الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

أُوصي بنصرِ نبيِّ الخيرِ أربعةً

ابني عليّا وشيخَ القومِ عبّاسا

وحمزةَ الأَسَدَ الحامي حقيقتَهُ

وجعفراً أن تذودا دونه الناسا

كونوا فداءً لكم أُمِّي وما ولدت

في نصرِ أحمدَ دون الناس أتراسا (١)

ـ ٢ ـ

ما ناء به من عمل بارّ وقول مشكور

أمّا ما ناء به سيّد الأباطح أبو طالب سلام الله عليه من عمل بارّ وسعي مشكور في نصرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلاءته والذبّ عنه والدعوة إليه وإلى دينه الحنيف منذ بدء البعثة إلى أن لفظ أبو طالب نفسه الأخير ، وقد تخلّل ذلك جمل من القول كلّها نصوص على إسلامه الصحيح ، وإيمانه الخالص ، وخضوعه للرسالة الإلهيّة ، فإلى الملتقى. روى القوم :

١ ـ قال ابن إسحاق : إنّ أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً ، فلمّا تهيّأ للرحيل وأجمع السير هبّ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ بزمام ناقته وقال : يا عمّ إلى من تكلني لا أب لي ولا أمّ لي؟ فرقّ له أبو طالب وقال : والله لأخرجنّ به معي ولا يفارقني ولا أُفارقه أبداً. قال : فخرج به معه ، فلمّا نزل الركب بصرى من أرض الشام وتهيّأ راهب يُقال له بحيرا في صومعة له ، وكان أعلم أهل النصرانيّة ، ولم يزل في تلك الصومعة راهب إليه يصير علمهم من كتاب فيهم كما يزعمون يتوارثونه كائناً عن كائن ، فلمّا نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيراً ما يمرّون عليه قبل ذلك فلا يكلّمهم ولا يتعرّض لهم ، حتى إذا كان ذلك العام نزلوا به قريباً من صومعته فصنع لهم طعاماً كثيراً وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا ، وغمامة تظلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين القوم. ثمّ أقبلوا حتى نزلوا بظلّ شجرة قريباً منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلّت الشجرة وتهصّرت ، يعني تدلّت أغصانها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى

__________________

(١) في النسخة المطبوعة من متشابهات القرآن تصحيف وتحريف في الأبيات. راجع : ٢ / ٦٥. (المؤلف)

٤٦١

استظلّ تحتها ، فلمّا رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ، ثمّ أرسل إليهم فقال : إنّي قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش ، وأنا أحبّ أن تحضروا كلّكم صغيركم وكبيركم وحرّكم وعبدكم ، فقال له رجل منهم : يا بحيرا إنّ لذلك اليوم لشأناً ما كنت تصنع هذا فيما مضى وقد كنّا نمرّ بك كثيراً ، فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا : صدقت قد كان ما تقولون ، ولكنكم ضيوف فأحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلّكم ، فاجتمعوا إليه وتخلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشجرة.

فلمّا نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرفها وهي موجودة عنده ، فقال : يا معشر قريش لا يتخلّف أحد منكم عن طعامي هذا ، فقالوا : يا بحيرا ما تخلّف عنك أحد ينبغي أن يأتيك إلاّ غلام هو أحدث القوم سنّا تخلّف في رحالهم ، قال : فلا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم ، فقال رجل من قريش : واللاّت والعزّى إنّ لهذا اليوم نبأ. أيليق أن يتخلّف ابن عبد الله عن الطعام من بيننا؟ ثمّ قام إليه فاحتضنه ثمّ أقبل به حتى أجلسه مع القوم. فلمّا رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرّقوا قام بحيرا فقال له : يا غلام أسألك باللاّت والعزّى إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسألني باللاّت والعزّى شيئاً قطّ ، فقال بحيرا : فبالله إلاّ ما أخبرتني عمّا أسألك عنه. فقال : سلني عمّا بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من نومه وهيئته وأموره ورسول الله يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ، ثمّ نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوّة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. الحديث.

فقال أبو طالب في ذلك :

إنَّ ابن آمنة النبيَّ محمداً

عندي يفوق منازلَ الأولادِ

٤٦٢

لمّا تعلّقَ بالزمام رحمتُه

والعيس قد قلّصن (١) بالأزوادِ

فارفضَّ من عينيَّ دمعٌ ذارفٌ

مثلُ الجمان مفرِّقُ الأفرادِ

راعيتُ فيه قرابةً موصولةً

وحفظتُ فيه وصيّةَ الأجدادِ

وأمرتهُ بالسيرِ بين عمومةٍ

بيضِ الوجوهِ مصالتٍ أنجادِ (٢)

ساروا لأبعد طيَّةٍ معلومةٍ

فلقد تباعد طيّةُ (٣) المرتادِ

حتى إذا ما القومُ بصرى عاينوا

لاقوا على شركٍ من المرصادِ (٤)

حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردَّ معاشر الحسّادِ

قومٌ يهودٌ قد رأوا لمّا رأى

ظلَّ الغمام وعنَّ ذي الأكبادِ (٥)

ثاروا لقتل محمد فنهاهمُ

عنه وجاهد أحسن التجهادِ

فثنى زبيراً من بحيرا فانثنى

في القوم بعد تجاولٍ وبعادِ (٦)

ونهى دريساً فانتهى عن قوله

حبرٌ يوافق أمره برشادِ

وقال أيضاً :

ألم ترني من بعد همّ هممته

بفرقة حرّ الوالدين حرامِ (٧)

__________________

(١) قلص القوم : اجتمعوا فساروا. قلصت الناقة : استمرّت في مضيّها. تقلص : انضم وانزوى ، تدانى. (المؤلف)

(٢) مصالت : الماضي في الحوائج. الصلت الجبين : الواضح. نجد جمع النجد : الضابط للأمور يذّلل المصاعب. الشجاع الماضي فيما يعجز غيره. سريع الإجابة إلى ما دعي إليه. (المؤلف)

(٣) في الموضعين في رواية : طبّة. بالموحدة مؤنث الطبّ بفتح الطاء. الناحية. (المؤلف)

(٤) في الديوان : على شرف من المرصاد.

