الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

منامه ويضجع ابنه عليّا مكانه ، فقال له عليّ ليلة : «يا أبت إنّي مقتول» ، فقال له :

أصبرن يا بنيَّ فالصبر أحجى

كلُّ حيٍّ مصيرُه لشعوبِ

قد بذلناك والبلاءُ شديدٌ

لفداء الحبيبِ وابنِ الحبيبِ

لفداءِ الأغرِّ ذي الحسب الثا

قب والباعِ والكريمِ النجيبِ

إن تُصِبكَ المنونُ فالنبلُ تبرى (١)

فمصيبٌ منها وغيرُ مصيبِ

كلُّ حيٍّ وإن تملّى بعمرٍ (٢)

آخذٌ من مذاقها بنصيبِ

فأجاب عليّ بقوله :

أتأمرني بالصبرِ في نصرِ أحمدٍ

وواللهِ ما قلتُ الذي قلتُ جازعا

ولكنَّني أحببت أن ترَى نصرتي

وتعلمَ أنِّي لم أزل لك طائعا

سأسعى لوجهِ اللهِ في نصرِ أحمدٍ

نبيِّ الهدى المحمودِ طفلاً ويافعا

وذكره ابن أبي الحديد (٣) نقلاً عن الأمالي (٣ / ٣١٠) وهناك تصحيف في البيت الثاني والثالث من أبيات أبي طالب صحّحناه من طبقات السيّد علي خان الناقل عن شرح ابن أبي الحديد المخطوط ، وذكر القصّة أبو علي الموضّح العمري العلوي كما في كتابه الحجّة (٤) (ص ٦٩).

قال الأميني : إنّ القرابة والرحم تبعثان إلى المحاماة إلى حدّ محدود ، لكنّه إذا بلغت حدّ التضحية بولد كأمير المؤمنين هو أحب العالمين إلى والده ، فهناك يقف التفاني

__________________

(١) في بعض المصادر : تترى. (المؤلف)

(٢) في مصادر مخطوطة عتيقة : كلّ حيّ وإن تطاول عمراً. (المؤلف)

(٣) شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٦٤ كتاب ٩.

(٤) الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : ص ٢٧٥.

٤٨١

على موقفه ، فلا يستسهل الوالد أن يعرض ابنه على القتل كلّ ليلة فينيمه على فراش المفدّى ، ويستعوض منه ابن أخيه ، إلاّ أن يكون مندفعاً إلى ذلك بدافع دينيّ وهو معنى اعتناق أبي طالب للدين الحنيف ، وهو الذي تعطيه المحاورة الشعريّة بين الوالد والولد فترى الولد يصارح بالنبوّة ، فلا ينكر عليه الوالد بأنّ هذا التهالك ليس إلاّ بدافعٍ قوميٍّ ، غير فاتر عن حضِّ ابنه على ما يبتغيه من النصرة ولا متثبّط عن النهوض بها. فسلام الله على والد وما ولد.

١٠ ـ أبو طالب وابن الزبعرى :

قال القرطبي في تفسيره (١) (ص ٤٠٦) : روى أهل السير قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلّي ، فلمّا دخل في الصلاة قال أبو جهل لعنه الله : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانفتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلاته ، ثمّ أتى أبا طالب عمّه فقال : «يا عمّ ألا ترى إلى ما فُعِلَ بي؟» فقال أبو طالب : من فعل هذا بك؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عبد الله بن الزبعرى». فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم ، فلمّا رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون ؛ فقال أبو طالب : والله لئن قام رجل لجللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم ، فقال : يا بُنيّ من الفاعل بك هذا؟ فقال : «عبد الله بن الزبعرى» ؛ فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطّخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم ، وأساء لهم القول.

حديث موقف أبي طالب هذا يوجد في غير واحد من كتب القوم وقد لعبت به أيدي الهوى ، وسنوقفك إن شاء الله على حقّ القول فيه تحت عنوان : أبو طالب في الذكر الحكيم (٢).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٦ / ٢٦١.

(٢) الغدير : ٨ / ١١ ـ ٣٦.

٤٨٢

١١ ـ سيّدنا أبو طالب وقريش :

قال ابن إسحاق : لمّا بادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قومه بالإسلام ، وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردّوا عليه ، فيما بلغني ، حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلمّا فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلاّ من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون ، وحَدِب (١) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه أبو طالب ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمر الله مظهراً لأمره ، لا يردّه عنه شيء.

وقال : إنّ قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : يا ابن أخي إنّ قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا ، فأبق عليّ وعلى نفسك ، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أُطيق ، قال : فظنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قد بدا لعمّه فيه بداء ، وأنّه خاذله ومسلمه ، وأنّه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عمّ والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». قال : ثمّ استعبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبكى ثمّ قام ، فلمّا ولّى ناداه أبو طالب ، فقال : أقبل يا ابن أخي. قال : فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبداً.

ثمّ إنّ قريشاً حين عرفوا أنّ أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا له : يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتىً في قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره ، واتّخذه ولداً فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك ، هذا الذي قد خالفك دينك ودين آبائك

__________________

(١) حدب : عطف عليه ومنع له. (المؤلف)

٤٨٣

وفرّق جماعة قومك ، وسفّه أحلامهم ، فنقتله ، فإنّما هو رجل برجل ، قال : والله لبئس ما تسومونني ؛ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا. قال : فقال المطعم بن عديّ بن نوفل : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلّص ممّا تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً ، فقال أبو طالب لمطعم : والله ما أنصفوني ، ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك أو كما قال.

