الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاّ باحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفساً بغير نفس» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوها منعوا منّي دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على الله» (٢).

وعهد أبو بكر نفسه لسلمان بقوله : من صلّى الصلوات الخمس فإنّه يصبح في ذمّة الله ويمسي في ذمّة الله تعالى ، فلا تقتلنّ أحداً من أهل ذمّة الله فتخفر الله في ذمّته فيكبّك الله في النار على وجهك (٣).

أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الإسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال أولئك الكفرة الفجرة الذين حقّ على النبيّ الطاهر شنّ الغارة عليهم؟ ويحكم عليهم بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون ،والنزو على تلكم الحرائر المأسورات؟

وأمّا ما مرّ من الاعتذار بأنّ خالداً قال : ادفئوا أسراكم وأراد الدفء وكانت في لغة كنانة : القتل. فقتلوهم فخرج خالد وقد فرغوا منهم. فلا يفوه به إلاّ معتوه استأسر هواه عقله ، وسفه في مقاله ، لما ذا قتل ضرار مالكاً بتلك الكلمة وهو لم يكن من كنانة ولا من أهل لغتها؟ بل هو أسديّ من بني ثعلبة ، ولم يكن أميره يتكلّم قبل ذلك اليوم بلغة كنانة.

__________________

(١) الديات لابن أبي عاصم الضحاك : ص ٩ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١١٠ [ ٢ / ٨٤٧ ح ٢٥٣٣ ] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٩. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ١ / ٣٠ [ ١ / ٨١ ح ٣٥ كتاب الإيمان ] ، الديات لابن أبي عاصم الضحاك : ص ١٧ ، ١٨ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٤٥٧ [ ٢ / ١٢٩٥ ح ٣٩٢٧ ، ٣٩٢٨ ] ، خصائص النسائي : ص ٧ [ ص ٤٣ ح ١٩ ] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٩ ، ١٩٦. (المؤلف)

(٣) أخرجه أحمد في الزهد [ ص ١٦٥ ح ٥٧٠ وفيه : من صلّى صلاة الصبح ... ] ، كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ٧٠ [ ٩٥ ـ ٩٦ ]. (المؤلف)

٢٢١

وإن صحّت المزعمة فلما ذا غضب أبو قتادة الأنصاري على خالد وخالفه وتركه يوم ذاك وهو ينظر إليه من كثب ، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب؟

ولما ذا اعتذر خالد بأنّ مالكاً قال : ما إخال صاحبكم إلاّ قال كذا وكذا؟ وهذا اعتراف منه بأنّه قتله غير أنّه نحت على الرجل مقالاً ، وهو من التعريض الذي لا يجوّز القتل ـ بعد تسليم صدوره منه ـ عند الأمّة الإسلاميّة جمعاء ، والحدود تُدرأ بالشبهات.

ولما ذا رآه عمر عدوّا لله ، وقذفه بالقتل والزنا؟ وإن لم يفتل ذلك ذؤابة (١) أبي بكر.

ولما ذا هتكه عمر في ملأ من الصحابة بقوله إيّاه : قتلت امرأً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته ، والله لأرجمنّك بأحجارك؟

ولما ذا رأى عمر رَهَقاً في سيف خالد وهو لم يقتل مالكاً وصحبه وإنّما قتلتهم لغة كنانة؟

ولما ذا سكت خالد عن جوابه؟ وما أخرسه إلاّ عمله ، (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (٢).

ولما ذا صدّق أبو بكر عمر بن الخطّاب في مقاله ووقيعته على خالد وما أنكر عليه غير أنّه رآه متأوّلاً تارةً ، ونَحَت له فضيلةً أخرى؟

ولما ذا أمر خالد بالرؤوس فنصبت إثفيةً للقدور ، وزاد وصمة على لغة كنانة؟

__________________

(١) مثل يضرب يقال : فتل ذؤابة فلان. أي أزاله عن رأيه [ في مجمع الأمثال : ٢ / ٤٣٦ رقم ٢٧٣٠ والمُستقصى في أمثال العرب : ٢ / ١٧٩ رقم ٦٠٧ : فتل في ذروته. أي خادعه حتى أزاله عن رأيه. يضرب في الخداع والمماكرة ]. (المؤلف)

(٢) القيامة : ١٤ و ١٥.

٢٢٢

ولما ذا نزا على امرأة مالك ، وسبى أهله ، وفرّق جمعه ، وشتّت شمله ، وأباد قومه ، ونهب ماله؟ أكلّ هذه معرّة لغة كنانة؟

ولما ذا ذكر المؤرّخون أنّ مالكاً قُتل دون أهله محاماةً عليها؟

ولما ذا أثبت المترجمون ذلك القتل الذريع على خالد دون لغة كنانة ، وقالوا في ترجمة ضرار وعبد (١) بن الأزور : إنّه هو الذي أمره خالد بقتل مالك بن نويرة (٢). وقالوا في ترجمة مالك : إنّه قتله خالد. أو : قتله ضرار صبراً بأمر خالد (٣). هذه أسئلة توقف المعتذر موقف السَّدِر (٤) ، ولم يحر جواباً.

ما شأن أبناء السلف وقد غرّرت بهم سكرة الشبق ، وغالتهم داعية الهوى ، وجاؤوا لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون؟ فترى هذا يقتل مثل مالك ويأتي بالطامّات رغبةً في نكاح أمّ تميم.

وهذا يقتل سيّد العترة أمير المؤمنين شهوةً في زواج قطام.