(٥) وفي رواية :

قومٌ يهودٌ قد رأوا ما قد رأوا

ظلّ الغمامة ناغري الأكباد

(المؤلف)

(٦) كذا في تهذب تاريخ دمشق : ١ / ٢٧٢ ، وفي الديوان : وثنى بحيراءُ زبيراً فانثنى ...

(٧) كذا في تهذيب تاريخ دمشق ، وفي الديوان والروض الأنف : كرام ، بدلاً من حرام.

٤٦٣

بأحمد لمّا أن شددت مطيّتي

برحلي وقد ودّعته بسلامِ

بكى حزناً والعيس قد فصلت بنا

وأخذت بالكفّين فضل زمامِ

ذكرت أباه ثمّ رقرقتُ عبرةً

تجود من العينين ذات سجامِ

فقلت : ترحّل راشداً في عمومةٍ

مواسير في البأساء غير لئامِ (١)

فجاء مع العير التي راح ركبها

شآمي الهوى والأصل غير شآمِ

فلمّا هبطنا أرضَ بصرى تشرّفوا

لنا فوق دورٍ ينظرون جسامِ

فجاء بحيرا عند ذلك حاشداً

لنا بشرابٍ طيِّبٍ وطعامِ

فقال اجمعوا أصحابكم لطعامنا

فقلنا جمعنا القوم غير غلامِ

يتيم فقال ادعوه إنَّ طعامَنا

كثيرٌ عليه اليومَ غيرُ حرامِ

فلو لا الذي خبّرتمُ عن محمدٍ

لكنتم لدينا اليومَ غيرَ كرامِ

فلمّا رآه مقبلاً نحو داره

يوقِّيه حرَّ الشمس ظلُّ غمامِ

حنا رأسَه شبهَ السجودِ وضمّه

إلى نحرِه والصدرِ أيَّ ضمامِ

وأقبل ركبٌ يطلبون الذي رأى

بحيرا من الأعلامِ وسط خيامِ

فثار إليهم خشيةً لعرامهم (٢)

وكانوا ذوي بغي لنا وعرامِ

دريس وتمام وقد كان فيهم (٣)

زبيرٌ وكلُّ القوم غيرُ نيامِ

فجاؤوا وقد همّوا بقتل محمدٍ

فردّهمُ عنه بحسنِ خصامِ

بتأويلهِ التوراةَ حتى تيقّنوا

وقال لهم رمتمْ أشدَّ مرامِ

أتبغون قتلاً للنبيِّ محمدٍ

خصصتم على شؤم بطول أثامِ

وإنَّ الذي نختاره منه مانعٌ

سيكفيه منكم كيد كلِّ طغامِ

فذلك من أعلامِه وبيانِه

وليس نهارٌ واضحٌ كظلامِ

__________________

(١) في الديوان والروض الأُنف ، مواسين بدلاً من : مواسير.

(٢) العرام : الشراسة والأذى. (المؤلف)

(٣) دريس ، وتمام ، وزبير ـ في بعض النسخ : زدير. أحبار من اليهود. (المؤلف)

٤٦٤

ديوان أبي طالب (١) (ص ٣٣ ـ ٣٥) ، تاريخ ابن عساكر (٢) (١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٢) ، الروض الأُنف (٣) (١ / ١٢٠).

وذكر السيوطي الحديث من طريق البيهقي في الخصائص الكبرى (٤) (١ / ٨٤) فقال في (ص ٨٥) : وقال أبو طالب في ذلك أبياتاً منها :

فما رجعوا حتى رأوا من محمدٍ

أحاديث تجلو غمَّ كلِّ فؤادِ

وحتى رأوا أحبار كلِّ مدينةٍ

سجوداً له من عصبةٍ وفرادِ

زبيراً وتمّاماً وقد كان شاهداً

دريساً وهمُّوا كلّهم بفسادِ

فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنوا

له بعد تكذيبٍ وطولِ بعادِ

كما قال للرهط الذين تهوّدوا

وجاهدهم في الله كلّ جهادِ

فقال ولم يترك له النصح ردّه

فإنّ له إرصاد كلّ مصادِ

فإنِّي أخاف الحاسدين وإنَّه

لفي الكتب مكتوبٌ بكلِّ مدادِ

٢ ـ استسقاء أبي طالب بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أخرج ابن عساكر في تاريخه (٥) عن جلهمة بن عرفطة قال : قدمت مكّة وهم في قحط فقالت قريش : يا أبا طالب أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فهلمَّ واستسق. فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنَّه شمس دجن تجلّت عنه سحابه قتماء وحوله أُغيلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذَ بإصبعه الغلام ، وما في السماء قزعة (٦) ،

__________________

(١) ديوان أبي طالب : ص ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٣ / ١٢ ـ ١٤.

