الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

ـ ١٢ ـ

سؤال يهوديّ أبا بكر

عن أنس بن مالك قال : أقبل يهوديّ بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأشار القوم إلى أبي بكر فوقف عليه فقال : أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، قال أبو بكر : سل عمّا بدا لك.

قال اليهودي : أخبرني عمّا ليس لله ، وعمّا ليس عند الله ، وعمّا لا يعلمه الله. فقال أبو بكر : هذه مسائل الزنادقة يا يهوديّ ، وهمّ أبو بكر والمسلمون باليهوديّ ، فقال ابن عبّاس رضى الله عنه : ما أنصفتم الرجل. فقال أبو بكر : أما سمعت ما تكلّم به؟ فقال ابن عبّاس : إن كان عندكم جوابه وإلاّ فاذهبوا به إلى عليّ رضى الله عنه يجيبه ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعليّ بن أبي طالب : «اللهمّ اهدِ قلبه ، وثبّت لسانه».

قال : فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا عليّ بن أبي طالب فاستأذنوا عليه فقال أبو بكر : يا أبا الحسن إنّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة. فقال عليّ : ما تقول يا يهودي؟ قال : أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ. فقال له : قل ، فردّ اليهودي المسائل. فقال عليّ رضى الله عنه : أمّا ما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر اليهود : إنّ العُزَير ابن الله ، والله لا يعلم أنّ له ولداً. وأمّا قولك : أخبرني بما ليس عند الله. فليس عنده ظلم للعباد ، وأما قولك : أخبرني بما ليس لله فليس له شريك. فقال اليهوديّ : أشهد أن لا اله إلا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، وأنّك وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال أبو بكر والمسلمون لعليّ عليه‌السلام : يا مفرّج الكرب. المجتنى لابن دريد (١) (ص ٣٥).

قال الأميني : إقرأ واحكم.

__________________

(١) المجتنى : ص ٢٢.

٢٤١

ـ ١٣ ـ

وفد النصارى وأسئلتهم

أخرج الحافظ العاصمي عن سلمان الفارسي رضى الله عنه ، قال : لمّا قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتمعت النصارى إلى قيصر ملك الروم فقالوا له : أيّها الملك إنّا وجدنا في الإنجيل رسولاً يخرج من بعد عيسى اسمه أحمد وقد رمقنا خروجه وجاءنا نعته فأشر علينا فإنّا قد رضيناك لديننا ودنيانا.

قال : فجمع قيصر من نصارى بلاده مائة رجل وأخذ عليهم المواثيق أن لا يغدروا ولا يخفوا عليه من أمورهم شيئاً وقال : انطلقوا إلى هذا الوصيّ الذي من بعد نبيّهم فسلوه عمّا سئل عنه الأنبياء عليهم‌السلام ، وعمّا أتاهم به من قبل ، والدلائل التي عرفت بها الأنبياء. فإن أخبركم فآمنوا به وبوصيّه واكتبوا بذلك إليّ ، وإن لم يخبركم فاعلموا أنّه رجل مطاعٌ في قومه ، يأخذ الكلام بمعانيه ، ويردّه على مواليه ، وتعرّفوا خروج هذا النبيّ.

قال : فسار القوم حتى دخلوا بيت المقدس ، واجتمعت اليهود إلى رأس جالوت فقالوا له مثل مقالة النصارى بقيصر ، فجمع رأس جالوت من اليهود مائة رجل.

قال سلمان : فاغتنمت صحبة القوم فسرنا حتى دخلنا المدينة وذلك يوم عروبة (١) وأبو بكر رضى الله عنه قاعد في المسجد يفتي الناس ، فدخلت عليه فأخبرته بالذي قدم له النصارى واليهود فأذن لهم بالدخول عليه ، فدخل عليه رأس جالوت فقال :

__________________

(١) يعني يوم الجمعة : وكان يسمى قديماً بيوم عروبة ، ويوم العروبة. والأفصح ترك الألف واللام. (المؤلف)

٢٤٢

يا أبا بكر إنّا قوم من النصارى واليهود جئناكم لنسألكم عن فضل دينكم فإن كان دينكم أفضل من ديننا قبلناه ، وإلاّ فديننا أفضل الأديان.

قال أبو بكر : سل عمّا تشاء أجبك إن شاء الله. قال : ما أنا وأنت عند الله؟ قال أبو بكر : أمّا أنا فقد كنت عند الله مؤمناً وكذلك عند نفسي إلى الساعة ولا أدري ما يكون من بعد. فقال اليهودي : فصف لي صفة مكانك في الجنّة ، وصفة مكاني في النار ، لأرغب في مكانك وأزهد عن مكاني.

فقال : فأقبل أبو بكر ينظر إلى معاذ مرّة وإلى ابن مسعود مرّة ، وأقبل رأس جالوت يقول لأصحابه بلغة أمّته : ما كان هذا نبيّا.

قال سلمان : فنظر إليّ القوم ، قلت لهم : أيّها القوم ابعثوا إلى رجل لو ثنيتم الوسادة لقضى لأهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، ولأهل الزبور بزبورهم ، ولأهل القرآن بقرآنهم ، ويعرف ظاهر الآية من باطنها ، وباطنها من ظاهرها.

