيّ الأعظم ونصوص الصحابة ، وقد فصّلنا القول فيه في الجزء الثالث (ص ٢١٩ ـ ٢٤٣) وذكرنا مائة نصّ عن النبيّ الأقدس وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما ، وعن الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان على أنَّ أوّل من أسلم وأوّل من صلى من ذكر هو مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام. وأوضحنا هنالك أنَّ أبا بكر ليس أوّل من أسلم. أو : صلّى. بل في صحيحة الطبري (١) : أنَّه أسلم بعد أكثر من خمسين رجلاً ، فراجع.

ولو كانت الصحابة الأوّلون يعرفون شيئاً من تلكم الموضوعات الجمّة لمَا تركوا الاحتجاج به يوم ذاك في إخضاع الناس بدلاً عن إشفاع الدعوة بالإرهاب والترعيد ، ولما اقتصر عمر بن الخطّاب يوم السقيفة بقوله : من له مثل هذه الثلاث : ثاني اثنين إذ هما في الغار ، إذ يقول لصاحبه لا تحزن ، إنَّ الله معنا.

وبقوله : إنَّ أولى الناس بأمر نبيّ الله ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وأبو بكر السبّاق المسنُّ.

وبقوله يوم بيعة العامّة : إنَّ أبا بكر صاحب رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار (٢).

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٢ / ٣١٦.

(٢) سيرة ابن هشام : ٤ / ٣٤٠ [ ٤ / ٣١١ ] ، الرياض النضرة : ١ / ١٦٢ ، ١٦٦ [ ٢ / ٢٠٣ ، ٢٠٦ ] ، تاريخ ابن كثير : ٥ / ٢٤٧ ، ٢٤٨ [ ٥ / ٢٦٧ ، ٢٦٨ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ١٦ [ ٦ / ٣٨ خطبة ٦٦ ] ، السيرة الحلبية ٣ / ٣٨٨ [ ٣ / ٣٥٩ ]. (المؤلف)

١٢٤

ولما قال سلمان للصحابة : أصبتم ذا السنّ منكم ولكنكم أخطأتم أهل بيت نبيّكم (١)

ولما اكتفى عثمان بن عفّان في الدعوة إلى أبي بكر بقوله : إنَّ أبا بكر الصدّيق أحقّ الناس بها ، إنّه لصدّيق وثاني اثنين وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

ولما فاه المغيرة بن شعبة بمقاله لأبي بكر وعمر : تلقوا العبّاس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيباً ، فيكون له ولعقبه ، فتقطعوا به من ناحية عليّ ويكون لكم حجّة عند الناس على عليّ إذا مال معكم العبّاس.

ولما دخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة على العبّاس ليلاً ، ولما قال أبو بكر له : لقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عمّ رسول الله (٣).

ولما تمّ الأمر له ببيعة اثنين فحسب : عمر وأبي عبيدة. أو : ببيعة أربعة : هما مع أسيد وبشر. أو بخمسة : هم مع سالم مولى أبي حذيفة كما يأتي تفصيله.

ولما تخلّف عن بيعته رءوس المهاجرين والأنصار : عليّ وابناه السبطان ، والعبّاس وبنوه في بني هاشم ، وسعد بن عبادة وولده وأسرته ، والحباب بن المنذر وتابعوه ، والزبير ، وطلحة ، وسلمان ، وعمّار ، وأبو ذرّ ، والمقداد ، وخالد بن سعيد ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعتبة بن أبي لهب ، والبراء بن عازب ، وأُبيّ بن كعب ،

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٣١ ، ٢ / ١٧ [ ٢ / ٤٩ خطبة ٢٦ ، ٦ / ٤٣ خطبة ٦٦ ]. (المؤلف)

(٢) أخرجه الأطرابلسي في فضائل الصحابة كما في كنز العمّال : ٣ / ١٤٠ [ ٥ / ٦٥٣ رقم ١٤١٤٢ ]. (المؤلف)

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥ [ ١ / ٢١ ] ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠٣ ، ١٠٤ [ ٢ / ١٢٤ ـ ١٢٥ ] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٣٢ [ ٢ / ٥٢ خطبة ٢٦ ]. (المؤلف)

١٢٥

وأبو سفيان بن حرب وغيرهم (١).

ولما كان مجال لقول محمد بن إسحاق : كان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنَّ عليّا صاحب الأمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. شرح ابن أبي الحديد (٢) (٢ / ٨).