قال : فحقب الأمر ، وحميت الحرب ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضاً ، فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عديّ ويعمّ من خذله من عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش ؛ ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم :

ألا قل لعمرو والوليد ومطعمٍ

ألا ليت حظِّي من حياطتكم بَكرُ (١)

من الخورِ حبحابٌ كثيرٌ رُغاؤه

يرشُّ على الساقين من بوله قطرُ (٢)

تخلّف خلف الورد ليس بلاحقٍ

إذا ما علا الفيفاء قيل له وَبرُ (٣)

أرى أخوينا من أبينا وأُمِّنا

إذا سُئلا قالا إلى غيرنا الأمرُ

بلى لهما أمرٌ ولكن تجرجما

كما جرجمت من رأس ذي علقٍ صخرُ (٤)

أخصّ خصوصاً عبدَ شمسٍ ونوفلاً

هما نبذانا مثل ما يُنبَذُ الجمرُ

هما أغمزا للقومِ في أخويهما

فقد أصبحا منهم أكفّهما صِفرُ

هما أشركا في المجد من لا أبا له

من الناس إلاّ أن يُرسَّ له ذكرُ (٥)

__________________

(١) البكر : الفتيّ من الإبل. (المؤلف)

(٢) الخور جمع أخوَر : الضعيف. حبحاب بالمهملتين : القصير. ويروى بالجيمين المعجمتين : الكثير الكلام. ويروى بالخاء المعجمة ومعناه : الضعيف. (المؤلف)

(٣) الفيفاء : الأرض القفر. وبر : دويبة على قدر الهرّة. (المؤلف)

(٤) تجرجما : سقطا وانحدرا ، يقال : تجرجم الشيء إذا سقط. ذو علق : جبل في ديار بني أسد. (المؤلف)

(٥) يرسّ له ذكر : يذكر ذكراً خفيفاً. رسّ الحديث : حدّث به في خفاء. (المؤلف)

٤٨٤

وتيمٌ ومخزومٌ وزهرةُ منهمُ

وكانوا لنا مولىً إذا بُني النصرُ (١)

فو الله لا تنفكُّ منّا عداوةٌ

ولا منهمُ ما كان من نسلنا شفرُ (٢)

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم

وكانوا كجفرٍ بئس ما صنعت جفرُ

قال ابن هشام : تركنا منها بيتين أقذع فيهما.

قال الأميني : حذف ابن هشام منها ثلاثة أبيات لا تخفى على أيِّ أحد غايته الوحيدة فيه ، وإنَّ الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، ألا وهي :

وما ذاك إلاّ سؤدد خصّنا به

إلهُ العبادِ واصطفانا له الفخرُ

رجالٌ تمالوا حاسدين وبغضة

لأهل العلى فبينهمُ أبداً وترُ

وليدٌ أبوه كان عبداً لجدِّنا

إلى علجةٍ زرقاء جال بها السحرُ

يريد به الوليد بن المغيرة وكان من المستهزئين بالنبيِّ الأعظم ومن الذين مشوا إلى أبي طالب عليه‌السلام في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نزل قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (٣) وكان يسمّى : الوحيد في قومه (٤).

ثمّ قام أبو طالب ـ حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون ـ في بني هاشم وبني المطّلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه ، وأجابوه ما دعاهم ، إليه ، إلاّ ما كان من أبي لهب عدوّ الله الملعون.

فلمّا رأى أبو طالب من قومه ما سرّه في جهدهم معه وحدبهم عليه ؛ جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ؛ ويذكر فضل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، ومكانه منهم ، ليشدّ لهم

__________________

(١) في سيرة ابن هشام : ١ / ٢٨٧ : إذا بغي النصر.

(٢) شفر. أحد. يقال : ما بالدار شفر ، أي ما بها أحد. (المؤلف)

(٣) المدثر : ١١.

(٤) الروض الأُنف : ١ / ١٧٣ [ ٣ / ٦٢ ] ، تفسير البيضاوي : ٢ / ٥٦٢ [ ٢ / ٥٤٢ ] ، الكشاف : ٣ / ٢٣٠ [ ٤ / ٦٤٧ ] ، تاريخ ابن كثير : ٤ / ٤٤٣ [ ٣ / ٧٨ ] ، تفسير الخازن : ٤ / ٣٤٥ [ ٤ / ٣٢٨ ]. (المؤلف)

٤٨٥

رأيهم ، وليحدبوا معه على أمره ؛ فقال :

إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخرٍ

فعبدُ منافٍ سرّها وصميمها (١)

فإن حُصّلتْ أشرافُ عبدِ منافِها

ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمها

وإن فخرتْ يوماً فإنّ محمداً

هو المصطفى من سرِّها وكريمها

تداعت قريشٌ غثُّها وسمينُها

علينا فلم تظفر وطاشت حلومها (٢)

وكنّا قديماً لا نقرُّ ظُلامةً

إذا ما ثنوا صُعرَ الخدود نُقيمها (٣)

ونحمي حماها كلَّ يومِ كريهةٍ

ونضرب عن أحجارها من يرومها

بنا انتعش العود الذواء وإنَّما

بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (٤)

سيرة ابن هشام (١ / ٢٧٥ ـ ٢٨٣) ، طبقات ابن سعد (١ / ١٨٦) ، تاريخ الطبري (٢ / ٢١٨ ـ ٢٢١) ، ديوان أبي طالب (ص ٢٤) ، الروض الأُنف (١ / ١٧١ ، ١٧٢) ، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٣٠٦) ، تاريخ ابن كثير (٢ / ١٢٦ ، ٢٥٨ ، و ٣ / ٤٢ ، ٤٨ ، ٤٩) ، عيون الأثر (١ / ٩٩ ، ١٠٠) ، تاريخ أبي الفداء (١ / ١١٧) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٠٦) ، أسنى المطالب (ص ١٥) فقال : هذه الأبيات من غرر مدائح أبي طالب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدالّة على تصديقه إيّاه ، طلبة الطالب (ص ٥ ـ ٩) (٥).