قال معاذ : فقمت فدعوت عليّ بن أبي طالب وأخبرته بالذي قدمت له اليهود والنصارى ، فأقبل حتى جلس في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال ابن مسعود : وكان علينا ثوب ذلّ ، فلمّا جاء عليّ بن أبي طالب كشفه الله عنّا. قال عليّ : «سلني عمّا تشاء أخبرك إن شاء الله». قال اليهودي : ما أنا وأنت عند الله؟

قال : «أمّا أنا فقد كنت عند الله وعند نفسي مؤمناً إلى الساعة فلا أدري ما يكون بعد. وأمّا أنت فقد كنت عند الله وعند نفسي إلى الساعة كافراً ولا أدري ما يكون بعد»

قال رأس جالوت : فصف لي صفة مكانك في الجنّة وصفة مكاني في النار

٢٤٣

فأرغب في مكانك وأزهد عن مكاني.

قال عليّ : «يا يهودي لم أر ثواب الجنّة ولا عذاب النار فأعرف ذلك ، ولكن كذلك أعدّ الله للمؤمنين الجنّة وللكافرين النار ، فإن شككت في شيء من ذلك فقد خالفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولست في شيء من الإسلام.

قال : صدقت رحمك الله ؛ فإنّ الأنبياء يوقنون على ما جاءوا به فإن صدقوا آمنوا ، وإن خولفوا كفروا. قال : فأخبرني ؛ أعرفت الله بمحمد أم محمداً بالله؟

فقال عليّ : «يا يهودي ما عرفت الله بمحمد ولكن عرفت محمداً بالله ؛ لأنّ محمداً محدود مخلوق وعبد من عباد الله اصطفاه الله واختاره لخلقه وألهم الله نبيّه كما ألهم الملائكة الطاعة ، وعرّفهم نفسه بلا كيف ولا شبه».

قال : صدقت. قال : فأخبرني : الربّ في الدنيا أم في الآخرة؟

فقال عليّ : «إنّ (في) وعاء ، فمتى ما كان بفي كان محدوداً ، ولكنه يعلم ما في الدنيا والآخرة ، وعرشه في هواء الآخرة وهو محيط بالدنيا ، والآخرة بمنزلة القنديل في وسطه إن خليت يكسر ، وإن أخرجته لم يستقم ، مكانه هناك ، فكذلك الدنيا وسط الآخرة».

قال : صدقت. قال : فأخبرني : الربّ يحمل أو يحمل؟

قال عليّ بن أبي طالب : «يَحمل».

قال رأس جالوت : فكيف وإنّا نجد في التوراة مكتوباً ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذٍ ثمانية؟

قال عليّ : «يا يهوديّ : إن الملائكة تحمل العرش ، والثرى يحمل الهواء ، والثرى

٢٤٤

موضوع على القدرة وذلك قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)» (١).

قال اليهوديّ : صدقت رحمك الله. الحديث. زين الفتى في شرح سورة هل أتى للحافظ العاصمي.

هلمّ معي إلى الغلو :

هذه جملة ممّا وقفنا عليه من فتاوى أبي بكر وآرائه وهي على قلّتها تدلّك على مكانته من علم الكتاب ، وعرفان السنّة ، وفقه الشريعة ، وأحكام الدين ، أوَليس من المغالاة إذن أن يقال : عَلِم كلّ ذي حظّ من العلم أنّ الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند عليّ منه (٢)؟

أليس من المغالاة أن يقال : إنّ المعروف أنّ الناس قد جمعوا الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ فوجدوا أصوبها وأدلّها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثمّ عمر ، ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نصّ يخالفها عن عمر أقلّ ممّا وجد عن عليّ ، وأمّا أبو بكر فلا يكاد يوجد نصّ يخالفه؟

أليس من المغالاة أن يقال : لم يكن أبو بكر وعمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصّان عليّا بسؤال ، والمعروف : أنّ عليّا أخذ العلم عن أبي بكر (٣)؟

أليس من المغالاة أن يقال : إنّ أبا بكر من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على الإطلاق ، قاله ابن حجر في الصواعق (٤) (ص ١٩).

__________________

(١) طه : ٦.

(٢) قاله ابن حزم في الفصل : ٤ / ١٣٦. راجع ما مرّ في الجزء الثالث : ص ٩٥. (المؤلف)

(٣) منهاج السنّة لابن تيمية : ٣ / ١٢٨. راجع ما أسلفناه في : ٦ / ٣٢٩. (المؤلف)

(٤) الصواعق المحرقة : ص ٣٣.

٢٤٥

أليس من المغالاة أن يقال : إنّ أبا بكر أعلم الصحابة وأذكاهم ، وكان مع ذلك أعلمهم بالسنّة كما رجع إليه الصحابة في غير موضع ، يبرز عليهم بنقل سنن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها ليست عندهم؟ وكيف لا يكون كذلك وقد واظب على صحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوّل البعثة إلى الوفاة (١)؟

أليس من المغالاة ما عزوه إلى النبيّ الأقدس من قيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ صببته في صدر أبي بكر (٢)؟

أليس من المغالاة ما رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : رأيت كأنّي أعطيت عسّا مملوّا لبناً. فشربت منه حتى امتلأت ، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم ، ففضلت منها فضلة فأعطيتها أبا بكر ، قالوا : يا رسول الله هذا علم أعطاكه الله ، حتى إذا امتلأت فضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أصبتم؟ الرياض النضرة (٣) (١ / ١٠١).

أليس من المغالاة ما جاء به ابن سعد (٤) عن ابن عمر من أنّه سُئل عمّن كان يفتي في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أبو بكر وعمر ولا أعلم غيرهما؟

راجع (٥) : أُسد الغابة (٣ / ٢١٦) ، الصواعق (ص ١٠ ، ٢٠) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٣٥).

