الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧

وفي لفظ : اللهم اغفر لي فإنّي كريم لم تلدني اللئام. فقلت له : إنّك لسيّئ الرأي والفكر تسارع إلى قتل ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدعو بهذا الدعاء؟ فقال : إليك عنّي ، فلو كنّا كما تقول أنت وأصحابك لكنّا شرّا من الحمر في الشعاب.

وعلى هذا الأساس جرى ما جرى على أبي بكر الطائي وأصحابه. قال سليمان ابن ربوة : اجتمعت أنا وعشرة من المشايخ في جامع دمشق فيهم أبو بكر بن أحمد بن سعيد الطائي فقرأنا فضائل عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فوثب علينا قريب من مائة يضربوننا ويسحبوننا إلى الوالي ، فقال لهم أبو بكر الطائي : يا سادة اسمعوا لنا إنّما قرأنا اليوم فضائل عليّ وغداً نقرأ فضائل أمير المؤمنين معاوية رضى الله عنه ، وقد حضرتني أبيات فإن رأيتم أن تسمعوها ، فقالوا له : هات ، فأنشأ بديهاً :

حبُّ عليّ كلّهُ ضربُ

يرجف من خيفته القلبُ

ومذهبي حبُّ إمامِ الهدى

يزيدَ والدينُ هو النَّصبُ

من غيرَ هذا قال فهو امرؤ

ليس له عقلٌ ولا لبُ

والناسُ مَن يغدُ لأهوائِهمْ

يسلم وإلاّ فالقضا نهبُ

قال : فخلّوا عنّا. تمام المتون للصفدي (١) (ص ١٨٨).

وعلى هذا الأساس هتكت حرمات آل الله ، وأُضيعت مقدّسات العترة الهادية ، وسُفكت دماء الأبرياء الأزكياء من شيعة أهل البيت الطاهر ، وشاع وذاع لعن سيّد العترة نفس النبيّ الأقدس ، والمطهّر بلسان الله على صهوات المنابر ، واتّخذه خلفاء بني أُميّة سنّة متّبعة في أرجاء العالم الإسلامي ، حتى وبّخ معاوية سعد بن أبي وقاص لسكوته عن سبّ أبي السبطين مولانا أمير المؤمنين (٢) حتى تمكّن عبد الله بن

__________________

(١) تمام المتون : ص ٢٥١.

(٢) راجع الجزء الثالث : ص ٢٠٠. (المؤلف)

٢٠١

الوليد بن عثمان بن عفّان من أن قام إلى هشام بن عبد الملك عشيّة عرفة وهو على المنبر فقال : يا أمير المؤمنين إنّ هذا يوم كانت الخلفاء تستحبّ فيه لعن أبي تراب (١).

وقال سعيد بن عبد الله لهشام بن عبد الملك : يا أمير المؤمنين إنّ أهل بيتك في مثل هذه المواطن الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب ، فالعنه أنت أيضاً (٢).

وعلى هذا الأساس من معنى الخلافة لا عسف ولا حزازة في رأي الخليفة الأوّل ومن حذا حذوه من صحّة اختيار المفضول على الفاضل ، وتقديم المتأخّر على المتقدّم بأعذار مفتعلة ، وأوهام مختلقة ، ومرجّحات واهية ، وسياسة وقتيّة ، إذ الأمر الذي لا يشترط في صاحبه شيء من القداسة الروحيّة ، والملكات الفاضلة ، والخلائق الكريمة ، والنفسيّات الشريفة ، ومعالم ومعارف ، ومدارج ومراتب ، ولا يؤاخذ هو بما فعل ، ولا يخلع بتعطيل الأحكام ، وترك إقامة الحدود ، ولا ينابذ ما دام يقيم في أمّته الصلاة ، كما سمعت تفصيل ذلك كلّه ، لا وازع عندئذٍ من أن يكون أمثال أبي عبيدة الجرّاح حفّار القبور حاملاً لهذا العبء الثقيل ، متحلّياً بأبراد الخلافة ولا مانع من تقديم الخليفة الأوّل إيّاه أو صاحبه على نفسه في بدء الأمر ، ولا حاجز من اختيار أيّ مستأهل لتنفيذ ما ذكر (ص ١٣٨) ممّا يُقام له الإمام ولو بمعونة سماسرته وجلاوزته ومن يهمّه أمره ، بل من له الشدّة والفظاظة والعنف والتهوّر إلى أمثالها ربّما يكون أولى من غيره مهما اقتضته السياسة الوقتيّة.

واتّبع الأكثرون الخليفة في تقديم المفضول على الفاضل ، قال القاضي في المواقف (٣) : جوّز الأكثرون إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، إذ لعلّه أصلح للإمامة من الفاضل ، إذ المعتبر في ولاية كلّ أمر معرفة مصالحه ومفاسده ، وقوّة القيام

__________________

(١) رسائل الجاحظ : ص ٩٢ [ ص ٤٣٥ الرسائل السياسية ] ، أنساب البلاذري : ٥ / ١١٦. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن كثير : ٩ / ٤٣٢ [ ٩ / ٢٦٢ حوادث سنة ٦٠٦ ه‍ ]. (المؤلف)

(٣) المواقف في علم الكلام : ص ٤١٣.

٢٠٢

بلوازمه ، وربّ مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف ، وبشرائطها أقوم ، وفصّل قوم فقالوا : نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب وإلاّ وجب. وقال الشريف الجرجاني : كما إذا فرض أنّ العسكروالرعاية لاينقادون للفاضل بل للمفضول شرح المواقف (١)(٣ / ٢٧٩).