__________________

(١) سرّها وصميمها : خالصها وكريمها. يقال : فلان من سرّ قومه. أي : من خيارهم ولبابهم وأشرافهم. (المؤلف)

(٢) طاشت حلومها : ذهبت عقولها. (المؤلف)

(٣) ثنوا : عطفوا. صعر جمع أصعر : المائل. يقال : صعّر خده. أي أماله الى جهة كما يفعل المتكبّر. (المؤلف)

(٤) انتعش : ظهرت فيه الخضرة. الذواء : اليابس. الأكناف : النواحي. الأرومة : الأصل. (المؤلف)

(٥) السيرة النبويّة : ١ / ٢٨٢ ـ ٢٨٨ ، الطبقات الكبرى : ١ / ٢٠٢ ، تاريخ الأمم والملوك : ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٢٨ ، ديوان أبي طالب : ص ٧٢ ، الروض الأُنف : ٣ / ٤٨ ، ٦٠ ، شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٥٣ ـ ٥٥ كتاب ٩ ، البداية والنهاية : ٢ / ١٤٨ ، ٣١٧ ، ج ٣ / ٥٦ ، ٦٤ ، ٦٥ ، عيون الأثر : ١ / ١٣١ ـ ١٣٣ ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٢٨٧ ، أسنى المطالب : ص ٢٨.

٤٨٦

١٢ ـ سيّد الأباطح وصحيفة قريش :

اجتمع قريش وتشاوروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطّلب أن لا ينكحوا إليهم ، ولا يبيعوا منهم شيئاً ولا يتبايعوا ، ولا يقبلوا منهم صلحاً أبداً ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقتل ، ويخلوا بينهم وبينه ، وكتبوه في صحيفة بخطّ منصور بن عكرمة ، أو بخطِّ بغيض بن عامر ، أو بخط النضر ابن الحرث ، أو بخطّ هشام بن عمرو ، أو بخطّ طلحة بن أبي طلحة ، أو بخطّ منصور ابن عبد ، وعلّقوا منها صحيفة في الكعبة هلال المحرّم سنة سبع من النبوّة ، وكان اجتماعهم بخيف بني كنانة وهو المحصّب ، فانحاز بنو هشام وبنو المطّلب إلى أبي طالب ودخلوا معه في الشعب إلاّ أبا لهب فكان مع قريش ، فأقاموا على ذلك سنتين وقيل ثلاث سنين ، وإنّهم جهدوا في الشعب حتى كانوا يأكلون الخبط (١) وورق الشجر.

قال ابن كثير : كان أبو طالب مدّة إقامتهم بالشعب يأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأتي فراشه كلّ ليلة حتى يراه من أراد به شرّا وغائلة ، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمّه أن يضطجع على فراش المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأمر هو أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها.

ثمّ إنّ الله تعالى أوحى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الأرضة أكلت جميع ما في الصحيفة من القطيعة والظلم فلم تدع سوى اسم الله فقط ، فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه أبا طالب بذلك ، فقال : يا بن أخي أربّك أخبرك بهذا؟ قال : «نعم». قال : والثواقب ما كذبتني قطّ. فانطلق في عصابة من بني هاشم والمطّلب حتى أتوا المسجد ، فأنكر قريش ذلك ، وظنّوا أنّهم خرجوا من شدّة البلاء ليسلموا إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو طالب :

__________________

(١) الخَبَط : الورق المتساقط من الشجر.

٤٨٧

يا معشر قريش جرت بيننا وبينكم أُمور لم تذكر في صحيفتكم ، فأتوا بها ، لعلّ أن يكون بيننا وبينكم صلح ، وإنّما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها فأتوا بها وهم لا يشكّون أنّ أبا طالب يدفع إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوضعوها بينهم وقبل أن تفتح قالوا لأبي طالب : قد آن لكم أن ترجعوا عمّا أحدثتم علينا وعلى أنفسكم ، فقال : أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم ، إنّ ابن أخي أخبرني ـ ولم يكذبني ـ أنّ الله قد بعث على صحيفتكم دابّة فلم تترك فيها إلاّ اسم الله فقط ، فإن كان كما يقول فأفيقوا عمّا أنتم عليه ، فو الله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا. وإن كان باطلاً دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم! فقالوا : رضينا. ففتحوها فوجدوها كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقالوا : هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغياً وعدوانا.

وإنّ أبا طالب قال لهم بعد أن وجدوا الأمر كما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبيّن أنّكم أولى بالظلم والقطيعة؟ ودخل هو ومن معه بين أستار الكعبة وقال : اللهمّ انصرنا على من ظلمنا ، وقطع أرحامنا ، واستحلّ ما يحرم عليه منّا.