قال الأميني : ليتني أدري وقومي ما بال القوم في نحت هذه الدعاوي الفارغة ، واختلاق هذه الأكاذيب المكردسة ، وزعق (٦) بسطاء الأمّة إلى المزالق والطامّات ،

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ٢٩ [ ص ٣٩ ]. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الخامس من كتابنا هذا : ص ٣١٦ ، وهذا الجزء : ص ٨٧. (المؤلف)

(٣) الرياض النضرة : ١ / ١٣٠.

(٤) الطبقات الكبرى : ٢ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

(٥) أسد الغابة : ٣ / ٣٢٤ رقم ٣٠٦٤ ، الصواعق المحرقة : ص ١٨ ـ ٣٤ ، تاريخ الخلفاء : ص ٤٨.

(٦) الزّعق : السّوْق : زعق بإبله ؛ أي : طردها مسرعاً وصاح في آثارها.

٢٤٦

وردعهم عن مهيع الحقّ ، وجدد الصدق في عرفان الرجال ، ومقادير السلف؟

أليست هذه الآراء تضادّ نداء المشرّع الأقدس وقوله لفاطمة : «أما ترضين أنّي زوّجتكِ أوّل المسلمين إسلاماً وأعلمهم علماً»؟

وقوله لها : «زوّجتكِ خير أمّتي أعلمهم علماً»؟

وقوله : «إنّ عليّا لأوّل أصحابي إسلاماً وأكثرهم علماً»؟

وقوله : «أعلم أمّتي من بعدي عليّ»؟

وقوله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»؟

وقوله : «عليّ وعاء علمي»؟

وقوله : «عليّ باب علمي»؟

وقوله : «عليّ خازن علمي»؟

وقوله : «عليّ عيبة علمي»؟

وقوله : «أنا دار الحكمة وعليّ بابها»؟

وقوله : «أنا دار العلم وعليّ بابها»؟

وقوله : «أنا ميزان العلم وعليّ كفّتاه»؟

وقوله : «أنا ميزان الحكمة وعليّ لسانه»؟

وقوله : «أقضى أمّتي عليّ»؟

وقوله : «أقضاكم عليّ» (١)

؟ إلى أمثال هذه من الكثير الطيّب.

أليست تلكم الآراء المجرّدة تخالف ما أسلفناه في الجزء الثالث (ص ٩٥ ـ ١٠١) وفي نوادر الأثر في الجزء السادس من أقوال الصحابة الأوّلين والتابعين بإحسان في علم عليّ نظراء عائشة ، وعمر ، ومعاوية ، وابن عبّاس ، وابن مسعود ، وعديّ بن حاتم ، وسعيد بن المسيب ، وهشام بن عتبة ، وعطاء ، وعبد الله بن حجل؟

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا : ص ٩٥ ، والجزء السادس : ص ٦١ ـ ٨١. (المؤلف)

٢٤٧

أنّى يسوغ القول بأعلمية أيّ أحد من الأمّة غير عليّ أمير المؤمنين بعد ما مرّ في الجزء الثالث (ص ١٠٠) من إجماع أهل العلم على أنّ عليّا عليه‌السلام هو وارث علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دونهم. وما أسلفناه هناك من الصحيح الوارد عن مولانا أمير المؤمنين من قوله : «والله إنّي لأخوه ووليّه وابن عمّه ووارث علمه ، فمن أحقّ به منّي؟».

ثمّ أيّ نُجفةٍ من العلم كانت آيةَ فضلةِ عسٍّ شربها الخليفة من يد النبيّ الأعظم إن صحّت الأحلام؟ أقوله في الأبّ؟ أم رأيه في الكلالة والجدّ والجدّتين والخلافة وغيرها؟ أبمثل هذه كان هو وصاحبه يفتيان في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وأيّ صدرٍ هذا لم يك ينضح بشيء من العلم ـ والإناء ينضح بما فيه ـ بعد ما صبّ فيه رسول الله كلّ ما صبّ الله في صدره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وأنت جدّ عليم بأنّ الأخذ بمجامع تلكم الصحاح المأثورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقوال الصحابة والتابعين في علم أمير المؤمنين عليه‌السلام والجمع بينها وبين تلكم الآراء في علم أبي بكر يستلزم القول بأعلميّته من رسول الله أيضاً بعد كونه وعليّ صلى الله عليهما وآلهما صنوين في الفضائل ، بعد كون عليّ رديف أخيه الأقدس ونفسه في مآثره ، بعد كونه وارث علمه وبابه وعيبته ووعاءه وخازنه ، ولا أحسب كلّ القوم ولا جلّهم يقول بذلك.

نعم ؛ من لم يتحاشَ عن الغلوّ في أبي حنيفة والقول بأعلميّته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء كما مرّ في الجزء الخامس (ص ٢٧٩) لا يكترث للقول بذلك في أبي بكر الأفضل من أبي حنيفة.

هذا هو الغلوّ الممقوت الذي تصكّ به المسامع لا ما تقول به الشيعة يا أتباع أبناء حزم وتيميّة وكثير وجوزيّة!

٢٤٨

مظاهر علم الخليفة :

وأوّل مظهر من مظاهر علم الخليفة عند الباقلانيّ من المتقدّمين كما في تمهيده (ص ١٩١) ، وعند السيّد أحمد زيني دحلان من المتأخّرين كما في سيرته هامش الحلبيّة (١) (٣ / ٣٧٦) هو إعلامه الناس بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحجاجه عمر بن الخطّاب بقول العزيز الحكيم (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٢).

