تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

هو القلب ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيه تحذير للكاتم وتهديد له. عن ابن عباس : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) وشهادة الزور وكتمان الشهادة.

التأويل : إنه تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستشهدوا عليه العدول ، فقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عباده في الميثاق (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) إلى قوله : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) [التوبة : ١١١] وأشهد الملائكة الكرام (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار : ١٠ ، ١١] وإنه تعالى كما أمركم أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا أمر الملائكة أن يكتبوا معاملاتكم الصغيرة والكبيرة ، ثم عند خروجكم من الدنيا يجعلون ذلك في أعناقكم (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] ثم نودي من سرادقات الجلال : يا قوي الظلم ضعيف الحال (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤] ثم إن الكتاب يكتبون عليه في صباحه ومسائه ، وما يكتبون إلا من إملائه وإنه بالقليل والكثير مما يملي يخاطب ، وبالنقير وبالقطمير على ما يميل عن الحق يعاتب ، فليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، فعليه أن يملي الحق للحق. فإن كان الذي عليه حق للحق سفيها جاهلا بإملاء الحق للحق لاشتغاله بالباطل ، أو ضعيفا عاجرا مغلوبا بغلبات نفسه ، أو لا يستطيع أن يمل هو لكونه ممنوعا بالعواتق والعلائق لا قدرة له على إملاء ما ينفعه ولا يضره ، ولا قوة له في إنهاء ما لا يحزنه ويسره ، (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) فإن لكل قوم وليا يخرجهم من الأحزان إلى السرور ، ومن الأسجان إلى القصور ، ومن الأشجان إلى الحبور ، ومن العجز والفتور إلى القوة والحضور. (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] و (اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) استصحبوا من أرباب القلوب اثنين من رجالكم الذين هم بالنسبة إليكم رجال وأنتم نساء (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) أرباب القلوب (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي رجلان من أهل الصلاح ليكونا بمثابة رجل من أهل الولاية في فائدة الصحبة (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ممن يصلح أن يكون من شهداء الله كما قال : «أنتم شهداء الله في أرضه» (١) (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) عن جادة الاستقامة في بادية النفس المملوءة من شياطين الهوى (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فالرفيق ثم الطريق. واعلم أن أهل الدين طائفتان :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٨٥. مسلم في كتاب الجنائز حديث ٦٠. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٦٣. النسائي في كتاب الجنائز باب ٥٠. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٢٠.

٨١

الواقفون والسائرون. والمراد بالواقف من وقف في عالم الصورة ولم يفتح له باب إلى عالم المعنى كالفرخ المحبوس في قشر البيضة فيكون شربه من عالم المعاملات البدنية ولا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس في سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام يكتبان عليه من أعماله الظاهرة بالنقير والقطمير (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] وأما السائر فلا يقف في محل ولا ينزل في منزل يسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى ، ومن مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح وهم صنفان : سيار وطيار. فالسيار من يسير بقدمي الشرع والعقل على جادة الطريقة ، والطيار من يطير بجناحي العشق والهمة في فضاء الحقيقة وفي رجله جلجلة الشريعة. فالإشارة في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل ، فلم يوجد له كاتب يكتب عليه كما قال بعضهم : ما كتب عليّ صاحب الشمال منذ عشرين سنة. وقال بعضهم : كاشف لي صاحب اليمين وقال لي : أمل علي شيئا من معاملات قلبك لأكتبه فإني أريد أن أتقرب به إلى الله. قال : فقلت له : حسبك الفرائض. فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق أو يكون هاربا منه. فأما الذي آناء الليل وأطراف النهار يغدو ويروح في طلب غريمه وما يبرح في حريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد ، فالذي هو موكل على الهارب يكون وكيلا وحفيظ للطالب (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] وللسائرين رهان مقبوضة عند الله ، رهان وأية رهان ، قلوب ليس فيها غير الله قبض ، وأي قبض؟ مقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمن. أما الطيار الذي هو عاشق مفقود القلب ، مغلوب العقل ، مجذوب السر ، فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش ببطشه الشديد.