قال الأميني : إنّا لا نريد بالأفضل إلاّ الجامع لجميع صفات الكمال التي يمكن اجتماعها في البشر لا الأفضليّة في صفة دون أُخرى ، فيكون حينئذٍ الأفقه مثلاً هو الأبصر بشؤون السياسة ، والأعرف بمصالح الأمور ومفاسدها ، والأثبت في إدارة الصالح العامّ ، والأبسل في مواقف الحروب ، والأقضى في المحاكمات ، والأخشن في ذات الله ، والأرأف بضعفاء الأمّة ، والأسمح على محاويج الملأ الديني ، إلى أمثالها من الشرائط والأوصاف ، إذن فلا تصوير لما حسبوه من أنّ المفضول قد يكون أقدر وأعرف وأقوم.

وعلى المولى سبحانه أن لا يخلي الوقت عن إنسان هو كما قلناه ، بعد أن أثبتنا أنّ تقييضه من اللطف الواجب عليه سبحانه ، وهو عديل القرآن الكريم ، ولا يفترقا حتى يردا على النبيّ الحوض.

وأمّا من لا ينقاد له من الجيش وغيره فهو كمن لا ينقاد لصاحب الرسالة ، لا يزحزح بذلك صاحب الأمر عمّا قيّضه الله له من الولاية الكبرى ، بل يجب على بقيّة الأمّة إخضاعهم كما أخضعوا أهل الردّة أو من حسبوه منهم ، وأن يفوّقوا إليه سهم الجنّ كما فوّقوه إلى سعد بن عبادة أمير الخزرج.

ولم تكن للخليفة مندوحة عن رأيه في تقديم المفضول ، وما كان إلاّ تصحيحاً لخلافة نفسه ، ولتقدّمه على من قدّسه المولى سبحانه في كتابه العزيز ، ورآه نفس النبيّ

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ٣٧٣.

٢٠٣

الأقدس وقرن طاعته بطاعته ، وولايته بولايته ، وأكمل به الدين ، وأتمّ به النعمة ، وأمر نبيّه بالبلاغ وضمن له العصمة من الناس ، وهتف هاتف الوحي بولايته وأولويّته بالمؤمنين من أنفسهم في محتشد رهيب بين مائة ألف أو يزيدون قائلاً : «يا أيّها الناس إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه».

ولم تكن تخفى لأيّ أحد فضائل أبي السبطين وملكاته وروحيّاته ، وطيب عنصره ، وطهارة محتده ، وقداسة مولده ، وعظمة شأنه ، وبُعد شأوه في حزمه وعزمه وسبقه في الإسلام ، وتفانيه في ذات الله ، وأفضليته في العلم والفضائل كلّها.

نعم ؛ على رأي الخليفة في تقديم المفضول على الفاضل وقع الانتخاب من أوّل يومه ، فبويع أبو بكر بعقد رجلين ليس إلاّ : عمر بن الخطّاب وأبي عبيدة الحفّار ابن الجرّاح ، وكان الأمر أمر نهار قضي ليلاً ، مدبّراً بين أولئك الرجال مؤسّسي الانتخاب الدستوري ، وما اتّبعهما يوم ذاك إلاّ أُسيد بن حضير ، وبشر بن سعد ، ثمّ دَرْدَب الناس لمّا عضّه الثقاف (١) واتّسع الخرق على الراقع ، وما أُدركت القويمة حتى أكلتها الهويمة (٢) ، وأصبح المصلح الهضيم يقول : دع الرجل واختياره (٣) ، وإنّ في الشرّ خياراً ، ولا يجتنى من الشوك العنب.

بويع أبو بكر ودبّ قمله (٤) ، وقسمت الوظائف الدينيّة من أوّل يومه بين ثلاث : له الإمامة ، وقال عمر : وإليّ القضاء. وقال أبو عبيدة : وإليّ الفيء. وقال عمر : فلقد

__________________

(١) مثلٌ يضرب لمن يمتنع مما يراد منه ثم يذلّ وينقاد [ مجمع الأمثال : ١ / ٤٦٤ رقم ١٣٨٣ ]. (المؤلف)

(٢) أصل المثل : أدرك القويمة لا تأكلها الهويمة. والمراد : إدراك الرجل الجاهل حتى لا يقع في هلكة [ المستقصى في أمثال العرب : ١ / ١١٦ رقم ٤٥٣ ]. (المؤلف)

(٣) مثل يضرب لمن لا يقبل الوعظ. (المؤلف)

(٤) مثل يضرب للإنسان إذا سمن وحسن حاله [ مجمع الأمثال : ١ / ٤٧٠ رقم ١٤٠٣ ]. (المؤلف)

٢٠٤

كان يأتي عليّ الشهر ما يختصم إليّ فيه اثنان (١) ، ولم يكن هناك من يزعم أو يفوه بأفضليّة أبي بكر وعمر من مولانا أمير المؤمنين ، هذا أبو بكر ينادي على صهوات المنابر : ولّيت ولست بخيركم ، ولي شيطان يعتريني. ويطلب من أمّته العون له على نفسه وإقامة أمته وعوجه (٢).