ما أذهل الرجلين عن أنّ الأمر لم يعضل على أيّ امرئٍ من الصحابة ، وحاشاهم عن أن يكون هذا مبلغ علمهم ، وقد كان حملة القرآن الكريم بأسرهم على علم من موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذاً بما أجرى الله بين البشر من الطبيعة المطّردة و (قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (٣) (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (٤) ، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٥) ، وتمسّكاً بالقرآن العظيم ، ونصوصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثيرة عليه في مواقف لا تحصى ، أحفلها حجّة الوداع ومن هنا سُمّيت تلك الحجّة بحجّة الوداع.

ولم يكن إنكار عمر موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجهله بذلك ، وقد قرأ عمرو بن زائدة عليه وعلى الصحابة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية المذكورة قبل تلاوة أبي بكر إيّاها وأشفعها بقوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٦) فضرب الرجل عنها وعن قارئها صفحاً ، وعمرو بن زائدة صحابيّ عظيم استخلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة ثلاث

__________________

(١) السيرة النبويّة : ٢ / ٣٠٦.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) الأنعام : ٢.

(٤) آل عمران : ١٤٥.

(٥) يونس : ٤٩.

(٦) راجع تاريخ ابن كثير : ٥ / ٢٤٣ [ ٥ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، شرح المواهب للزرقاني : ٨ / ٢٨١ والآية : ٣٠ من سورة الزمر. (المؤلف)

٢٤٩

عشرة مرّة في غزواته كما في الإصابة (٢ / ٥٢٣).

وإنّما كان إنكاره ذلك وإرهابه الناس لسياسة مدبّرة ، وذلك صرف فكرة الشعب عن الفحص عن الخليفة إلى أن يحضر أبو بكر وكان غائباً بالسُّنْح (١) خارج المدينة (٢) ، وكان الأمر دُبّر بليل.

ألا ترى أنّ غير واحد من أعلام القوم قد اعتذروا ، عن إنكار عمر موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير الجهل ، فمنهم من قال : إنّ ذلك كان لتشوّش البال ، واضطراب الحال ، والذهول عن جليّات الأحوال (٣) ومنهم من اعتذر بقوله : خبل عمر في وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يقول : إنّه والله ما مات ولكنّه ذهب إلى ربّه (٤).

المظهر الثاني : وجاء ابن حجر (٥) من علم الخليفة بمظاهر أخرى واحتجّ بها على كونه أعلم الصحابة على الإطلاق. منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه (٦) في صلح الحديبيّة عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : فأتيت نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقلت : يا نبيّ الله ألست نبيّ الله حقّا؟ قال : «بلى». قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال : «بلى». قلت : فلِمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذاً؟ قال : «إنّي رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري». قلت : أوَليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : «بلى ، أفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟» قال : قلت : لا. قال : «فإنّك آتيه ومطَّوِّف به». قال :

__________________

(١) السُّنْح : إحدى محالّ المدينة كان بها منزل أبي بكر. معجم البلدان : ٣ / ٢٥٦.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ١٩٧ [ ٣ / ٢٠٠ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، طبقات ابن سعد رقم التسلسل طبع مصر : ٧٨٦ [ ٢ / ٢٦٥ ] ، تفسير القرطبي : ٤ / ٢٢٣ [ ٤ / ١٤٣ ] ، عيون الأثر : ٢ / ٣٣٩ [ ٢ / ٤٣٣ ]. (المؤلف)

(٣) شرح المقاصد للتفتازاني : ٢ / ٢٩٤ [ ٥ / ٢٨٢ ]. (المؤلف)

(٤) عيون الأثر لابن سيّد الناس : ٢ / ٣٣٩ [ ٢ / ٤٣٣ ]. (المؤلف)

(٥) الصواعق المحرقة : ص ٣٣.

(٦) صحيح البخاري : ٣ / ٩٧٨ ح ٢٥٨١.

٢٥٠

فأتيت أبا بكر رضى الله عنه فقلت : يا أبا بكر : أليس هذا نبيّ الله حقّا؟ قال : بلى. قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال : بلى. قلت : فلِمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذاً؟ فقال : أيّها الرجل إنّه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولن يعصي ربّه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فو الله إنّه على الحقّ. فقلت : أليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطَّوَّف به؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قلت : لا. قال : فإنّك آتيه ومطّوِّف به.

قال الأميني : هل في هذه الرواية غير أنّ أبا بكر كان مؤمناً بنبوّة رسول الله ، وبطبع الحال أنّ كلّ من اعتنق هذا المبدأ يرى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعصي ربّه وهو ناصره ، وأنّ كلّ ميعاد جاء به لا بدّ وأن يقع في الأجل المضروب له إن كان موقّتاً وإلاّ فهو يقع لا محالة في ظرفه الخاصّ به ، فلا يخالجه شكّ إذا لم يعجّل.

هذه غاية ما يوصف به أبو بكر بهذا الحديث ، وهو معنى يشترك فيه جميع المسلمين ، وليس من خاصّته ، فأيّ دلالة فيه على كون أبي بكر أعلم الصحابة على الإطلاق؟ ولو كان عمر يسأل أيّ صحابيّ بسؤاله هذا لما سمع إلاّ لِدة ما أجاب به أبو بكر ومثل ما أجاب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك المسلمون كلّهم إلى منصرم الدنيا ، فإنّك لا تجد عند أحدهم ضميراً غير هذا ، وإذا فاتحته بالكلام عن مثله فلا تسمع جواباً غيره ، فهل فاتح عمر به غير أبي بكر أحداً من الصحابة وسمع جواباً غير ما أجاب به حتى يُستدلّ به على أعلميّته على الإطلاق أو على التقييد؟

وهل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدد بيان غامض من علومه لمّا أجاب عمر ، حتى يكون إذا وافقه أبو بكر في الجواب يصبح به أعلم الصحابة على الإطلاق؟

وابن حجر يعلم ذلك كلّه ، ولذلك تعمّد إسقاط لفظ الرواية ، وقال في الصواعق (١) (ص ١٩) : هو ـ أبو بكر ـ من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٣٣.

