الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

وغزا ، وتوفّي وله ثلاثمائة سنة. الإصابة (٢ / ٤٧٢).

٢٩ ـ عمرو بن المُسبّح (١) الطائي : مات وله مائة وخمسون عاماً. قال ابن قتيبة : لست أدري أقبض قبل وفاة النبيّ أم بعده. الإصابة (٣ / ١٦).

٣٠ ـ فضالة بن زيد العدواني : سأله معاوية : كم أتت لك يا فضالة؟ قال : عشرون ومائة سنة. الإصابة (٣ / ٢١٤).

٣١ ـ قباث بن أشيم : سأله عثمان بن عفان : أنت أكبر أم رسول الله؟ فقال : رسول الله أكبر منّي وأنا أسنّ منه. الإصابة (٣ / ٢٢١).

٣٢ ـ قردة بن نفاثة السلولي : أدرك الإسلام وهو شيخ كبير ، وعاش مائة وخمسين سنة ، وله كما في الإصابة (٣ / ٢٣١) من أبيات :

بانَ الشبابُ فلم أحفلْ به بالا

وأقبلَ الشيبُ والإسلامُ إقبالا

٣٣ ـ لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي الجعفري : توفّي سنة (٤١) وهو ابن مائة وأربعين أو مائة وسبع وخمسين سنة أو مائة وستين سنة. الإصابة (٣ / ٣٢٦).

٣٤ ـ اللجلاج الغطفاني : وفد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن سبعين وعاش مائة وعشرين سنة. الإصابة (٣ / ٣٢٨).

٣٥ ـ المستوعز بن ربيعة بن كعب : كان من فرسان العرب في الجاهليّة ، عاش إلى أيّام معاوية وكان له ٣٢٠ / ٣٣٠ سنة. الإصابة (٣ / ٤٩٢).

٣٦ ـ معاوية بن ثور البكائي : أسلم بيد النبيّ وهو شيخ كبير. الإصابة (١ / ١٥٦) وفي بعض المعاجم : كان ابن مائة سنة.

__________________

(١) بضم الميم وفتح المهملة وتشديد الموحّدة كما في الإصابة : ٣ / ١٦ ، وفي المعارف لابن قتيبة : ص ١٣٦ [ ص ٣١٤ ] : المسيح. (المؤلف)

٣٨١

٣٧ ـ منقذ بن عمرو الأنصاري : كان قد أتى عليه مائة وثلاثون في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في أُسد الغابة (١).

٣٨ ـ النابغة الجعدي : عاش في الجاهليّة مائتي سنة ، ومات وهو ابن ٢٢٥ / ٢٣٠ عاماً ، وهو القائل كما في الإصابة (٣ / ٥٣٨):

ألا زعمت بنو أُسدٍ بأنّي

أبو ولدٍ كبيرُ السنِّ فاني

فمن يك سائلاً عنِّي فإنّي

من الفتيان أيّام الخنانِ (٢)

أتت مائةٌ لعام ولدتُ فيه

وعشرٌ بعد ذاك وحِجّتانِ

وقد أبقت صروفُ الدهرِ منّي

كما أبقت من السيفِ اليماني

وقال أبو حاتم : عاش مائتي سنة ، وهو القائل :

قالت أمامة كم عمرت زمانه

وذبحت من عنزٍ على الأوثانِ

ولقد شهدتُ عكاظَ قبل محلّها

فيها وكنت أُعدُّ من الفتيانِ

والمنذرَ بنَ محرّقٍ في ملكِهِ

وشهدتُ يوم هجائنِ النعمانِ

وعمرتُ حتى جاءَ أحمدُ بالهدى

وقوارعٌ تُتلى من القرآنِ

ولبستُ في الإسلامِ ثوباً واسعاً

من سيبِ لا حرمٍ ولا منّانِ

٣٩ ـ نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب الهاشمي ابن عمّ النبيّ الطاهر : كان أسنّ من أسلم من بني هاشم حتى من عمّيه حمزة والعبّاس المذكورين. الإصابة (٣ / ٥٧٧).

٤٠ ـ نوفل بن معاوية بن عروة الدؤلي : كان ممّن عاش في الجاهليّة ستين وفي الإسلام ستين سنة. الإصابة (٣ / ٥٧٨).

وقبل هؤلاء كلّهم أبو قحافة والد الخليفة ؛ فإنّه كان أكبر سنّا من الخليفة

__________________

(١) أُسد الغابة : ٥ / ٢٧٣ رقم ٥١١٧.

(٢) الخُنان : داء يأخذ الإبل في مناخرها وتموت منه ، وأرّخ به لأنّه جاء جارفاً.

٣٨٢

لا محالة إن لم تُصغّره المعاجز من ابنه كما صغّرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعلته غلاماً وشابّا لا يُعرف بين يدي أبي بكر وهو أكبر منه!

راجع في تراجم هؤلاء المذكورين المعارف لابن قتيبة ، معجم الشعراء للمرزباني ، الاستيعاب لأبي عمر ، أُسد الغابة لابن الأثير ، تاريخ ابن كثير ، الإصابة لابن حجر ، مرآة الجنان لليافعي ، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي.