وعند ذلك مشت طائفة من قريش في نقض تلك الصحيفة ، فقال أبو طالب :

ألا هل أتى بَحريَّنا (١) صنعُ ربِّنا

على نأيهم والله بالناس أرودُ (٢)

فيخبرهم أنَّ الصحيفة مُزّقت

وأن كلّ ما لم يرضَه اللهُ مفسدُ

تراوحها إفكٌ وسحرٌ مُجمَّعٌ

ولم يُلفَ سحرٌ آخرَ الدهرِ يصعدُ

تداعى لها من ليس فيها بقرقر

فطائرُها في رأسِها يتردّدُ (٣)

__________________

(١) يريد به من كان هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر. (المؤلف)

(٢) أرود : أرفق. (المؤلف)

(٣) القرقر : الليّن السهل. وقال السهيلي : من ليس فيها بقرقر : أي ليس بذليل. وطائرها : أي حظّها من الشؤم والشرّ ، وفي التنزيل (أَلَزمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقهِ) الإسراء : ١٣. (المؤلف)

٤٨٨

وكانت كفاءً وقعةٌ بأثيمةٍ

ليُقطَعَ منها ساعدٌ ومقلّدُ

ويظعن أهل المكّتين فيهربوا

فرائصُهم من خشيةِ الشرِّ ترعدُ

ويُترك حرّاثٌ يقلّب أمرَهُ

أيُتهِمُ فيها عند ذاك ويُنجدُ (١)

وتصعد بين الأخشبين كتيبةٌ

لها حُدُجٌ سهمٌ وقوسٌ ومرهدُ (٢)

فمن ينشَ من حضّارِ مكةَ عزُّه

فعزّتنا في بطن مكّة أتلدُ (٣)

نشأنا بها والناسُ فيها قلائلٌ

فلم نَنفَكِكْ نزدادُ خيراً ونحمدُ

ونُطعمُ حتى يتركَ الناسُ فضلَهمْ

إذا جعلت أيدي المفيضين ترعدُ (٤)

جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا (٥)

على ملأ يهدي لحزمٍ ويُرشدُ

قعوداً لدى خطم الحجون كأنَّهم

مقاولةٌ (٦) بل هم أعزُّ وأمجدُ

أعان عليها كلُّ صقرٍ كأنَّه

إذا ما مشى في رفرف الدرع أحردُ (٧)

ألا إنَّ خير الناس نفساً ووالداً

إذا عُدَّ ساداتُ البريّةِ أحمدُ

نبيُّ الإلهِ والكريم بأصله

وأخلاقه وهو الرشيد المؤيَّدُ

جريءٌ على جُلّى الخطوب كأنَّه

شهابٌ بكفّي قابس يتوقَّدُ (٨)

__________________

(١) الحرّاث : المكتسب. يُتْهم : يأتي تهامة. يُنْجد : يأتي نجداً. (المؤلف)

(٢) الأخشبان : جبلان بمكة. المرهد : الرمح اللين. (المؤلف)

(٣) ينش : أي ينشأ بحذف الهمزة على غير قياس. أتلد : أقدم. (المؤلف)

(٤) المفيضين : الضاربون بقداح الميسر. يريد سلام الله عليه : أنّهم يطعمون إذا بخل الناس. (المؤلف)

(٥) في سيرة ابن هشام : تبايعوا. والمقصود بهم الأشخاص الذين سعوا في نقض الصحيفة التي تعاهدت فيها قريش على مقاطعة بني هاشم.

(٦) المقاولة : الملوك. (المؤلف)

(٧) رفرف الدرع : ما فضل منها. أحرد : بطيء المشي لثقل الدرع. (المؤلف)

(٨) وفي رواية :

حزيم على جلّ الأُمور كأنّه

شهاب بكفّي قابسٍ يتوقّد

(المؤلف)

٤٨٩

من الأكرمين من لؤيِّ بن غالبٍ

إذا سيم خسفاً وجهه يتربّدُ (١)

طويل النجاد (٢) خارجٌ نصف ساقه

على وجهه يُسقى الغمام ويسعدُ

عظيمُ الرماد سيّدٌ وابنُ سيّدٍ

يحضُّ على مَقرى الضيوف ويحشدُ

ويبني لأبناءِ العشيرةِ صالحاً

إذا نحن طُفنا في البلاد ويمهدُ

ألَظَّ (٣) بهذا الصلح كلَّ مبرّا

عظيمِ اللواء أمره ثمّ يحمدُ

قضوا ما قضوا في ليلهم ثمّ أصبحوا

على مَهَلٍ وسائر الناس رُقّدُ

همُ رجّعوا سهلَ بنَ بيضاءَ راضياً

وسُرَّ أبو بكر بها ومحمدُ (٤)

متى شرك الأقوام في جُلِّ أمرنا

وكنّا قديماً قبلها نتودّدُ

وكنّا قديماً لا نُقِرُّ ظُلامَةً

وندرك ما شئنا ولا نتشدّدُ

فيالَ قُصيٍّ هل لكم في نفوسكم

وهل لكمُ فيما يجيء به غدُ

فإنّي وإيّاكم كما قال قائلٌ

لديك البيان لو تكلّمتَ أسودُ (٥)

طبقات ابن سعد (١ / ١٧٣ ، ١٩٢) ، سيرة ابن هشام (١ / ٣٩٩ ـ ٤٠٤) ، عيون الأخبار لابن قتيبة (٢ / ١٥١) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ٢٢) ، الاستيعاب ترجمة سهل بن بيضاء (٢ / ٥٧٠) ، صفة الصفوة (١ / ٣٥) ، الروض الأُنف (١ / ٢٣١) ، خزانة الأدب للبغدادي (١ / ٢٥٢) ، تاريخ ابن كثير (٣ / ٨٤ ، ٩٥ ، ٩٧) ، عيون الأثر (١ / ١٢٧) ،

__________________

(١) سيم ـ بالبناء للمجهول ـ : كلف. الخسف : الذل. يتربّد : يتغيّر إلى السواد. (المؤلف)

(٢) النجاد : حمائل السيف. (المؤلف)

(٣) ألظّ : ألحّ ولزم. (المؤلف)

(٤) ذُكِر الشطر الثاني في الديوان هكذا : وسُرَّ إمامُ العالمين محمد. وسهل بن بيضاء صحابي أسلم بمكة وأخفى إسلامه ، وهو الذي مشى إلى النفر الذين قاموا في شأن الصحيفة ، حتى اجتمع له منهم عدة تبرءوا منها وأنكروها.