٢٥١

الإطلاق للأدلّة الواضحة على ذلك ، منها : ما أخرجه البخاري وغيره أنّ عمر في صلح الحديبيّة سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك الصلح وقال : علام نعطي الدنيّة في ديننا. فأجابه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ ذهب إلى أبي بكر فسأله عمّا سأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير أن يعلم بجواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجابه بمثل ذلك الجواب سواء بسواء.

يوهم ابن حجر أنّ هناك معضلة كشفها أبو بكر ، أو عويصة من العلوم حلّها ممّا يُعدّ الخوض فيه من الأدلّة الواضحة على أعلميّة صاحبه من الصحابة على الإطلاق ، فليفعل ابن حجر ما شاء ، فإنّ نظّارة التنقيب رقيبة عليه ، والله من ورائه حسيب.

المظهر الثالث : ومن الأدلّة الواضحة عند ابن حجر على أنّ الخليفة أعلم الصحابة على الإطلاق ما روى في الصواعق (ص ١٩) عن عائشة مرسلاً أنّها قالت : لمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ اشرأبّ النفاق ـ أي رفع رأسه ـ وارتدّت العرب ، وانحازت الأنصار ، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها ـ أي فتّتها ـ فما اختلفوا في لفظة إلاّ طار أبي بعبئها وفصلها ، قالوا : أين ندفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ما من نبيّ يقبض إلاّ دفن تحت مضجعه الذي مات فيه. واختلفوا في ميراثه ، فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّا معشر الأنبياء لا نُورَث ما تركنا صدقة.

ثمّ قال (١) : قال بعضهم : وهذا أوّل اختلاف وقع بين الصحابة فقال بعضهم : ندفنه بمكّة مولده ومنشئه ، وبعضهم بمسجده ، وبعضهم بالبقيع ، وبعضهم ببيت المقدس مدفن الأنبياء ، حتى أخبرهم أبو بكر بما عنده من العلم ، قال ابن زنجويه : وهذه سنّة تفرّد بها الصدّيق من بين المهاجرين والأنصار ورجعوا إليه فيها.

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٣٤.

٢٥٢

قال الأميني : غاية ما في هذه المرسلة عن عائشة أنّ أبا بكر روى حديثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شذّت روايتهما عن الحضور في ذينك الموقفين ، فإن يكن بهما أبو بكر أعلم الصحابة على الإطلاق حتى من لم يحضرهما ولو بنحو من التهجّم والرجم بالغيب ، فكيف بمن روى آلافاً مؤلّفة من الأحاديث شذّت عن أبي بكر روايتها جمعاء أو رواية أكثرها؟ ومع ذلك لا يُعدّ أحد منهم أعلم الصحابة أو أعلم من أبي بكر على الأقلّ.

أليس هو صاحب نادرة الأبّ والكلالة والجدّ والجدّتين إلى نوادر أخرى؟ أليس هو الآخذ بالسنّة الشريفة من نظراء المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وعبد الرحمن بن سهيل إلى أناس آخرين عاديّين؟

كأنّ ابن حجر يقيس الناس إلى نفسه ويحسبهم ولائدَ حَجَر لا يعقلون شيئاً وهم يسمعون ، ألا يقول الرجل ما الذي فهمه الصحابة من هتاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم هتف بقوله :

١ ـ «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة».

٢ ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة».

٣ ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين حجرتي إلى منبري روضة من رياض الجنّة».

٤ ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنّة».

٥ ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سرّه أن يصلّي في روضة من رياض الجنّة فليصلّ بين قبري ومنبري».

وهذه الأحاديث أخرجها باللفظ الأول (١) : البخاري (٢) ، وأحمد ، وعبد الرزّاق ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٤٧٢ ح ١١٢١٦ ، شعب الإيمان : ٣ / ٤٩١ ح ٤١٦٣ ، مسند البزّار : ٤ / ٤٤ ح ١٢٠٦ ، المعجم الكبير : ١٢ / ٢٢٧ ح ١٣١٥٦ والمعجم الأوسط : ١ / ٣٦٠ ح ٦١٤ و ٤١٢ ح ٧٣٧ ، حلية الأولياء : ٩ / ٣٢٤ رقم ٤٦١.

(٢) حكاه الأنصاري عن نسخة من صحيحه في تحفة الباري المطبوع في ذيل إرشاد الساري : ٤ / ٤١٢. (المؤلف)

٢٥٣

وسعيد بن منصور ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والخطيب ، والبزّار ، والطبراني ، والدارقطني ، وأبو نعيم ، وسمويه ، وابن عساكر من طريق جابر ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سعيد الخدري.

راجع (١) تاريخ الخطيب (١١ / ٢٢٨ ، ٢٩٠) ، إرشاد الساري للقسطلاني (٤ / ٤١٣) وصحّح إسناد البزّار وقال : عند البزّار بسند رجاله ثقات ، كنز العمّال (٦ / ٢٥٤) ، شرح النووي لمسلم هامش الإرشاد (٦ / ١٠٣) ، تحفة الباري في ذيل الإرشاد (٤ / ٤١٢) ، وحكاه السمهودي في وفاء الوفا (١ / ٣٠٣) عن الصحيحين ، وصحّحه من طريق البزّار.