وهذا عمر بن الخطّاب ونصوصه بين يديك. على أنّ الأمر كان لعليّ غير أنّهم زحزحوه عنه لحداثة سنّه والدماء التي عليه (٣) ، أو لِما قاله لمّا عزم على الاستخلاف : لله أبوك لو لا دعابة فيك ، كما في الغيث المنسجم للصفدي (٤) (١ / ١٦٨) ، وكان يدعو الله ربّه أن لا يبقيه لمعضلة ليس فيها أبو الحسن ، ويرى أنّ عليّا لولاه لضلّ هو (٥) ، ولولاه لهلك هو ، ولولاه لافتضح هو ، وعقمت النساء أن يلدن مثل عليّ. إلى كثير ممّا مرّ عنه في الجزء السادس في نوادر الأثر ، ولم يكن قط يختلج في هواجس ضميره ولن يختلج ـ وأنّى يختلج؟ ـ أنّه كان يماثل مولانا عليّا في إحدى فضائله ، أو يدانيه في شيء منها ، أو يبعد عنه بقليل.

وبعد ما عرفت معنى الخلافة عند القوم ، ووقفت على رأي سلفهم فيها وفي مقدّمهم الخليفة الأوّل ، هلمّ معي إلى التهافت بين تلكم الكلمات وبين مزاعم أخرى جنح إليها لفيف آخر : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٦).

قال أحمد بن محمد الوتري البغدادي في روضة الناظرين (ص ٢) : اعلم أنّ جماهير أهل السنّة والجماعة يعتقدون أنّ أفضل الناس بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ثمّ

__________________

(١) طبقات ابن سعد : ٣ / ١٣٠ [ ٣ / ١٨٤ ]. (المؤلف)

(٢) راجع ما مرّ في هذا الجزء : ص ١١٨. (المؤلف)

(٣) راجع ما مرّ في الجزء الأوّل : ص ٣٨٩ ، وفي هذا الجزء : ص ٨٠. (المؤلف)

(٤) الغيث المنسجم : ١ / ٢٧٦.

(٥) التمهيد للباقلاّني : ص ١٩٩. (المؤلف)

(٦) النساء : ٨٢.

٢٠٥

عمر ثمّ عثمان ثمّ عليّ رضي الله تعالى عنهم ، وأنّ المتقدّم في الخلافة هو المقدّم في الفضيلة لاستحالة تقديم المفضول على الفاضل لأنّهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل ، والدليل عليه أنّ أبا بكر رضى الله عنه لما نصّ على عمر رضى الله عنه قام إليه طلحة رضى الله عنه فقال له : ما تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظاً غليظاً؟ قال أبو بكر رضى الله عنه : فركت لي عينيك ، ودلكت لي عقبيك ، وجئتني تكفّني عن رأيي ، وتصدّني عن ديني أقول له إذا سألني : خلّفت عليهم خير أهلك. فدلّ على أنّهم كانوا يُراعون الأفضل فالأفضل. انتهى.

وأنت ترى أنّ هذه المزعمة فيها دجل لإغراء البسطاء من الأمّة المسكينة وهي تصادم رأي الجمهور ونظريّات علماء الكلام منهم ، وعمل الصحابة ونصوصهم ، وقبل كلّ شيء رأي الخليفة أبي بكر ، وكأنّ ما حسبه من الاستحالة قد خفي على الخليفة وعلى من آزره على أمره ، واعتنق إمامته في القرون والأجيال من بعده.

وكأنّ أفضليّة الرجل الفظّ الغليظ كانت تخفى على الصحابة ، ولم يكن يعلمها أحد فأعرب عنها أبو بكر ، وكأنّ التاريخ ونوادر الأثر لم تكن بين يدي الوتري حتى يعرف مقادير الرجال ، ولا يغلو فيهم ، ولا يتحكّم ولا يجازف في القول ولا يسرف في الكلام ويعلم بأنّ عمر لو كان خير الأمّة وتلك سيرته ونوادر أثره فعلى الإسلام السلام.

نعم ؛ إنّما هي أهواء وشهوات أخذ كلّ بطرف منها ، وفتاوى مجرّدة هملج وراءها كلّ حسب ميوله ، ونحن نضع عقلك السليم مقياساً بين هذين الإمامين : من نصفه نحن ، ومن يقول به هؤلاء. فراجعه إلى أيّهما يجنح ، وأيّا منهما يتّخذه وسيلة بينه وبين ربّه سبحانه ، وأيّهما يحقّ له أن يستحوذ على رقاب المسلمين ونفوسهم ونواميسهم وأحكامهم في دنياهم وأخراهم؟ إن لم تكن في ميزان نصفته عين. فويل للمطفّفين.

٢٠٦

ـ ٦ ـ

رأي الخليفة في القَدَر

أخرج اللالكائي في السنّة عن عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى أبي بكر فقال : أرأيت الزنا بقدر؟ قال : نعم. قال : فإنّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟ قال : نعم ، يا ابن اللخناء ، أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ (١) أنفك (٢).

قال الأميني : أترى الخليفة عرف معنى القدر الصحيح؟ بمعنى ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الالهي ، مع إعطاء القدرة على الفعل والترك ، مع تعريف الخير والشرّ وتبيان عاقبة الأوّل ومغبّة الأخير.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٤) (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٥) (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٦).

كلّ ذلك مع تكافؤ العقل والشهوة في الإنسان ، مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمّارة بالسوء ، فمن عاملٍ بالطاعة بحسن اختياره ، ومن مقترفٍ للمعصية بسوء الخيرة.