وآخر (٥) شنّ الغارة على حيّ من بني أسد ، فأخذ امرأة جميلة فوطأها بهبة من أصحابه ، ثمّ ذكر ذلك لخالد فقال : قد طيّبتها لك ـ كأنّ تلكم الجنود كانت مجنّدة لوطء النساء وفضّ ناموس الحرائر ـ فكتب إلى عمر ، فأجاب برضخه بالحجارة (٦).

__________________

(١) الإصابة : ٢ / ٤٣٢ رقم ٥٢٧٠.

(٢) الاستيعاب : ١ / ٣٣٨ [ القسم الثاني / ٧٤٧ رقم ١٢٥٤ ] ، أُسد الغابة : ٣ / ٣٩ [ ٣ / ٥٢ رقم ٢٥٦٠ ] ، خزانة الأدب للبغدادي : ٢ / ٩ [ ٣ / ٣٢٦ ] ، الإصابة : ٢ / ٢٠٩ [ رقم ٤١٧٢ ].(المؤلف)

(٣) الإصابة : ٣ / ٣٥٧ [ رقم ٧٦٩٦ ] ، مرآة الجنان : ١ / ٦٢ [ سنة ١١ ه‍ ]. (المؤلف)

(٤) السَّدِر : المتحيّر.

(٥) هو ضرار بن الأزور زميل خالد بن الوليد وشاكلته في النزو على الحرائر. (المؤلف)

(٦) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣١ [ ٢٤ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩ رقم ٢٩٣١. وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ١٥٤ ] ، خزانة الأدب : ٢ / ٨ [ ٣ / ٣٢٦ ] ، الإصابة : ٢ / ٢٠٩ [ رقم ٤١٧٢ ]. (المؤلف)

٢٢٣

وهذا يزيد بن معاوية يدسّ إلى زوجة ريحانة رسول الله الحسن السبط الزكيّ السمّ النقيع لتقتله ويتزّوجها (١) ، أو فعله معاوية لغاية له كما يأتي.

ووراء هؤلاء المعتدين قوم ينزّهون ساحتهم بأعذار مفتعلة كالتأويل والاجتهاد ـ وليتهما لم يكونا ـ وتخطئة لغة كنانة ، والله يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون ، (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٢).

الناحية الثانية :

الثانية من الناحيتين التي يهمّنا أن نولّي شطرها وجه البحث ؛ تسليط الخليفة أوّلاً أمثال خالد وضرار بن الأزور شارب الخمور وصاحب الفجور (٣) على الأنفس والدماء ، على الأعراض ونواميس الإسلام ، وعهده إلى جيوشه في حرق أهل الردّة وقد عرفت النهي عنه في السنّة الشريفة (ص ١٥٥). وصفحه ثانياً عن تلكم الطامّات والجنايات الفاحشة كأن لم تكن شيئاً مذكوراً ، فما سمعت أُذن الدنيا منه حولها ركزاً ، وما حُكيت عنه في الإنكار عليها ذأمة ، وما رأى أحد منه حولاً.

لِم لَم يؤاخذ الخليفة خالداً بقتل مالك وصحبه المسلمين الأبرياء ، وقد ثبت عنده كما يلوح ذلك عن دفاعه عنه ومحاماته عليه؟

لِمَ لم يقتصّ منه قصاص القاتل؟ ولم يُقم عليه جلدة الزاني؟ ولم يضربه حدّ المفتري؟ ولم يعزّره تعزير المعتدي على ما ملكته أيدي أولئك المسلمين؟

لِمَ لم يرَ عزل خالد وقد كره ما فعله ، وعرض الدية على متمّم بن نويرة أخي

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٢٢٦ [ ١٣ / ٢٨٤ رقم ١٣٨٣ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٧ / ٣٩ ]. (المؤلف)

(٢) المائدة : ٤٢.

(٣) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٠ [ ٢٤ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠ رقم ٢٩٣١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ١٥٤ ] ، خزانة الأدب : ٢ / ٨ [ ٣ / ٣٢٦ ] ، الإصابة : ٢ / ٢٠٩ [ رقم ٤١٧٢ ]. (المؤلف)

٢٢٤

مالك؟ وأمر خالداً بطلاق امرأة مالك كما في الإصابة (١ / ٤١٥).

دع هذه كلّها ولا أقلّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتوبيخ الرجل وعتابه على تلكم الجرائم ، وأقلّ الإنكار كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة».

ما للخليفة يتلعثم ويتلعذم في الدفاع عن خالد وجناياته؟ فيرى تارة أنّه تأوّل وأخطأ ، ويعتذر أُخرى بأنّه سيف من سيوف الله ، وينهى عمر بن الخطّاب عن الوقيعة فيه ، ويأمره بالكفّ عنه وصرف اللسان عن مغايظته ، ويغضب على أبي قتادة لإنكاره على خالد كما في شرح ابن أبي الحديد (١) (٤ / ١٨٧).

ونحن نقتصر في البحث عن هذا الجانب على توجيه القارئ إليه ، ولم نذهب به قصاه ، ولم نبتغ فيه مداه ، إذ لم نر حداً تخفى عليه حزازة أيّ من العذرين ، هلاّ يعلم متشرّع في الإسلام أنّ تلكم الطامّات والجرائم الخطيرة لا يتطرّق إليها التأوّل والاجتهاد؟ ولا يسوغ لكلّ فاعل تارك أن يتترّس بأمثالهما في معرّاته ، ويتدرّع بها في أحناته ، ولا تُدرأ بها الحدود ، ولا تطلّ بها الدماء ، ولا تحلّ بها حرمات الحرائر ؛ ولا يرفض بها حكم الله في الأنفس والأعراض والأموال ، ولم يُصخ الحاكم لمدّعيها كما ادّعى قدامة بن مظعون في شربه الخمر بأنّه تأوّل واجتهد فأقام عمر عليه الحدّ وجلده ولم يقبل منه العذر. كما في سنن البيهقي (٨ / ٣١٦) وغيره.