وأخرجها (٢) باللفظ الثاني : البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وأحمد ، والدارقطني ، وأبو يعلى ، والبزّار ، والنسائي ، وعبد الرزّاق ، والطبراني ، وابن النجّار ، من طريق جابر وعبد الله بن عمر ، وعبد الله المازني ، وأبي بكر.

راجع (٣) : صحيح البخاري كتاب الصلاة : باب فضل ما بين القبر والمنبر ، وكتاب الحجّ ، وصحيح مسلم كتاب الحج ، باب : فضل ما بين قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنبره ، تيسير الوصول (٣ / ٣٢٣) ، تمييز الطيّب (ص ١٣٩) ، فقال : متّفق عليه ، كنوز الدقائق

__________________

(١) إرشاد الساري : ٤ / ٤٩١ ـ ٤٩٢ ح ١٨٨٨ ، كنز العمّال : ١٢ / ٢٦٠ ح ٣٤٩٤٧ و ٢٦١ ح ٣٤٩٥٦ ، شرح صحيح مسلم : ٩ / ١٦١ ، وفاء الوفا : ٢ / ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٦٧٥ ح ٣٩١٥ ، ٣٩١٦ ، مسند أحمد : ٢ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ح ٧١٨٢ و ٣ / ٧١ ح ٨٦٦٨ ، مسند أبي يعلى : ١ / ١٠٩ ح ١١٨ ، مسند البزّار : ٤ / ٤٤ ح ١٢٠٦ ، السنن الكبرى للنسائي : ١ / ٢٥٧ ح ٧٧٤ ، المصنّف لعبد الرزّاق : ٣ / ١٨٢ ح ٥٢٤٣ ، المعجم الكبير : ٢٣ / ٢٥٥ ح ٥٢٦ ، المعجم الأوسط : ١ / ١٠١ ح ٩٨ ، المعجم الصغير : ٢ / ١٢٢.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٩٩ ح ١١٣٧ و ١١٣٨ و ٢ / ٦٦٧ ح ١٧٨٩ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٧٩ ح ٥٠٠ ـ ٥٠٢ كتاب الحج ، تيسير الوصول : ٣ / ٣٧٥ ح ١٣ ، تمييز الطيّب من الخبيث : ص ١٦١ ح ١١٨٨ ، كنوز الدقائق : ٢ / ٨٢ ، كنز العمّال : ١٢ / ٢٥٩ ح ٣٤٩٤٤ و ٢٦٠ ح ٣٤٩٤٥ و ٢٦١ ح ٣٤٩٥٥ ، الجامع الصغير : ٢ / ٤٨٩ ح ٧٨٦٠ ، وفاء الوفا : ٢ / ٤٢٦ ، ٤٢٨.

٢٥٤

(ص ١٢٩) ، كنز العمّال (٦ / ٢٥٤) ، الجامع الصغير وصحّحه وقال : حديث متواتر كما في الفيض القدير (٥ / ٤٣٣) ، تحفة الباري في ذيل الإرشاد (٤ / ٤١٢) ، وفاء الوفا (١ / ٣٠٢ ، ٣٠٣) وصحّحه بإسناد أحمد والبزّار.

وأخرجه (١) باللفظ الثالث : أحمد ، والشاشي ، وسعيد بن منصور ، والخطيب من طريق جابر وعبد الله المازني كما في تاريخ الخطيب (٣ / ٣٦٠) ، وكنز العمّال (٦ / ٢٥٤) ، وشرح النووي لمسلم هامش الإرشاد (٦ / ١٠٣).

واللفظ الرابع (٢) : تجده في الأوسط للطبراني من طريق أبي سعيد الخدري كما في إرشاد الساري (٤ / ٤١٣) ، ووفاء الوفا (١ / ٣٠٣).

والخامس منها أخرجه (٣) : الديلمي من طريق عبيد الله بن لبيد كما في كنز العمّال (٦ / ٢٥٤).

وقال ابن أبي الحديد في شرحه (٤) (٣ / ١٩٣) : قلت : كيف اختلفوا في موضع دفنه وقد قال لهم : «فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري»؟ وهذا تصريح بأنّه دفن في البيت الذي جمعهم فيه وهو بيت عائشة.

وهذا الحديث أخرجه (٥) : ابن سعد ، وابن منيع ، والحاكم ، والبيهقي ، والطبراني في الأوسط من طريق ابن مسعود كما في الخصائص الكبرى للحافظ السيوطي (٢ / ٢٧٦).

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٣٥٢ ح ١٠٥٢٥ ، كنز العمّال : ١٢ / ٢٦٠ ح ٣٤٩٤٨ ، شرح صحيح مسلم : ٩ / ١٦١.

(٢) إرشاد الساري : ٤ / ٤٩٢ ح ١٨٨٨ ، وفاء الوفا : ٢ / ٤٢٧.

(٣) الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٥٣٨ ح ٥٦٧٦ ، كنز العمّال : ١٢ / ٢٦٠ ح ٣٤٩٥٠.

(٤) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٣٩ خطبة ٢٣٠.

(٥) الطبقات الكبرى : ٢ / ٢٥٧ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٦٢ ح ٣٤٩٩ ، دلائل النبوّة : ٧ / ٢٣٢ ، الخصائص الكبرى : ٢ / ٤٨٤.