(٣) الروض الأُنف : ٢ / ٢٢٧.

(٤) الخصائص الكبرى : ١ / ١٤٤.

(٥) مختصر تاريخ دمشق : ٢ / ١٦١ ـ ١٦٢.

(٦) القزعة : القطعة من السحاب. (المؤلف)

٤٦٥

فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا ، وأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب البادي والنادي ، وفي ذلك يقول أبو طالب :

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه

ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ

يلوذ به الهلاّكُ من آلِ هاشمٍ

فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

وميزان عدلٍ لا يخيس شعيرةً

ووزان صدقٍ وزنُه غيرُ هائلِ

شرح البخاري للقسطلاني (٢ / ٢٢٧) ، المواهب اللدنيّة (١ / ٤٨) ، الخصائص الكبرى (٨٦ ، ١٢٤) ، شرح بهجة المحافل (١ / ١١٩) ، السيرة الحلبيّة (١ / ١٢٥) ، السيرة النبويّة لزيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٨٧) ، طلبة الطالب (ص ٤٢) (١).

ذكر الشهرستاني في الملل والنحل (٢) بهامش الفصل (٣ / ٢٢٥) سيّدنا عبد المطّلب وقال : وممّا يدلّ على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوّة أنّ أهل مكّة لمّا أصابهم ذلك الجدب العظيم ، وأمسك السحاب عنهم سنتين ، أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو رضيع في قماط ، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء وقال : يا ربّ بحقّ هذا الغلام. ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول : بحقّ هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هاطلاً. فلم يلبث ساعة أن طبّق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد ، وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللاّمي الذي منه :

وأبيض يستسقى الغمامُ بوجهِهِ

ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل

ثمّ ذكر أبياتاً من القصيدة ، ولا يخفى على الباحث أنّ القصيدة نظمها أبو طالب عليه‌السلام أيّام كونه في الشعب كما مرّ.

__________________

(١) إرشاد الساري : ٣ / ٢٧ ، المواهب اللدنيّة : ١ / ١٨٤ ، الخصائص الكبرى : ١ / ١٤٦ ، ٢٠٨ ، السيرة الحلبيّة : ١ / ١١٦ ، السيرة النبويّة : ١ / ٤٣.

(٢) الملل والنحل : ٢ / ٢٤٩.

٤٦٦

فاستسقاء عبد المطلّب وابنه سيّد الأبطح بالنبيّ الأعظم يوم كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رضيعاً يافعاً يُعرب عن توحيدهما الخالص ، وإيمانهما بالله ، وعرفانهما بالرسالة الخاتمة ، وقداسة صاحبها من أوّل يومه ، ولو لم يكن لهما إلاّ هذان الموقفان لكفياهما ، كما يكفيان الباحث عن دليل آخر على اعتناقهما الإيمان.

٣ ـ أبو طالب في مولد أمير المؤمنين عليه‌السلام :

عن جابر بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ميلاد عليّ بن أبي طالب فقال : «لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح عليه‌السلام ، إنّ الله تبارك وتعالى خلق عليّا من نوري وخلقني من نوره وكلانا من نور واحد ، ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ نقلنا من صلب آدم عليه‌السلام في أصلاب طاهرة إلى أرحام زكيّة ، فما نُقلت من صلب إلاّ ونقل عليّ معي ، فلم نزل كذلك حتى استودعني خير رحم وهي آمنة. واستودع عليّا خير رحم وهي فاطمة بنت أسد». وكان في زماننا رجل زاهد عابد يقال له المبرم بن دعيب بن الشقبان قد عبد الله تعالى مائتين وسبعين سنة لم يسأل الله حاجة ، فبعث الله إليه أبا طالب ، فلمّا أبصره المبرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بين يديه ثمّ قال : من أنت؟ فقال : رجل من تهامة. فقال : من أيِّ تهامة؟ فقال : من بني هاشم. فوثب العابد فقبّل رأسه ثمّ قال : يا هذا إنّ العليّ الأعلى ألهمني إلهاماً. قال أبو طالب : وما هو؟ قال : ولد يولد من ظهرك وهو وليّ الله. فلمّا كان الليلة التي ولد فيها عليّ أشرقت الأرض ، فخرج أبو طالب وهو يقول : أيّها الناس ولد في الكعبة وليّ الله ، فلمّا أصبح دخل الكعبة وهو يقول :

يا ربَّ هذا الغسق الدجيِ

والقمرِ المنبلجِ المُضيِ

بيِّن لنا من أمرك الخفيِ

ما ذا ترى في اسم ذا الصبيِ

قال : فسمع صوت هاتف يقول :

٤٦٧

يا أهل بيت المصطفى النبيِ

خصصتمُ بالولدِ الزكيِ

إنَّ اسمه من شامخِ العليِ

عليٌّ اشتقَّ من العليِ

أخرجه الحافظ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب (١) (ص ٢٦٠) وقال : تفرّد به مسلم بن خالد الزنجي وهو شيخ الشافعي ، وتفرّد به عن الزنجي عبد العزيز بن عبد الصمد وهو معروف عندنا.