هؤلاء جملة ممّن وقفنا على أسمائهم ممّن أربوا على أبي بكر في السنّ من الصحابة الأوّلين ، وهب أنّا غضضنا الطرف عن كلّ ذلك فهلاّ نسائل القوم عن وجه الفضيلة في كبر السنّ؟ أو ليس في الأمم والأجيال من طعنوا في السنّ فبلغوا من العمر عتيّا ، وفيهم الحالي بالفضائل والعاطل عنها ، وإذا مُدح أحدهم فإنّما يُمدح بمآثره لا بطول عمره ، ومهما طال عمر الخليفة فإن أكثره انقضى في الجاهليّة ، بُعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللخليفة ثمان وثلاثون سنة ، وقد مرّ في الجزء الثالث (ص ٢٢٠) أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى سبع سنين ولم يصلّ معه غير عليّ أمير المؤمنين. إذن فلأبي بكر عند إسلامه خمسة وأربعون عاماً وتوفّي وهو ابن ثلاثة وستّين ، فقد أشغل في الإسلام ثماني عشرة سنة ، وهذه المدّة الأخيرة هي التي يمكن أن تزدان بشيء من المناقب ، فهل ازدانت أو لا؟

وفي الغاية أحسب أنّه ليس للقوم غاية يعتدّ بها في كبر السنّ والاهتمام بذلك غير أنّهم جعلوا الحجر الأساس للخلافة الراشدة أشياء منها : أنّ أبا بكر قُدّم على أمير المؤمنين لأنّه شيخ محنّك لا تِرَة لأحد عنده فيُبَغض ؛ وعلى هذا الأساس جعلوه تارة أكبر سنّا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد عرفت حاله في صفحة (٢٧٠) وأُخرى أنّه كان شيخاً يُعرف والنبيّ شابّا لا يُعرف ، وأوقفناك على حقيقة الحال في (ص ٢٥٧). وآونة أنّه أسنّ الصحابة ليحسموا مادّة النقض بشيوخ في الصحابة كلّهم أكبر من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وفيهم رؤساء وأعاظم ، وما عرفوا أنّ المستقبل الكشّاف سيوقف الباحثين على أناس هم أكبر من الرجل سنّا ، وأوفر علماً ، وأبلغ حنكةً ، وأقدم شرفاً ، وأسبق إسلاماً.

٣٨٣

ـ ١٤ ـ

أبو بكر في كفّة الميزان

أخرج الخطيب في تاريخه (١٤ / ٧٨) من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل عن الهذيل عن مطرح بن يزيد عن عبيد الله بن زحر عن عليّ بن زيد (١) عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دخلت الجنة فسمعت فيها خشفة بين يديّ. فقلت : ما هذا؟ قال : بلال ، فمضيت فإذا أكثر أهل الجنّة فقراء المهاجرين وذراري المسلمين ، ولم أرَ فيها أحداً أقلّ من الأغنياء والنساء. إلى أن قال : ثمّ خرجنا من أحد أبواب الجنّة الثانية ، فلمّا كنت عند الباب أُتِيتُ بكفّة فوُضِعتُ فيها ووضعت أُمّتي في كفّة فرجحت بها ، ثمّ أُتي بأبي بكر فوُضِع في كفّة وجيء بجميع أُمّتي فوضعوا في كفّة فرجح أبو بكر ، ثمّ أتي بعمر فوُضِع في كفّة وجيء بجميع أُمّتي فوُضِعوا فرجح عمر ، ثمّ رُفع الميزان إلى السماء. وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (٢) (ص ٢٨٨).

رجال الرواية :

١ ـ مطرح بن يزيد الكوفي : قال الدوري عن ابن معين (٣) : ليس بشيء ، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث ، وقال أبو حاتم (٤) : ليس بالقويّ ضعيف الحديث يروي أحاديث عن ابن زحر عن عليّ بن يزيد ، فلا أدري البلاء منه أو من عليّ بن يزيد ،

__________________

(١) كذا والصحيح : يزيد. (المؤلف) [ أنظر : التاريخ الكبير : ٦ / ٣٠١ رقم ٢٤٧٠ ، وتهذيب الكمال : ٢١ / ١٧٨ رقم ٤١٥٤. ])

(٢) نوادر الأصول : ٢ / ١٥٣ الأصل ٢٣٩.

(٣) التاريخ : ٢ / ٥٦٩ رقم ٢٢٠٩.

(٤) الجرح والتعديل : ٨ / ٤٠٩ رقم ١٨٧٠.

٣٨٤

وقال الآجري عن أبي داود : زعموا أنّ البليّة من قِبَل عليّ بن يزيد ، وقال النسائي (١) : ضعيف ليس بشيء ، وقال ابن عدي (٢) : يجانب روايته عن ابن زحر والضعف على حديثه بيّن. ميزان الاعتدال (٣) (٣ / ١٧٤) ، تهذيب التهذيب (٤) (١٠ / ١٧١).

٢ ـ عبيد الله بن زحر الإفريقي : مُجمَع على ضعفه كما في الميزان (٥). ضعّفه أحمد (٦). وقال ابن معين (٧) : ليس بشيء كلّ حديثه عندي ضعيف. وقال ابن المديني : منكر الحديث. وقال الحاكم : ليّن الحديث. وقال ابن عدي (٨) : يقع في أحاديثه مالا يتابع عليه. وقال أبو مسهر : صاحب كلّ معضلة. وقال الدارقطني : ضعيف ، وقال ابن حبّان (٩) : يروي الموضوعات عن الأثبات ، فإذا روى عن عليّ بن يزيد أتى بالطامّات ، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبد الله بن زحر وعليّ بن يزيد والقاسم بن عبد الرحمن لم يكن متن ذلك الخبر إلاّ ما عملته أيديهم (١٠).

قال الأميني : هذه الرواية ممّا اجتمع فيه هؤلاء الثلاثة فهو ممّا عملته أيديهم.

٣ ـ عليّ بن يزيد الألهاني : قال ابن معين : عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ضعاف كلّها. وقال يعقوب : واهي الحديث كثير المنكرات. وقال الجوزجاني : رأيت غير واحد من الأئمّة ينكر أحاديثه التي يرويها عنه عبيد الله بن زحر. وقال

__________________

(١) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٢٢٧ رقم ٥٩٤.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٦ / ٤٤٩ رقم ١٩٣٠.

(٣) ميزان الاعتدال : ٤ / ١٢٣ رقم ٨٥٨٠.