وأخرج ابن أبي شيبة (٢) وابن المنذر عن محارب بن دثار : أنّ ناساً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شربوا الخمر بالشام وقالوا : شربنا لقول الله (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٧ / ٢١٣ كتاب ٦٢.

(٢) المصنّف في الأحاديث والآثار : ٩ / ٥٤٦ ح ٨٤٥٨.

٢٢٥

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) (١) الآية. فأقام عمر عليهم الحدّ (٢).

وجلد أبو عبيدة أبا جندل العاصي بن سهيل وقد شرب الخمر متأوّلاً لقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية. كما في الروض الأُنف للسهيلي (٣) (٢ / ٢٣١).

وهل يرتاب أحد في أنّ سيفاً سلّه المولى سبحانه لا يكون فيه قطّ رهق ولا شغب ، ولا تسفك به دماء محرّمة ، ولا تُهتك به حرمات الله ، ولا يُرهف لنيل الشهوات ، ولا يُنضى للشبق ، ولا يُفتك به ناموس الإسلام ، ولا يحمله إلاّ يد أناس طيّبين ، ورجال نزيهين عن الخنابة (٤) والعيث والفساد؟

فما خالد وما خطره حتى يهبه الخليفة تلك الفضيلة الرابية ويراه سيفاً سلّه الله على أعدائه ، وهو عدوّ الله بنصّ من الخليفة الثاني كما مرّ (ص ١٥٩). أليست هذه كلّها تحكّماً وسرفاً في الكلام ، وزوراً في القول ، واتّخاذ الفضائل في دين الله مهزأةً ومجهلةً؟

كيف يسعنا أن نعدّ خالداً سيفاً من سيوف الله سلّه على أعدائه؟ وقد ورد في ترجمته وهي بين أيدينا : أنّه كان جبّاراً فاتكاً ، لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه ، ولقد وقع منه في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بني جذيمة بالغميصاء (٥) أعظم ممّا وقع منه في حق مالك بن نويرة ، وعفا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن غضب عليه مدّة وأعرض عنه ، وذلك العفو هو الذي أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح (٦).

__________________

(١) المائدة : ٩٣.

(٢) الدرّ المنثور : ٢ / ٣٢١ [ ٣ / ١٧٤ ]. (المؤلف)

(٣) الروض الأُنف : ٦ / ٤٨٩.

(٤) الخنابة : الأثر القبيح.

(٥) الغميصاء : موضع في بادية العرب قرب مكة كان يسكنه بنو جذيمة بن عامر.

(٦) شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ١٨٧ [ ١٧ / ٢١٤ كتاب ٣٢ ]. (المؤلف)

٢٢٦

إن كان عفو النبيّ الأعظم عن الرجل بعد ما غضب عليه وأخذه بذنبه ، وأعرض عنه ردحاً من الزمن أطمعه حتى فعل ما فعل ، فانظر ما ذا يصنع صفح الخليفة عنه من دون أيّ غضب عليه وإعراض عنه ، وما الذي يؤثّر دفاعه عنه من الجرأة والجسارة ، في نفس الرجل ونفوس مشاكليه من أناس العيث والفساد ، وشعب الشغب والفتن؟

أنّى لنا أن نرى خالداً سيفاً سلّه الله على أعدائه وفي صفحة التاريخ كتاب أبي بكر إليه وفيه قوله : لعمري يا ابن أمّ خالد إنّك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعدُ (١)؟ كتبه إليه لمّا قال خالد لمجاعة : زوّجني ابنتك فقال له مجاعة : مهلاً إنّك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك. قال : أيّها الرجل زوّجني. فزوّجه ، فبلغ ذلك أبا بكر. فكتب إليه الكتاب ، فلمّا نظر خالد في الكتاب جعل يقول : هذا عمل الأعيسرة ـ يعني عمر بن الخطّاب.

وليست هذه بأوّل قارورة كسرت في الإسلام بيد خالد ، وقد صدرت منه لدة هذه الفحشاء المنكرة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبرّأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صنيعه. قال ابن إسحاق : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله ، ولم يأمرهم بقتال ، وكان ممّن بعث خالد بن الوليد ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً ، ولم يبعثه مقاتلاً ، ومعه قبائل من العرب فوطأوا بني جذيمة بن عامر ، فلمّا رآه القوم أخذوا السلاح ، فقال خالد : ضعوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا.

قال : حدّثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال : لمّا أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل منّا يقال له جحدم (٢) : ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد ، والله

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٥٤ [ ٣ / ٣٠٠ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، تاريخ الخميس : ٣ / ٣٤٣ [ ٢ / ٢١٨ ]. (المؤلف)

(٢) في الإصابة : جحدم في : ١ / ٢٢٧ [ رقم ١١٠٤ ] ، وجذيم بن الحارث في : ١ / ٣١٨ [ رقم ١٦٥٠ ]. والصحيح هو الأول. (المؤلف)

٢٢٧

ما بعد وضع السلاح إلاّ الإسار ، وما بعد الإسار إلاّ ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً ، قال : فأخذه رجال من قومه فقالوا : يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا إنّ الناس قد أسلموا ، ووضعوا السلاح ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس ، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ، ووضع القوم السلاح لقول خالد ، فلمّا وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكتّفوا ، ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع يديه إلى السماء ثمّ قال : «اللهمّ إنِّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد ابن الوليد». قال أبو عمر في الاستيعاب (١) (١ / ١٥٣) : هذا من صحيح الأثر.