٤ ـ بدء أمر النبي وأبو طالب :

أخرج فقيه الحنابلة إبراهيم بن علي بن محمد الدينوري في كتابه نهاية الطلب وغاية السؤول في مناقب آل الرسول (٢) بإسناده عن طاووس عن ابن عبّاس في حديث طويل : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للعبّاس رضى الله عنه إنّ الله قد أمرني بإظهار أمري وقد أنبأني واستنبأني فما عندك؟ فقال له العبّاس رضى الله عنه : يا ابن أخي تعلم أنّ قريشاً أشدّ الناس حسداً لولد أبيك ، وإن كانت هذه الخصلة كانت الطامة الطمّاء والداهية العظيمة ورمينا عن قوس واحد وانتسفونا نسفاً ، صلتا (٣) ولكن قرّب إلى عمّك أبي طالب فإنّه كان أكبر أعمامك إن لا ينصرك لا يخذلك ولا يسلمك ، فأتياه ، فلمّا رآهما أبو طالب قال : إنّ لكما لظنّة وخبراً ، ما جاء بكما في هذا الوقت؟ فعرّفه العبّاس ما قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أجابه به العبّاس ، فنظر إليه أبو طالب وقال له : أخرج يا بن أخي فإنّك الرفيع كعباً ، والمنيع حزباً ، والأعلى أباً ، والله لا يسلقك لسان إلاّ سلقته ألسن حداد ، واجتذبته سيوف حداد ، والله لتذلّنّ لك العرب ذلّ البهم لحاضنها ، ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً ، ولقد قال : إنّ من صلبي لنبيّا ، لوددت أنِّي أدركت ذلك

__________________

(١) كفاية الطالب : ص ٤٠٦.

(٢) راجع الطرائف لسيّدنا ابن طاووس : ص ٨٥ [ ص ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ح ٣٨٨ ] ، وضياء العالمين لشيخنا أبي الحسن الشريف. (المؤلف)

(٣) الصلت : الشديد.

٤٦٨

الزمان فآمنت به ، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به.

قال الأميني : أترى أنّ أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مطمئنّا به؟ وينشّط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا التنشيط لأوّل يومه ، ويأمره بإشهار أمره والإشادة بذكر الله ، وهو مخبت بأنّه هو ذلك النبيّ الموعود بلسان أبيه والكتب السالفة ، ويتكهّن بخضوع العرب له ، أتراه سلام الله عليه يأتي بهذه كلّها ثمّ لا يؤمن به؟ إن هذا إلاّ اختلاق.

٥ ـ أبو طالب وفقده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ذكر ابن سعد الواقدي في الطبقات الكبرى (١) (١ / ١٨٦) طبع مصر و (ص ١٣٥) طبع ليدن حديث ممشى قريش إلى أبي طالب في أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن قال : فاشمأزّوا ونفروا منها ـ يعني من مقالة محمد ـ وغضبوا وقاموا وهم يقولون : اصبروا على آلهتكم ، إنّ هذا لشيء يُراد ، ويقال المتكلّم بهذا عقبة بن أبي معيط. وقالوا : لا نعود إليه أبداً ، وما خيرٌ من أن نغتال محمداً. فلمّا كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه ، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلّب ثمّ قال : ليأخذ كلّ واحد منكم حديدة صارمة ، ثمّ ليتبعني إذا دخلت المسجد ، فلينظر كلّ فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية ـ يعني أبا جهل ـ فإنّه لم يغب عن شرّ إن كان محمد قد قُتل ، فقال الفتيان : نفعل ، فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال ؛ فقال : يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال : نعم كنت معه آنفاً. فقال أبو طالب : لا أدخل بيتي أبداً حتى أراه ؛ فخرج زيد سريعاً حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدّثون ، فأخبره الخبر ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي طالب ، فقال : يا بن أخي أين كنت؟ أكنت في خير؟ قال : نعم. قال : ادخل بيتك ، فدخل

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٤٦٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فلمّا أصبح أبو طالب غدا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذ بيده فوقف به على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميّون والمطّلبيّون فقال : يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟ قالوا : لا. فأخبرهم الخبر ، وقال للفتيان : اكشفوا عمّا في أيديكم فكشفوا ، فإذا كلّ رجل منهم معه حديدة صارمة. فقال : والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحداً. حتى نتفانى نحن وأنتم ، فانكسر القوم وكان أشدّهم انكساراً أبو جهل.

لفظ آخر :

وأخرج الفقيه الحنبلي إبراهيم بن عليّ بن محمد الدينوري في كتابه نهاية الطلب (١) بإسناده عن عبد الله بن المغيرة بن معقب ، قال : فقد أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظنّ أنّ بعض قريش اغتاله فقتله ، فبعث إلى بني هاشم فقال : يا بني هاشم أظنّ أنّ بعض قريش اغتال محمداً فقتله ، فليأخذ كلّ واحد منكم حديدة صارمة وليجلس إلى جنب عظيم من عظماء قريش ، فإذا قلت : أبغي محمداً. قتل كلّ منكم الرجل الذي إلى جانبه. وبلغ رسول الله جمع أبي طالب وهو في بيت عند الصفا ، فأتى أبا طالب وهو في المسجد ، فلمّا رآه أبو طالب أخذ بيده ثمّ قال : يا معشر قريش ، فقدت محمداً فظننت أنّ بعضكم اغتاله فأمرت كلّ فتى شهد من بني هاشم أن يأخذ حديدةً ويجلس كلّ واحد منهم إلى عظيم منكم ، فإذا قلت : أبغي محمداً قتل كلّ واحد منهم الرجل الذي إلى جنبه ، فاكشفوا عمّا في أيديكم يا بني هاشم فكشف بنو هاشم عمّا في أيديهم فنظرت قريش إلى ذلك فعندها هابت قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ أنشأ أبو طالب :