(٤) تهذيب التهذيب : ١٠ / ١٥٥.

(٥) ميزان الاعتدال : ٣ / ٦ رقم ٥٣٥٩.

(٦) راجع الجرح والتعديل : ٥ / ٣١٥ رقم ١٤٩٩.

(٧) التاريخ : ٤ / ٤٢٦ رقم ٥١٠٧.

(٨) الكامل في ضعفاء الرجال : ٤ / ٣٢٥ رقم ١١٥٧.

(٩) كتاب المجروحين : ٢ / ٦٢.

(١٠) تهذيب التهذيب : ٧ / ١٣ [ ٧ / ١٢ ]. (المؤلف)

٣٨٥

أبو زرعة : ليس بالقويّ. وقال أبو حاتم (١) : ضعيف الحديث أحاديثه منكرة ، وقال البخاري (٢) : منكر الحديث ضعيف. وقال النسائي (٣) : ليس بثقة متروك الحديث. وقال الأزدي والدارقطني (٤) والبرقي : متروك. وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب الحديث. وقال الساجي : اتّفق أهل العلم على ضعفه. وقال أبو نعيم : منكر الحديث. وقال ابن حجر : متّهم.

ميزان الاعتدال (٥) (٢ / ٢٤٠) : تهذيب التهذيب (٦) (٧ / ١٣ ، ٣٦٩).

٤ ـ القاسم بن عبد الرحمن الشامي : قال أحمد (٧) : هذه المناكير التي يرويها عنه جعفر وبشر ومطرح مناكير ممّا يرويها الثقات أنّها من قِبَل القاسم. وقال الأثرم : حملها أحمد على القاسم. وقال : ما أرى هذا إلاّ من قِبَل القاسم. وقال الحرّاني : قال أحمد : ما أرى البلاء إلاّ من القاسم. وقال الغلابي : منكر الحديث. وقال ابن حبّان (٨) : يروي عن الصحابة المعضلات. ميزان الاعتدال (٩) (٢ / ٣٤) ، تهذيب التهذيب (١٠) (٨ / ٣٢٣).

وهذا الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٥٩) فقال : رواه أحمد والطبراني (١١) وفيهما : مطرح بن زياد وعليّ بن يزيد الألهاني وكلاهما مجمع على ضعفه.

__________________

(١) الجرح والتعديل : ٦ / ٢٠٨ رقم ١١٤٢.

(٢) التاريخ الكبير : مج ٦ ج ٣ / ٣٠١ رقم ٢٤٧٠.

(٣) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٨٠ رقم ٤٥٥.

(٤) الضعفاء والمتروكون : ص ٣١٢ رقم ٤٠٨.

(٥) ميزان الاعتدال : ٣ / ١٦١ رقم ٥٩٦٦.

(٦) تهذيب التهذيب : ٧ / ١٢ ، ٣٤٦.

(٧) العلل ومعرفة الرجال : ١ / ٥٦٥ رقم ١٣٥٣.

(٨) كتاب المجروحين : ٢ / ٢١١.

(٩) ميزان الاعتدال : ٣ / ٣٧٣ رقم ٦٨١٧.

(١٠) تهذيب التهذيب : ٨ / ٢٨٩.

(١١) المعجم الكبير : ٨ / ٢١٤ ح ٧٨٦٤.

٣٨٦

قال الأميني : هذا شأن الرواية سنداً ورجاله كما ترى ، واستدلّ الهيثمي على ضعفه بما في متنه. راجع مجمع الزوائد (٩ / ٥٩).

ـ ١٥ ـ

توسّل الشمس بأبي بكر

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عُرض عليّ كلّ شيء ليلة المعراج ، حتى الشمس ، فإنّي سلّمت عليها وسألتها عن كسوفها ، فأنطقها الله تعالى وقالت : لقد جعلني الله تعالى على عجلة تجري حيث يريد ، فأنظر إلى نفسي بعين العجب فتزلّ بي العجلة فأقع في البحر ، فأرى شخصين أحدهما يقول : أحد أحد. والآخر يقول : صدق صدق. فأتوسّل بهما إلى الله تعالى فينقذني من الكسوف ، فأقول : يا ربّ من هما؟ فيقول : الذي يقول : أحد أحد هو حبيبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي يقول : صدق صدق هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه. نزهة المجالس (٢ / ١٨٤).

أنا لا أحكّم في هذه الرواية إلاّ علماء علم الفلك سواء في ذلك القدماء منهم والمحدثون. وقد تكلّمنا في صحيفة (٢٣٨) عن العجلة التي حملت الشمس وبحثنا عنها بحثاً ضافياً ، وليت الهيئيّين درسوا هذه الرواية فأخذوا عنها علماً غزيراً ، وعرفوا أنّ الكسوف يكون بغمس الشمس في البحر عقوبة على نظرها إلى نفسها بعين العجب وإنّ انجلاءها يتمّ بالتوسّل ، ولعلّ المستقبل الكشّاف يأتي بمن يعلّم الأُمّة بسرّ خسوف القمر وتتأتّى به للمجالس نزهة بعد نزهة.

وهنا أسئلة جمّة :

١ ـ ليس الكسوف يخصّ بهذه الأمّة فحسب ، ولا بأيّام حياة أبي بكر خاصّة ، فمن ذا الذي كان يقول : صدق صدق. قبل ميلاد أبي بكر؟ ومن ذا الذي يقولها بعد وفاته؟ وبمن كانت الشمس تتوسّل قبل ذلك؟ وبمن تتوسّل بعده؟

٣٨٧

٢ ـ أين كان يقول أبو بكر : صدق صدق؟ أيقولها وهو في محلّه بمرأى من الناس ومسمع فيُسمعها الشمس بالإعجاز؟ أو كان يحضر على ذلك البحر الذي لم يحدّد بأيّ ساحل فيغيب عن الناس وتطوى له المسافة بخرق العادات؟ فَلِمَ لم يُحدّث عنه ذلك ولو مرّة واحدة؟ أو أنّه يذهب هو ويدع قالبه المثالي بين الناس فيحسبونه هو هو؟ أو أنّه يثبت في مكانه فيرسل قالبه ذلك فتحسبه الشمس أنّه هو؟.