مستهام ضاق مذهبه

في هوى من عز مطلبه

كل أمر في الهوى عجب

وخلاصي منه أعجبه

وإنما يحتاج إلى الرهن المتهم بالخيانة لا المتعين للأمانة ، فلم يوجد في السموات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن لتحمل أعباء أمانته إلا العاشق المسكين. لما نظر إليها كان فراش تلك الشمعة عشقها فطار فيها وأتى بحملها ، فلما حملها واستحسن منه ما تفرد به من أصحابه جاءت له من الحضرة ألقاب فنسب في البداية إلى الإفساد وسفك الدماء (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ولقب في النهاية بالظلم والجهل (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢] هذا أمر عجيب ونقش غريب ، من لم يطع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى المكانة والطاعة والأمانة مكين مطاع ثم أمين. ومن

٨٢

أطاع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى الظلم والجهل والفساد والخيانة ، نعم إنما يكون ذلك لوجهين : أحدهما أن الذلة والمسكنة وقعت في قسم العاشق كما أن العزة والعظمة وقعت في طرف المعشوق بل جمال عزة المعشوق ، لا يظهر إلا في مرآة ذلة العاشق.

وثانيهما أن من له كمال عزة الأمانة يلزم كمال ذلة المؤتمن في الظاهر بصلاح كتمان أمر الأمانة. وقد يختص غير المؤتمن بحسن الثناء عليه ليكون عزته في الظاهر وذلته في الحقيقة يدلك على حقيقة حفظ السر خطاب ، (اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] وعتاب (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) كما اخترتك من بين الخليقة واصطفيتك على البرية بحمل الأمانة (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) ولا تكتموا الشهادة ، أشهدتكم على أنفسكم يوم الميثاق بإقرار قبول الأمانة فقلتم : بلى شهدنا. فاليوم أطالبكم بأداء حقها فأدوها لي ملفوفة بلفاف التقوى «الإيمان عريان ولباسه التقوى» وكتمان الشهادة أن يكون شهودك مع غير شواهد ربك ، وهذا من نتائج خيانة قلبك في أمانة ربك ، فلا يشاهد قلبك إلا شواهد ربك ، ولا يؤدي سرك حقيقة أمانة ربك إلا إلى ربك بربك لربك.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

القراآت : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) بإدغام الراء في اللام : أبو عمرو. وجملة أهل العلم على الإخفاء لا على الإدغام التام (فَيَغْفِرُ) و (يُعَذِّبُ) برفع الراء والباء : يزيد وابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب. وقرأ حمزة غير أبي عمرو والحلواني عن قالون وابن مجاهد وأبو عون وأبو ربيعة عن البزي وخلف لنفسه يعذب من بالإظهار ، أبو عمرو يدغم (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) كل القرآن. وكتابه حمزة وعلي وخلف الباقون (وَكُتُبِهِ) جمعا لا يفرق بياء الغيبة يعقوب. الباقون بالنون (أَخْطَأْنا) مثل (فَادَّارَأْتُمْ) [البقرة : ٧٢].

الوقوف : (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (بِهِ اللهُ) ط لمن قرأ (فَيَغْفِرُ) بالرفع على الاستئناف

٨٣

أي فهو يغفر ، ومن جزم بالعطف لم يقف. (مَنْ يَشاءُ) ط. (قَدِيرٌ) ه (وَالْمُؤْمِنُونَ) ه ، لمن لم يقف على من ربه. (الْمَصِيرُ) ه ، (وُسْعَها) ط (مَا اكْتَسَبَتْ) ط (أَوْ أَخْطَأْنا) ج (مِنْ قَبْلِنا) ج لأن النداء للابتداء ولكن الواو لعطف السؤال على السؤال (لَنا بِهِ) ج (وَاعْفُ عَنَّا) وقفة (وَاغْفِرْ لَنا) كذلك (وَارْحَمْنا) كذلك للتفصيل بين أنواع المقاصد والاعتراف بأن أطماعنا غير واحد (الْكافِرِينَ) ه.