ألا أبلغ قريشاً حيث حلّت

وكلّ سرائر منها غرور

__________________

(١) راجع الطرائف لسيّدنا ابن طاووس : ص ٨٥ [ ص ٣٠٣ ح ٣٨٩ ]. (المؤلف)

٤٧٠

فإنّي والضوابحُ عادياتٌ (١)

وما تتلو السفاسرة الشهور (٢)

لآلِ محمدٍ راعٍ حفيظٌ

وودّ الصدر منِّي والضميرُ

فلستُ بقاطعٍ رحمي وولدي

ولو جرّت مظالمها الجزورُ

أيأمر جمعُهم أبناءَ فهرٍ

بقتل محمدٍ والأمرُ زورُ

فلا وأبيك لا ظفرتْ قريشٌ

ولا أمَّت رشاداً إذ تشيرُ

بُنيّ أخي ونوطُ القلبِ منِّي

وأبيضُ ماؤه غدقٌ كثيرُ

ويشرب بعده الولدان ريّا

وأحمد قد تضمّنه القبورُ

أيا بن الأنف أنف بني قصيّ (٣)

كأنَّ جبينَكَ القمرُ المنيرُ

لفت نظر : قال شيخنا العلاّمة المجلسي في البحار (٤) (٩ / ٣١) : روى جامع الديوان ـ يعني ديوان أبي طالب ـ نحو هذا الخبر مرسلاً ثمّ ذكر الأشعار هكذا ...

فذكر الأشعار وفيها زيادة عشرين بيتاً على ما ذكر ، وهي لا توجد في الديوان المطبوع لسيّدنا أبي طالب.

لفظ ثالث :

وقال السيّد فخار بن معد في كتابه الحجّة (٥) (ص ٦١) : وأخبرني الشيخ الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد ابن الجوزي المحدّث البغدادي ـ وكان ممّن يرى كفر أبي طالب ويعتقده ـ بواسط العراق سنة إحدى وتسعين وخمسمائة بإسناد له إلى الواقدي ،

__________________

(١) في تاج العروس : ٣ / ٢٧٢ : فإنّي والسوابح كلّ يوم. وفي ص ٣٢٠ : فإنّي والضوابح كلّ يوم(المؤلف)

(٢) السفاسرة : أصحاب الأسفار وهي الكتب. الشهور : العلماء جمع الشهر. كذا فسّر البيت كما في تاج العروس : ٣ / ٢٧٢ ، ٣٢٠. (المؤلف)

(٣) الأنف : السيّد. (المؤلف)

(٤) بحار الأنوار : ٣٥ / ١٤٩ ح ٨٥.

(٥) الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : ص ٢٥٤.

٤٧١

قال : كان أبو طالب بن عبد المطّلب لا يغيب صباح النبيّ ولا مساءه ، ويحرسه من أعدائه ويخاف أن يغتالوه ، فلمّا كان ذات يوم فقده فلم يره ، وجاء المساء فلم يره ، وأصبح الصباح فطلبه في مظانّه فلم يجده فلزم أحشاءه ، وقال : وا ولداه ، وجمع عبيده ومن يلزمه في نفسه فقال لهم : إنّ محمداً قد فقدته في أمسنا ويومنا هذا ولا أظنّ إلاّ أنّ قريشاً قد اغتالته وكادته ، وقد بقي هذا الوجه ما جئته ، وبعيد أن يكون فيه. واختار من عبيده عشرين رجلاً ، فقال : امضوا وأعدّوا سكاكين وليمض كلّ رجل منكم وليجلس إلى جنب سيّد من سادات قريش ، فان أتيت ومحمد معي فلا تُحدثُنّ أمراً وكونوا على رسلكم حتى أقف عليكم ، وإن جئت وما محمد معي فليضرب كلّ منكم الرجل الذي إلى جانبه من سادات قريش. فمضوا وشحذوا سكاكينهم حتى رضوها ، ومضى أبو طالب في الوجه الذي أراده ومعه رهطه من قومه فوجده في أسفل مكّة قائماً يصلّي إلى جنب صخرة فوقع عليه وقبّله وأخذ بيده وقال : يا بن أخ قد كدت أن تأتي على قومك ، سر معي ، فأخذ بيده وجاء إلى المسجد وقريش في ناديهم جلوس عند الكعبة ، فلمّا رأوه قد جاء ويده في يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : هذا أبو طالب قد جاءكم بمحمد إنّ له لشأناً ، فلمّا وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده : أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كلّ واحد منهم ما في يده. فلمّا رأوا السكاكين قالوا : ما هذا يا أبا طالب؟ قال : ما ترون ؛ إنِّي طلبت محمداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم ، فأمرت هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم : إن جئت وليس محمد معي فليضرب كلّ منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذنّي فيه ، ولو كان هاشميّا ، فقالوا : وهل كنت فاعلاً؟ فقال : أي وربّ هذه وأومى إلى الكعبة ، فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وكان من أحلافه : لقد كدت تأتي على قومك؟ قال هو ذلك. ومضى به وهو يقول :

اذهب بُنيَّ فما عليك غضاضةٌ

اذهب وقرَّ بذاك منك عيونا

٤٧٢

والله لن يصلوا إليك بجمعِهمْ

حتى أُوسَّدَ في التراب دفينا

ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي

ولقد صدقتَ وكنتَ قبلُ أمينا

وذكرت ديناً لا محالة أنَّه

من خيرِ أديان البريّة دينا (١)

فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والاستعطاف وهو لا يحفل بهم ولا يلتفت إليهم.