٣ ـ هب أنّ الشمس تحمل حياة روحيّة ، فهل تحمل معها نفساً أمّارة بالسوء بها تعجب بنفسها؟ أنا لا أدري. وعلى فرض ثبوت النفس الأمّارة ، فما بالها تدأب على المعصية وهي ترى استمرار العقوبة مع كلّ عصيان؟ فهل هي تتوب بعد كلّ معصية ثمّ تعود إليها بنسيان العقاب أو غلبة الشهوة؟ ومن المعلوم أنّ الكسوف لم ينقطع ليلة المعراج فهو من الكائنات المتجدّدة إلى انقراض العالم ، فكأنّ الشمس حينئذٍ كانت تخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتصميمها على الاستمرار على المعصية منذ كلّ كسوف ، فمتى تتوب هذه العاصية الشاعرة؟ أنا لا أدري. وفي ذمّة الصفوري صاحب الكتاب الخروج عن عهدة هذه الأسئلة. فهل يخرج؟ أنا لا أدري ، وهذا أيضاً من الغلوّ في الفضائل والحبّ المعمي والمصمّ.

ـ ١٦ ـ

كلبة من الجنّ مأمورة

عن أنس بن مالك قال. كنّا جلوساً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل إليه رجل من أصحابه وساقاه تشخبان دماً ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا؟ قال : يا رسول الله ، مررت بكلبة فلان المنافق فنهشتني. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجلس ، فجلس بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فلمّا كان بعد ذلك بساعة إذ أقبل إليه رجل آخر من أصحابه وساقاه تشخبان دماً مثل الأوّل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا؟ فقال : يا رسول الله إنّي مررت بكلبة فلان المنافق فنهشتني ، قال : فنهض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وقال لأصحابه : هلمّوا بنا إلى هذه الكلبة نقتلها ،

٣٨٨

فقاموا كلّهم وحمل كلّ واحد منهم سيفه. فلمّا أتوها وأرادوا أن يضربوها بالسيوف وقعت الكلبة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت بلسان طَلِق ذَلِق : لا تقتلني يا رسول الله فأني مؤمنة بالله ورسوله ، فقال : ما بالك نهشتِ هذين الرجلين؟ فقالت : يا رسول الله إنّي كلبة من الجنّ مأمورة أن أنهش من سبّ أبا بكر وعمر. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا هذين أما سمعتما ما تقول الكلبة؟ قالا : نعم يا رسول الله إنّا تائبان إلى الله عزّ وجلّ. عمدة التحقيق للعبيدي المالكي (١) (ص ١٠٥).

قال الأميني : ما أعظم شأن هذه الكلبة وأثبتها في ميدان البسالة حتى استدعى أمرها أن يتجهّز لحربها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحمل عليها أصحابه شاهرين السيوف! فهل هي كلبة أو أسد ضارٍ؟ أو عفرنى (٢) باسل؟ أو حَشِد (٣) لُهام؟ وأحسب أنّ اللذين نهشتهما كانا من هيّابة الصحابة ، فإنّ شجعانهم ما كانوا يبالون بالضراغم فضلاً عن الكلاب.

وأين كانت هذه الكلبة عمّن كان ينال من أبي بكر غير الرجلين في ذلك العهد وبعد العهد النبويّ وهلمّ جرّا؟ فلم تُشهد لها نهشة ، ولا سُمع لها عواء ، فليتهيّأ صاحب عمدة التحقيق لتحليل هذه المسائل وذلك بعد الغضّ عن إسناده الموهوم.

ثمّ ما أخرس ألسنة أولئك الصحابة الحضور يوم أطلق الله لسان تلك الكلبة الطلقة الذلقة عن بثّ هذه الفضيلة الرابية؟ ومثلها تتوفّر الدواعي لنقلها ، وما أذهل الحفّاظ وأئمة الحديث وأرباب السير عن روايتها؟ فلا يجدها الباحث في المسانيد والصحاح والفضائل ومعاجم السير وأعلام النبوّة ودلائلها ، إلى أن بشّر بها العبيدي آل الصدّيق بعد لأي من عمر الدهر وقذف بهذه الأكذوبة أنس بن مالك.

__________________

(١) عمدة التحقيق : ص ١٨٢.

(٢) العفرنى : الأسد.

(٣) الحَشِد : الشجاع الذي لا يدع عند نفسه شيئاً من الجهد والنصرة.

٣٨٩

أهكذا تكون المغالاة في الفضائل؟ ... لعلّها تكون.

نعم ؛ لله كلاب مفترسة وأُسود ضارية سلّطها الله على أعدائه بدعاء نبيّه الأعظم أو أحد من أولاده الصادقين صلوات الله عليه وعليهم ، منها : كلب سلّطه الله على لهب بن أبي لهب بدعاء النبي الأقدس كما مرّ في الجزء الأوّل (ص ٢٦١). ومنها ، كلب أخذ برأس عتبة بدعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما مرّ في (١ / ٢٦١).

قال الحلبي في السيرة النبويّة (١) (١ / ٣١٠): ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق ، قيل له : هذا فلان ينشد الناس هجاءكم ـ يعني أهل البيت ـ بالكوفة ، فقال لذلك القائل : «هل علقت من قوله بشيء» قال : نعم. قال : فأنشد. فأنشد :

صلبنا لكم زيداً على جذعِ نخلةٍ

ولم أرَ مهديّا على الجذع يصلبُ

وقستم بعثمان عليّا سفاهةً

وعثمانُ خيرٌ من عليّ وأطيبُ

فعند ذلك رفع جعفر يديه وقال : «اللهمّ إن كان كاذباً فسلّط عليه كلباً من كلابك» ، فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد. وإنّما سمّي الأسد كلباً لأنّه يشبه الكلب في أنّه إذا بال رفع رجله.