ولما قال عتبة بن أبي لهب يوم ذاك بملإ من مدّعي الفضائل :

ما كنت أحسبُ أنّ الأمرَ منصرفٌ

عن هاشمٍ ثمّ منها عن أبي حسنِ

عن أوّلِ الناسِ إيماناً وسابقةً

وأعلمِ الناسِ بالقرآن والسننِ

وآخر الناس عهداً بالنبيّ ومن

جبريلُ عونٌ له في الغسل والكفنِ

من فيه ما فيهمُ لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسنِ

ما ذا الذي ردّكم عنه فنعلمه

ها إنَّ بيعتكم من أوّل الفتنِ (٣)

ولما قال قصيّ يوم ذاك :

بني هاشم لا تُطمعوا الناسَ فيكمُ

ولا سيّما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمرُ إلاّ فيكمُ وإليكمُ

وليس لها إلاّ أبو حسنٍ علي

أبا حسنٍ فاشدد بها كفَّ حازمٍ

فإنَّك بالأمر الذي يُرتجى ملي

وإنَّ امرأً يرمي قصيٌّ وراءه

عزيز الحمى والناس من غالبٍ قصي (٤)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠٣ [ ٢ / ١٢٤ ] ، الرياض النضرة : ١ / ١٦٧ [ ٢ / ٢٠٧ ] ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٥٦ ، روضة المناظر لابن شحنة [ ١ / ١٨٩ حوادث سنة ١١ ه‍ ] هامش الكامل : ٧ / ١٦٤ ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٣٤ [ ٢ / ٥٦ خطبة ٢٦ ]. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٢١ خطبة ٦٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠٣ [ ٢ / ١٢٤ ] ، رسائل الجاحظ : ص ٢٢ ، أُسد الغابة : ٤ / ٤٠ [ ٤ / ١٢٤ رقم ٣٧٨٣ ] ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٦٤ ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٢٥٩ [ ١٣ / ٢٣٢ خطبة ٢٣٨ ] ، الغدير : ٣ / ٢٣٢ ، تعزى هذه الأبيات إلى عدة شعراء ، راجع المصادر المذكورة. (المؤلف)

(٤) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠٥ [ ٢ / ١٢٦ ]. (المؤلف)

١٢٦

ـ ٢ ـ

ملكاته ونفسيّاته

يهمّنا النظر إلى ملكات الخليفة وما انحنت عليه أضالعه من علوم أو نفسيّات حتى نعلم أنَّها هل تجعل له صلة بفضيلة؟ أو تقرّب مبوّأه من التأهّل لهاتيك المرويّات؟ أو تعيِّن له حدّا يكون التفريط به إجحافاً به ، وبخساً بحقِّه ، وتحطيماً لمقامه؟ أو يعرف الغلوُّ بالإفراط فيه؟

أمّا هو قبل الإسلام فلا نفيض عنه قولاً لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله ، فلا التفات إذن إلى ما جاء به عكرمة من قوله : كان أبو بكر رضى الله عنه يقامر أُبيّ بن خلف وغيره من المشركين وذلك قبل أن يحرّم القمار. ذكره الإمام الشعراني في كتابه كشف الغمّة (٢ / ١٥٤).

وقال الإمام أبو بكر الجصّاص الرازي الحنفي المتوفّى (٣٧٠) في أحكام القرآن (١) (١ / ٣٨٨) : لا خلاف بين أهل العلم في تحريم القمار وأنَّ المخاطرة من القمار ، قال ابن عبّاس : إنَّ المخاطرة قمار ، وإنَّ أهل الجاهليّة كانوا يخاطرون على المال والزوجة وقد كان ذلك مباحاً إلى أن ورد تحريمه ، وقد خاطر أبو بكر الصدّيق المشركين حين نزلت : الم غلبت الروم.

كما لا يلتفت إلى ما ذكره أبو بكر الإسكافي في الردّ على الرسالة العثمانيّة للجاحظ (٢) من أنَّ أبا بكر كان قبل إسلامه مذكوراً ورئيساً معروفاً ، يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار ، ويتذاكرون الأخبار ، ويشربون الخمر ، وقد سمع

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٣٢٩.

(٢) رسائل الجاحظ : ص ٣٤ [ ص ١٤٣ ـ الرسائل السياسية ] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٢٦٤ [ ١٣ / ٢٤٩ خطبة ٢٣٨ ]. (المؤلف)

١٢٧

دلائل النبوّة وحجج الرسالة ، وسافر إلى البلدان ، ووصلت إليه الأخبار.

وأخرج الفاكهي في كتاب مكّة بإسناده عن أبي القموص ، قال : شرب أبو بكر الخمر في الجاهليّة (١) فأنشأ يقول :

تحيّي أُمَّ بكرٍ بالسلامِ

وهل لي بعد قومك من سلامِ

الأبيات

فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام يجرُّ إزاره حتى دخل ، فتلقّاه عمر وكان مع أبي بكر ، فلمّا نظر إلى وجهه محمرّا قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله لا يلج لنا رأساً أبداً ، فكان أوّل من حرّمها على نفسه.

وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (٢) (ص ٦٦) فقال : هو ممّا تنكره القلوب ، فكأنَّ الحكيم وجد الحديث دائراً سائراً في الألسن غير أنَّه رأى القلوب تنكره.

وذكره ابن حجر في الإصابة (٤ / ٢٢) فقال : واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال : شرب أبو بكر الخمر قبل أن تُحرَّمَ ورثى قتلى بدر من المشركين.

وحديث أبي القموص هذا أخرجه الطبري في تفسيره (٣) (٢ / ٢٠٣) ، وفي طبعة (٢١١) عن ابن بشار (٤) ، عن عبد الوهّاب (٥) ، عن عوف (٦) ، عن أبي القموص زيد

__________________

(١) هذه الكلمة دخيلة في الرواية ، وذيل الرواية يكذّبها أيضاً ، وسنوقفك على التاريخ الصحيح. (المؤلف)

(٢) نوادر الأصول : ١ / ١٥٧ الأصل ٤٤.

(٣) جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٣٦٢.

(٤) الحافظ أبو بكر محمد بن بشّار العبدي البصري ، من رجال الصحاح الستّة. (المؤلف)

(٥) ابن عبد المجيد البصري ، من رجال الصحاح الستّة. (المؤلف)

(٦) ابن أبي جميلة العبدي البصري ، من رجال الصحاح الستّة. (المؤلف)

١٢٨

ابن عليّ (١) قال : أنزل الله عزّ وجلّ في الخمر ثلاث مرّات ، فأوّل ما أنزل قال الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) (٢) قال : فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يهجران كلاماً لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (٣) فشربها من شربها منهم وجعلوا يتّقونها عند الصلاة حتى شربها فيما زعم أبو القموص رجلٌ فجعل ينوح على قتلى بدر :

تحيّي بالسلامة أمّ عمرو

وهل لك بعد رهطك من سلامِ

ذريني أصطبح بكراً فإنِّي

رأيت الموتَ نقَّب عن هشامِ

وودَّ بنو المغيرةِ لو فدوهُ

بألفٍ من رجالٍ أو سوامِ

كأنّي بالطويِّ طويِّ بدرٍ

من الشيزى يكلّل بالسنامِ

كأنّي بالطويِّ طويِّ بدرٍ

من الفتيان والحللِ الكرامِ

قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء فزعاً يجرُّ رداءه من الفزع حتى انتهى إليه ، فلمّا عاينه الرجل فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً كان بيده ليضربه قال : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ، والله لا أطعمها أبداً فأنزل الله تحريمها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ). إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٤). فقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه : انتهينا. انتهينا (٥).

__________________

(١) ثقة كما في تهذيب التهذيب : ٣ / ٤٢٠ [ ٣ / ٣٦٣ ]. (المؤلف)

(٢) البقرة : ٢١٩.

(٣) النساء : ٤٣.

(٤) المائدة : ٩٠ و ٩١.

(٥) لا يخفى على القارئ أنّ الطبري حرّف اسم أبي بكر وجعل مكانه : رجل. وحرّف كلمة : أمّ بكر ، في الشعر وبدّلها بأم عمرو ، صوناً للكرامة. (المؤلف)

١٢٩

وأخرج البزّار عن أنس بن مالك قال : كنت ساقي القوم تيناً وزبيباً خلطناهما جميعاً ، وكان في القوم رجلٌ يقال له : أبو بكر ، فلمّا شرب قال :

أحيّي أُمّ بكر بالسلامِ

وهل لك بعد قومك من سلامِ

يحدّثُنا الرسولُ بأنَّ سحتاً

وكيف حياة أصلٍ أو هشامِ (١)

فبينا نحن كذلك والقوم يشربون إذ دخل علينا رجلٌ من المسلمين فقال : ما تصنعون؟ إنَّ الله تبارك وتعالى قد نزّل تحريم الخمر. الحديث.

وقال ابن حجر في فتح الباري (٢) (١٠ / ٣٠) ، والعيني في عمدة القاري (٣) (٢٠ / ٨٤) : من المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان (٤) عن أنس : أنّ أبا بكر وعمر كانا فيهم. وهو منكر مع نظافة سنده ، وما أظنّه إلاّ غلطاً.

وقد أخرج أبو نعيم في الحلية (٥) في ترجمة شعبة من حديث عائشة قالت : حرّم أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهليّة ولا إسلام.

ويحتمل ـ إن كان محفوظاً ـ أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم (٦). ثمّ وجدت عند البزّار من وجه آخر عن أنس قال : كنت

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٥ / ٥١. (المؤلف)

(٢) فتح الباري : ١٠ / ٣٧.