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) (٧) (فَمَنِ اهْتَدى

__________________

(١) وجأ عنقه : ضربه ، ووجأه : رضّه ودقّه. (المؤلف)

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ٦٥ [ ص ٨٩ ]. (المؤلف)

(٣) الإنسان : ٣.

(٤) البلد : ١٠.

(٥) النمل : ٤٠.

(٦) لقمان : ١٢.

(٧) فاطر : ٣٢.

٢٠٧

فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) (١) (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) (٢) (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣) (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) (٤) (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) (٥) (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٦) (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٧) (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨).

فالقدَر لا يستلزم جبراً وعلم المولى سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين ويأتون به من العمل من خير أو شرّ لا ينافي التكليف. كما لا أثر له في اختيار المكلّفين ، ولا يقبح معه العقاب على المعصية ، ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٩) (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١٠) (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (١١) (فَكَيْفَ

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

(٢) الزمر : ٤١.

(٣) الجاثية : ١٥.

(٤) الأنعام : ١٠٤.

(٥) سبأ : ٥٠.

(٦) الإسراء : ٧.

(٧) النجم : ٣٠.

(٨) القصص : ٨٥.

(٩) الزلزلة : ٧ و ٨.

(١٠) الأنبياء : ٤٧.

(١١) غافر : ١٧.

٢٠٨

إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١).

فهل الخليفة عرف هذا المعنى من القدَر ، فأجاب بما أجاب؟ لكن السائل لم يفهم ما أراده فانتقده بما انتقد؟ غير أنّه لو كان يريد ذلك لَما جابَه المنتقد بالسباب المقذع والتمنِّي بأن يكون عنده من يجأ أنفه قبل بيان المراد فيفيء الرجل إلى الحقّ.

أو أنّ الخليفة لم يكن يعرف من القدَر إلاّ ما ارتفعت به عقيرة جماهير من أشياعه من القول بخلق الأعمال؟ فيتّجه إذن ما قاله المنتقد سبّه الخليفة أو لم يسبّه.

والذي يؤثر عن ابنته عائشة هو الجنوح إلى المعنى الثاني يوم اعتذرت عن نهضتها على مولانا أمير المؤمنين ، وتبرّجها عن خدرها المضروب لها تبرّج الجاهليّة الأولى بعد أن ليمت على ذلك ، بأنّها كانت قدَراً مقدوراً وللقدَر أسباب. أخرجه الخطيب البغدادي بإسناده في تاريخه (١ / ١٦٠).

وإن كان يوقفنا موقف السادر ما يؤثر عنها فيما أخرجه الخطيب أيضاً في تاريخه (٩ / ١٨٥) عن عروة قال : ما ذكرت عائشة مسيرها في وقعة الجمل قطّ إلاّ بكت حتى تبلّ خمارها وتقول : يا ليتني كنت نسياً منسيّا (٢). قال سفيان الثوري : النسي المنسي الحيضة الملقاة.

كأنّها كانت ترى مسيرها حوباً كبيراً جديراً أن تبكي عليه مدى الدهر ، وتبلّ بدمعها خمارها ، وتتمنّى ما تمنّت ، وهذا ينافي ذلك الاعتذار البارد المأخوذ أصله عن

__________________

(١) آل عمران : ٢٥.

(٢) وذكره ابن الأثير في النهاية : ٤ / ١٥١ [ ٥ / ٥١ ] ، وابن منظور في لسان العرب : ٢٠ / ١٩٦ [ ١٤ / ١٣٣ ] ، والزبيدي في تاج العروس : ١٠ / ٣٦٧. (المؤلف)

٢٠٩

رأي أبيها الخليفة الذي لم يجد مساغاً في دفع ما يتّجه عليه إلا السباب.

ـ ٧ ـ

ترك الخليفة الضحيّة مخافة أن تُستنَ

قد مرّ في الجزء السادس (ص ١٦٧) من الصحيح الوارد في أنّ أبا بكر وعمر كانا لا يضحّيان كراهة أن يقتدى بهما ، فيظنّ فيها الوجوب. وقد استوفينا حقّ القول هناك فراجع.

ـ ٨ ـ

ردّة بني سليم

عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كان في بني سليم ردّة ، فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد ، فجمع رجالاً منهم في الحظائر ثمّ أحرقها عليهم بالنار ، فبلغ ذلك عمر فأتى أبا بكر فقال : تدع رجلاً يعذّب بعذاب الله عزّ وجلّ. فقال أبو بكر : والله لا أشيم سيفاً سلّه الله على عدوّه حتى يكون هو الذي يشيمه ، ثمّ أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة. الرياض النضرة (١) (١ / ١٠٠)

ليس في هذا الجواب مخرج عن اعتراض عمر فقد جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢).

وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النهي عن الإحراق وقوله : «لا يُعذّب بالنار إلاّ ربّ النار».

__________________

(١) الرياض النضرة : ١ / ١٢٩.

(٢) المائدة : ٣٣.

٢١٠

وقوله : «إنّ النار لا يعذّب بها إلاّ الله» ، وقوله : «لا يعذّب بالنار إلاّ ربّها» (١) ، وقوله : «من بدّل دينه فاقتلوه» (٢) ، وقوله : «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث : زناً بعد إحصان فإنّه يرجم ، ورجل يخرج محارباً لله ورسوله فإنّه يُقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض ، أو يقتل نفساً فيُقتل بها».

سنن أبي داود (٢ / ٢١٩) ، مصابيح السنّة (٢ / ٥٩) ، مشكاة المصابيح (ص ٣٠٠) (٣).