قال الأميني : هذا شيخ الأبطح يروقه أن يُضحّي كلّ قومه دون نبيّ الإسلام وقد تأهّب لأن يطأ القوميّات كلّها والأواصر المتّشجة بينه وبين قريش بأخمص الدين ، فحيّاها الله من عاطفة إلهيّة ، وآصرة دينيّة هي فوق أواصر الرحم.

٦ ـ أبو طالب في بدء الدعوة :

لمّا نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢). خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصعد على الصفا فهتف : يا صباحاه. فاجتمعوا إليه ، فقال : «أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدّقي؟» قالوا : نعم ما جرّبنا عليك كذباً. قال : «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب : تبّا لك ، أما جمعتنا إلاّ لهذا؟ ثمّ أحضر قومه في داره ، فبادره أبو لهب وقال : هؤلاء هم عمومتك وبنو عمّك فتكلّم ودع الصبأة (٣) واعلم أنّه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة ، وأنّ أحقّ من أخذك فحبسك بنو أبيك ، وإن أقمت ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن ينبّ لك بطون قريش ، وتمدّهم العرب ، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشرّ ممّا جئتهم به. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتكلّم.

__________________

(١) راجع ما أسلفناه : ص ٣٣٤. (المؤلف)

(٢) مرّ حديثها في الجزء الثاني : ص ٢٧٨. (المؤلف)

(٣) الصبأ : الخروج من دين إلى دين آخر. (المؤلف)

٤٧٣

ثمّ دعاهم ثانية وقال : «الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له. ثمّ قال : إنّ الرائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة ، والله لتموتُنّ كما تنامون ، ولتبعثُنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبُنّ بما تعملون ، وإنّها الجنّة أبداً والنار أبداً».

فقال أبو طالب : ما أحبّ إلينا معاونتك ، وأقبلنا لنصيحتك ، وأشدّ تصديقنا لحديثك ، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنّما أنا أحدهم غير أنّي أسرعهم إلى ما تحبّ ، فامض لما أُمرت به ، فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أنّ نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطّلب (١).

قال الأميني : لم يكن دين عبد المطّلب سلام الله عليه إلاّ دين التوحيد والإيمان بالله ورسله وكتبه غير مشوب بشيء من الوثنيّة ، وهو الذي كان يقول في وصاياه : إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة. إلى أن هلك ظلوم لم تصبه عقوبة. فقيل له في ذلك ، ففكّر في ذلك ، فقال : والله إنّ وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسن بإحسانه ، ويعاقب المسيء باساءته ، وهو الذي قال لأبرهة : إنّ لهذا البيت ربّا يدبّ عنه ويحفظه ، وقال وقد صعد أبا قبيس :

لاهُمَّ إنَّ المرء يم

نع حلّه فامنع حلالكْ

لا يغلبنَّ صليبهم

ومحالهم عدوا محالكْ

فانصر على آل الصلي

ب وعابديه اليوم آلكْ

إن كنت تاركهم وكع

بتنا فأمرٌ ما بدا لكْ (٢)

__________________

(١) الكامل لابن الأثير : ٢ / ٢٤ [ ١ / ٤٨٦ ]. (المؤلف)

(٢) الملل والنحل للشهرستاني هامش الفصل : ٣ / ٢٢٤ [ ٢ / ٢٤٩ ] ، الدرج المنيفة للسيوطي : ص ١٥ مسالك الحنفاء : ص ٣٧. (المؤلف)

٤٧٤

ويعرب عن تقدّمه في الإيمان الخالص والتوحيد الصحيح انتماء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه ومباهاته به يوم حنين بقوله :

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطلب (١)

وقد أجَاد الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في قوله :

تنقّل أحمدٌ نوراً عظيماً تلالا

في جباه الساجدينا

تقلّب فيهمُ قرناً فقرناً

إلى أن جاء خيرُ المرسلينا (٢)

وهذا هو الذي أراده أبو طالب ـ سلام الله عليه ـ بقوله : نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطّلب. وهو صريح بقيّة كلامه ، وقد أراد بهذا السياق التعمية على الحضور لئلاّ يناصبوه العداء بمفارقتهم ، وهذا السياق من الكلام من سنن العرب في محاوراتهم ، قد يريدون به التعمية ، وقد يراد به التأكيد للمعنى المقصود كقول الشاعر :

ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائبِ

ولو لم يكن لسيّدنا أبي طالب إلاّ موقفه هذا لكفى بمفرده في إيمانه الثابت ، وإسلامه القويم ، وثباته في المبدأ.

قال ابن الأثير (٣) : فقال أبو لهب : هذه والله السوء (٤) ، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم ، فقال أبو طالب : والله لنمنعنّه ما بقينا. وفي السيرة الحلبيّة (٥) (١ / ٣٠٤) : إنّ الدعوة كانت في دار أبي طالب.

__________________

(١) طبقات ابن سعد طبع مصر رقم التسلسل ص ٦٦٥ [ ٢ / ١٥١ ] ، تاريخ الطبري : [ ٣ / ٧٦ حوادث سنة ٨ ه‍ ]. (المؤلف)

(٢) مسالك الحنفاء للسيوطي : ص ٤٠ ، الدرج المنيفة ص ١٤. (المؤلف)

(٣) الكامل في التاريخ : ١ / ٤٨٧.

(٤) في المصدر : السوأة.