قال الأميني : الشاعر المفترس هو الحكيم الأعور أحد الشعراء المنقطعين إلى بني أُميّة بدمشق ، وقصّته هذه من المتسالم عليه ، غير أنّ في معجم الادباء (٢) كما مرّ في الجزء الثاني (ص ١٩٧) من كتابنا هذا : أنّ الداعي على الرجل هو عبد الله ابن جعفر وأحسبه تصحيف أبي عبد الله جعفر ، فعلى كلّ قد وقع من أهله في محلّه.

__________________

(١) السيرة الحلبيّة : ١ / ٢٩١.

(٢) معجم الأدباء : ١٠ / ٢٤٩.

٣٩٠

ـ ١٧ ـ

هبة أبي بكر لمحبّيه

عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : قال عليّ رضى الله عنه : كنت جالساً مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس معنا ثالث إلاّ الله عزّ وجلّ ، فقال : يا عليّ تريد أن أُعرّفك بسيّد كهول أهل الجنّة وأعظمهم عند الله قدراً ومنزلة يوم القيامة؟ فقلت : إي وعيشك يا رسول الله. قال : هذان المقبلان. قال عليّ. فالتفتّ فإذا أبو بكر وعمر ، ثمّ رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبسّم ثمّ قطّب وجهه حتى ولجا المسجد ، فقال أبو بكر : يا رسول الله لمّا قربنا من دار أبي حنيفة (١) تبسّمت لنا ثمّ قطّبت وجهك ، فلِمَ ذلك يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا صرتما لجانب دار أبي حنيفة (٢) عارضكما إبليس ونظر في وجوهكما ثمّ رفع يديه إلى السماء أسمعه وأراه وأنتما لا تسمعانه ولا تريانه وهو يدعو ويقول : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ هذين الرجلين أن لا تعذّبني بعذاب باغضي هذين الرجلين. قال أبو بكر : ومن هو الذي يبغضنا يا رسول الله ، وقد آمنّا بك وآزرناك وأقررنا بما جئت به من عند ربّ العالمين؟ قال : نعم يا أبا بكر ، قوم يظهرون في آخر الزمان يقال لهم الرافضة ، يرفضون الحقّ ويتأوّلون القرآن على غير صحّته ، وقد ذكرهم الله في كتابه العزيز وهو قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (٣). فقال : يا رسول الله فما جزاء من يبغضنا عند الله؟ قال : يا أبا بكر حسبك أنّ إبليس لعنه الله تعالى يستجير بالله تعالى أن لا يعذّبه بعذاب باغضيكما. قال : يا رسول الله هذا جزاء من قد أبغض فما جزاء من قد أحبّ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن تهديا له هديّة من أعمالكما. فقال : أبو بكر رضى الله عنه : يا رسول الله أُشهدك وأشهد الله وملائكته

__________________

(١) كذا في المصدر.

(٢) كذا في المصدر.

(٣) النساء : ٤٦ ، والمائدة : ١٣.

٣٩١

أنّي قد وهبت لهم ربع أجري ـ أي عملي ـ منذ آمنت بالله إلى أن نلقاه. فقال عمر رضى الله عنه : وأنا مثل ذلك يا رسول الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فضعا خطّكما بذلك. قال عليّ كرّم الله وجهه : فأخذ أبو بكر زجاجة وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب ، فكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم. يقول عبد الله عتيق بن أبي قحافة : إنّي قد أشهدتُ الله ورسوله ومن حضر من المسلمين أنّي قد وهبت ربع عملي لمحبّيّ في دار الدنيا منذ آمنت بالله إلى أن ألقاه ، وبذلك وضعت خطّي.

قال : وأخذ عمر وكتب مثل ذلك. فلمّا فرغ القلم من الكتابة هبط الأمين جبريل عليه‌السلام وقال : يا رسول الله الربّ يُقرئك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام ، ويقول لك : هات ما كتبه صاحباك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا هو. فأخذه جبريل وعرج به إلى السماء ثمّ إنّه عاد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين ما أخذت يا جبريل منّي؟ قال : هو عند الله تعالى وقد شهد الله فيه ، وأشهد حملة العرش وأنا وميكائيل وإسرافيل. وقال الله تعالى : هو عندي حتى يفي أبو بكر وعمر بما قالا يوم القيامة. عمدة التحقيق للعبيدي المالكي (١) (ص ١٠٥ ـ ١٠٧).

قال الأميني : أنا لا أحاول إطناباً في تفنيد هذه الرواية الشبيهة بأساطير القصّاصين أو الروايات الخياليّة ، فإنّ كلّ فصل منها شاهد صدق على عدم صحّتها.

أنا لا أخدش في كهولة الشيخين بما مرّ في الجزء الخامس (ص ٣١٣) من القول المعزوّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ أتحبّ هذين الشيخين؟ ولا بما مرّ في هذا الجزء (ص ٢٤١) من أنّ أبا بكر له شيبة في الجنّة وليست لأحد لحية هناك إلاّ هو وإبراهيم الخليل ولا بما مرّ (ص ٢٤١) من أنّ رسول الله كان يقبّل شيبة أبي بكر. ولا بما مرّ في

__________________

(١) عمدة التحقيق : ص ١٨٣ ـ ١٨٦.