وأمّا فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام بعبد الله بن سبأ وأصحابه فلم يكن إحراقاً ولكن حفر لهم حفائر ، وخرق بعضها إلى بعض ، ثمّ دخّن عليهم حتى ماتوا كما قال عمّار الدهني ، فقال عمرو بن دينار : قال الشاعر :

لترمِ بي المنايا حيث شاءت

إذا لم ترمِ بي في الحفرتينِ

إذا ما أجَّجوا حطباً وناراً

هناك الموت نقداً غير دينِ (٤)

وأمّا قول أبي بكر : لا أشيم سيفاً. الخ. فهو تحكّم تجاه النصّ النبويّ ، وما كان السيف أنطق من القول ، ومتى شهر الله سبحانه هذا السيف صاحب الدواهي الكبرى

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٣٢٥ [ ٣ / ١٠٩٨ ح ٢٨٥٣ ] كتاب الجهاد باب : لا يعذّب بعذاب الله ، مسند أحمد : ٣ / ٤٩٤ [ ٤ / ٥٥٠ ح ١٥٦٠٤ ] ، ٢ / ٣٠٧ [ ٢ / ٥٩٢ ح ٨٠٠٧ ] ، سنن أبي داود : ٢ / ٢١٩ [ ٣ / ٥٤ ـ ٥٥ ح ٢٦٧٣ ، ٢٦٧٥ ] ، صحيح الترمذي [ ٤ / ١١٧ ح ١٥٧١ ] ، سنن البيهقي : ٩ / ٧١ ، ٧٢ ، مصابيح السنّة : ٢ / ٥٧ ، ٥٨ [ ٢ / ٥٢٨ ح ٢٦٥٨ و ٥٣٠ ح ٢٦٦٧ ] ، تيسير الوصول : ١ / ٢٣٦ [ ١ / ٢٧٩ ح ١٦ ]. (المؤلف)

(٢) صحيح البخاري : ١٠ / ٨٣ [ ٦ / ٢٥٣٧ ح ٦٥٢٤ ] كتاب استتابة المرتدّين ، سنن أبي داود : ٢ / ٢١٩ [ ٤ / ١٢٦ ح ٤٣٥١ ] ، مصابيح السنّة : ٢ / ٥٧ [ ٢ / ٥٢٨ ح ٢٦٥٨ ]. (المؤلف)

(٣) سنن أبي داود : ٤ / ١٢٦ ح ٤٣٥٣ ، مصابيح السنّة : ٢ / ٥٣١ ح ٢٦٦٩ ، مشكاة المصابيح : ٢ / ٣٠٤ ح ٣٥٤٤.

(٤) سنن البيهقي : ٩ / ٧١. (المؤلف)

٢١١

والطامّات في يومه هذا؟ ويومه الآخر المخزي في بني حنيفة ومع مالك بن نويرة وأهله؟ ويومه قبلهما مع بني جذيمة الذي تبرّأ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عمله؟ إلى غيرها من المخاريق والمخازي التي تغمد بها هذا السيف.

ـ ٩ ـ

حرق الخليفة الفجاءة

قدم على أبي بكر رجل من بني سليم يقال له الفجاءة ، وهو إياس بن عبد الله ابن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف فقال لأبي بكر : إنّي مسلم وقد أردت جهاد من ارتدّ من الكفّار فاحملني وأعنّي ، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحاً ، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتدّ يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم ومعه رجل من بني الشريد يقال له نجبة بن أبي الميثاء. فلمّا بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز : إنّ عدوّ الله الفجاءة أتاني يزعم أنّه مسلم ويسألني أن أقوّيه على من ارتدّ عن الإسلام فحملته وسلّحته ثمّ انتهى إليّ من يقين الخبر أنّ عدوّ الله قد استعرض الناس المسلم والمرتدّ يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم ، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأخذه فتأتيني به فسار إليه طريفة ، فلمّا التقى الناس كانت بينهم الرميّا بالنبل فقتل نجبة بن أبي الميثاء بسهم رُمي به ، فلمّا رأى الفجاءة من المسلمين الجدّ قال لطريفة : والله ما أنت بأولى بالأمر منّي أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره ، فقال له طريفة : إن كنت صادقاً فضع السلاح وانطلق إلى أبي بكر فخرج معه ، فلمّا قدما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجز فقال : اخرج به إلى هذا البقيع فحرّقه فيه بالنار. فخرج به طريفة إلى المصلّى فأوقد له ناراً فقذفه فيها.

وفي لفظ الطبري : فأوقد له ناراً في مصلّى المدينة على حطب كثير ثمّ رمي فيها مقموطاً.

٢١٢

وفي لفظ ابن كثير : فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرّقه وهو مقموط (١).

قال الأميني : القول في هذا كالذي سبقه من عدم جواز الإحراق بالنار والتعذيب بها ، على أنّ الفجاءة كان متظاهراً بالإسلام وتلقّاه الخليفة بالقبول يوم أعطاه ظهراً وسلّحه ، وإن كان فاسقاً بالجوارح على ما انتهى إلى الخليفة من يقين الخبر ، ولم يكن سيف الله مشهوراً هاهنا حتى يتورّع عن إغماده ، ولا يُدّعى مثله لطريفة حتى يكون معذّراً في مخالفة النصّ الشريف ، ولعلّ لذلك كلّه ندم أبو بكر نفسه يوم مات عن فعله ذلك كما في الصحيح الآتي إن شاء الله تعالى. فإلى الملتقى.

