الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

ومن المعلوم أنّ حقيقة الميراث انتقال ملك الموروث إلى ورثته بعد موته بحكم المولى سبحانه ، فحمل الآية الكريمة على العلم والنبوّة كما فعله القوم خلاف الظاهر لأنّ النبوّة والعلم لا يورثان ، والنبوّة تابعة للمصلحة العامّة ، مقدّرة لأهلها من أوّل يومها عند بارئها ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، ولا مدخل للنسب فيها كما لا أثر للدعاء والمسألة في اختيار الله تعالى أحداً من عباده نبيّا ، والعلم موقوف على من يتعرّض له ويتعلّمه.

على أنّ زكريّا سلام الله عليه ـ إنّما سأل وليّا من ولده يحجب مواليه ـ كما هو صريح الآية ـ من بني عمّه وعصبته من الميراث ، وذلك لا يليق إلاّ بالمال ، ولا معنى لحجب الموالي عن النبوّة والعلم.

ثمّ إنّ اشتراطه عليه‌السلام في وليّه الوارث كونه رضيّا بقوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) لا يليق بالنبوّة ، إذ العصمة والقداسة في النفسيّات والملكات لا تفارق الأنبياء ، فلا محصّل عندئذٍ لمسألته ذلك. نعم ، يتمّ هذا في المال ومن يرثه فإنّ وارثه قد يكون رضيّا وقد لا يكون.

وأمّا كون الحكم من خاصّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالقول به يستلزم تخصيص عموم آي الإرث مثل قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (١).

وقوله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٢).

وقوله العزيز : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) (٣).

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) الأنفال : ٧٥.

(٣) البقرة : ١٨٠.

٢٦١

ولا يسوغ تخصيص الكتاب إلاّ بدليل ثابت مقطوع عليه ، لا بالخبر الواحد الذي لم يصحّ الأخذ بعموم ظاهره لمخالفته ما ثبت من سيرة الأنبياء الماضين صلوات الله على نبيّنا وآله وعليهم.

لا بالخبر الواحد الذي لم يخبت إليه صدّيقة الأمّة وصدّيقها الذي ورث علم نبيّها الأقدس ، وعدّه المولى سبحانه في الكتاب نفساً لنبيّه صلى الله عليهما وآلهما.

لا بالخبر الواحد الذي لم يُنبّأ عنه قطّ خبير من الأمّة وفي مقدّمها العترة الطاهرة وقد اختصّ الحكم بهم وهم الذين زُحزحوا به عن حكم الكتاب والسنّة الشريفة ، وحرموا من وراثة أبيهم الطاهر ، وكان حقّا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبرهم بذلك ، ولا يؤخّر بيانه عن وقت حاجتهم ، ولا يكتمه في نفسه عن كلّ أهله وذويه وصاحبته وأمّته إلى آخر نَفَس لفظه.

لا بالخبر الواحد الذي جرّ على الأمّة كلّ هذه المحن والإحن ، وفتح عليها باب العداء المحتدم بمصراعيه ، وأجّج فيها نيران البغضاء والشحناء في قرونها الخالية ، وشقّ عصا المسلمين من أوّل يومهم ، وأقلق من بينهم السلام والوئام وتوحيد الكلمة. جزى الله محدّثه عن الأمّة خيراً.

ثمّ إن كان أبو بكر على ثقة من حديثه فِلمَ ناقضه بكتاب كتبه لفاطمة الصدّيقة سلام الله عليها ، بفدك؟ غير أنّ عمر بن الخطّاب دخل عليه فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال : ممّا ذا تنفق على المسلمين ، وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه. ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية (١) (٣ / ٣٩١).

__________________

(١) السيرة الحلبيّة : ٣ / ٣٦٢.

٢٦٢

وإن كان صحّ الخبر وكان الخليفة مصدّقاً فيما جاء به فما تلكم الآراء المتضاربة بعد الخليفة؟ وإليك شطراً منها :

١ ـ لمّا ولي عمر بن الخطّاب الخلافة ردّ فدكاً إلى ورثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان عليّ بن أبي طالب والعباس بن عبد المطّلب يتنازعان فيها. فكان عليّ يقول : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعلها في حياته لفاطمة». وكان العبّاس يأبى ذلك ويقول : هي ملك رسول الله وأنا وارثه. فكانا يتخاصمان إلى عمر ، فيأبى أن يحكم بينهما ويقول : أنتما أعرف بشأنكما أمّا أنا فقد سلّمتها إليكما.

راجع (١) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب فرض الخمس (٥ / ٣ ـ ١٠) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب حكم الفيء ، الأموال لأبي عبيد (ص ١١) ذكر حديث البخاري وبتره ، سنن البيهقي (٦ / ٢٩٩) ، معجم البلدان (٦ / ٣٤٣) ، تفسير ابن كثير (٤ / ٣٣٥) ، تاريخ ابن كثير (٥ / ٢٨٨) ، تاج العروس (٧ / ١٦٦).

لفت نظر :

نحن لانناقش فيما نجده من المخازي في أحاديث الباب كأصل التنازع المزعوم بين عليّ والعبّاس ، وما جاء في لفظ مسلم في صحيحه من قول العبّاس لعمر : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن.

أهكذا كان العبّاس يقذف سيّد العترة الطاهر المطهّر بهذا السباب المقذع وبين يديه آية التطهير وغيرها ممّا نزل في عليّ أمير المؤمنين في آي الكتاب العزيز؟ فما

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١١٢٨ ح ٢٩٢٧ ، صحيح مسلم : ٤ / ٢٧ ـ ٢٩ ح ٤٩ و ٥٠ كتاب الجهاد السير ، الأموال : ص ١٨ ح ٢٦ ، معجم البلدان : ٤ / ٢٣٨ ، البداية والنهاية : ٥ / ٣٠٨ حوادث سنة ١١ ه‍.