قال ابن هشام (٢) : حدّث بعض أهل العلم عن إبراهيم بن جعفر المحمودي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأيت كأنّي لقمتُ لقمة من حَيسْ (٣) فالتذذت طعمها ، فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها ، فأدخل عليّ يده فنزعه» فقال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه : يا رسول الله ، هذه سريّة من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحبّ ، ويكون في بعضها اعتراض ، فتبعث عليّا فيسهّله.

قال ابن إسحاق : ثمّ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال : «يا عليّ اخرج إلى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهليّة تحت قدميك». فخرج عليّ حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فودى لهم الدماء وما أُصيب لهم من الأموال حتى إنّه ليدي لهم ميلغة (٤) الكلب ، حتى إذا لم يبق شيء من دمٍ ولا مال إلاّ وداه ، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم عليّ رضوان الله عليه حين فرغ منهم : هل بقي لكم بقيّة من دم أو مال لم يودَ لكم؟ قالوا : لا. قال :

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثاني / ٤٢٨ رقم ٦٠٣.

(٢) السيرة النبويّة : ٤ / ٧٢.

(٣) الحيس : بفتح فسكون أن يخلط السمن والتمر والأقط فيؤكل. والأقط : ما يعقد من اللبن ويجفف. (المؤلف)

(٤) الميلغة : خشبة تحفر ليلغ فيها الكلب. (المؤلف)

٢٢٨

فإنّي أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا لا يعلم ولا تعلمون ، ففعل ، ثمّ رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره الخبر ، فقال : «أصبت وأحسنت» قال : ثمّ قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنّه ليرى ما تحت منكبيه يقول : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد» ثلاث مرّات.

وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام (١). وفي الإصابة : أنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة. وقد تُعدّ هذه الفضيحة أيضاً من جنايات لغة كنانة كما في الإصابة (٢ / ٨١).

فهذا الرهق والسرف في سيف خالد على عهد أبي بكر من بقايا تلك النزعات الجاهليّة ، وهذه سيرته من أوّل يومه ، فأنّى لنا أن نعدّه سيفاً من سيوف الله وقد تبرّأ منه نبيّ الإسلام الأعظم غير مرّة ، مستقبل القبلة شاهراً يديه وأبو بكر ينظر إليه من كثب؟

ـ ١١ ـ

ثلاثة وثلاثة وثلاثة

عن عبد الرحمن بن عوف قال : إنّه دخل على أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه في مرضه الذي توفّي فيه فأصابه مهتّماً ، فقال له عبد الرحمن : أصبحت والحمد لله بارئاً ، فقال أبو بكر رضى الله عنه : أتراه؟ قال : نعم. قال : إنّي ولّيت أمركم خيركم في نفسي ، فكلّكم ورم أنفه من ذلك ، يريد أن يكون الأمر له دونه ، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولمّا تقبل ، وهي مقبلة

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ٤ / ٥٣ ـ ٥٧ [ ٤ / ٧٠ ـ ٧٣ ] ، طبقات ابن سعد طبع مصر رقم التسلسل : ص ٦٥٩ [ ٢ / ١٤٧ ـ ١٤٨ ] ، صحيح البخاري شطراً منه في كتاب المغازي باب بعث خالد إلى بني جذيمة [ ٤ / ١٥٧٧ ح ٤٠٨٤ ] ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٤٥ أُسد الغابة : ٣ / ١٠٢ [ ٢ / ١١٠ رقم ١٣٩٩ ] ، الإصابة : ١ / ٣١٨ [ رقم ١٦٥٠ ] و ٢ / ٨١ [ رقم ٣٤٨٨ ]. (المؤلف)

٢٢٩

حتى تتّخذوا ستور الحرير ، ونضائد الديباج ، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك ، والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا ، وأنتم أوّل ضالّ بالناس غداً فتصدّونهم عن الطريق يميناً وشمالاً ، يا هادي الطريق إنّما هو الفجر أو البجر. فقلت له : خفّض عليك رحمك الله ، فإنّ هذا يهيضك في أمرك ، إنّما الناس في أمرك بين رجلين : إمّا رجل رأى ما رأيت فهو معك. وإمّا رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحبّ ، ولا نعلمك أردت إلاّ خيراً ، ولم تزل صالحاً مصلحاً ، وإنّك لا تأسى على شيءٍ من الدنيا.

قال أبو بكر رضى الله عنه : أجل إنّي لا آسي على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهنّ وددت أنّي تركتهنّ. وثلاث تركتهنّ وددت أنّي فعلتهنّ. وثلاث وددت أنّي سألت عنهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فأمّا الثلاث اللاتي وددت أنّي تركتهنّ : فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب. ووددت أنّي لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأنّي كنت قتلته سريحاً ، أو خلّيته نجيحاً. ووددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً.

وأما اللاتي تركتهنّ فوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ، فإنّه تخيّل إليّ أنّه لا يرى شرّا إلاّ أعان عليه. ووددت أنّي حين سيّرت خالد بن الوليد إلى أهل الردّة كنت أقمت بذي القصّة فإن ظفر المسلمون ظفروا ، وإن هُزموا كنت بصدد لقاء أو مدد. ووددت أنّي إذ وجّهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجّهت عمر بن الخطّاب إلى العراق ، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله. ومدّ يديه.

ووددت أنّي كنت سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد ،

٢٣٠

ووددت أنّي كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أنّي كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمّة فإنّ في نفسي منهما شيئاً.

أخرجه (١) أبو عبيد في الأموال (ص ١٣١) ، والطبري في تاريخه (٤ / ٥٢) ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة (١ / ١٨) ، والمسعودي في مروج الذهب (١ / ٤١٤) وابن عبد ربّه في العقد الفريد (٢ / ٢٥٤).