(٥) أسود : جبل ، قتل فيه قتيل فلم يعرف قاتله ، فقال أولياء المقتول : لديك البيان لو تكلمت أسود. فذهب مثلاً. توجد في ديوان أبي طالب [ ص ٤٦ و ٩٦ ] أبيات من هذه القصيدة غير ما ذكر لم نجدها في غيره. (المؤلف)

٤٩٠

الخصائص الكبرى (١ / ١٥١) ، ديوان أبي طالب (ص ١٣) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٥٧ ـ ٣٦٧) ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٢٨٦ ـ ٢٩٠) ، طلبة الطالب (ص ٩ ، ١٥ ، ٤٤) ، أسنى المطالب (ص ١١ ـ ١٣) (١).

وذكر ابن الأثير قصّة الصحيفة في الكامل (٢) (٢ / ٣٦) فقال : قال أبو طالب في أمر الصحيفة وأَكْلِ الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحمٍ أبياتاً ، منها :

وقد كان في أمرِ الصحيفةِ عبرةٌ

متى ما يُخبَّرْ غائبُ القومِ يعجبُ

محا الله منها كفرَهمْ وعقوقَهمْ

وما نقموا من ناطق الحقِّ مُعرِبُ

فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً

ومن يختلق ما ليس بالحقِّ يكذبُ

١٣ ـ وصيّة أبي طالب عند موته :

عن الكلبي قال : لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال : يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب ، فيكم السيّد المطاع ، وفيكم المقدام الشجاع ، الواسع الباع ، واعلموا أنَّكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلاّ أحرزتموه ، ولا شرفاً إلاّ أدركتموه ، فلكم بذلك على الناس الفضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ، والناس لكم حرب وعلى حربكم إلب ، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنيّة ـ يعني الكعبة ـ فإنَّ فيها مرضاةً للربّ ، وقواماً للمعاش ، وثباتاً للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها ، فإنّ صلة الرحم منسأة في الأجل ، وزيادة في العدد ، واتركوا

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ١ / ١٨٨ ، ٢٠٨ ، السيره النبويّة : ٢ / ١٤ ـ ١٩ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣١ ، الاستيعاب : القسم الثاني / ٦٦٠ رقم ١٠٨٠ ، صفة الصفوة : ١ / ٩٨ رقم ١ ، الروض الأُنف : ٣ / ٣٤١ ، خزانة الأدب : ٢ / ٥٧ ، البداية والنهاية : ٣ / ١٠٦ ، ١٢١ ، ١٢٢ ، عيون الأثر : ١ / ١٦٥ ، الخصائص الكبرى : ١ / ٢٤٩ ، ديوان أبي طالب : ص ٤٥ ـ ٤٦ ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٣٣٧ ـ ٣٤٥ ، السيرة النبويّة : ١ / ١٣٧ ، أسنى المطالب : ص ١٩ ـ ٢٢.

(٢) الكامل في التاريخ : ١ / ٥٠٤ ـ ٥٠٧.

٤٩١

البغي والعقوق ففيهما هلكة القرون قبلكم ، أجيبوا الداعي ، وأعطوا السائل فإنّ فيهما شرف الحياة والممات ، وعليكم بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، فإنّ فيهما محبّة في الخاصّ ، ومكرمة في العام.

وإنّي أوصيكم بمحمد خيراً فإنّه الأمين في قريش ، والصدّيق في العرب ، وهو الجامع لكلّ ما أوصيتكم به ، وقد جاءنا بأمر قَبِله الجنان ، وأنكره اللسان مخافة الشنآن ، وايم الله كأنّي أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته ، وصدّقوا كلمته ، وعظّموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت ، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ، ودورها خراباً ، وضعفاؤها أرباباً ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأصفت له فؤادها ، وأعطته قيادها ، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم ، كونوا له ولاةً ولحزبه حماةً ، والله لا يسلك أحد سبيله إلاّ رَشَد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلاّ سَعد ، ولو كان لنفسي مدّة ، وفي أجلي تأخير ، لكففت عنه الهزاهز ، ولدافعت عنه الدواهي.

الروض الأُنف (١ / ٢٥٩) ، المواهب (١ / ٧٢) ، تاريخ الخميس (١ / ٣٣٩) ، ثمرات الأوراق هامش المستطرف (٢ / ٩) ، بلوغ الإرب (١ / ٣٢٧) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٧٥) السيرة لزيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٩٣) ، أسنى المطالب (ص ٥) (١).

قال الأميني : في هذه الوصيّة الطافحة بالإيمان والرشاد دلالة واضحة على أنّه عليه‌السلام إنّما أرجأ تصديقه باللسان إلى هذه الآونة التي يئس فيها من الحياة حذار شنآن قومه المستتبع لانثيالهم عنه ، المؤدي إلى ضعف المُنّة (٢) وتفكّك القوى ، فلا يتسنّى له حينئذ الذبّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان الإيمان به مستقرّا في الجنان من

__________________

(١) الروض الأُنف : ٤ / ٣٠ ، المواهب اللدنيّة : ١ / ٢٦٥ ، تاريخ الخميس : ١ / ٣٠٠ ، ثمرات الأوراق : ص ٢٩٤ ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٣٥٢ ، السيرة النبويّة : ١ / ٤٥ ، أسنى المطالب : ص ١١.

(٢) المُنّة : القوّة.

٤٩٢

أوّل يومه ، لكنّه لمّا شعر بأزوف الأجل وفوات الغاية المذكورة أبدى ما أجنّته أضالعه (١) فأوصى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصيّته الخالدة.