٢٦٣

العبّاس وما خطره عندئذ؟ وبما ذا يُحكم عليه أخذاً بقول النبيّ الطاهر : «من سبّ عليّا فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله كبّه الله على منخريه في النار» (١)؟

لاها الله ؛ نحن نحاشي العبّاس عن هذه النسب المخزية ، ونرى القوم راقهم سبّ مولانا أمير المؤمنين فنحتوا هذه الأحاديث وجعلوها للنيل منه قنطرة ومعذرة والله يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون. وإلى الله المشتكى.

٢ ـ أقطع مروان بن الحكم فدكاً في أيّام عثمان بن عفان كما في سنن البيهقي (٦ / ٣٠١) وما كان إلاّ بأمر من الخليفة.

٣ ـ لمّا ولي معاوية بن أبي سفيان الأمر أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك ، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن عليّ ، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت لمروان بن الحكم أيّام خلافته فوهبها لعبد العزيز ابنه فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.

٤ ـ ولمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب فقال : إنّ فدك كانت ممّا أفاء الله على رسوله ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فسألته إيّاها فاطمة فقال : ما كان لك أن تسأليني وما كان لي أن أعطيك فكان يضع ما يأتيه منها في أبناء السبيل ، ثمّ ولي أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ فوضعوا ذلك بحيث وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحكم فوهبها مروان لأبي ولعبد الملك فصارت لي وللوليد وسليمان ، فلمّا ولي الوليد سألته حصّته منها فوهبها لي ، وسألت سليمان حصّته منها فوهبها لي فاستجمعتها ، وما كان لي من مال أحبّ إليّ منها ، فاشهدوا أنّي قد رددتها إلى ما كانت عليه.

٥ ـ فكانت فدك بيد أولاد فاطمة مدّة ولاية عمر بن عبد العزيز ، فلمّا ولي يزيد

__________________

(١) مرّ الإيعاز إليه في الجزء الثاني : ص ٢٩٩ ، وسيوافيك تفصيل مصادره إن شاء الله. (المؤلف)

٢٦٤

ابن عبد الملك قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها حتى انتقلت الخلافة عنهم.

٦ ـ ولمّا ولي أبو العباس السفّاح ردّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين.

٧ ـ ثمّ لمّا ولي أبو جعفر المنصور قبضها من بني حسن.

٨ ـ ثمّ ردّها المهدي بن المنصور على ولدِ فاطمة سلام الله عليها.

٩ ـ ثمّ قبضها موسى بن المهدي وأخوه من أيدي بني فاطمة فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون.

١٠ ـ ردّها المأمون على الفاطميّين سنة (٢١٠) وكتب بذلك إلى قُثم بن جعفر عامله على المدينة :

أمّا بعد : فإنّ أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرابة به ، أولى من استنّ بسنّته ، ونفّذ أمره ، وسلّم لمن منحه منحةً ، وتصدّق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته ، وإليه ـ في العمل بما يقرّبه إليه ـ رغبته ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدك ، وتصدّق بها عليها ، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تزل تدّعي منه ما هو أولى به من صُدّق عليه ، فرأى أمير المؤمنين أن يردّها إلى ورثتها ، ويسلّمها إليهم تقرّباً إلى الله تعالى بإقامة حقّه وعدله ، وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنفيذ أمره وصدقته ، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه ، والكتاب إلى عمّاله ، فلئن كان ينادى في كلّ موسم بعد أن قبض الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكر كلّ من كانت له صدقة أو هبة أوعدة ذلك ، فيُقبل قوله ، وتنفّذ عدته ، إنّ فاطمة لأولى بأن يصدّق قولها فيما جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها.

٢٦٥

وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره بردّ فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها ، وما فيها من الرقيق والغلاّت وغير ذلك ، وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد ابن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، لتولية أمير المؤمنين إيّاهما القيام بها لأهلها.

فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين ، وما ألهمه الله من طاعته ، ووفّقه له من التقرّب إليه وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعلمه من قِبَلك ، وعامل محمد بن يحيى ومحمد ابن عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري ، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاّتها إن شاء الله ، والسلام.

وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة (٢١٠ ه‍).

١١ ـ ولمّا استخلف المتوكّل على الله أمر بردّها إلى ما كانت عليه قبل المأمون.

راجع (١) : فتوح البلدان للبلاذري (ص ٣٩ ـ ٤١) ، تاريخ اليعقوبي (٣ / ٤٨) ، العقد الفريد (٢ / ٣٢٣) ، معجم البلدان (٦ / ٣٤٤) ، تاريخ ابن كثير (٩ / ٢٠٠) وله هناك تحريف دعته إليه شنشنة أعرفها من أخزم ، شرح ابن أبي الحديد (٤ / ١٠٣) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١٥٤) ، جمهرة رسائل العرب (٣ / ٥١٠) ، أعلام النساء (٣ / ١٢١١).

كلّ هذه تضادّ ما جاء به الخليفة من خبره الشاذّ عن الكتاب والسنّة ، فأنّى لابن حجر ومن لفّ لفّه أن يعدّه من الأدلّة الواضحة على علمه وهذا شأنه (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٢).