والإسناد صحيح رجاله كلّهم ثقات أربعة منهم من رجال الصحاح الستّة.

قال الأميني : إنّ في هذا الحديث أموراً تسعة ، ثلاثة منها فات الخليفة فقهها يوم عمل بها ، وقد بسطنا القول في إحراق الفجاءة منها. وأمّا تمنّي قذف الأمر في عنق أحد الرجلين فإنّه ينمّ عن أنّ الخليفة انكشف له في أُخريات أيّامه أنّ ما ناء به من الأمر لم يكن على القانون الشرعيّ في الخلافة والوصيّة ؛ لأنّ المخلّف والموصي يجب أن يكون هو المعيِّن لمن ينهض بأمره من بعده ، وهو الذي تنبّه له الخليفة الثاني بعد ردحٍ من الزمن فقال : كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهليّة وقى الله شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (٢).

ولا أدري أنّ ما تنبّها له هل هو قصور في المختار ـ بالفتح ـ أو فيه ـ بالكسر ـ أو فيهما معاً؟ أو في كون الاختيار موجباً لتعيين الخليفة؟ وأيّا ما أراد فلنا فيه المخرج. وهؤلاء زمر الأنبياء والرسل لم يعدُهم التنصيص بالخليفة من بعدهم ولم تنتخب أُممهم خلفاء لهم.

وهل هنالك ذو حجىً يزعم أنّ وصاية الفقيد المبيحة للتصرّف فيما تركه من

__________________

(١) الأموال : ص ١٧٤ ح ٣٥٣ ، تاريخ الطبري : ٣ / ٤٢٩ حوادث سنة ١٣ ه‍ ، الإمامة والسياسة : ١ / ٢٤ ، مروج الذهب : ٢ / ٣١٧ ، العقد الفريد : ٤ / ٩٣.

(٢) راجع الجزء الخامس : ص ٣٧٠ ، وهذا الجزء : ص ٧٩. (المؤلف)

٢٣١

بعده موكولة إلى أناس أجانب لا يعرفون ما يرتئيه في شئونه ، بعداء عن مغازيه وما يروقه في ماله وأهله ، والفقيد عاقل رشيد يعرف الصالح من غيره ، ويعلم بنوايا من يلتاث (١) به ، ومن يحدوه الجشع ، وترقل (٢) به النهمة ، ويستفزّه الطمع ، أفتراه والحالة هذه يترك الوصيّة فيدع ما تركه أكلة للآكل ومطمعاً للناهب؟ لا.

لا يفعل ذلك وهو يريد خيراً بآله وصلاحاً في ماله ، وعلى ذلك جرت سنّة المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا الحاضر ، وأقرّته الشريعة الإسلاميّة ، وشرّعت للوصايا أحكاماً ، وجاء في الصحيحين (٣) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما حقّ امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيّته مكتوبة عنده». كذا في لفظ البخاري ، وفي لفظ مسلم (٤) : «يبيت ثلاث ليال» ، قال ابن عمر : ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك إلاّ وعندي وصيّتي. قال النووي في رياض الصالحين (٥) (١٥٦) : متّفق عليه.

وصّى الإلهُ وأوصتْ رسلُه فلذا

كان التأسّي بهم من أفضلِ العملِ

لو لا الوصيّةُ كان الخلقُ في عمهٍ

وبالوصيّةِ دام الملكُ في الدولِ

فاعمل عليها ولا تهمل طريقتَها

إنّ الوصيّةَ حكمُ اللهِ في الأزلِ

ذكرت قوماً بما أوصى الإلهُ به

وليس إحداثُ أمرٍ في الوصيّةِ لي (٦)

__________________

(١) يلتاث : يحوط.

(٢) الإرقال : الإسراع.

(٣) صحيح البخاري : ٤ / ٢ [ ٣ / ١٠٠٥ ح ٢٥٨٧ ] كتاب الوصية ، وصحيح مسلم : ٢ / ١٠ [ ٣ / ٤٤٦ ح ٤ كتاب الوصية ]. (المؤلف)

(٤) صحيح مسلم : ٣ / ٤٤٦ ح ٤ كتاب الوصية.

(٥) رياض الصالحين : ص ٢٤٣ ح ٥٧٥.

(٦) الجزء الأخير من الفتوحات المكيّة لابن عربي : ص ٥٧٥ [ ٤ / ٤٤٤ ]. (المؤلف)

٢٣٢

فإذا كانت الوصية ثابتة في حطام زائل ، فما بالها تنفى في خلافة راشدة ، وشريعة خالدة ، متكفّلة بصلاح النفوس والنواميس والأموال والأحكام والأخلاق والصالح العام والسلام والوئام؟ ومن المسلّم قصور الفهم البشريّ العادي عن غايات تلكم الشؤون فلا منتدح والحالة هذه عن أن يعيّن الرسول الأمين عن ربّه خليفته من بعده ليقتصّ أثره في أمّته.