٢٥٥

أيرى ابن حجر أنّ الصحابة بعد تلكم الأحاديث كانوا غير عارفين تلك الروضة المقدّسة التي أنبأهم بها نبيّهم الأقدس ، وأمرهم بالصلاة عليها؟ أو يراهم أنّهم عرفوا القبر والمنبر وما بينهما من الروضة ، ووقفوا على حدودها من كَثَب أخذاً منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ اختلفوا في المدفن الشريف ، فباح به أبو بكر فأصبح بذلك أعلمهم على الإطلاق؟

على أنّه لو صحّت رواية الدفن لوجب أن يبوح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن أوصاه بغسله ودفنه (١) ، لمن ولي غسله وكفنه وإجنانه (٢) ، لمن يعلم أنّه يباشر دفنه ويلي إجنانه (٣) في منتصف الليل من دون حضور غير أهله كما مرّ في (ص ٧٥) ، لا الذي يغيب عن ذلك المشهد ، وغلبت على أجفانه عند ذاك سنة الكرى ، وتعيين المدفن من أهمّ ما يوصى به عند كلّ أحد فضلاً عن سيّد البشر ، وهذا الاعتبار يعاضد ما أخرجه أبو يعلى (٤) من حديث عائشة أيضاً ، وإن يعارض حديثها عن أبيها. قالت : اختلفوا في دفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال عليّ : «إنّ أحبّ البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيّه». الخصائص الكبرى (٥) (ص ٢ / ٢٧٨).

ولعلّ تجاه هذا الحديث اختُلقت رواية الدفن.

ولو كان عند دفن جثمان القداسة حوار كما يصفه ابن حجر لتناقلته الألسن وتداولته السير والمدوّنات نقلاً عن الصحابة الحضور يوم ذاك الواقفين على الجلبة ، والمستمعين للّغط ، ولما اختصّت بوصفه صفحات الصواعق أو ما يشاكله من كتب المتأخرين ، ولا تفرّدت برواية شيء منها عائشة ، وكيف تفرّدت بها! وهي التي

__________________

(١) طبقات ابن سعد رقم التسلسل : ٧٩٨ ، ٨٠١ [ ٢ / ٢٧٨ و ٢٨٠ ـ ٢٨١ ] ، الخصائص الكبرى : ٢ / ٢٧٦ ، ٢٧٧ [ ٢ / ٤٨٢ ، ٤٨٣ ]. (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ص ٧٩٨ [ ٢ / ٢٧٨ ]. (المؤلف)

(٣) يقال : أجنّه أي ستره والمراد دفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) مسند أبي يعلى : ٨ / ٢٧٩ ح ٤٨٦٥.

(٥) الخصائص الكبرى : ٢ / ٤٨٦.

٢٥٦

تقول : ما علمنا بدفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل (١).

ثمّ إنّ أوّل مفنّد لهذه السنّة المزعوم اطّرادها هو مدفن أوّل الأنبياء آدم عليه‌السلام ، فإنّه توفّي بمكة ودفن عند الجبل الذي أهبط منه في الهند ، وقيل بجبل أبي قبيس بمكّة (٢).

وقد اشترى إبراهيم الخليل على نبيّنا وآله وعليه‌السلام مغارة في حبرون (٣) من عفرون بن صخر ، فدفن فيها سارة ثمّ دُفِن فيها هو وابنه إسحاق.

وتوفّي يعقوب عليه‌السلام في مصر ، واستأذن يوسف سلام الله عليه ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله ، فأذن له ، وخرج معه أكابر مصر ، فدفنه في المغارة بحبرون (٤).

المظهر الرابع : أمّا رواية الإرث ؛ فسرعان ما ناقض ابن حجر (٥) فيها نفسه ؛ فتراه يحسب هاهنا في (ص ١٩) : أنّها مختصّة بأبي بكر ، وهي من الأدلّة الواضحة على أعلميّته ، وهو يعتقد في صفحة (٢١) : أنّه رواها عليّ والعبّاس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وأمّهات المؤمنين وقال : كلّهم كانوا يعلمون أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك ، وأنّ أبا بكر إنّما انفرد باستحضاره أوّلاً ثمّ استحضره الباقون.

__________________

(١) راجع ما مرّ في : ص ٧٥. (المؤلف)

(٢) تاريخ الطبري : ١ / ٨٠ ، ٨١ [ ١ / ١٦١ و ١٦٢ ] ، العرائس للثعلبي : ص ٢٩ [ ص ٤٨ ] ، الكامل لابن الأثير : ١ / ٢٢ [ ١ / ٦١ ] ، تاريخ ابن كثير : ١ / ٩٨ [ ١ / ١١٠ ]. (المؤلف)

(٣) في تاريخ الطبري : جيرون ، والصحيح : حبرون [ وفي الطبعة التي في أيدينا ١ / ٣١٢ : حبرون ]. (المؤلف)

(٤) تاريخ الطبري : ١ / ١٦١ ، ١٦٩ [ ١ / ٣١٢ و ٣٣٠ ] ، معجم البلدان : ٣ / ٢٠٨ [ ٢ / ٢١٢ ] ، تاريخ ابن كثير : ١ / ١٧٤ ، ١٩٧ ، ٢٢٠ [ ١ / ٢٠٢ و ٢٢٦ و ٢٥٣ ]. (المؤلف)

(٥) الصواعق : ص ٣٤ و ٣٩.

٢٥٧

ما هذا التهافت بين كلامي الرجل؟ وما أذهله أخيراً عمّا جاء به أوّلاً؟ وهل الأعلميّة مترشّحة من محض الاستحضار أوّلاً؟ أو السبق إلى الهتاف به؟ وكلّ منهما كما ترى لا يفيد مزيّة إلاّ في الحفظ دون العلم.