__________________

(١) فتوح البلدان : ص ٤٦ ـ ٤٧ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٠٥ ، العقد الفريد : ٤ / ٥١ ، معجم البلدان : ٤ / ٢٤٠ ، البداية والنهاية : ٩ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥ حوادث سنة ١٠١ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ١٦ / ٢٧٨ كتاب ٤٥ ، تاريخ الخلفاء : ص ٢١٥ ، أعلام النساء : ٤ / ١٢٠ ـ ١٢٢.

(٢) النساء : ٧٨.

٢٦٦

التمسّك بالأفائك :

والعجب العجاب قول ابن حجر في الصواعق (١) (ص ٢٠) : لا يقال بل عليّ أعلم من أبي بكر للخبر الآتي في فضائله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها». لأنّا نقول : سيأتي أنّ ذلك الحديث مطعون فيه ، وعلى تسليم صحّته أو حسنه فأبو بكر محرابها. ورواية فمن أراد العلم فليأتِ الباب لا تقتضي الأعلميّة ، فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الإيضاح والبيان والتفرّغ للناس بخلاف الأعلم. على أنّ تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس : أنا مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعليّ بابها. فهذه صريحة في أنّ أبا بكر أعلمهم ، وحينئذٍ فالأمر بقصد الباب إنّما هو لنحو ما قلناه لا لزيادة شرفه على ما قبله لما هو معلوم ضرورة أنّ كلاّ من الأساس والحيطان والسقف أعلى من الباب. انتهى.

قال الأميني : إنّ الطعن في حديث «أنا مدينة العلم» لم يصدر إلاّ من ابن الجوزي ومن يشاكله من رماة القول على عواهنه ، وقد عرفت في الجزء السادس (ص ٦١ ـ ٨١) نصوص العلماء على صحّة الحديث ، واعتبار قوم حسنه ، وتقرير آخرين ما صدر ممّن تقدّمهم إلى ذينك الوجهين وتزييف ما ارتآه ابن الجوزي.

وأمّا ما ذكره من رواية الفردوس فلا يختلف اثنان في ضعفها وضعف ما يقاربها في اللفظ ممّا تدرّج نحته في الأزمنة المتأخرة تجاه ما يثبته هتاف النبيّ الأعظم من فضيلة العلم الرابية لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وابن حجر نفسه من أولئك الذين زيّفوه وحكموا عليه بالضعف كما في كتابه الفتاوى الحديثيّة (٢) (ص ١٩٧) فقال : حديث ضعيف ، ومعاوية حلقتها فهو ضعيف أيضاً. فأذهله لجاجه في حجاجه عن

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٣٤.

(٢) الفتاوى الحديثيّة : ص ٢٦٩.

٢٦٧

حكمه ذاك ، ورأى ما حكم عليه بالضعف نصّا في أعلميّة أبي بكر.

وقال العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٠٤) : روى الديلمي في الفردوس (١) بلا إسناد عن ابن مسعود رفعه : أنا مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعليّ بابها. وروى أيضاً عن أنس مرفوعاً : أنا مدينة العلم ، وعليّ بابها ، ومعاوية حلقتها. قال في المقاصد (٢) : وبالجملة فكلّها ضعيفة وألفاظ أكثرها ركيكة.

وقال السيّد محمد درويش الحوت في أسنى المطالب (٣) (ص ٧٣) : أنا مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها. وذلك لا ينبغي ذكره في كتب العلم لا سيّما مثل ابن حجر الهيتمي ذكر ذلك في الصواعق (٤) والزواجر وهو غير جيّد من مثله. انتهى.

فلم يبق إذن مجال للمناقشة بالتعبير بالباب لمولانا صلوات الله عليه وبالأساس والحيطان والسقف والحلقة لغيره ، حسب المسكين ناحِتُ هذه المهزأة مدينة خارجيّة يرمق إليها ، ويتجوّل بين جدرانها ، ويتفيّأ تحت سقفها ، ويدقّ بابها بالحلقة ، وقد عزب عنه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أنّ السبب الوحيد للاستفادة من علوم النبوّة هو خليفته مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما أنّ المدخل الوحيد للمدينة بابها ، فهو معنىً كنائي جيء به لإفادة ما ذكرناه ، والأساس لا فضيلة له غير أنّه يقوم عليه سياج المدينة المشاد للوقاية عن الغارات والسرقات ، وأمّا معنويّات المدينة فلا صلة لها بشيء من ذلك ، والاستفادة بالسقف على فرض تصويره في المدن ليس إلاّ الاستظلال

__________________

(١) الفردوس بمأثور الخطاب : ١ / ٤٣ ح ١٠٥ و ٤٤ ح ١٠٨.

(٢) المقاصد الحسنة : ص ١٢٤ ح ١٨٩.

(٣) أسنى المطالب : ص ١٣٧ ح ٣٩١.

(٤) الصواعق المحرقة : ص ٣٤.

٢٦٨

ودفع عائدة الحرّ والقرّ ولذلك لا يسقف إلاّ المحالّ التي يتصوّر فيها ذلك كالبيوت والحمّامات والحوانيت والربط وأمثالها. فقاصد المدينة للاستفادة ممّا فيها من علم أو ثروة أو أيّ من أقسام النفع معنويّة وماديّة لا يتوصّل بها إلاّ بالدخول من الباب ، فهو أهمّ ممّا جاء به ابن حجر من الأساس والجدار والسقف. وأمّا الحلقة فيُحتاج إليه لفتح الباب وسدّه والدقّ إذا كان مرتجاً غير أنّ باب علم النبوّة غير موصود ، ولا يزال مفتوحاً على البشر بمصراعيه أبد الدهر.