والعجب كلّ العجب من دفاع القاضي عضد [ الدين ] الإيجي عن الخليفة بقوله في المواقف (٢) : إنّ أبا بكر مجتهد ، إذ ما من مسألة في الغالب إلاّ وله فيها قول مشهور عند أهل العلم ، وإحراق الفجاءة لاجتهاده وعدم قبول توبته ، لأنّه زنديق ، ولا تقبل توبة الزنديق في الأصحّ.

وجاء بعده القوشجي مدافعاً عن الخليفة بقوله في شرح التجريد (ص ٤٨٢) : إحراقه فجاءة بالنار من غلطة في اجتهاده ، فكم مثله للمجتهدين!

إقرأ واضحك أو ابك ، زه زه بالاجتهاد تجاه نصّ الكتاب والسنّة ، ومرحباً بمجتهد يخالف دين الله.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٣٤ [ ٣ / ٢٦٤ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، تاريخ ابن كثير : ٦ / ٣١٩ [ ٦ / ٣٥١ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، الكامل لابن الأثير : ٢ / ١٤٦ [ ٢ / ٢٧ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، الإصابة : ٢ / ٢٢٣ [ رقم ٤٢٤٤ ]. (المؤلف)

(٢) المواقف : ص ٤٠٣.

٢١٣

ـ ١٠ ـ

رأي الخليفة في قصّة مالك

سار خالد بن الوليد يريد البطاح حتى قدمها فلم يجد بها أحداً ، وكان مالك بن نويرة قد فرّقهم ونهاهم عن الاجتماع وقال : يا بني يربوع إنّا دُعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح ، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتّى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ، فإيّاكم ومناوأة قوم صنع لهم ، فتفرّقوا وادخلوا في هذا الأمر ، فتفرّقوا على ذلك ، ولمّا قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكلّ من لم يُجب ، وإن امتنع أن يقتلوه ، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذّنوا ويقيموا إذا نزلوا منزلاً فإن أذّن القوم وأقاموا فكفّوا عنهم ، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلاّ الغارة ثمّ تقتلوا كلّ قتلة ، الحرق فما سواه ، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم فإن أقرّوا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوها فلا شيء إلاّ الغارة ، ولا كلمة ، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع ومن عاصم وعبيد وعرين وجعفر فاختلف السريّة فيهم ، وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنّهم قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا ، فلمّا اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء وجعلت تزداد برداً ، فأمر خالد منادياً فنادى : ادفئوا أسراكم. وكانت في لغة كنانة القتل ، فظنّ القوم أنّه أراد القتل ولم يرد إلاّ الدفء فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال : إذا أراد الله أمراً أصابه. وتزوّج خالد أمّ تميم امرأة مالك ، فقال أبو قتادة : هذا عملك ، فزبره خالد فغضب ومضى.

وفي تاريخ أبي الفداء : كان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين ، فكلّما خالداً في أمره ، فكره كلامهما. فقال مالك : يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا. فقال خالد : لا أقالني الله إن أقلتك وتقدّم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه.

٢١٤

فقال عمر لأبي بكر : إنّ سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في ذلك ، فقال : يا عمر تأوّلَ فأخطأ فارفع لسانك عن خالد فإنّي لا أشيم سيفاً (١) سلّه الله على الكافرين.

وفي لفظ الطبري (٢) وغيره : أنّ أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذاناً للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا ، وإن لم تسمعوا أذاناً فشنّوا الغارة فاقتلوا وحرّقوا. وكان ممّن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعيّ ، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها ، وكان يحدّث أنّهم لمّا غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح ، قال : فقلنا : إنّا المسلمون. فقالوا : ونحن المسلمون ، قلنا : فما بال السلاح معكم؟ قالوا لنا : فما بال السلاح معكم؟ قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح. قال : فوضعوها ثمّ صلّينا وصلّوا ، وكان خالد يعتذر في قتله أنّه قال وهو يراجعه : ما إخال صاحبكم إلاّ وقد كان يقول كذا وكذا. قال : أو ما تعدّه لك صاحباً. ثمّ قدّمه فضرب عنقه وعنق أصحابه.

فلمّا بلغ قتلهم عمر بن الخطّاب تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال : عدوّ الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثمّ نزا على امرأته ، وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامة له قد غرز في عمامته أسهماً ، فلمّا أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّها ثمّ قال : أرئاء؟ قتلت امرأً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته ، والله لأرجمنّك بأحجارك. ولا يكلّمه خالد ابن الوليدو لا يظنّ إلاّ أنّ رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه حتى دخل على أبي بكر ، فلمّا أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان

__________________

(١) شام السيف يشيمه إذا أغمده.

(٢) تاريخ الأمم والملوك : ٣ / ٢٧٩ حوادث سنة ١١ ه‍.

٢١٥

في حربه تلك. قال : فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر ، وعمر جالس في المسجد فقال خالد : هلمّ إليّ يا ابن أمّ شملة. قال فعرف عمر أنّ أبا بكر قد رضي عنه ، فلم يكلّمه ودخل بيته.

وقال سويد : كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شَعراً ، وإنّ أهل العسكر أثفّوا برءوسهم القدور ، فما منهم رأس إلاّ وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكاً فإنّ القِدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره ، وقى الشعر البشَر حرّها أن يبلغ منه ذلك.