(٥) السيرة الحلبيّة : ١ / ٢٨٥.

٤٧٥

قال عقيل بن أبي طالب : جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : إنّ ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي كعبتنا وفي ديارنا ويُسمعنا ما نكره ، فإن رأيت أن تكفّه عنّا فافعل. فقال لي : يا عقيل التمس لي ابن عمّك. فأخرجته من كِبْس (١) من كباس أبي طالب. فجاء يمشي معي يطلب الفيء يطأ فيه لا يقدر عليه ، حتى انتهى إلى أبي طالب فقال : يا بن أخي والله لقد كنت لي مطيعاً ، جاء قومك يزعمون أنّك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم فتؤذيهم وتسمعهم ما يكرهون ، فإن رأيت أن تكفّ عنهم. فحلّق بصره إلى السماء وقال : والله ما أنا بقادر أن أردّ ما بعثني به ربّي ، ولو أن يشعل أحدهم من هذه الشمس ناراً. فقال أبو طالب : والله ما كذب قطّ ، فارجعوا راشدين.

قال الأميني : هكذا أخرجه البخاري في تاريخه (٢) بإسناد رجاله كلّهم ثقات ، وبهذا اللفظ ذكره المحبّ الطبري في ذخائر العقبى (ص ٢٢٣). غير أنّ ابن كثير لمّا رأى لكلمة : راشدين. قيمة في إيمان أبي طالب حذفها في تاريخه (٣) (٣ / ٤٢). حيّا الله الأمانة!

وأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (٤) (١ / ١٧١) حديث الدعوة عن عليّ وفيه : «ثمّ قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من يؤازرني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله الجنّة؟ فقلت : أنا يا رسول الله ، وإنّي لأحدثهم سنّا ، وأحمشهم ساقاً. وسكت القوم ، ثمّ قالوا : يا أبا طالب ألا ترى ابنك؟ قال : دعوه فلن يألو (٥) ابن عمّه خيرا».

وروى أبو عمرو الزاهد الطبري عن تغلب عن ابن الأعرابي أنّه قال في لغة ـ العور ـ إنّه الرديّ من كلّ شيء قال : ومن العور ما في رواية ابن عبّاس. ثمّ ذكر

__________________

(١) الكِبس : البيت الصغير.

(٢) التاريخ الكبير : ٧ / ٥٠ رقم ٢٣٠.

(٣) البداية والنهاية : ٣ / ٥٥.

(٤) الطبقات الكبرى : ١ / ١٨٧.

(٥) يألو : يقصّر. (المؤلف)

٤٧٦

حديث عليّ عليه‌السلام بطوله إلى أن قال : قال : «فلمّا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتكلّم اعترضه أبو لهب ، فتكلّم بكلمات وقال : قوموا. فقاموا وانصرفوا. قال : فلمّا كان من الغد أمرني فصنعت مثل ذلك الطعام والشراب ودعوتهم فأقبلوا ودخلوا فأكلوا وشربوا ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتكلّم فاعترضه أبو لهب فقال له أبو طالب : اسكت يا أعور ما أنت وهذا؟ ثمّ قال : لا يقومنّ أحد. قال : فجلسوا ثمّ قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم يا سيّدي فتكلّم بما تحبّ وبلّغ رسالة ربّك فإنّك الصادق المصدّق».

وإلى هذا الحديث وكلمة أبي طالب ـ اسكت يا أعور ما أنت وهذا؟ ـ وقع الإيعاز في النهاية لابن الأثير (١) (٣ / ١٥٦) ، والفائق للزمخشري (٢) (٢ / ٩٨) نقلاً عن ابن الأعرابي ، وفي لسان العرب (٣) (٦ / ٢٩٤) ، تاج العروس (٣ / ٤٢٨).

قال الأميني : أيّ كافر طاهر هذا سلام الله عليه وهو يدافع عن الإسلام المقدّس بكلّ حوله وطوله ، ويسلق رجال قومه بلسان حديد ، ويحضّ النبيّ الأعظم على الدعوة وتبليغ رسالته عن ربّه ، ويراه الصادق المصدّق؟.

٧ ـ قول أبي طالب لعليّ : الزم ابن عمّك :

قال ابن إسحاق : ذكر بعض أهل العلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، فيصلّيان الصلوات فيها ، فاذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ، ثمّ إنّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصلّيان ، فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال : «أي عمّ هذا

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٣١٩.

(٢) الفائق : ٣ / ٣٧.

(٣) لسان العرب : ٩ / ٤٦٩.

٤٧٧

دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم».

وذكروا أنّه قال لعليّ : أي بُنيّ ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال : «يا أبت آمنت بالله وبرسول الله وصدّقته بما جاء به ، وصلّيت معه لله واتّبعته» فزعموا أنّه قال له : أما إنّه لم يدعُك إلاّ إلى خير ، فالزمه. وفي لفظ عن عليّ : إنّه لمّا أسلم قال له أبو طالب : الزم ابن عمّك.

سيرة ابن هشام (١ / ٢٦٥) ، تاريخ الطبري (٢ / ٢١٤) ، تفسير الثعلبي ، عيون الأثر (١ / ٩٤) الإصابة (٤ / ١١٦) ، أسنى المطالب (ص ١٠) (١).