(٣) عمدة القاري : ٢١ / ١٦٨.

(٤) وثقه أحمد [ في العلل ومعرفة الرجال : ٣ / ٤٥٦ رقم ٥٩٤٢ ] ، وابن معين [ في التاريخ : ٣ / ٣٣٣ رقم ١٦٠٢ ] ، وأبو حاتم [ في الجرح والتعديل : ٦ / ٢٨٠ رقم ١٥٥٢ ] ، ويعقوب بن سفيان [ في المعرفة والتاريخ : ٣ / ٢٣٢ ] ، وأبو داود ، والحاكم ، والدارقطني ، تهذيب التهذيب ٨ / ٢١٦ [ ٨ / ١٩٣ ]. (المؤلف)

(٥) حلية الأولياء : ٧ / ١٦٠.

(٦) هنا ينتهي كلام العيني والبقية كلمة ابن حجر فحسب. (المؤلف)

١٣٠

ساقي القوم وكان في القوم رجلٌ يقال له أبو بكر ، فلمّا شرب قال :

تحيّي بالسلامة أمّ بكر

فدخل علينا رجل من المسلمين فقال : قد نزل تحريم الخمر. الحديث. وأبو بكر هذا يقال له ابن شغوب ؛ فظنَّ بعضهم أنَّه أبو بكر الصدّيق وليس كذلك ، ولكنّ قرينة ذكر عمر تدلُّ على عدم الغلط في وصف الصدّيق فحصّلنا تسمية عشرة. انتهى.

قال الأميني : ترى ابن حجر يتلعثم في ذكر الحديث ، فلا يدعه حبّه للخليفة أن يقبله ، ولا تخلّيه صحّته أن يصفح عنه ، فجاء يستغرب أوّلاً ثمّ يستنكره مع الحكم بنظافة سنده ، ويظنّه غلطاً تارةً ويراه محفوظاً أخرى ، وبالأخير يأخذه صدق النبأ وصحّته فيتخلّص منه بالحكم بأنّ المذكور فيه هو أبو بكر الصدّيق بقرينة عمر ، فيعدُّهما من الأحد عشر الذين كانوا يشربون الخمر في دار أبي طلحة.

وابن حجر يعلم بأنّ ما أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عائشة لا يقاوم هذا النبأ الثابت المرويّ بالطرق الصحيحة عن رجال الصحاح ، ذكر أبو نعيم حديثه في الحلية (٧ / ١٦٠) من طريق عبّاد بن زياد الساجي عن ابن عدي عن شعبة عن محمد ابن عبد الرحمن أبي الرجال عن أُمّه عمرة عن عائشة. وقال : غريب من حديث شعبة لم نكتبه إلاّ من حديث عباد بن أبي عدي. انتهى. وفيه :

عباد بن زياد الساجي ، يتهم بالقدر. قال موسى بن هارون : تركت حديثه ، وقال ابن عدي (١) : هو من أهل الكوفة الغالين في التشيّع له أحاديث مناكير في الفضائل. تهذيب التهذيب (٢) (٥ / ٢٩٤).

__________________

(١) الكامل في ضعفاء الرجال : ٤ / ٣٤٨ رقم ١١٨٢.

(٢) تهذيب التهذيب : ٥ / ٨٢.

١٣١

وفيه : شعبة عن محمد بن عبد الرحمن أبي الرجال. قال الخطيب : هذا وهمٌ شعبة لم يرو عن أبي الرجال شيئاً ، وكذلك من قال فيه عن شعبة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أُمّه عمرة. تهذيب التهذيب (١) (٩ / ٢٩٥).

وقال ابن حجر والعيني : وقع عند عبد الرزّاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس : أنَّ القوم كانوا أحد عشر رجلاً (٢).

نادي الخمر هذا كان عام الفتح سنة ثمان من الهجرة بالمدينة المشرّفة في دار أبي طلحة زيد بن سهل ، وكانت السقاية لأنس كما في صحيح البخاري (٣) كتاب التفسير في سورة المائدة في آية الخمر ، وفي صحيح مسلم في كتاب الأشربة باب تحريم الخمر (٤) ، وقال السيوطي في الدرّ المنثور (٥) (٢ / ٣٢١) : أخرجه عبد بن حميد ، وأبو يعلى (٦) ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن أنس.

وأخرجه أحمد في المسند (٧) (٣ / ١٨١ ، ٢٢٧) ، والطبري في تفسيره (٨) (٧ / ٢٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٢٨٦ ، ٢٩٠) وابن كثير في تفسيره (٢ / ٩٣ ، ٩٤).

وكان عدّة الحضور في ذلك النادي كما مرّت عن معمر وقتادة أحد عشر رجلاً ، ذكر منهم ابن حجر في فتح الباري (١٠ / ٣٠) عشرة أنفس ، وقال كما مرّ

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٩ / ٢٦٣.