١٤ ـ وصيّة أبي طالب لبني أبيه :

أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (٢) : أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة دعا بني عبد المطّلب فقال : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد ، وما اتّبعتم أمره ، فاتّبعوه وأعينوه ترشدوا.

وفي لفظ : يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا.

وتوجد هذه الوصيّة (٣) في تذكرة السبط (ص ٥) ، الخصائص الكبرى (١ / ٨٧) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٧٢ ، ٣٧٥) ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٩٢ ، ٢٩٣) ، أسنى المطالب (ص ١٠). ورأى البرزنجي هذا الحديث دليلاً على إيمان أبي طالب ونعمّا هو ، قال : قلت : بعيد جدّا أن يَعرف أنّ الرشاد في اتّباعه ويأمر غيره بذلك ثمّ يتركه هو.

قال الأميني : ليس في العقل السليم مساغ للقول بأنّ هذه المواقف كلّها لم تنبعث عن خضوع أبي طالب للدين الحنيف وتصديقه للصادع به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاّ فما ذا الذي كان يحدوه إلى مخاشنة قريش ومقاساة الأذى منهم وتعكير الصفو من حياته لا سيّما أيّام كان هو والصفوة من فئته في الشعب ، فلا حياة هنيئة ، ولا عيش رغداً ، ولا أمن يُطمأنُّ به ، ولا خطر مدروءاً ، يتحمّل الجفاء والقطيعة والقسوة المؤلمة من قومه ، فما ذا

__________________

(١) أجنّه : أخفاه وستره.

(٢) الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٣.

(٣) تذكرة الخواص : ص ٨ ، الخصائص الكبرى : ١ / ١٤٧ ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٣٥٢ ، السيرة النبويّة : ١ / ٤٥ و ١٤٠ ، أسنى المطالب : ص ١٧.

٤٩٣

الذي أقدمه على هذه كلّها؟ وما ذا الذي حصره وحبسه في الشعب عدّة سنين تجاه أمر لا يقول بصدقه ولا يُخبت إلى حقيقته؟ لاها الله لم يكن كلّ ذلك إلاّ عن إيمان ثابت ، وتصديق وتسليم وإذعان بما جاء به نبيّ الإسلام ، يظهر ذلك للقارئ المستشفّ لجزئيّات كلّ من هذه القصص ، ولم تكن القرابة والقوميّة بمفردها تدعوه إلى مقاساة تلكم المشاقّ كما لم تدعُ أبا لهب أخاه ، وهب أنّ القرابة تدعوه إلى الذبّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّها لا تدعو إلى المصارحة بتصديقه وأنّ ما جاء به حقّ ، وأنّه نبيّ كموسى خطّ في أوّل الكتب ، وأنّ من اقتصّ أثره فهو المهتدي ، وأنّ الضالّ من ازورّ عنه وتخلّف ، إلى أمثال ذلك من مصارحات قالها بملء فمه ، ودعا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها بأعلى هتافه.

١٥ ـ حديث عن أبي طالب :

ذكر ابن حجر في الإصابة (٤ / ١١٦) من طريق إسحاق بن عيسى الهاشمي عن أبي رافع قال : سمعت أبا طالب يقول : سمعت ابن أخي محمد بن عبد الله يقول : إنّ ربّه بعثه بصلة الأرحام ، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره ، ومحمد الصدوق الأمين.

وذكره السيّد زيني دحلان في أسنى المطالب (١) (ص ٦) وقال : أخرجه الخطيب ، وأخرجه السيّد فخار بن معد في كتاب الحجّة (٢) (ص ٢٦) من طريق الحافظ أبي نعيم الأصبهاني ، وبإسناد آخر من طريق أبي الفرج الأصبهاني ، وروى الشيخ إبراهيم الحنبلي في نهاية الطلب عن عروة الثقفي قال : سمعت أبا طالبرضى الله عنه يقول : حدّثني ابن أخي الصادق الأمين وكان والله صدوقاً : إنّ ربّه أرسله بصلة الأرحام ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وكان يقول : اشكر ترزق ، ولا تكفر تُعذّب.

__________________

(١) أسنى المطالب : ص ١٥.

(٢) الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : ص ١٣٥.

٤٩٤

ـ ٣ ـ

ما يروي عنه آله وذووه

من طرق العامّة فحسب

أمّا رجال آل هاشم ، وأبناء عبد المطّلب ، وولد أبي طالب ، فلم يؤثر عنهم إلاّ الهتاف بإيمانه الثابت ، وأنّ ما كان يؤثره في نصرة النبي الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منبعثاً عن تديّن بما صدع به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت أدرى بما فيه.

قال ابن الأثير في جامع الأصول : وما أسلم من أعمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير حمزة والعبّاس وأبي طالب عند أهل البيت عليهم‌السلام. انتهى.

نعم : هتفوا بذلك في أجيالهم وأدوارهم بملء الأفواه وبكلّ صراحة وجبهوا من خالفهم في ذلك.

إذا قالت حذامِ فصدِّقوها

فإنَّ القول ما قالت حذامِ

١ ـ قال ابن أبي الحديد في شرحه (١) (٣ / ٣١٢) : روي بأسانيد كثيرة بعضها عن العبّاس بن عبد المطّلب وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة : إنّ أبا طالب ما مات حتى قال : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله. والخبر مشهور أنّ أبا طالب عند الموت قال كلاماً خفيّا ، فأصغى إليه أخوه العبّاس (٢) ، وروي عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «ما مات

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٧١ كتاب ٩.