ثمّ إنّ من الواضح أنّ المراد من التعبير بالباب ليس الولوج والخروج فحسب وإنّما هو الاستفادة والأخذ ، ولا يتمّ هذا إلاّ أن يكون عنده كلّ علم النبوّة الذي أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوق الأمّة إليه ، وحصر الطريق إلى ذلك بمن عبّر عنه بالباب تأكيداً للحصر ثمّ زاد في التأكيد بقوله : فمن أراد المدينة فليأتِ الباب.

فعليّ أمير المؤمنين هو الباب المبتلى به الناس ، ومن عنده كلّ علم النبوّة وكلّ ما يحتاج إليه البشر من فقه أو عظة أو خلق أو حكم أو حِكم أو سياسة أو حزم أو عزم ، فهو أعلم الناس لا محالة ، وأمّا زيادة الإيضاح والبيان والتفرّغ للناس ، فلا يجوز أن تنفكّ عمّن سيق إليه البشر لغاية التفهّم ، وإزاحة الجهل ، لا لمحض البيان وجودة السرد ، لأنّ وضوح البيان بمجرّده غير واف بالغرض ، لارتباك صاحبه عند الجهل بما يقدّم إليه من المعضلات ، كارتباك الأعلم عند التفهيم إذا أعوزه البيان عن الإفهام ، فمن الواجب أن يجتمعا في إنسان واحد هو مرجع الأمّة جمعاء ، وهو قضيّة اللطف الواجب عليه سبحانه ، فذلك الإنسان هو عِدل الكتاب العزيز وهما الثقلان خليفتا النبيّ الأقدس لا يتفرّقان حتى يردا عليه الحوض ، (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١).

__________________

(١) الكهف : ٢٩.

٢٦٩

ـ ٣ ـ

شجاعة الخليفة

لم يؤثر عن الخليفة قبل الإسلام مشهد يدلّ على فروسيّته ، كما أنّه لم نجد له في مغازي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كثرتها وشهوده فيها موقفاً يشهد له بالبسالة ، أو وقفة تخلّد له الذكر في التاريخ ، أو خطوة قصيرة في ميادين تلك الحروب الدامية تُعرب عن شيء من هذا الجانب الهامّ غير ما كان في واقعة خيبر من فراره عن مناضلة مرحب اليهودي كصاحبه عمر بن الخطّاب.

قال عليّ وابن عبّاس : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزماً ومن معه ، فلمّا كان من الغد بعث عمر فرجع منهزماً يُجبِّن أصحابَه ويُجبِّنه أصحابُه.

أخرجه الطبراني والبزّار كما في مجمع الزوائد (٩ / ١٢٤) ورجال إسناد البزّار رجال الصحيح غير محمد بن عبد الرحمن ومحلّه الصدق (١) ، وذكر انهزام الرجلين يوم خيبر القاضي عضد [ الدين ] الإيجي في المواقف (٢) وأقرّه شرّاحه كما في شرحه (٣) (٣ / ٢٧٦) ، وذكره القاضي البيضاوي في طوالع الأنوار كما في المطالع (ص ٤٨).

ويُعرب عن فرارهما يوم ذاك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما فرّا : «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ليس بفرّار». وفي لفظ : «كرّار غير فرّار». وفي لفظ : «والذي كرّم وجه محمد لأعطينّها رجلاً لا يفرّ» ، وفي لفظ : «لأدفعنّ إلى رجل لن يرجع حتى يفتح الله له». وفي لفظ :

__________________

(١) الجرح والتعديل : ٧ / ٣٢٣ رقم ١٧٣٩.

(٢) المواقف : ص ٤١٠.

(٣) شرح المواقف للجرجاني : ٨ / ٢٦٩.

٢٧٠

«لا يولّي الدبر» (١).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي فيما يعزى إليه من القصيدة العلويّة :

وما أنس لا أنس اللذَين تقدّما

وفرَّهما والفرُّ قد علما حوبُ (٢)

وللراية العظمى وقد ذهبا بها

ملابسُ ذلٍّ فوقها وجلابيبُ

يشلُّهما من آلِ موسى شمردلُ

طويلُ نجادِ السيفِ أجيدُ يعبوبُ (٣)

يمجُّ منوناً سيفُه وسِنانُه

ويلهبُ ناراً غمدُه والأنابيبُ

أحضرُهما أم حضرُ أخرجَ خاضبٍ

وذانِ هما أم ناعمُ الخدّ مخضوبُ (٤)

عذرتكما إنّ الحِمامَ لمبغَضٌ

وإنّ بقاءَ النفسِ للنفسِ محبوبُ

ليُكره طعمَ الموتِ والموتُ طالبٌ

فكيفَ يلذُّ الموتُ والموتُ مطلوبُ

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ١٩١ [ ٣ / ١٣٥٧ ح ٣٤٩٨ و ٣٤٩٩ ] ، صحيح مسلم : ٢ / ٣٢٤ [ ٤ / ٨٧ ح ١٣٢ كتاب الجهاد والسير ] ، طبقات ابن سعد : ص ٦١٨ ، ٦٣٠ رقم التسلسل طبع مصر [ ٢ / ١١٠ ـ ١١١ ] ، مسند أحمد : ١ / ١٨٤ ، ١٨٥ ، ٣٥٣ ، ٣٥٨ [ ١ / ٣٠٢ ح ١٦١١ و ٣ / ٣٩١ ح ١٠٧٣٨ و ٦ / ٤٥٥ ح ٢٢٣١٤ ، و ٤٩٢ ح ٢٢٥٢٢ ] ، خصائص النسائي : ص ٤ ـ ٨ [ ص ٤٢ ح ١٧ ] ، سيرة ابن هشام : ٣ / ٣٨٦ [ ٣ / ٣٤٩ ] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٠٩ [ ٣ / ١١٧ ح ٤٥٧٥ ] ، حلية الأولياء : ١ / ٦٢ ، أسد الغابة : ٤ / ٢١ [ ٤ / ٩٨ رقم ٣٧٨٣ ] ، الإمتاع للمقريزي : ص ٣١٤ ، تاريخ ابن كثير : ٤ / ١٨٥ ـ ١٨٧ [ ٤ / ٢١١ ـ ٢١٤ حوادث سنة ٧ ه‍ ] ، تيسير الوصول : ٣ / ٢٢٧ [ ٣ / ٣١٥ ح ٥ ] ، الرياض النضرة : ٢ / ١٨٤ ـ ١٨٨ [ ٣ / ١٣٠ ـ ١٣٤ ]. وهناك مصادر كثيرة تأتي في محلها إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٢) الحوب : الإثم. (المؤلف)