(٢) فتح الباري : ١٠ / ٣٠ [ ١٠ / ٣٧ ] ، عمدة القاري : ١٠ / ٨٤ [ ٢١ / ١٦٨ ]. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ٤ / ١٦٨٨ ح ٤٣٤١.

(٤) صحيح مسلم : ٤ / ٢٢٩ ـ ٢٣١ ح ٣ ـ ٧.

(٥) الدرّ المنثور : ٣ / ١٧٢.

(٦) مسند أبي يعلى : ٦ / ١٠١ ح ٣٣٦٢.

(٧) مسند أحمد : ٤ / ٢٥ ح ١٢٤٥٨ و ١٠٢ ح ١٢٩٦٣.

(٨) جامع البيان : مج ٥ / ج ٧ / ٣٧.

١٣٢

(ص ٩٨) : فحصّلنا تسمية عشرة ، وهم :

١ ـ أبو بكر بن أبي قحافة ، وكان يوم ذاك ابن ثمان وخمسين سنة.

٢ ـ عمر بن الخطّاب ، وكان يوم ذاك ابن خمس وأربعين سنة.

٣ ـ أبو عبيدة الجرّاح ، وكان ابن ثمان وأربعين سنة.

٤ ـ أبو طلحة زيد بن سهل صاحب النادي ، وكان له أربع وأربعون سنة ، قال ابن الجوزي في الصفوة (١) (١ / ١٩١ : توفي سنة أربع وثلاثين وهو ابن سبعين سنة.

٥ ـ سهيل بن بيضاء ، توفّي بعد القضيّة وهو كبير السنّ.

٦ ـ أُبيّ بن كعب.

٧ ـ أبو دجانة سماك بن خرشة.

٨ ـ أبو أيوب الأنصاري.

٩ ـ أبو بكر بن شغوب (٢).

١٠ ـ أنس بن مالك ساقي القوم ، كان يوم ذاك ابن ثمانية عشر عاماً على الأصحّ ، وفي صحيحة مسلم في الأشربة في باب تحريم الخمر ، والبيهقي في السنن (٨ / ٢٩٠) عن أنس أنَّه قال : إنّي لقائم أسقيهم وأنا أصغرهم.

وقد عزب عن ابن حجر حادي عشر القوم وهو : معاذ بن جبل ، كما ورد في حديث قتادة عن أنس. أخرجه ابن جرير في تفسيره (٣) (٧ / ٢٤) ، والهيثمي في مجمع

__________________

(١) صفة الصفوة : ١ / ٤٨٠ رقم ٤٤.

(٢) في الإصابة : ٤ / ٢٢ رقم ١٤٣ : أبو بكر بن شعوب الليثي ، اسمه شداد وقيل : الأسود ، وقيل : شداد بن الأسود ، وأما شعوب فهي أمه. وأبوه من بني ليث بن بكر بن كنانه ، أسلم ابن شعوب بعد أُحد.

(٣) جامع البيان : مج ٥ / ج ٧ / ٣٧.

١٣٣

الزوائد (٥ / ٥٢) ، والعيني في عمدة القاري (١) (٨ / ٥٨٩) ، والسيوطي في الدرّ المنثور (٢) (٢ / ٣٢١) نقلاً عن ابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه ، والنووي في شرح مسلم (٣) هامش إرشاد القسطلاني (٨ / ٢٣٢).

وكان معاذ يوم ذاك ابن ثلاث وعشرين سنة إذ توفّي سنة (١٨) وله (٣٣) عاماً كما ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (٤).

وهؤلاء المذكورون من الذين كانوا يشربون الخمر بعد نزول الآيتين فيها بتأويل فيهما كما مرّ في الجزء السادس (ص ٢٥١) ، إلى أن نزل آية المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) إلى قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وكان ذلك في عام الفتح ، فلمّا رأوا غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلموا من الآية الثالثة التحذير والوعيد انتهوا وقال عمر : انتهينا ، انتهينا.

قال الآلوسي في تفسيره (٢ / ١١٥) : شربها كبار الصحابة بعد نزولها ـ يعني آية الخمر في البقرة ـ وقالوا : إنّما نشرب ما ينفعنا ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة. انتهى.

وأخرج ابن أبي حاتم من حديث أنس أنّه قال : كنّا نشرب الخمر فأُنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (٥) الآية. فقلنا : نشرب منها ما ينفعنا. فأُنزلت في المائدة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) ، الآية. فقالوا : اللهمّ قد انتهينا (٦).

__________________

(١) عمدة القاري : ٢١ / ١٦٨.

(٢) الدرّ المنثور : ٣ / ١٧٢.