وقد مرّ في صفحة (١٣٢) رأي عائشة وعبد الله بن عمر ومعاوية وحديث الناس بأنّ راعي إبل أو غنم أو قيّم أرض لأيّ أحد لا يسعهم ترك رعيتهم هملاً ، ورعية الناس أشدّ من رعية الإبل والغنم فالأمّة لما ذا صفحت يوم السقيفة عن هذا الحكم المتسالم عليه بينها؟ ولما ذا نبأت عنه الأسماع ، وخرست الألسُن؟ وذهلت الأحلام عنه يوم ذاك ، ثمّ حدّث به الناس ونبّأته الأمّة؟ ولما ذا ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّته سدىً هملاً ، وفتح بذلك أبواب الفتن المضلّة المدلهمّة ، واستحقر أمّته ورأى رعيتها أهون من رعية الإبل والغنم؟ حاشا النبيّ الأعظم عن هذه الأوهام ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصّى واستخلف ونصّ على خليفته وبلّغ أُمّته غير أنّه عهد إلى وصيّه من بعده : إنّ الأمّة ستغدر به بعده كما ورد في الصحيح (١). وقال له أيضاً : «أما إنّك ستلقى بعدي جهداً» ، قال عليّ : «في سلامة من ديني» ، قال : «في سلامة من دينك» (٢). وقال لعلي : «ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلاّ من بعدي» (٣). وقال له : «يا عليّ إنّك ستبتلى

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٤٠ ، ١٤٢ [ ٣ / ١٥٠ ح ٤٦٧٦ ، و ١٥٣ ح ٤٦٨٦ ] ، وصحّحهُ هو والذهبي في تلخيصه ، تاريخ الخطيب : ١١ / ٢١٦ [ رقم ٥٩٢٨ ] ، تاريخ ابن كثير : ٦ / ٢١٩ [ ٦ / ٢٤٤ ] ، كنز العمّال : ٦ / ١٥٧ [ ١١ / ٦١٧ ح ٣٢٩٩٧ ]. (المؤلف)

(٢) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٤٠ [ ٣ / ١٥١ ح ٤٦٧٧ ] وصحّحهُ هو وأقرّه الذهبي. (المؤلف)

(٣) أخرجه ابن عساكر [ في ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ الطبعة المحققه : رقم ٨٣٤ ـ ٨٣٧ ] ، والمحبّ الطبري في الرياض : ٢ / ٢١٠ [ ٣ / ١٦٢ ] نقلاً عن أحمد في المناقب ، والحافظ الكنجي في الكفاية : ص ١٤٢ [ ص ٢٧٣ باب ٦٦ ] ، والخوارزمي في المقتل : ١ / ٣٦. (المؤلف)

٢٣٣

بعدي فلا تقاتلنّ». كنوز الدقائق للمناوي (ص ١٨٨).

ثمّ إنّ الخليفة النادم لما ذا تمنّى التسلّل عن الأمر يوم السقيفة؟ وقذفه في عنق أحد الرجلين : أبي عبيدة أو عمر؟ أكان ندمه عن حقّ وقع؟ فالحقّ لا ندم فيه. وإن كان عن باطل سبق؟ فهو يهدم أساس الخلافة الراشدة.

ثمّ الذي ودّه من قذفه إلى عنق أحد الرجلين فإنّا لا نعرف وجهاً لتخصيصهما بالقذف وفي الصحابة أعاظم وذوو فضائل لا يبلغ الرجلان شأو أيّ منهم ، وهذان ـ بالنظر إلى ما عرفناه من أحوال الصحابة ـ إن لم نقل إنّهما من ساقتهم ، فإنّا نقول بكلّ صراحة إنّهما لم يكونا من الأعالي منهم وفيهم من فيهم ، وقبل جميعهم سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام صاحب السوابق والمناقب والصهر والقرابة والغَناء والعناء ، وصاحب يوم الغدير ، والأيام المشهودة ، والمواقف المشهورة ، نفس النبيّ الأعظم بنصّ من الكتاب العزيز (٤) المطهّر من كلّ رجس بآية التطهير (٥).

فهلاّ ودّ أن يقذفه إليه؟ فيسير بالأمّة سيراً سجحاً ، ويحملهم على المحجّة البيضاء ، ويأخذ بهم الطريق المستقيم ، ويجدونه هادياً مهديّا ، يدخلهم الجنّة. كما أخبر بهذه كلّها النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مرّ شطر منها في الجزء الأوّل صفحة (١٢ ، ١٣).

وأمّا كشف بيت فاطمة سلام الله عليها فإنّه لا يروقنا هاهنا خدش العواطف بتلكم النوائب ، غير أنّه سبق منّا بعض القول في الجزء الثالث (ص ١٠٢ ـ ١٠٤) وفي هذا الجزء (ص ٧٧ ، ٨٦).

وفذلكة ذلك النبأ العظيم أنّ الصدّيقة سلام الله عليها قضت وهي واجدة على

__________________

(٤) بآية المباهلة في سورة آل عمران : ٦١. (المؤلف)

(٥) في سورة الأحزاب : ٣٣.

٢٣٤

من ارتكبه ، وكانت صلوات الله عليها تدعو عليه بعد كلّ صلاة صلّتها (١).

وإن تعجب فعجب أنّ القوم ارتكب ما ارتكب من تلكم الفظائع وارتبك فيها وملء الأسماع هتاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي بضعة منّي ، وهي قلبي وروحي التي بين جنبيّ ، فمن آذاها فقد آذاني».

وبقوله : «فاطمة بضعة منّي يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها».

وبقوله : «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني».

وبقوله : «فاطمة بضعة منّي يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها» (٢).

وبقوله : «فاطمة بضعة مني يسرّني ما يسرّها» (٣).

وبقوله : «يا فاطمة إنّ الله يغضب لغضبكِ ، ويرضى لرضاكِ» (٤).

وبهذا الهتاف تعلم أنّ ندم الخليفة كان في محلّه ، غير أنّه نَدم ولات حين مندم ، ندم وقد قضى الأمر ووقع ما وقع ، ندم والصدّيقة الطاهرة مقبورة وملء إهابها موجدة.