٣٩٢

صفحة (٢٥٧) من أنّ أبا بكر كان يوم هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة شيخاً والنبيّ شابّا. ولا بما مرّ في (ص ٢٧٠) من أنّ أبا بكر كان أكبر من النبيّ. ولا بما مرّ في (ص ٢٨٠) من أنّه كان أسنّ أصحاب النبيّ.

ولا أتكلّم في عذاب باغضي أبي بكر وعمر ، وأنّه ما الذي أربى به على عذاب من تكبّر وتجبّر تجاه المولى سبحانه وعانده وخالف أمره وهو من من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يغوي عباد الله ويضلّهم عن سبيل الحقّ؟

ولا أُناقش في أنّ إبليس كيف كان يصحّ له أن يتعوّذ بالله من عذاب باغضيهما؟ أكان يحبّهما فلما ذا هو؟ أو كان يبغضهما كما يبغض كلّ مؤمن بالله؟ فالدعاء لما ذا؟ وما ذا ينتج له وهو يعلم عذاب مبغضيهما وهو يبغضهما ولا يزال يغري الناس ببغضهما؟

ولا أمدّ يراعي إلى الزجاجة المكتوبة فيها تلك الهبة الموهومة لئلاّ تنكسر فتحرم الأمّة المرحومة من تلك البضاعة الغالية.

ولا أُسائل رواة هذه المهزأة عن تلكم الشهادات من الله إلى حملة عرشه إلى أمين وحيه إلى ميكائيل وإسرافيل. لما ذا هي كلّها؟ وما الذي أحوج المولى سبحانه إلى ذلك الاهتمام البالغ في استحكام ذلك الصكّ؟ وما الذي أهمّ ادّخاره عند الله حتى يفي أبو بكر وعمر بما قالا يوم القيامة؟

ولا أقول : لما ذا تركت الأئمّة وحفّاظ الحديث هذه الفضيلة العظيمة إلى قرن العبيدي المالكي ـ القرن الحادي عشر ـ وفيها بشارة كبيرة لمحبّ الشيخين وإرشاد للأُمّة إلى ما فيه نجاتهم ونجاحهم والمثوبة الجزيلة بجزاء ربُعَي أعمالهما؟ ولما ذا شحّ أُولئك الحفظة على الأمّة وسمع العبيدي؟

ولكن هلمّ معي إلى مفاد الآية الكريمة فهي في موضعين من القرآن الكريم :

٣٩٣

١ ـ (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) (١).

٢ ـ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ* فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (٢).

ألا تعجب من تحريف الكلم بإسناد ما ناء به اليهود وبنو إسرائيل بنصّ القرآن الحكيم إلى قوم لم يأتوا بعدُ وسيضمنهم الزمان في أخرياته؟ حاشا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول ذلك ، ولكنّها ورطات القالة ، وأهواء وشهوات ، حبّذت الوقيعة في قوم مؤمنين اتّبعوا النبيّ الأمين ، وهُدوا إلى الصراط المستقيم ، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٣) ، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤).

ـ ١٨ ـ

أبو بكر في قاب قوسين

بلغنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كان قاب قوسين أو أدنى أخذته وحشة فسمع في حضرة الله تعالى صوت أبي بكر رضى الله عنه فاطمأنّ قلبه واستأنس بصوت صاحبه.

ذكره العبيدي المالكي في عمدة التحقيق (٥) (ص ١٥٤) فقال : هذه كرامة للصدّيق انفرد بها رضي الله تعالى عنه.

__________________

(١) النساء : ٤٦.

(٢) المائدة : ١٢ ، ١٣.

(٣) الحج : ٢٤.

(٤) آل عمران : ١٠٠.

(٥) عمدة التحقيق : ص ٢٦٠.

٣٩٤

قال الأميني : لما ذا تلك الوحشة؟ ولما ذا ذلك الأُنس؟ وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ساحة القدس الربوبيّ ، وكان لا يأنس إلاّ بالله ، وكانت نفسه القدسيّة في كلّ آنائه منعطفة إليها ، فهل هو يستوحش إذا حصل فيها؟ وهي أزلف مباءة إلى المولى سبحانه لا تقلّ غيره. حتى أنّ جبرئيل الأمين انكفأ (١) عنها فقال : إن تجاوزت احترقت بالنار. لمّا جذبه الله تعالى إليها وحفّته قداسة إلهية تركته مستعدّا لتلقّي الفيض الأقدس ، وهل هناك وحشة لمثله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسكّنها صوت أبي بكر؟! وهل كانت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في مقام الفناء لفتة إلى غيره جلّت عظمته حتى يأنس بصوته؟ لاها الله ، وما كان قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّ غيره سبحانه فهو مستأنس به ومطمئنّ بآلائه ، فلا مدخل فيه لأيّ أحد يطمئنّ به ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، ولقد رآه بالأُفق المبين ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، أفتمارونه على ما يرى؟ ولقد رآه نزلةً أُخرى عند سدرة المنتهى ، ما زاغ البصر وما طغى ، لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ، ولم تبرح نفسه الكريمة مطمئنّة ببارئها حتى خوطب بقوله سبحانه : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (٢)

هذا مبلغ الرواية من نفس الأمر لكن الغلوّ في الفضائل آثر أن يعدّوها من فضائل الخليفة وإن كانت مقطوعةً عن الإسناد.

ـ ١٩ ـ

الدين وسمعه وبصره

عن حذيفة بن اليمان ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لقد هممت أن أبعث إلى الآفاق رجالاً يُعلّمون الناس السنن والفرائض كما بعث عيسى بن مريم الحواريّين. قيل له : فأين أنت عن أبي بكر وعمر؟ قال : إنّه لا غنى بي عنهما إنّهما من

__________________

(١) الكامل : ٢ / ٢١ [ ١ / ٤٨٢ ] ، السيرة الحلبية : ١ / ٤٣١ [ ١ / ٣٧٣ ]. (المؤلف)

(٢) الفجر : ٢٧ ، ٢٨.