(٣) شرح صحيح مسلم : ١٣ / ١٥٠.

(٤) صفة الصفوة : ١ / ٥٠٢ رقم ٥١.

(٥) البقرة : ٢١٩.

(٦) الدرّ المنثور : ١ / ٢٥٢ [ ١ / ٦٠٦ ] ، تفسير الشوكاني : ١ / ١٩٧ [ ١ / ٢٢٢ ]. (المؤلف)

١٣٤

وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أنّه قال : أوّل ما نزل في تحريم الخمر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية ، فقال بعض الناس : نشربها لمنافعها التي فيها. وقال آخرون : لا خير في شيء فيه إثم ، ثمّ نزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (١) الآية ، فقال بعض الناس : نشربها ونجلس في بيوتنا. وقال آخرون : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين. فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية. فانتهوا (٢).

ولتعدّد آيات الخمر واختلاف السلف فيها وتأويل جمع منهم آيتي البقرة والنساء من تلكم الآيات وقع الخلاف في تاريخ حرمتها على أقوال :

١ ـ الأخذ بما أخرجه الطبراني (٣) من طريق معاذ بن جبل ؛ من أنّ أوّل ما نهى عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين بعث : شرب الخمر وملاحاة الرجال (٤) فتحريم الخمر كان في أوليات الهجرة إن لم تكن في أوليات البعثة ، ويساعده ما صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّ أعظم الكبائر شرب الخمر (٥) ويبرمه النظر في آيات الخمر ؛ فالآية الأولى منها من سورة البقرة ، وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة (٦) ، والآية الثانية في سورة النساء وقد نزلت في أوائل الهجرة (٧).

ولعلّ هذا رأي كلّ من رأى حرمة الخمر بآية البقرة ، قالت عائشة : لمّا نزلت

__________________

(١) النساء : ٤٣.

(٢) تفسير الآلوسي : ٧ / ١٧. (المؤلف)

(٣) المعجم الكبير : ٢٠ / ٨٣ ح ١٥٧.

(٤) أوائل السيوطي : ص ٩٠. (المؤلف)

(٥) الغدير : ٦ / ٢٥٧. (المؤلف)

(٦) تفسير القرطبي : ١ / ١٣٢ [ ١ / ١٠٧ ] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٣٥ ، تفسير الخازن : ١ / ١٩. (المؤلف)

(٧) راجع ما يأتي في الجزء الثامن صفحة : ١١ من الطبعة الأولى. (المؤلف)

١٣٥

سورة البقرة نزل فيها تحريم الخمر ، فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك (١) ، وقد نزلت سورة البقرة بعد زواج عائشة كما مرَّ في الجزء السادس (ص ١٩٧).

واختار الجصّاص (٢) حرمة الخمر بآية البقرة كما أسلفنا كلامه في الجزء السادس صفحة (٢٥٤) ، وقال القرطبي في تفسيره (٣) (٣ / ٦٠) : قال قوم من أهل النظر : حرّمت الخمر بهذه الآية يعني التي في سورة البقرة ، وقال الرازي في تفسيره (٤) (٢ / ٢٢٩) : إنَّ هذه الآية ـ يعني آية البقرة ـ دالّة على تحريم شرب الخمر. وذكر في (ص ٢٣١) في وجه دلالتها عليه وجوهاً.

٢ ـ رأى البلاذري أنّه كان سنة أربع من الهجرة كما في الإمتاع للمقريزي (ص ١٩٣) ، وذكر ابن إسحاق : أنّه كان في وقعة بني النضير سنة أربع على الراجح (٥) ، وقال ابن هشام في سيرته (٦) (٢ / ١٩٢) : نزل ببني النضير وذلك في شهر ربيع الأوّل ـ سنة أربع ـ فحاصرهم فيها ستّ ليال ، ونزل تحريم الخمر. وذكره ابن سيّد الناس في عيون الأثر (٧) (٢ / ٤٨).

ويؤيّد هذا الرأي ما أخرجه ابن مردويه عن جابر أنّه قال : حرّمت الخمر بعد أُحد (٨) ، وقد وقعت غزوة أُحد في سنة ثلاث فبعدها تكون سنة أربع تقريباً.

٣ ـ جزم الدمياطي على أنّ تحريم الخمركان في سنة الحديبيّة سنة ستّ كما في

__________________

(١) تاريخ الخطيب : ٨ / ٣٥٨ ، الدرّ المنثور : ١ / ٢٥٢ [ ١ / ٦٠٦ ]. (المؤلف)

(٢) أحكام القرآن : ١ / ٣٢٢.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ٣ / ٤١.

(٤) التفسير الكبير : ٦ / ٤١ و ٤٤.