ثمّ لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك لوجب أن يفشيه إلى آله وذويه الذين يدّعون الوراثة منه ليقطع معاذيرهم في ذلك بالتمسك بعمومات الإرث من آي القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، فلا يكون هناك صخب وحوار تتعقّبهما محن وإحن ، ولا تموت بضعته الطاهرة وهي واجدة على أصحاب أبيها (١) ، ويكون ذلك كلّه مثاراً للبغضاء والعداء في الأجيال المتعاقبة بين أشياع كلّ من الفريقين ، وقد بُعث هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكسح تلكم المعرّات وعقد الإخاء بين الأمم والأفراد.

ألم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بصيرة ممّا يحدث بعده من الفتن الناشئة من عدم إيقاف أهله وذويه على هذا الحكم المختصّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخصّص لشرعة الإرث؟ حاشاه. وعنده علم المنايا والبلايا والقضايا والفتن والملاحم.

وهل ترى أنّ دعوى الصدّيق الأكبر أمير المؤمنين وحليلته الصدّيقة الكبرى صلوات الله عليهما وآلهما على أبي بكر ما استولت عليه يده ممّا تركه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ماله كانت بعد علم وتصديق منهما بتلك السنّة المزعومة صفحاً منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا؟ أو كانت عن جهل منهما بما جاء به أبو بكر؟ نحن نقدّس ساحتهما ـ أخذاً بالكتاب والسنّة ـ عن علم بسنّة ثابتة والصفح عنها ، وعن جهل يربكهما في الميزان.

ولما ذا يصدّق أبو بكر في دعواه الشاذّة عن الكتاب والسنّة ، فيما لا يُعلم إلاّ من قِبَل ورثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه الذي هتف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وبوصايته من بدء دعوته في الأندية

__________________

(١) سيوافيك في هذا الجزء تفصيل ذلك. (المؤلف)

٢٥٨

والمجتمعات (١) ، ولم تكن أُذنٌ واعية لدعوى الصدّيقة وزوجها الطاهر بكون فدك نِحلة لها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي لا تُعلم إلاّ من قبلهما؟

قال مالك بن جعونة عن أبيه أنّه قال : قالت فاطمة لأبي بكر : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل لي فدك فأعطني إيّاها» ، وشهد لها عليّ بن أبي طالب ، فسألها شاهداًآخر فشهدت لها أُمّ أيمن : فقال : قد علمت يا بنت رسول الله أنّه لا تجوز إلاّ شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ، فانصرفت.

وفي رواية خالد بن طهمان ؛ أنّ فاطمة قالت لأبي بكر رضى الله عنه : «أعطني فدك فقد جعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي» ، فسألها البيّنة ، فجاءت بأمّ أيمن ورباح مولى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشهدا لها بذلك ، فقال : إنّ هذا الأمر لا تجوز فيه إلاّ شهادة رجل وامرأتين (٢).

ثمّ مِمّ كان غضب الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها؟ وهي التي جاء فيها عن أبيها الأقدس : «إنّ الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها» (٣) أمن حكم صدع به والدها؟ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٤) وحاشاها. أم لأنّ ذلك الحكم الباتّ رواه عنه صدّيق أمين يريد بثّ حكم الشريعة وتنفيذه وهي غير مصدّقة له؟ نحاشي ساحة البضعة الطاهرة بنصّ آية التطهير عن هذه الخزاية ، فلم يبق إلاَّ شقّ ثالث وهو أنّها كانت تتّهم الراوي ، أو تعتقد خللاً في الرواية ، وتراه حكماً خلاف الكتاب والسنّة ، وهذا الذي دعاها إلى أن لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها (٥) ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم

__________________

(١) راجع الجزء الثاني : ص ٢٧٨. (المؤلف)

(٢) فتوح البلدان للبلاذري : ص ٣٨ [ ص ٤٤ ]. (المؤلف)

(٣) راجع : ٣ / ٢٠ وسيأتيك في هذا الجزء. (المؤلف)

(٤) النجم : ٣ و ٤.

(٥) الحَفَدَة : الأعوان والخدم.

٢٥٩

مشيتها مشية رسول الله ، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ، ثم أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء ، وارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت كلامها بالحمد لله عزّ وجلّ والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثمّ قالت ما قالت وفيما قالت : «أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ، (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١)؟ يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرِث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّا ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحَكَم الله ، والزعيم محمد ، والوعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون». ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :

قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثةٌ

لو كنت شاهدها لم تكثرِ الخطبُ

إنّا فقدناك فقدَ الأرضِ وابلَها

واختلّ قومكَ فاشهدهم ولا تغب

فليت بعدك كان الموتُ صادفَنا

لمّا قضيت وحالت دونك الكثبُ (٢)

وهذا الذي تركها غضبى على من خالفها وتدعو عليه بعد كلّ صلاة حتى لفظت نفسها الأخير صلّى الله عليها كما سيوافيك تفصيله.

وهل هذا الحكم مطّرد بين الأنبياء جميعاً؟ أو أنّه من خاصّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ والأوّل ينقضه الكتاب العزيز بقوله تعالى (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (٣).

وقوله سبحانه عن زكريّا : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٤).

__________________

(١) المائدة : ٥٠.

(٢) بلاغات النساء لابن طيفور : ص ١٢ [ ص ٢٣ ] ، شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ٩٣ [ ١٦ / ٢٥١ خطبة ٤٥ ] ، أعلام النساء : ٨ / ١٢٠ [ ٤ / ١٢٢ ]. (المؤلف)

(٣) النمل : ١٦.

(٤) مريم : ٥ و ٦.

٢٦٠