(٣) شمردل ؛ مرّ في : ص ٥٢ ، يريد من طول النجاد طول القامة. الأجيد : الطويل الجيد ، هو العنق. اليعبوب : الفرس الكثير الجري. أطلق على مرحب هذه اللفظة لشدّته وسرعة حركته. (المؤلف)

(٤) الحضر : العَدْو. الأخرج : ذكر النعام الذي فيه بياض وسواد. الخاضب : الذي أكل الربيع فاحمرّ طنبوباه أو اصفر. ناعم الخد مخضوب : كناية عن المرأة. يعني : هما رجلان أم امرأتان في ضعفهما ورقّة قلوبهما؟ (المؤلف)

٢٧١

وممّا ينبئنا عن هذا الجانب حديث كعّ الخليفة عن ذي الثدية لمّا أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله وهو في صلاته غير شاك السلاح ، فرأى مخالفة الأمر النبويّ أهون من قتل الرجل ، فآب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتذراً بما سيوافيك تفصيله إن شاء الله.

نعم ؛ يراه ابن حزم في كتاب المفاضلة بين الصحابة (١) ومن لفّ لفّه أشجع الصحابة على الإطلاق ونحتوا له حديثاً على أمير المؤمنين أنّه قال : أخبروني من أشجع الناس؟ فقالوا : أنت ، قال : أما إنّي ما بارزت أحداً إلاّ انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا : لا نعلم ، فمن؟ قال : أبو بكر ، إنّه لمّا كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عريشاً فقلنا : من يكون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئلاّ يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا منّا أحد إلاّ أبا بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله لا يهوي إليه أحد إلاّ هوى إليه ، فهو أشجع الناس. الحديث (٢).

ليت القوم لم يحذفوا سند هذه الأثارة المفتعلة وكانوا يروونها بالإسناد حتى نعرّف الملأ العلمي بالذي اختلقها ، وحسبنا أنّ الحافظ الهيثمي ذكرها بلا إسناد في مجمع الزوائد (٩ / ٤٦) وضعّفه وقال : فيه من لم أعرفه.

وتكذّبها صحيحة ابن إسحاق قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوشّح السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخافون عليه كرّة العدوّ (٣).

ثمّ إنّ حراسة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن تنحصر بيوم بدر ولا بأبي بكر بل في كلّ موقف من مواقفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتعهّد أحد من الصحابة بحراسته ، فكانت الحراسة لسعد

__________________

(١) الفصل : ٤ / ١٤٣.

(٢) الرياض النضرة : ١ / ٩٢ [ ١ / ١٢٠ ] ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ٢٥ [ ص ٣٤ ]. (المؤلف)

(٣) عيون الأثر لابن سيّد الناس : ١ / ٢٥٨ [ ١ / ٣٢٦ ]. (المؤلف)

٢٧٢

ابن معاذ ليلة بدر وفي يومه لأبي بكر على ما ذكره الحلبي في السيرة (١) (٣ / ٣٥٣) ، ولمحمد بن مسلمة يوم أُحد ، وللزبير بن العوّام يوم الخندق ، وللمغيرة بن شعبة يوم الحديبيّة ، ولأبي أيوب الأنصاري ليلة بنى بصفيّة ببعض طرق خيبر ، ولبلال وسعد ابن أبي وقّاص وذكوان بن عبد قيس بوادي القرى ، ولابن أبي مرثد الغنوي ليلة وقعة حنين (٢).

وكانت هذه السيرة في الحراسة مستمرّة إلى أن نزل قوله تعالى في حجّة الوداع (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٣) فترك الحرس (٤) فأبو بكر رديف أولئك الحرسة بعد تسليم ما جاء في حراسته.

ولو صدق النبأ وكانت يوم بدر لأبي بكر تلك الأهميّة الكبرى لكان هو أولى وأحقّ بنزول القرآن فيه يوم ذاك دون عليّ وحمزة وعبيدة لمّا نزل فيهم ذلك اليوم : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) (٥) (٦).

__________________

(١) السيرة الحلبية : ٣ / ٣٢٧.

(٢) عيون الأثر : ٢ / ٣١٦ [ ٢ / ٤٠٢ ] ، المواهب اللدنيّة : ١ / ٢٨٣ [ ٢ / ١٢٢ ] ، السيرة الحلبية : ٣ / ٣٥٤ [ ٣ / ٣٢٧ ] ، شرح المواهب للزرقاني : ٣ / ٣٠٤. (المؤلف)

(٣) المائدة : ٦٧.