(٢) راجع سيرة ابن هشام : ٢ / ٢٧ [ ٢ / ٥٩ ] ، دلائل النبوّة للبيهقي [ ٢ / ٣٤٦ ] ، تاريخ ابن كثير : ٣ / ١٢٣ [ ٣ / ١٥٢ ] ، عيون الأثر لابن سيّد الناس : ١ / ١٣١ [ ١ / ١٧٣ ] ، الإصابة : ٤ / ١١٦ [ رقم ٦٨٥ ] ، المواهب اللدنيّة : ١ / ٧١ [ ١ / ٢٦٢ ] ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٣٧٢ [ ١ / ٣٥٠ ] ، السيرة الدحلانية هامش الحلبيّة : ١ / ٨٩ [ السيرة النبويّة : ١ / ٤٤ ] ، أسنى المطالب : ص ٢٠ [ ص ٣٥ ]. (المؤلف)

٤٩٥

أبو طالب حتى أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نفسه الرضا».

وذكر أبو الفداء والشعراني عن ابن عبّاس : أنّ أبا طالب لمّا اشتدّ مرضه قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمّ قلها استحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة يعني الشهادة ، فقال له أبو طالب : يا بن أخي لو لا مخافة السبّة وأن تظنّ قريش إنّما قلتها جزعاً من الموت لقلتها. فلمّا تقارب من أبي طالب الموت جعل يحرّك شفتيه فأصغى إليه العبّاس بإذنه وقال : والله يا بن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحمد لله الذي هداك يا عمّ (١).

وقال السيّد أحمد زيني دحلان في السيرة الحلبيّة (٢) (١ / ٩٤) : نقل الشيخ السحيمي في شرحه على شرح جوهرة التوحيد عن الإمام الشعراني والسبكي وجماعة أنّ ذلك الحديث ـ أعني حديث العبّاس ـ ثبت عند بعض أهل الكشف وصحّ عندهم إسلامه.

قال الأميني : ذكرنا هذا الحديث مجاراة للقوم ، وإلاّ فما كانت حاجة أبي طالب مسيسة عند الموت إلى التلفّظ بتينك الكلمتين اللتين كرّس حياته الثمينة للهتاف بمفادهما في شعره ونثره ، والدعوة إليهما ، والذبّ عمّن صدع بهما ، ومعاناة الأهوال دونهما حتى يومه الأخير. ما كانت حاجة أبي طالب مسيسة عندئذ إلى التفوّه بهما كأمر مستجدّ ، فمتى كفر هو؟ ومتى ضلّ؟ حتى يؤمن ويهتدي بهما ، أليس من الشهادة قوله الذي أسلفناه (ص ٣٣١):

ليعلمْ خيارُ الناسِ أنّ محمداً

وزيرٌ لموسى والمسيحِ ابن مريم

أتانا بهديٍ مثل ما أتيا به

فكلّ بأمرِ اللهِ يهدي ويعصم

وإنّكمُ تتلونه في كتابكم

بصدق حديثٍ لا حديث مبرجمِ

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٢٠ ، كشف الغمّة للشعراني : ٢ / ١٤٤. (المؤلف)

(٢) السيرة النبوية : ١ / ٤٦.

٤٩٦

وقوله في (ص ٣٣٢):

أمينُ حبيبٍ في العبادِ مسوّمُ

بخاتم ربٍّ قاهرٍ في الخواتمِ

نبيٌّ أتاه الوحي من عند ربِّهِ

ومن قال لا يقرع بها سنّ نادمِ

وقوله في (ص ٣٣٢):

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً

رسولاً كموسى خُطّ في أوّل الكتب

وقوله في (ص ٣٣٤):

وظلم نبيٍّ جاء يدعو إلى الهدى

وأمرٌ أتى من عندِ ذي العرشِ قيِّمِ

وقوله في (ص ٣٣٤):

فاصدع بأمرِكَ ما عليك غضاضةٌ

وابشر بذاك وقرَّ منك عيونا

ودعوتني وعلمتُ أنَّك ناصحي

ولقد دعوتَ وكنتَ ثَمَّ أمينا

ولقد علمتُ بأنَّ دينَ محمدٍ

من خيرِ أديانِ البريّةِ دينا

وقوله في (ص ٣٣٥):

أو تؤمنوا بكتابٍ مُنزلٍ عجبٍ

على نبيٍّ كموسى أو كذي النون

وقوله في (ص ٣٣٧):

نصرت الرسولَ رسولَ المليك

ببيضٍ تلألا كلمعِ البروقِ

أذبُّ وأحمي رسول الاله

حمايةَ حامٍ عليه شفيقِ

وقوله في (ص ٣٤٠):

فأيَّده ربُّ العباد بنصرِهِ

وأظهر ديناً حقُّه غير باطلِ

وقوله في (ص ٣٥٦):

٤٩٧

والله لا أخذلُ النبيَّ ولا

يخذُله من بنيَّ ذو حسبِ

نحن وهذا النبيُّ ننصرُهُ

نضربُ عنه الأعداءَ بالشهبِ

وقوله في (ص ٣٤٥):

أتبغون قتلاً للنبيِّ محمدٍ

خصصتمْ على شؤم بطول أثامِ

وقوله في (ص ٣٥٧):

فصبراً أبا يعلى على دينِ أحمدٍ

وكن مظهراً للدينِ وُفِّقت صابرا

وحط من أتى بالحقِّ من عند ربِّه

بصدقٍ وعزمٍ لا تكن حمزُ كافرا

فقد سرّني إذ قلت إنَّك مؤمنٌ

فكن لرسولِ اللهِ في اللهِ ناصرا

وقوله وقد رواه أبو الفرج الأصبهاني :

زعمت قريشٌ أنَّ أحمدَ ساحرٌ

كذبوا وربِّ الراقصات إلى الحرم (١)

ما زلتُ أعرفُه بصدقِ حديثِهِ

وهو الأمينُ على الحرائب والحُرم

وقوله المرويُّ من طريق أبي الفرج الأصبهاني كما في كتاب الحجّة (٢) (ص ٧٢) ومن طريق الحسن بن محمد بن جرير كما في تفسير أبي الفتوح (٣) (٤ / ٢١٢).