الثلاثة الوسطى :

وأمّا الثلاثة من هاتيك الأمور التسعة التي ندم عليها الخليفة على تركها فإنّها تعرب عن أنّه ارتكب ما ارتكب فيها لا عن تروٍّ أو بصيرة في الأمر ، أو استناد إلى

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤ [ ١ / ٢٠ ] ، رسائل الجاحظ : ص ٣٠١ [ ص ٤٦٧ ـ الرسائل السياسية ] ، أعلام النساء ٣ / ١٢١٥ [ ٤ / ١٢٤ ]. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا : ص ٢١ ، وسنوقفك على تفصيلها في هذا الجزء إن شاء الله. (المؤلف)

(٣) الأغاني : ٨ / ١٥٦ [ ٩ / ٣٠١ ]. (المؤلف)

(٤) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا : ص ١٨٠ ، وسنفصّل فيه القول إن شاء الله. (المؤلف)

٢٣٥

حكم شرعيّ ، حتى كشف له الخطأ فيها جمعاء ، وقد وقعت فيها عظائم ، وأعقبتها طامّات ، وخليفة المسلمين يجب أن لا يرتكب ما يستتبعها ، ولا يفعل ما يوجب الندم في مغبّته ، وقصّة الأشعث بن قيس تعرب عن أنّ ندم الخليفة كان في محلّه ، فإنّ الرجل بعد ما ارتدّ وأتى بمعرّات وقاتل المسلمين وأُخذ وأُتي به أسيراً إلى الخليفة فقال : ما ذا تراني أصنع بك؟ فإنك قد فعلت ما علمت. قال : تمنّ عليّ فتفكّني من الحديد ، وتزوّجني أختك ، فإنّي قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر : قد فعلت فزوّجه أمّ فروة ابنة أبي قحافة ، فاخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملاً ولا ناقة إلاّ عرقبه ، فصاح الناس : كفر الأشعث. فلمّا فرغ طرح سيفه وقال : إنّي والله ما كفرت ولكن زوّجني هذا الرجل أخته ولو كنّا في بلادنا كانت وليمة غير هذه ، يا أهل المدينة كلوا ، ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا شرواها ، فكان ذلك اليوم قد شبّه بيوم الأضحى ، وفي ذلك يقول وبرة بن قيس الخزرجي :

لقد أولم الكنديُّ يوم ملاكه

وليمةَ حمّالٍ لثقل الجرائمِ

لقد سلّ سيفاً كان مُذ كان مغمداً

لدى الحرب منها في الطلا والجماجمِ

فأغمده في كلّ بكرٍ وسابحٍ

وعيرٍ وبغلٍ في الحشا والقوائمِ

فقل للفتى الكنديّ يوم لقائِهِ

ذهبت بأسنى مجد أولاد آدمِ

وقال الأصبغ بن حرملة الليثي متسخّطاً لهذه المصاهرة :

أتيت بكنديّ قد ارتدّ وانتهى

إلى غاية من نكث ميثاقه كفرا

فكان ثوابُ النكثِ إحياءَ نفسِهِ

وكان ثوابُ الكفر تزويجَه البكرا

ولو أنّه يأبى عليك نكاحَها

وتزويجَها منه لأمهرته مهرا

ولو أنّه رام الزيادةَ مثلَها

لأنكحته عشراً وأتبعته عشرا

فقل لأبي بكر لقد شنتَ بعدَها

قريشاً وأخملتَ النباهة والذكرا

أما كان في تيمِ بنِ مرّةَ واحدٌ

تُزوّجه لو لا أردت به الفخرا

٢٣٦

ولو كنت لمّا أن أتاك قتلته

لأحرزتها ذكراً وقدّمتها ذخراً

فأضحى يرى ما قد فعلتَ فريضةً

عليك فلا حمداً حويتَ ولا أجرا (١)

الثلاثة الأخر :

أمّا الثلاثة الأُخر التي تمنّى الخليفة أن يكون استعلمها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّها تنبئنا بقصوره في علم الدين ، وأنّه كان نابياً في فقهه ، لا يعرف أحكام المواريث التي يكثر ابتلاء خليفة المسلمين بها طبعاً ، وأنّه كان شاكّا في أصل الخلافة هل هي بالنصّ أو الاختيار؟ وعلى الثاني هل تخصّ المهاجرين فحسب؟ أو أنّه يشاركهم فيها الأنصار؟ وعلى أيّ فهو في تسنّمه عرش الخلافة غير متيقّن بالرشد من أمره ، ولا نُحكّم هاهنا غير ضميرك الحرّ ، وليس في الحقّ مغضبة.

ثمّ إنّي لا أعرف لهذا التمنّي محصّلاً ، لأنّه لو كان سأله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك لما كان يجيبه إلاّ بمثل قوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه». راجع الغدير الجزء الأول.

وقوله : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (٢).

وقوله : «إنّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي» (٣).

وقوله : «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي». الغدير (٣ / ١٩٩).

وقوله لعلّي : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّك لست

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٧٦ [ ٣ / ٣٣٩ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، ثمار القلوب للثعالبي : ص ٦٩ [ ص ٨٨ رقم ١٢٩ ] ، الاستيعاب : ١ / ٥١ [ القسم الأول / ١٣٣ ـ ١٣٤ رقم ١٣٥ ] ، الكامل لابن الأثير : ٢ / ١٦٠ [ ٢ / ٤٩ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، مجمع الأمثال للميداني : ٢ / ٣٤١ [ ٣ / ٤٥٤ رقم ٤٤٤٢ ] ، الإصابة : ١ / ٥١ [ رقم ٢٠٥ ] و ٣ / ٦٣٠ [ رقم ٩١٠٦ ]. (المؤلف)

(٢) مرّ الإيعاز إلى حديث الثقلين غير مرّة ، وسنفصّل القول فيه إن شاء الله. (المؤلف)

(٣) (مرّ الإيعاز إلى حديث الثقلين غير مرّة ، وسنفصّل القول فيه إن شاء الله. (المؤلف

٢٣٧

بنبيّ ، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي». الغدير (٣ / ١٩٦).