وفي شرح ابن أبي الحديد (٢) (٣ / ٣١٤) : روي عن عليّ قال : قال أبي : يا بنيّ الزم ابن عمّك فإنّك تسلم به من كلّ بأس عاجل وآجل. ثمّ قال لي :

إنّ الوثيقةَ في لزوم محمدٍ

فاشدد بصحبته على أيديكا

فقال : ومن شعره المناسب لهذا المعنى قوله :

إنّ عليّا وجعفراً ثقتي

عند ملمّ الزمان والنوبِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمّكما

أخي لأُمّي من بينهم وأبي

والله لا أخذل النبيّ ولا

يخذله من بنيّ ذو حسبِ

هذه الأبيات الثلاثة توجد في ديوان أبي طالب (٣) أيضاً (ص ٣٦) وذكرها العسكري كتاب الأوائل (٤) قال : إنّ أبا طالب مرّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه جعفر فرأى

__________________

(١) السيرة النبويّة : ١ / ٢٦٣ ، تاريخ الأمم والملوك : ٢ / ٣١٣ ، عيون الأثر : ١ / ١٢٥ ، أسنى المطالب : ص ١٧.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٧٥ كتاب ٩.

(٣) ديوان أبي طالب : ص ٩٤ ـ ٩٥.

(٤) الأوائل : ص ٧٥.

٤٧٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي وعليّ معه ، فقال لجعفر : يا بنيّ صل جناح ابن عمّك. فقام إلى جنب عليّ ، فأحسّ النبيّ فتقدّمهما ، وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا ، فانصرف أبو طالب مسروراً وأنشأ يقول :

إنَّ عليّا وجعفراً ثقتي

عند ملمِّ الزمان والنوبِ

وذكر أبياتاً لم يذكرها ابن أبي الحديد ومنها :

نحن وهذا النبي ننصرُهُ

نضربُ عنه الأعداءَ كالشهبِ

وأخرج أبو بكر الشيرازي في تفسيره : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أُنزِل عليه الوحي أتى المسجد الحرام وقام يصلّي فيه ، فاجتاز به عليّ عليه‌السلام وكان ابن تسع سنين فناداه : يا عليّ إليّ أقبل. فأقبل إليه ملبّياً فقال له النبيّ : «إنّي رسول الله إليك خاصّة وإلى الخلق عامّة فقف عن يميني وصلّ معي». فقال : «يا رسول الله حتى أمضي وأستأذن أبا طالب والدي» ؛ فقال له : «اذهب فإنّه سيأذن لك» ، فانطلق إليه يستأذنه في اتّباعه ، فقال : يا ولدي تعلم أنّ محمداً أمين الله منذ كان ، امض إليه واتّبعه ترشد وتفلح. فأتى عليّ عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يصلّي في المسجد ، فقام عن يمينه يصلّي معه ، فاجتاز أبو طالب بهما وهما يصلّيان فقال : يا محمد ما تصنع؟ قال : «أعبد إله السموات والأرض ومعي أخي عليّ يعبد ما أعبد وأنا أدعوك إلى عبادة الواحد القهّار» فضحك أبو طالب حتى بدت نواجده وأنشأ يقول :

والله لن يصلوا إليك بجمعِهمْ

حتى أُغيّبَ في الترابِ دفينا

إلى آخر الأبيات التي أسلفناها (ص ٣٣٤).

٨ ـ قول أبي طالب : صل جناح ابن عمّك :

أخرج ابن الأثير : أنّ أبا طالب رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّا يصلّيان وعليّ على

٤٧٩

يمينه ، فقال لجعفر رضي الله تعالى عنه : صل جناح ابن عمّك ، وصلّ عن يساره ، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. وقال أبو طالب :

فصبراً أبا يعلى على دين أحمدٍ

وكن مظهراً للدين وُفِّقت صابرا

وحط من أتى بالحقِّ من عند ربِّه

بصدقٍ وعزمٍ لا تكن حمزُ كافرا

فقد سرّني إذ قلت إنَّك مؤمنٌ

فكن لرسول الله في الله ناصرا

وبادِ قريشاً بالذي قد أتيته

جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا

أُسد الغابة (١) (١ / ٢٨٧) ، شرح ابن أبي الحديد (٢) (٣ / ٣١٥) ، الإصابة (٤ / ١١٦) ، السيرة الحلبيّة (٣) (١ / ٢٨٦) ، أسنى المطالب (٤) (ص ٦) وقال : قال البرزنجي : تواترت الأخبار أنّ أبا طالب كان يحبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحوطه وينصره ويعينه على تبليغ دينه ويُصدّقه فيما يقوله ؛ ويأمر أولاده كجعفر وعليّ باتّباعه ونصرته.

وقال في (ص ١٠) : قال البرزنجي : هذه الأخبار كلّها صريحة في أنّ قلبه طافح وممتلئ بالإيمان بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٩ ـ أبو طالب وحنوّه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

قال أبو جعفر محمد بن حبيب رحمه‌الله في أماليه : كان أبو طالب إذا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحياناً يبكي وبقول : إذا رأيته ذكرت أخي ، وكان عبد الله أخاه لأبويه ، وكان شديد الحبّ والحنوّ عليه ، وكذلك كان عبد المطّلب شديد الحبّ له ، وكان أبو طالب كثيراً ما يخاف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيات إذا عرف مضجعه ، فكان يقيمه ليلاً من

__________________

(١) أُسد الغابة : ١ / ٣٤١ رقم ٧٥٩.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٧٦ كتاب ٩.

(٣) السيرة الحلبيّة : ١ / ٢٦٩.

(٤) أسنى المطالب : ص ١٠ و ١٧.

٤٨٠