(٤) مستدرك الحاكم : ٢ / ٣١٣ [ ٢ / ٣٤٢ ح ٣٢٢١ ] ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٤٤ [ ٦ / ١٥٨ ] ، تفسير ابن جزّي الكلبي : ١ / ١٨٣ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٧٨ ، الخصائص الكبرى : ١ / ١٢٦ [ ١ / ٢١٠ ] عن الترمذي [ في سننه : ٥ / ٢٣٤ ح ٣٠٤٦ ] والحاكم [ في المستدرك : ٢ / ٣٤٢ ] والبيهقي [ في دلائل النبوّة : ٢ / ١٨٤ ] وأبي نعيم. (المؤلف)

(٥) الحج : ١٩.

(٦) صحيح البخاري : ٦ / ٩٨ كتاب التفسير [ ٤ / ١٧٦٩ ح ٤٤٦٧ ] ، صحيح مسلم : ٢ / ٥٥٠ [ ٥ / ٥٢٨ ح ٣٤ كتاب التفسير ] ، طبقات ابن سعد : ص ٥١٨ [ ٢ / ١٧ ] ، مستدرك الحاكم : ٢ / ٣٨٦ [ ٢ / ٤١٨ ح ٣٤٥٤ ، وكذا في تلخيصه ] وصحّحه هو والذهبي ، تفسير القرطبي : ١٢ / ٢٥ ، ٢٦ [ ١٢ / ١٨ و ١٩ ] ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٢١٢ ، تفسير ابن جزّي : ٣ / ٣٨ ، تفسير الخازن : ٣ / ٢٩٨ [ ٣ / ٢٨٤ ]. (المؤلف)

٢٧٣

ولو صحّت المزعمة لما خُصّ عليّ وحمزة وعبيدة بقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُو اللهَ عَلَيهِ) (١) (٢).

ولما نزل في عليّ أمير المؤمنين قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (٣) ، ولما ورد فيها ما ورد عن النبيّ الأعظم ممّا أسلفناه في الجزء الثاني (ص ٤٦ ـ ٥١).

ولما خصّ بمولانا عليّ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (٤) ، كما ذكره القرطبي في تفسيره (٥) (٣ / ٢١) وفصّلنا القول فيه في الجزء الثاني (ص ٤٧ ـ ٤٩).

وكان حقّا على رضوان منادي الله يوم بدر بقوله :

لا سيف إلاّ ذو الفقا

ر ولا فتى إلاّ علي (٦)

أن ينوّه باسم أبي بكر وبسيفه المشهور على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ هل تنحصر مغازي النبيّ الأعظم وحروبه الدامية ببدر؟ وهل العريش كان في بدر فحسب دون سائر الغزوات؟ وهل سيّد العريش النبيّ الأعظم كان يلازم عريشه ولم يحضر قطّ في ميادين القتال؟ أو كان ينزل بالمعارك ويستخلف صاحبه على العريش؟

ما أعوز النبيّ الأعظم يوم خيبر مجاهداً كرّاراً غير فرّار لا يولّي الدبر ، وكان

__________________

(١) الأحزاب : ٢٣.

(٢) راجع ما مرّ في الجزء الثاني : ص ٥١. (المؤلف)

(٣) الأنفال : ٦٢.

(٤) البقرة : ٢٠٧.

(٥) الجامع لاحكام القرآن : ٣ / ١٦.

(٦) راجع ما أسلفناه في الجزء الثاني صفحة : ٥٩ ـ ٦١. (المؤلف)

٢٧٤

معه الخليفة الأشجع؟ أكان فرّاراً غير كرّار؟ ومن المعنيّ في قول المؤرّخين من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفع لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً ، فدفعه إلى آخر من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً؟ أهذا الرجل وصاحبه نكرتان لا يُعرفان؟ لاها الله.

وأين كان الأشجع يوم خرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر ، فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موقفه ، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمسى مهموماً (١)؟

ولما ذا بعث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم ذاك ـ وكان الأشجع معه ـ سلمة بن الأكوع إلى عليّ وكان قد تخلّف بالمدينة لرمد عينيه ، وكان لا يبصر موضع قدمه ، فذهب إليه سلمة وأخذ بيده يقوده (٢)؟ وملء المسامع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لأُعطينّ الراية إلى رجل كرّار غير فرّار».

أكان الأشجع في العريش يوم خيبر لمّا قاتل المصطفى بنفسه يومه ذلك أشدّ القتال وعليه درعان وبيضة ومغفر ، وهو على فرس يقال له : الظرب (٣) وفي يده قناة وترس؟ كما في السيرة الحلبيّة (٤) (٣ / ٣٩).

أكان الأشجع في العريش يوم أحد يوم بلاء وتمحيص؟ حتى خلص العدوّ إلى

__________________

(١) الإمتاع للمقريزي : ص ٣١٤ ، السيرة الحلبية : ٣ / ٣٩ [ ٣ / ٣٤ ]. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ١٠٢ [ ٤ / ٨٧ ح ١٣٢ كتاب الجهاد والسير ] ، سنن البيهقي : ٩ / ١٣١ ، الرياض النضرة : ٢ / ١٨٦ [ ٣ / ١٣٢ ] ، السيرة الحلبيّة : ٣ / ٤١ [ ٣ / ٣٥ ] ، شرح المواهب للزرقاني : ٢ / ٢٢٣. (المؤلف)

(٣) من أشهر خيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعرفها ، سمّي بذلك لكبره أو لسمنه أو لقوّته وصلابته تشبيهاً له بالجبل. قالوا : أهداه له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فروة بن عمرو الجذامي. أو : ربيعة بن أبي البراء. أو : جنادة بن المعلّى. (المؤلف)

(٤) السيرة الحلبيّة : ٣ / ٣٤.

٢٧٥

رسول الله فدُثّ (١) بالحجارة حتى وقع لشقّه فأُصيبت رباعيته ، وشجّ في وجهه ، وكلمت شفته ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم ويقول : «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم» (٢).