٣٩٥

الدين كالسمع والبصر. أخرجه الحاكم في المستدرك (١) (٣ / ٧٤) فقال : هذا حديث تفرّد به حفص بن عمر العدني عن مسعر. وقال الذهبي في تلخيصه : هو واهٍ.

قال الأميني : قال النسائي (٢) : حفص بن عمر ليس بثقة. وقال ابن عديّ (٣) : عامّة حديثه غير محفوظ. وقال ابن حبّان (٤) : كان ممّن يقلّب الأسانيد لا يجوز الاحتجاج به إذا. انفرد وقال ابن معين (٥) : رجل سوء ، ليس بثقة. وقال مالك بن عيسى : ليس بشيء ، وقال العقيلي (٦) : يحدّث بالأباطيل ، وقال أحمد : كان مع حمّاد (٧) في تلك البلايا ، وقال أبو داود : منكر الحديث ، وقال الدارقطني (٨) : ضعيف ، ليس بقويّ ، متروك (٩).

هذا على ما فرّق جمع بينه وبين حفص بن عمر بن دينار الأيلي. وأمّا إن كان هو هو فقال ابن عدي (١٠) : أحاديثه كلّها منكرة المتن والسند وهو إلى الضعف أقرب. وقال أبو حاتم (١١) : كان شيخاً كذّاباً. وقال العقيلي (١٢) : يحدّث عن شعبة ومسعر ومالك

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٧٨ ح ٤٤٤٨ وكذا في تلخيصه.

(٢) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٨٢ رقم ١٣٥.

(٣) الكامل في ضعفاء الرجال : ٢ / ٣٨٧ رقم ٥٠٨.

(٤) كتاب المجروحين : ١ / ٢٥٧.

(٥) التاريخ : ٤ / ٢٩٨ رقم ٤٩٦٩.

(٦) الضعفاء الكبير : ١ / ٢٧٣ رقم ٣٣٨.

(٧) أحد الكذّابين والوضاعين. (المؤلف) [ هو حمّاد البربري ولاّه الرشيد مكة واليمن ، وقال عنه أحمد في العلل ٢ / ٣٥٠ رقم ٢٥٤٧ : كان رجل سوء ]

(٨) الضعفاء والمتروكون : ص ١٨٤ رقم ١٦٨.

(٩) ميزان الاعتدال : ١ / ٢٦٢ [ ١ / ٥٦٠ رقم ٢١٣٠ ] ، تهذيب التهذيب : ٢ / ٤١٠ [ ٢ / ٣٥٣ ]. (المؤلف)

(١٠) الكامل في ضعفاء الرجال : ٢ / ٣٩٠ رقم ٥١١.

(١١) الجرح والتعديل : ٣ / ١٨٣ رقم ٧٨٩.

(١٢) الضعفاء الكبير : ١ / ٢٧٥ رقم ٣٣٩.

٣٩٦

ابن مِغْول والأئمّة بالبواطيل ، وقال الساجي : كان يكذب ، وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب الحديث (١).

هذا شأن سند الرواية ؛ وليت شعري أيّ سنّة أو فريضة كان يعلّمها الرجلان على فرض إرسالهما؟ وبما ذا كان يفتيان في الكلالة وإرث الجدّ والجدّة والتيمّم وشكوك الصلاة إلى مسائل أُخرى ، عرّفناك بعضها في الجزء السادس وجملة منها في هذا الجزء؟ وبما ذا كانا يجيبان لو سُئِلا عن آيات القرآن وهما يتقاعسان عن معرفة بعض ألفاظها اللغويّة فكيف بالغوامض والمعضلات؟

ثمّ بما ذا كان غناء الرجلين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وبما ذا كانا من الدين كالسمع والبصر؟ أبصولاتهما في الحروب؟ أم بأياديهما في الجدوب؟ أم ببصائرهما في الأُمور؟ أم بعلمهما الناجع في الكتاب والسنّة؟ أم بتوقّف الدعوة عليهما في عاصمة الإسلام؟ أم بإناطة تنفيذ الأحكام بهما؟ إقرأ السير ثمّ استحفِ الخبر.

وقد مرّ في (٥ / ٣٢٥) عن المقدسي : أنّ أبا بكر وعمر من الإسلام بمنزلة السمع والبصر ، من موضوعات الوليد بن الفضل الوضّاع.

وذكر أبو عمر في الاستيعاب (٢) (١ / ١٤٦) مرفوعاً لأبي بكر وعمر : هذان منّي بمنزلة السمع والبصر من الرأس ، وقال : إسناده ضعيف. أخبرنا أبو عبد الله يعيش بن سعيد قال : حدّثنا أبو بكر بن محمد بن معاوية ، قال جعفر بن محمد الفريابي ، قال عبد السلام بن محمد الحرّاني ، قال ابن أبي فديك ، عن المغيرة بن عبد الرحمن ، عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب ، عن أبيه ، عن جدّه : انّ النبيّ ... ليس له غير هذا الإسناد ، والمغيرة بن عبد الرحمن هذا هو الحزامي ضعيف وليس بالمخزومي الفقيه

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ١ / ٢٦٣ [ ١ / ٥٦١ رقم ٢١٣٢ ] ، لسان الميزان : ٢ / ٣٢٤ [ ٢ / ٣٩٤ رقم ٢٨٤٩ ]. (المؤلف)

(٢) الاستيعاب : القسم الأوّل / ٤٠٠ رقم ٥٥٩.

٣٩٧

صاحب الرأي. إلى آخره. وقال (١) في (١ / ٣٤٨) : حديث مضطرب الإسناد لا يثبت. وفي الإصابة (٢ / ٢٩٩) : حديث هذان السمع والبصر ؛ في أبي بكر وعمر قال أبو عمر : حديث مضطرب لا يثبت.