(٥) فتح الباري : ١٠ / ٢٤ [ ١٠ / ٣١ ] ، عمدة القاري : ١٠ / ٨٢ [ ٢١ / ١٦٦ ]. (المؤلف)

(٦) السيرة النبويّة : ٣ / ٢٠٠.

(٧) عيون الأثر : ٢ / ٢٤.

(٨) تفسير الشوكاني : ٢ / ٧١ [ ٢ / ٧٥ ]. (المؤلف)

١٣٦

فتح الباري (١٠ / ٢٤) وعمدة القاري (١) (١٠ / ٨٢).

٤ ـ حرمتها في سنة الفتح عام ثمانية من الهجرة يوم الندوة المذكورة المنعقدة في دار أبي طلحة بآية المائدة التي فيها الإرهاب والتحذير ، وبها كفَّ عمر ومن كان معه في تلك الندوة عن الشرب وقال : انتهينا ، انتهينا.

وهذا القول غير مدعوم بحجّة ، وليس إلاّ لتصحيح شرب أولئك الرجال من الصحابة وجعله قبل التحريم ، فترى مثل ابن حجر لا يحكم به حكماً باتّا بل يستظهره من حديث أحمد (٢) ، قال في فتح الباري (٣) (٨ / ٢٧٤) : الذي يظهر أنّ تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة ، قال : سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صديق من ثقيف أو من دوس فلقيه بمكة عام الفتح براوية خمر يهديها إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا فلان أما علمت أنَّ الله حرّمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا فلان بما ذا أمرته؟ قال : أمرته أن يبيعها ، قال : إنّ الذي حرّم شربها حرّم بيعها. فأمر بها فأُفرغت في البطحاء.

وقصارى ما في هذا الحديث أنّ تحريم الخمر بلغ الرجل في عام الفتح لا أنَّها حُرّمت فيه ، لأنّ الرجل كان في منتأىً عن مستوى تبليغ الأحكام ، متخبّطاً بين أعراب البوادي ، غير عارف حتى بأصول المراودة والتحابب ، ويشهد لذلك إهداؤه الخمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنَّها على فرض عدم حرمتها ليست ممّا يُهدى إلى مثله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الرجل كان من دهماء الناس ، وجرى على ما هو المطّرد بين الرعرعة والساقة.

__________________

(١) فتح الباري : ١٠ / ٣١ ، عمدة القاري : ٢١ / ١٦٦.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٣٨١ ح ٢٠٤٢.

(٣) فتح الباري : ٨ / ٢٧٩.

١٣٧

الخليفة في الإسلام :

وأمّا هو ـ أبو بكر ـ في الإسلام فلم نعهد له نبوغاً في علم ، أو تقدّماً في جهاد ، أو تبرّزاً في الأخلاق ، أو تهالكاً في العبادة ، أو ثباتاً على مبدأ.

أمّا نبوغه في علم التفسير فلم يؤثر عنه في هذا العلم شيء يُحفل به ، فدونك كتب التفسير والحديث فلا تكاد تجد فيها عنه ما يُروي غُلّة صادٍ ، أو يُنجع طلبة طالب.

نعم ؛ يروى عنه أنَّه شارك صاحبه ـ عمر بن الخطّاب ـ في عدم المعرفة لمعنى الأبّ (١) الذي عرفه كلّ عربيّ صميم حتى أعراب البادية ، وليس من البدع أن يعرفه حتى الساقة من الناس ؛ فإنّه لا يعدوه أن يكون لدة بقيّة الكلمات العربيّة التي لا تزال العرب تلهج بها في كلّ حلّ ومرتحل ، ولا هو الدخيل (٢) حتى يُعذر فيه الجاهل به ، ولا من شواذّ الكلم التي قلّما تتعاطاه الجامعة العربيّة حتى يشذّ عرفانه عن بعضهم.

وإن تعجب فعجب اعتذار من جنح إليه (٣) بأنّه كان يلتزم الحائطة في تفسير القرآن ، ولذلك تورّع عن الإفاضة في معنى الأبّ ، لكن عرف من عرف أنّ الحائطة إنّما تجب في بيان مغازي القرآن الكريم وتعيين إرادته ، وتبيين مجمله ، وتأويل

__________________

(١) في قوله تعالى في سورة عبس : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا* وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً* وَحَدائِقَ غُلْباً* وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (المؤلف)

(٢) أما ما زعمه ابن حجر في فتح الباري [ ١٣ / ٢٧١ ] من أنّ الكلمة من الدخيل ولذلك لم يعرفها الخليفتان ؛ فقد مرّ الجواب عنه في الجزء السادس : ص ١٠٠. (المؤلف)

(٣) نظراء القرطبي [ في الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٧ و ١٩ / ١٤٥ ] ، والسيوطي [ في الدرّ المنثور : ٨ / ٤٢١ ]. (المؤلف)