أكان الأشجع في العريش يوم قال فيه عليّ : «لما تخلّى الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أُحد نظرت في القتلى فلم أرَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : والله ما كان ليفرّ وما أراه في القتلى ، ولكن الله غضب علينا بما صنعنا ، فرفع نبيّه ، فما فيّ خير من أن أُقاتل حتى أُقتل ، فكسرت جفن سيفي ثمّ حملت على القوم فأفرجوا لي فإذا برسول الله بينهم». وقد أصابت عليّا يوم ذاك ست عشرة ضربة ، كلّ ضربة تلزمه الأرض فما كان يرفعه إلاّ جبريل؟ أُسد الغابة (٣) (٤ / ٢٠).

أكان الأشجع في العريش يوم وقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ عليّ بن أبي طالب بيده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحتضنه ورفعه طلحة حتى استوى قائماً (٤)؟

أكان الأشجع في العريش يوم رأى رسول الله في ميدان النزال وهو لابس درعين : درعه ذات الفضول ودرعه فضة ، أو يوم حنين وله درعان : درعه ذات الفضول والسعديّة؟ شرح المواهب للزرقاني (٢ / ٢٤).

أكان الأشجع في العريش يوم ضُرب وجه النبيّ بالسيف سبعين ضربة وقاه الله

__________________

(١) الدثّ : الرمي.

(٢) سيرة ابن هشام : ٣ / ٢٧ [ ٣ / ٨٤ ] ، طبقات ابن سعد رقم التسلسل : ٥٤٩ [ ٢ / ٤٤ ـ ٤٥ ] ، تاريخ ابن كثير : ٤ / ٢٣ ، ٢٩ [ ٤ / ٢٦ ، ٣٣ حوادث سنة ٣ ه‍ ] ، إمتاع المقريزي : ص ١٣٥ ، شرح المواهب للزرقاني : ٢ / ٣٧. (المؤلف)

(٣) أُسد الغابة : ٤ / ٩٨ رقم ٣٧٨٣.

(٤) سيرة ابن هشام : ٣ / ٢٧ [ ٣ / ٨٥ ] ، الإمتاع للمقريزي : ص ١٣٥ ، تاريخ ابن كثير : ٤ / ٢٤ [ ٤ / ٢٧ حوادث سنة ٣ ه‍ ] ، عيون الأثر : ٢ / ١٢ [ ١ / ٤١٨ ]. (المؤلف)

٢٧٦

شرّها كلها؟ المواهب اللدنيّة (١) (١ / ١٢٤)

أكان الأشجع في العريش يوم بايع رسول الله على الموت ثمانية ، هم : عليّ ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، والحارث بن الصمّة ، وحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، ورسول الله يدعوهم في أخراهم؟ الإمتاع للمقريزي (ص ١٣٢).

أكان الأشجع في العريش يوم كان عليّ يذبّ عن رسول الله من ناحية ، وأبو دجانة مالك بن خرشة من ناحية ، وسعد بن أبي وقّاص يذبّ طائفة ، والحباب بن المنذر يحوش المشركين كما تُحاش الغنم؟ الإمتاع للمقريزي (ص ١٤٣)

أكان الأشجع في العريش يوم حمي الوطيس ، وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت راية الأنصار ، وأرسل إلى عليّ أن قدّم [ الراية ] فقدّم عليّ وهو يقول : أنا أبو القصم (٢)؟

أكان الأشجع في العريش يوم انتهى رسول الله إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال : «اغسلي عن هذا دمه يا بنيّة فو الله صدقني اليوم»؟ يوم ملأ عليّ درقته ماء من المهراس فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم وصبّ على رأسه ، وأخذت فاطمة ـ سلام الله عليها ـ قطعة حصير فأحرقته فألصقته عليه فاستمسك الدم (٣)؟

أكان الأشجع في العريش لمّا ملأ الفضاء نداء جبرئيل :

لا سيف إلاّ ذو الفقا

ر ولا فتى إلاّ علي

__________________

(١) المواهب اللدنيّة : ١ / ٤٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام : ٣ / ١٩ [ ٣ / ٧٧ ـ ٧٨ وما بين المعقوفين منه ] ، شرح المواهب للزرقاني : ٢ / ٣١. (المؤلف)

(٣) طبقات ابن سعد : ٣ / ٩٠ رقم التسلسل : ٢٥٢ [ ٢ / ٤٨ ] ، سيرة ابن هشام : ٣ / ٣٤ ، ٥١ [ ٣ / ٩٠ و ١٠٦ ] ، الإمتاع : ص ١٣٨ ، تاريخ ابن كثير : ٤ / ٣٥ [ ٤ / ٣٣ حوادث سنة ٣ ه‍ ] ، عيون الأثر : ٢ / ١٥ [ ١ / ٤٣١ ] ، المواهب اللدنيّة : ١ / ١٢٥ [ ١ / ٤٠٥ ] ، شرح الزرقاني : ٢ / ٥٦. (المؤلف)

٢٧٧

أكان الأشجع في العريش يوم نظم حسّان بن ثابت :

جبريل نادى معلناً

والنقع ليس بمنجلي

والمسلمون أحدقوا

حول النبيّ المرسلِ

لا سيف إلاّ ذو الفقا

ر ولا فتى إلاّ علي (١)

أكان الأشجع في العريش يوم حمراء الأسد ، وقد خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مجروح في وجهه ، مشجوج في جبهته ، ورباعيّته قد شظيت ، وشفته السفلى قد كلمت في باطنها ، وهو متوهّن منكبه الأيمن من ضربة ابن قميئة ، وركبتاه مجحوشتان؟

طبقات ابن سعد ، رقم التسلسل (٢) (٥٥٣).