وقال ابن شهاب : إنّ مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس ، فلمّا قتل أمر خالد برأسه فنصب إثفية (١) لقِدر فنضج ما فيها قبل أن يخلص النار إلى شئون رأسه.

وقال عروة : قدم أخو مالك متمّم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في سبيهم فكتب له بردّ السبي ، وألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله ، وقال : إنّ في سيفه رهقاً. فقال : لا يا عمر لم أكن لأُشيم سيفاً سلّه الله على الكافرين.

وروى ثابت في الدلائل : إنّ خالداً رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال ، فقال مالك بعد ذلك لامرأته : قتلتني. يعني : سأُقتل من أجلك (٢).

وقال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفداء والزبيدي : إنّ مالك بن نويرة رضى الله عنه قال لامرأته يوم قتله خالد بن الوليد : أقْتَلْتِني. أي عرّضتني بحسنِ وجهكِ للقتل لوجوب الدفع عنكِ ، والمحاماة عليك ، وكانت جميلة حسناء تزوّجها خالد بعد قتله ، فأنكر

__________________

(١) الإثفية : حجارة توضع عليها القدور أثناء الطبخ.

(٢) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٤١ [ ٣ / ٢٧٧ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، تاريخ ابن الأثير : ٣ / ١٤٩ [ ٢ / ٣٢ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، أُسد الغابة : ٤ / ٢٩٥ [ ٥ / ٥٣ رقم ٤٦٤٨ ] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ١٠٥ ، ١١٢ [ ١٦ / ٢٥٦ ، ٢٧٤ رقم ١٩٢٢ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٨ / ١٧ ـ ١٨ ] ، خزانة الأدب : ١ / ٢٣٧ [ ٢ / ٢٦ ] ، تاريخ ابن كثير : ٦ / ٣٢١ [ ٦ / ٣٥٤ حوادث سنة ١١ ه‍ ] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٣٣ [ ٢ / ٢٠٩ ] ، الإصابة : ١ / ٤١٤ [ رقم ٢٢٠١ ] و ٣ / ٣٥٧ [ رقم ٧٦٩٦ ]. (المؤلف)

٢١٦

ذلك عبد الله بن عمر. وقيل فيه :

أفي الحق أنّا لم تجفّ دماؤنا

وهذا عروساً باليمامة خالدُ (١)

وفي تاريخ ابن شحنة هامش الكامل (٢) (٧ / ١٦٥) : أمر خالد ضراراً بضرب عنق مالك ، فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه التي قتلتني. وكانت في غاية الجمال ، فقال خالد : بل قتلك رجوعك عن الإسلام. فقال مالك : أنا مسلم. فقال خالد : يا ضرار اضرب عنقه فضرب عنقه ، وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي :

ألا قل لحيّ أُوطِئوا بالسنابكِ

تطاولَ هذا الليلُ من بعد مالكِ

قضى خالدٌ بغياً عليه بعرسِهِ

وكان له فيها هوىً قبل ذلكِ

فأمضى هواهُ خالدٌ غيرَ عاطفٍ

عنانَ الهوى عنها ولا متمالكِ

وأصبح ذا أهلٍ وأصبحَ مالكٌ

إلى غير أهلٍ هالكاً في الهوالكِ

فلمّا بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر : إنّ خالداً قد زنى فاجلده. قال أبو بكر : لا ، لأنّه تأوّل فأخطأ ، قال : فإنّه قتل مسلماً فاقتله. قال : لا ، إنّه تأوّل فأخطأ. ثمّ قال : يا عمر ما كنت لأغمد سيفاً سلّه الله عليهم ، ورثى مالكاً أخوه متمّم بقصائد عديدة. وهذا التفصيل ذكره أبو الفداء أيضاً في تاريخه (١ / ١٥٨).

وفي تاريخ الخميس (٣) (٢ / ٢٣٣) : اشتدّ في ذلك عمر وقال لأبي بكر : ارجم خالداً فإنّه قد استحلّ ذلك. فقال أبو بكر : والله لا أفعل ، إن كان خالد تأوّل أمراً فأخطأ ، وفي شرح المواقف (٤) : فأشار عمر على أبي بكر بقتل خالد قصاصاً ، فقال

__________________

(١) الفائق : ٢ / ١٥٤ [ ٣ / ١٥٧ ] ، النهاية : ٣ / ٢٥٧ [ ٤ / ١٥ ] ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٥٨ ، تاج العروس : ٨ / ٧٥. (المؤلف)

(٢) روضة المناظر : ١ / ١٩١ ـ ١٩٢ حوادث سنة ١١ ه‍.

(٣) تاريخ الخميس : ٢ / ٢٠٩.

(٤) شرح المواقف : ٨ / ٣٥٨.

٢١٧

أبو بكر : لا أغمد سيفاً شهره الله على الكفار. وقال عمر لخالد : لئن وليتُ الأمر لأقيدنّك به.

وفي تاريخ ابن عساكر (٥ / ١١٢) : قال عمر : إنّي ما عتبت على خالد إلاّ في تقدّمه وما كان يصنع في المال. وكان خالد إذا صار إليه شيء قسّمه في أهل الغنى ولم يرفع إلى أبي بكر حسابه ، وكان فيه تقدّم على أبي بكر يفعل الأشياء التي لا يراها أبو بكر ، وأقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته ، وصالح أهل اليمامة ونكح ابنة مجاعة بن مرارة ، فكره ذلك أبو بكر ، وعرض الدية على متمّم بن نويرة وأمر خالداً بطلاق امرأة مالك ولم ير أن يعزله ، وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد.