١٣٨

متشابهه ، وما يجري مجرى ذلك ممّا يحظر في الدين التسرّع إليه من دون تثبّت وتوقيف ، وأمّا معاني ألفاظه العربيّة للعريق في لغة الضاد ، فأيّ حائطة تضرب على يده عن أن يفهمها وهو يعرفها بطبعه وجبلّته؟

وهب أنّ الرجل لم يُحِط خُبراً بلغة قومه فهلاّ تروّى في الذكر الحكيم في ذيل الآية الكريمة من قوله سبحانه : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) بياناً للفاكهة والأبّ؟ ليعلم أنّه سبحانه وتعالى امتنّ على الناس بالفاكهة ليأكلوها ، وبالأبّ لترعاه أنعامهم ، فتلك فاكهة ، وهذا العشب.

أخرج أبو القاسم البغوي عن ابن أبي مليكة قال : سُئل أبو بكر عن آيةٍ فقال : أيّ أرض تسعني ـ أو أيّ سماء تظلّني ـ إذا قلت في كتاب الله ما لم يرد الله؟

وأخرج أبو عبيدة عن إبراهيم التيمي قال : سُئل أبو بكر عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : أيّ سماء تظلّني ـ أو أيّ أرض تقلّني ـ إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟

وفي لفظ القرطبي : أيّ سماء تظلّني؟ وأي أرض تقلّني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع؟ إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى.

ذكره (١) القرطبي في تفسيره (١ / ٢٩) ، ابن تيميّة في مقدمة أصول التفسير (ص ٣٠) ، الزمخشري في الكشّاف (٣ / ٢٥٣) ، ابن كثير في تفسيره (١ / ٥) وصحّحه في (ص ٦) ، ابن القيّم في أعلام الموقّعين (ص ٢٩) وصحّحه ، الخازن في تفسيره (٤ / ٣٧٤) ،

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٧ و ١٩ / ١٤٥ ، مقدمة في أصول التفسير : ص ٤٧ ، الكشّاف : ٤ / ٧٠٤ ، أعلام الموقّعين : ١ / ٥٤ ، تفسير الخازن : ٤ / ٣٥٤ ، تفسير أبي السعود : ٩ / ١١٢ ، الدرّ المنثور : ٨ / ٤٢١ ، فتح الباري : ١٣ / ٢٧١.

١٣٩

أبو السعود في تفسيره هامش الرازي (ص ٣٨٩) ، السيوطي في الدرّ المنثور (٦ / ٣١٧) نقلاً عن أبي عبيد في فضائله وعبد بن حميد ، ابن حجر في فتح الباري (١٣ / ٢٣٠) ، وأوعز إليه ابن جزي الكلبي في تفسيره (٤ / ١٨٠).

الكلالة :

وتجد الخليفة على شاكلة صنوه في عدم العلم بالكلالة النازلة في آية الصيف آخر سورة النساء : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) الآية.

أخرج أئمّة الحديث بإسناد صحيح رجاله ثقات عن الشعبي قال : سُئل أبو بكر رضى الله عنه عن الكلالة؟ فقال : إنِّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأ فمنّي ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، أراه ما خلا الولد والوالد ، فلمّا استخلف عمر رضى الله عنه قال : إنّي لأستحيي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر.

أخرجه (١) سعيد بن منصور ، عبد الرزّاق ، ابن أبي شيبة ، الدارمي في سننه (٢ / ٣٦٥) ، وابن جرير الطبري في تفسيره (٦ / ٣٠) ، ابن المنذر ، البيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢٢٣) ، وحكى عنهم السيوطي في الجامع الكبير كما في ترتيبه (٦ / ٢٠) ، وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٦٠) ، والخازن في تفسيره (١ / ٣٦٧) ، وابن القيِّم في أعلام الموقّعين (ص ٢٩).

قال الأميني : هذا رأيه الثاني وكان أوّلاً يرى أنّ الكلالة من لا ولد له خاصّة ، وكان يشاركه في رأيه هذا عمر بن الخطّاب ثمّ رجعا عنه إلى ما سمعت (٢) ثمّ اختلفا

__________________

(١) المصنّف لعبد الرزاق : ١٠ / ٣٠٤ ح ١٩١٩١ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ١١ / ٤١٥ ح ١١٦٤٦ ، جامع البيان : مج ٣ / ج ٤ / ٢٨٤ ، كنز العمّال : ١١ / ٧٩ ح ٣٠٦٩١ ، تفسير الخازن : ١ / ٣٣٣ ، أعلام الموقّعين : ١ / ٨٢.

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ٧٧ [ ٥ / ٥١ ]. (المؤلف)

١٤٠