أقول : في الإسناد المذكور غير واحد من المجاهيل والضعاف ولا ينحصر ضعفه بمكان المغيرة فحسب ، وقال فيه ابن معين (٢) : إنّه ليس بشيء. وقال النسائي : ليس بالقويّ. تهذيب التهذيب (٣) (١٠ / ٢٦٦).

ـ ٢٠ ـ

أبو بكر ومنزلته عند الله

عن ابن عبّاس قال : كان أبو بكر مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار فعطش عطشاً شديداً فشكا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهب إلى صدر الغار فاشرب. قال أبو بكر : فانطلقت إلى صدر الغار فشربت ماءً أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأذكى رائحة من المسك ثمّ عدت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : شربت؟ قلت : نعم. قال : ألا أُبشّرك يا أبا بكر؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : إنّ الله تبارك وتعالى أمر الملك الموكّل بأنهار الجنّة أن اخرق نهراً من جنّة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر ، فقلت : يا رسول الله ولي عند الله هذه المنزلة؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم وأفضل ، والذى بعثني بالحقّ نبيّا لا يدخل الجنّة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبيّا.

الرياض النضرة (٤) (١ / ٧١) ، مرقاة الوصول (ص ١١٤).

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ٨٩٢ رقم ١٥١٦.

(٢) التاريخ : ٣ / ٢٠٢ رقم ٩٢٨.

(٣) تهذيب التهذيب : ١٠ / ٢٣٨.

(٤) الرياض النضرة : ١ / ٩٦.

٣٩٨

قال الأميني : كيف تصحّ هذه الرواية وقد ضرب عنها حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ والسير صفحا؟ مع ما فيها من نبأ عظيم وكرامة هامّة وهي بين أيديهم وهم يهتمّون بجمع دلائل النبوّة ومعاجز الرسالة ، فلم تخرّج في أصل ، ولم تذكر في سيرة ، وإنّما ذكرها السيوطي في الخصائص (١) (١ / ١٨٧) فقال : أخرجه ابن عساكر (٢) بسند واهٍ.

ولما ذا خصّت روايتها بابن عبّاس وقد ولد في شعب أبي طالب قبل الهجرة بقليل فكان يوم الغار ابن سنة أو سنتين ولم يسندها إلى أحد ولم يكن في الغار غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصاحبه؟ فأين روايتهما إيّاها؟ وأين أُولئك الصحابة عنها؟ أيحقّ لحكيم أو حافظ أن يرسل مثل هذه الواهية إرسال المسلّم في عدّ الفضائل؟

نعم ؛ للقوم في محبّة أبي بكر وصاحبه روايات تشبّه بالقصص الخياليّة نسجتها يد الغلوّ في الفضائل ، وإليك منها :

١ ـ عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : لمّا ولد أبو بكر في تلك الليلة اطّلع الله على جنّة عدن فقال : وعزّتي وجلالي لا أدخلك إلاّ من أحبّ هذا المولود.

من موضوعات أحمد بن عصمة النيشابوري كما مرّ في (٥ / ٣٠٠).

٢ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : إنّ في السماء الدنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله لمن أحبّ أبا بكر وعمر ، وفي السماء الثانية ثمانون ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر.

من طامّات أبي سعيد الحسن بن عليّ البصري كما أسلفناه في (٥ / ٣٠٠).

٣ ـ عن أنس : أنّ يهوديّا أتى أبا بكر فقال : والذي بعث موسى وكلّمه تكليما إنّي

__________________

(١) الخصائص الكبرى : ١ / ٣٠٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٣٠ / ١٥٠.

٣٩٩

لأحبّك ، فلم يرفع أبو بكر رأسه تهاوناً باليهودي ، فهبط جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا محمد إنّ العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : قل لليهوديّ : إنّ الله قد أحاد عنك النار. الحديث. إقرأ واحكم بعد قراءتك القرآن والتدبّر في الآي النازلة في عذاب الكفّار. من موضوعات أبي سعيد البصري. راجع الجزء الخامس (ص ٣٠١).

٤ ـ عن أنس مرفوعاً : إنّ لله تعالى في كلّ ليلة جمعة مائة ألف عتيق من النار إلاّ رجلين فإنّهما يدخلان في أُمّتي وليسا منهم ، وإنّ الله لا يعتقهما فيمن عتق منهم مع أهل الكبائر في طبقتهم ، مصفّدين مع عبدة الأوثان : مبغضي أبي بكر وعمر ، وليس هم داخلين في الإسلام ، وإنّما هم يهود هذه الأُمّة.

من وضع أبي شاكر مولى المتوكّل كما مرّ في (٥ / ٣٠٣).

٥ ـ عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : إنّ الله أمرني بحبّ أربعة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ. من بلايا السجزي كما مرّ في (٥ / ٣١٠).

٦ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً قال لعليّ : أتحبّ هذين الشيخين؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : أحبّهما تدخل الجنّة. من صناعة الأشناني كما مرّ في (٥ / ٣١٣).

٧ ـ عن جابر مرفوعاً : لا يبغض أبا بكر وعمر مؤمن ولا يحبّهما منافق.

من موضوعات معلّى الطحان. راجع (٥ / ٣٢٣).

٨ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : هذا جبريل يخبرني عن الله : ما أحبّ أبا بكر وعمر إلاّ مؤمن تقيّ ، ولا أبغضهما إلاّ منافق شقيّ.

من موضوعات إبراهيم الأنصاري كما مرّ في (٥ / ٣٥٤).

٩ ـ عن أبي سعيد مرفوعاً : من أبغض عمر فقد أبغضني. راجع (٥ / ٣٢٩).

١٠ ـ عن عليّ مرفوعاً قد أخذ الله بكم الميثاق في أُمّ الكتاب لا يحبّكم ـ يعني

٤٠٠