أكان الأشجع في العريش يوم حنين؟ لمّا حمي الوطيس وفرّ الناس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يبق معه إلاّ أربعة : ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم : عليّ بن أبي طالب والعبّاس وهما بين يديه ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان ، وابن مسعود من جانبه الأيسر ، ولا يقبل أحد من المشركين جهته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ قتل؟ السيرة الحلبيّة (٣) (٣ / ١٢٣).

أكان الأشجع في العريش يوم الأحزاب؟ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينقل مع صحبه من تراب الخندق وقد وارى التراب بياض بطنه ويقول :

لا همّ لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينةً علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إنّ الأُلى لقد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنةً أبينا

__________________

(١) راجع ما مرّ في الجزء الثاني : ص ٥٩ ـ ٦١. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ٢ / ٤٩.

(٣) السيرة الحلبيّة : ٣ / ١٠٩.

٢٧٨

طبقات ابن سعد رقم التسلسل (١) (٥٧٥) ، تاريخ ابن كثير (٢) (٤ / ٩٦).

أكان الأشجع في العريش يوم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لضربة عليّ خير من عبادة الثقلين» ، وفي لفظ : «قتل عليّ لعمرو أفضل من عبادة الثقلين» وفي لفظ : «لمبارزة عليّ لعمرو بن ودّ أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة» (٣)؟

نعم ؛ للرجل موقف يوم أُحد لمّا طلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر ـ وكان من المشركين ـ فقال : من يبارز وارتجز يقول :

لم يبق إلاّ شكّة ويعبوب

وصارم يقتل ضلاّل الشيب

فنهض إليه أبو بكر رضى الله عنه وهو يقول : أنا ذلك الأشيب ثمّ ارتجز فقال :

لم يبق إلاّ حسبي وديني

وصارم تقضي به يميني

فقال له عبد الرحمن : لو لا أنّك أبي لم أنصرف. الإمتاع (ص ١٤٤).

حجاج بالعريش :

قال المحاملي : كنت عند أبي الحسن بن عبدون وهو يكتب لبدر ، وعنده جمع فيهم أبو بكر الداودي وأحمد بن خالد المادرائي ، فذكر قصّة مناظرته مع الداودي في التفضيل. إلى أن قال : فقال الداودي : والله ما نقدر نذكر مقامات عليّ مع هذه العامّة. قلت : أنا والله أعرفها : مقامه ببدر ، وأُحد ، والخندق ، ويوم حنين ، ويوم خيبر. قال :

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٢ / ٧١.

(٢) البداية والنهاية : ٤ / ١١٠ حوادث سنة ٥ ه‍.

(٣) مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٢ [ ٣ / ٣٤ ح ٤٣٢٧ ] ، المواقف للقاضي الإيجي : ٣ / ٢٧٦ [ ص ٤١٢ ] ، كنز العمّال : ٦ / ١٥٨ [ ١١ / ٦٢٣ ح ٣٣٠٣٥ ] ، السيرة الحلبيّة : ٢ / ٣٤٩ [ ٢ / ٣٢٠ ] وهناك كلمة ردّ على ابن تيمية في ردّه على هذا الحديث ، هداية المرتاب في فضائل الأصحاب : ص ١٤٨. (المؤلف)

٢٧٩

فإن عرفتها ينفعني أن تقدّمه على أبي بكر وعمر؟ قلت : قد عرفتها ومنه قدّمت أبا بكر وعمر عليه. قال : من أين؟ قلت : أبو بكر كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العريش يوم بدر مقامه مقام الرئيس والرئيس ينهزم به الجيش ، وعليّ مقامه مقام مبارز ، والمبارز لا ينهزم به الجيش.

ذكره الخطيب في تاريخه (٨ / ٢١) ، وابن الجوزي في المنتظم (١) (٦ / ٣٢٧) ، وأحسب أنّ مبتدع هذه الباكورة ، ومؤسّس فكرة العريش والاستدلال بها في التفضيل هو الجاحظ ، قال في خلاصة كتاب العثمانيّة (ص ١٠) : والحجّة العظمى للقائلين بتفضيل عليّ عليه‌السلام قتله الأقران ، وخوضه الحروب ، وليس له في ذلك كبير فضيلة ، لأنّ كثرة القتل والمشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل وكان دليلاً على الرئاسة والتقدّم ، لوجب أن يكون للزبير وأبي دجانة ومحمد ابن مسلمة وابن عفراء والبراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! لأنّه لم يقتل إلاّ رجلاً واحداً ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خالط الصفوف ، وإنّما كان معتزلاً عنهم في العريش ومعه أبو بكر.

وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران ، ويجندل الأبطال ، وفوقه من العسكر من لا يقتل ولا يبارز وهو الرئيس ، أو ذو الرأي والمستشار في الحرب ، لأنّ للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقّد ما ليس لغيرهم ، ولأنّ الرئيس هو المخصوص بالمطالبة وعليه مدار الأمور ، وبه يستبصر المقاتل ويستنصر ، وباسمه ينهزم العدوّ ، ولو لم يكن له إلاّ أنّ الجيش لو ثبت وفرّ هو لم يغن ثبوت وكانت الدولة له ، ولهذا لا يضاف النصر والهزيمة إلاّ إليه. ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد عليّ ذلك اليوم وقتله أبطال قريش. انتهى.

__________________

(١) المنتظم : ١٤ / ٢١ ـ ٢٢ رقم ٢٤٤٨.

٢٨٠