وقوله : «أوحي إليّ في عليّ ثلاث : أنّه سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين». مستدرك الحاكم (٤) (٣ / ١٣٨).

وقوله : «إنّ الله اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباكِ فبعثه نبيّا ، ثمّ اطّلع الثانية فاختار بعلكِ فأوحى إليّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً». الغدير (٢ / ٣١٨ و ٣ / ٢٣).

وقوله : «عليّ الصدّيق الأكبر وفاروق هذه الأمّة ، يفرق بين الحقّ والباطل ، ويعسوب المؤمنين ، وهو بابي الذي أوتى منه ، وهو خليفتي من بعدي». الغدير (٢ / ٣١٣).

وقوله : «عليٌّ راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ، والكلمة التي ألزمتها المتّقين ، من أحبّه أحبّني ومن أبغضه أبغضني». الغدير (٣ / ١١٨).

وقوله : «عليّ أخي ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي». الغدير (٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨١).

وقوله : «عليٌّ سيّد مبجّل ، مؤمل المسلمين ، وأمير المؤمنين ، وموضع سرّي وعلمي ، وبابي الذي يؤوى إليه وهو الوصيّ على أهل بيتي ، وعلى الأخيار من أمّتي ، وهو أخي في الدنيا والآخرة». الغدير (٣ / ١١٦).

وقوله : «عليّ أخي ووزيري وخير من أترك بعدي». الغدير (٢ / ٣١٣)

وقوله : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». الغدير (٣ / ١٧٧).

__________________

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٤٨ ح ٤٦٦٨. (المؤلف)

٢٣٨

وقوله : «عليّ مع الحقّ والحقّ معه وعلى لسانه ، والحقّ يدور حيثما دار عليّ». الغدير (٣ / ١٧٨).

وقوله : «عليّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض». الغدير (٣ / ١٨٠).

وقوله : «عليّ منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي». الغدير (٣ / ٢٢ ، ٢١٥)

وقوله : «عليّ مولى كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة». الغدير (١ / ١٥ ، ٥١).

وقوله : «عليّ أنزله الله منّي بمنزلتي منه». الغدير (١ / ٢٢).

وقوله : «عليّ وليّي في كلّ مؤمن بعدي». مسند أحمد (١) (١ / ٢٣١).

وقوله : «عليّ مني بمنزلتي من ربّي». السيرة الحلبيّة (٢) (٣ / ٣٩١).

وقوله : «عليّ وليّ المؤمنين من بعدي». تاريخ الخطيب (٤ / ٣٣٩).

وقوله : «من كان الله ورسوله وليّه فعليّ وليّه». الغدير (١ / ٣٨).

وقوله : «لا يُبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي». الغدير (٦ / ٣٣٨ ـ ٣٥٠).

وقوله : «ما من نبيّ إلاّ وله نظير في أمّته وعليّ نظيري». الغدير (٣ / ٢٣).

وقوله : «أنا وعليّ حجّة على أُمّتي يوم القيامة». تاريخ الخطيب (٢ / ٨٨).

وقوله : «من أطاع عليّا فقد أطاعني ، ومن عصى عليّا فقد عصاني». مستدرك الحاكم (٣) (٣ / ١٢١ ، ١٢٨).

كيف تمنّى الخليفة ما تمنّى مع هذه النصوص؟ أو كان في الآذان وقر يوم

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٥٤٥ ح ٣٠٥٢.

(٢) السيرة الحلبيّة : ٣ / ٣٦٢.

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٣١ ح ٤٦١٧ و ١٣٩ ح ٤٦٤١.

٢٣٩

هتف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتيك الكلم الجامعة المعربة عن الخلافة بكلّ ما يمكن من التعبير؟ أم أنّ في القوم من تصامم عنها لأمر دُبّر بليل؟

أوَلم يكفِ الخليفة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرض نفسه على القبائل وكان معه عليّ أمير المؤمنين ومعهما أبو بكر وبلغ بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله فقال له قائلهم : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : «إنّ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» (١)؟

أفكان يزعم الخليفة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أناط الأمر بعده إلى المولى سبحانه ومشيئته كان لو سأله عن ذلك أجابه بالترديد بين اختيار الأمّة ولو لم تكتمل فيه شرائط الإجماع والانتخاب الصحيح كما في البيعة الأولى ، وبين وصيّة الخليفة واستخلافه كما وقع في أمر الثاني ، وبين الشورى مع إرهاب المخالف بالقتل كما كان في منتهى الثلاثة؟

لكنّه لو كان يحسب ذلك لما ودّ أن لو كان سأله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يعلم أيضاً أنّ الترديدفي الجواب على فرضه إغراء للأمّة بالفوضى ، وفي ذلك مسرح لكل مدّع محقّ أو مبطل ، ولاحتجّ به كلّ ناعب وناعق حتى تنتهي النوبة إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء أمثال معاوية ويزيد وهلمّ جرّا.

تحفّظ على كرامة :

حذف أبو عبيد من الحديث ذكر الأمر الأوّل من الثلاثة الأُوَل وهو : كشف بيت فاطمة ، وجعل مكانه قوله : فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا ـ لخلّة ذكرها ـ فقال : لا أريد أذكرها. وما حرّف ما حرّف إلاّ تحفّظاً على كرامة الخليفة ، والأسف على أنّ غيره ما شاركه فيما فعل ، فظهرت خيانته على ودائع التاريخ.

__________________

(١) مرّت مصادره في هذا الجزء : ص ١٣٤. (المؤلف)

٢٤٠