قل لمن كان من كنانَة في العزِّ

وأهلِ الندى وأهلِ المعالي

قد أتاكم من المليكِ رسولٌ

فاقبلوه بصالحِ الأعمالِ

وانصروا أحمداً فإنَّ من الله

رداءً عليه غيرَ مدالِ

وقوله من أبيات في شرح ابن أبي الحديد (٤) (٣ / ٣١٥):

__________________

(١) أراد بالراقصات إلى الحرم الإبل الراكضات. رقص الجمل إذا ركض. (المؤلف)

(٢) الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : ص ٢٨١.

(٣) تفسير أبي الفتوح : ٨ / ٤٧٣.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٤ / ٧٨ كتاب ٩.

٤٩٨

فخير بني هاشم أحمدٌ

رسول الإله على فترةِ (١)

ولو كان يؤثر أقلّ من هذا عن أحد من الصحابة لطبّل له ، وزمّر من يتشبّث بالطحلب في سرد الفضائل لبعضهم مغالاةً فيهم ، لكنّي أجد إسلام أبي طالب مستعصياً فهمه على هؤلاء ولو صرخ بألف هتاف من ضرائب هذه. لما ذا؟ أنا لا أدري!

٢ ـ أخرج ابن سعد في طبقاته (٢) (١ / ١٠٥) عن عبيد الله بن أبي رافع عن عليّ قال : أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموت أبي طالب ، فبكى ثمّ قال : اذهب فاغسله وكفّنه وواره غفر الله له ورحمه.

وفي لفظ الواقدي : فبكى بكاءً شديداً ثمّ قال : اذهب فاغسله. إلخ.

وأخرجه (٣) ابن عساكر كما في أسنى المطالب (ص ٢١) ، والبيهقي في دلائل النبوّة ، وذكره سبط ابن الجوزي في التذكرة (ص ٦) ، وابن أبي الحديد في شرحه (٣ / ٣١٤) ، والحلبي في السيرة (١ / ٣٧٣) ، والسيّد زيني دحلان في هامش السيرة الحلبيّة (١ / ٩٠) ، والبرزنجي في نجاة أبي طالب وصحّحه كما في أسنى المطالب (ص ٣٥) وقال : أخرجه أيضاً أبو داود ، وابن الجارود ، وابن خزيمة وقال : إنّما ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشي في جنازته اتّقاءً من شرّ سفهاء قريش. وعدم صلاته لعدم مشروعيّة صلاة الجنازة يومئذٍ.

__________________

(١) أشار إلى قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) [ المائدة : ١٩ ] وتوجد الأبيات في كتاب الحجّة للسيّد فخار : ص ٧٤ [ ص ٢٨٣ ]. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٣.

(٣) مختصر تاريخ مدينة دمشق : ٢٩ / ٣٢ أسنى المطالب : ص ٣٨ ، دلائل النبوّة : ٢ / ٣٤٨ ، تذكرة الخواص : ص ٨ ، شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٧٦ كتاب ٩ ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٣٥١ ، السيرة النبويّة : ١ / ٤٤ ، أسنى المطالب : ص ٦٢.

٤٩٩

عن الأسلمي وغيره : توفّي أبو طالب للنصف من شوال في السنة العاشرة من حين نُبِّئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وتوفّيت خديجة بعده بشهر وخمسة أيّام فاجتمع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها وعلى عمّه حزن شديد حتى سمّي ذلك العام عام الحزن.

طبقات ابن سعد (١ / ١٠٦) ، الامتاع للمقريزي (ص ٢٧) ، تاريخ ابن كثير (٣ / ١٣٤) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٧٣) ، السيرة لزيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٢٩١) ، أسنى المطالب (ص ١١) (١).

لفت نظر : عيّن ابن سعد لوفاة أبي طالب يوم النصف من شوّال كما سمعت ، وقال أبو الفداء في تاريخه (١ / ١٢٠) توفّي في شوّال ، وأوعز القسطلاني في المواهب (٢) (١ / ٧١) موته في شوّال إلى القيل ، وقال المقريزي في الإمتاع (ص ٢٧) : توفّي أوّل ذي القعدة وقيل : النصف من شوّال ، وقال الزرقاني في شرح المواهب (١ / ٢٩١) : مات بعد خروجهم من الشعب في ثامن عشر رمضان سنة عشر ، وفي الاستيعاب : خرجوا من الشعب في أوّل سنة خمسين وتوفّي أبو طالب بعده بستة أشهر فتكون وفاته في رجب. انتهى. وهذا الاختلاف موجود في تآليف الشيعة أيضاً.

٣ ـ أخرج البيهقي عن ابن عبّاس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد من جنازة أبي طالب فقال : «وصلتك رحم ، وجزيت خيراً يا عمّ» وفي لفظ الخطيب : عارض النبيّ جنازة أبي طالب فقال : «وصلتك رحم ، جزاك الله خيراً يا عمّ».

دلائل النبوّة للبيهقي ، تاريخ الخطيب البغدادي (١٣ / ١٩٦) ، تاريخ ابن كثير

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٥ ، البداية والنهاية : ٣ / ١٥٦ ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٣٤٦ ، السيرة النبويّة : ١ / ١٣٩ ، أسنى المطالب : ص ١٤ ، ٢٠.

(٢) المواهب اللدنيّة : ١ / ٢٦٢.

٥٠٠