نظرة في القضية :

قال الأميني : يحقّ على الباحث أن يمعن النظرة في القضيّة من ناحيتين :

الأولى : ما ارتكبه خالد بن الوليد من الطامّات والجرائم الكبيرة التي تُنزّه عنها ساحة كلّ معتنق للإسلام ، وتضادّ نداء القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، ويتبرّأ منها وممّن اقترفها من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (١) (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) (٢) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٣).

بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة ساغ للرجل سفك تلكم الدماء الزكيّة من الذين آمنوا بالله ورسوله واتّبعوا سبيل الحقّ وصدّقوا بالحسنى ، وأذّنوا وأقاموا وصلّوا وقد علت عقيرتهم بأنّا مسلمون ، فما بال السلاح معكم؟ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا

__________________

(١) القيامة : ٣٦.

(٢) البلد : ٥.

(٣) العنكبوت : ٤.

٢١٨

وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

ما عذر الرجل في قتل مثل مالك الذي عاشر النبيّ الأعظم ، وأحسن صحبته ، واستعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات قومه ، وقد عُدّ من أشراف الجاهليّة والإسلام ، ومن أرداف الملوك (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (٢) ، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٣).

وما ذا أحلّ للرجل شنّ الغارة على أهل أولئك المقتولين وذويهم الأبرياء وإيذائهم وسبيهم بغير ما اكتسبوا إثماً ، أو اقترفوا سيّئة ، أو ظهر منهم فساد في الملأ الدينيّ؟ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٤).

ما هذه القسوة والعنف والفظاظة والتزحزح عن طقوس الإسلام ، وتعذيب رءوس أمّة مسلمة ، وجعلها إثفيةً للقدر وإحراقها بالنار؟ (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) (٥) (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٦).

ما خالد وما خطره بعد ما اتّخذ إلهه هواه ، وسوّلته له نفسه ، وأضلّته شهوته ، وأسكره شبقه؟ فهتك حرمات الله ، وشوّه سمعة الإسلام المقدّس ، ونزا على زوجة مالك قتيل غيّه في ليلته (٧) (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (٨) ، ولم يكن قتل

__________________

(١) آل عمران : ١٨٨.

(٢) المائدة : ٣٢.

(٣) النساء : ٩٣.

(٤) الأحزاب : ٥٨.

(٥) الزمر : ٢١.

(٦) الزخرف : ٦٥.

(٧) الصواعق : ص ٢١ [ ص ٣٦ ] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٣٣٣ [ ٢ / ٢٠٩ ]. (المؤلف)

(٨) النساء : ٢٢.

٢١٩

الرجل إلاّ لذلك السفاح ، وكان أمراً مشهوداً وسرّا غير مستسرّ ، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله إيّاها : أقْتَلْتِني. فقُتل الرجل مظلوماً غيرةً ومحاماةً على ناموسه. وفي المتواتر : «من قتل دون أهله فهو شهيد» (١). وفي الصحيحة : «من قتل دون مظلمته فهو شهيد» (٢).

والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يُبرّئ خالداً من تلكم الجنايات ، أيصدّق جحد الرجل فرض الزكاة ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدّق بما جاء به نبيّه الأقدس ، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها ، وينادي بأعلى صوته : نحن المسلمون ، وقد استعمله النبيّ الأعظم على الصدقات ردحاً من الزمن؟ لاها الله.

أيوجب الردّة مجرّد امتناع الرجل المسلم الموحّد المؤمن بالله وكتابه عن أداء الزكاة لهذا الإنسان بخصوصه وهو غير منكر أصل الفريضة؟ أو يُحكم عليه بالقتل عندئذٍ؟ وقد صحّ عن المشرّع الأعظم قوله : «لا يحلّ دم رجل يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّي رسول الله ، إلاّ بإحدى ثلاثة : النفس بالنفس ، والثيّب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (٣).

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٩١ [ ١ / ٣١١ ح ١٦٥٥ ] ، نصّ على تواتره المناوي في الفيض القدير : ٦ / ١٩٥ [ ح ٨٩١٧ ]. (المؤلف)

(٢) أخرجه النسائي [ في السنن الكبرى : ٢ / ٣١١ ح ٣٥٥٩ ] ، والضياء المقدسي كما في الجامع الصغير [ ٢ / ٦٣١ ح ٨٩١٨ ] وصحّحه السيوطي ، راجع الفيض القدير : ٦ / ١٩٥ [ ح ٨٩١٨ ]. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ١٠ / ٦٣ [ ٦ / ٢٥٢١ ] كتاب الديات ، باب : قول الله تعالى (إنّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ) ، صحيح مسلم : ٢ / ٣٧ [ ٣ / ٥٠٦ ح ٢٥ كتاب القسامة والمحاربين ] ، الديات لابن أبي عاصم الضحاك : ص ١٠ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢١٩ [ ٤ / ١٢٦ ح ٤٣٥٢ ] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١١٠ [ ٢ / ٨٤٧ ح ٢٥٣٤ ] ، مصابيح السنّة : ٢ / ٥٠ [ ٢ / ٥٠٢ ح ٢٥٨٤ ] ، مشكاة المصابيح : ص ٢٩١ [ ٢ / ٢٨٥ ح ٣٤٤٦ ]. (المؤلف)

٢٢٠