التفسير : إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وهي دلائل التوحيد والنبوة والمعاد وأشياء كثيرة من بيان الشرائع والتكاليف كالصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والإرضاع والبيع والربا والمداينة ، ختم السورة بكلام دل على كمال ملكه وهو قوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وعلى كمال علمه وهو قوله (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وعلى كمال قدرته وهو قوله (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وفي ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين. وعن أبي مسلم أنه لما قال : والله بما تعملون عليم. ذكر عليه دليلا عقليا فإن من كان فاعلا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع الفاخرة لا بد أن يكون محيطا بأجزائها وجزئياتها. وقيل : لما أمر بالوثائق من الكتبة والأشهاد والرهن ، ذكر ما علم منه أن المقصود يرجع إلى الخلق وأنه منزه عن الانتفاع به. وقال الشعبي وعكرمه ومجاهد : إنه لما أوعد على كتمان الشهادة ذكر أن له ما في السموات وما في الأرض فيجازي على الكتمان والإظهار. عن ابن عباس وأبي هريرة واللفظ له : لما نزل (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله عزوجل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال : نعم (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال : نعم ، (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال نعم (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال نعم.

٨٤

واعلم أن العلماء اتفقوا على أن الأمور التي تخطر بالبال مما يكرهها الإنسان ولا يمكنه إزالتها عن النفس ، لا يؤاخذ بها لأنها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق. وأما الخواطر التي يوطن الإنسان نفسه عليها ويعزم على إدخالها في الوجود فقد قيل : إنه يؤاخذ بها لقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] وكما يؤاخذ باعتقاد الكفر والبدع وأنه من أفعال القلوب ، ثم قال بعضهم : إنما يؤاخذ بها في الدنيا لما روى الضحاك عن عائشة أنها قالت : ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه. نعم يبتليه في الدنيا أو حزن أو أذى ، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب. وروت أنها سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه. وقيل : إن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فإنه في محل العفو لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بعد نزول قوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا» (١) وقيل : معنى قوله (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) أن يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهرا وإما على سبيل الخفية ، وعلى هذا فلا حاجة الى التزام النسخ. وكذا لو قيل : إن معنى كونه حسيبا ومحاسبا كونه عالما بما في الضمائر والسرائر فيغفر لمن يشاء وإن كان من أصحاب الكبائر لعموم اللفظ. وعند المعتزلة لمن استوجب المغفرة بالتوبة وهو تخصيص من غير دليل (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مستول على كل الممكنات بالقهر والغلبة والإيجاد والإعدام. فعلى كل عاقل أن يكون له عبدا منقادا خاضعا لأوامره ومراضيه ، محترزا عن مساخطه ومناهيه ليستحق المدح والثناء بقوله (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) فإن كمال الربوبية في الواجب يستلزم كمال العبودية في الممكن ، وكمال العبودية في الممكن يستتبع كمال الرحمة عليه وذلك قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخر السورة. أو نقول : إنه بدأ السورة بذكر المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، فبيّن في آخرها أن الذين مدحتهم في أول السورة هم أمة محمد (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) ثم قال هاهنا (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) كما قال هناك (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] وقال هاهنا (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) كما قال هنالك (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ثم حكى عنهم كيفية تضرعهم إلى ربهم بقوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) إلى آخر السورة كما قال هناك (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ١٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٠١ ، ٢٠٢. أبو داود في كتاب الطلاق باب ١٥. الترمذي في كتاب الطلاق باب ٨. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب ١٤. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٥).

٨٥

٥] أو نقول : إنه سبحانه لما ذكر في هذه السورة أنواع الشرائع والأحكام ، بيّن أن الرسول اعترف لمعجزة دلت له على صدق الملك أن ذلك وحي من الله وصل إليه ، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله معصوم من التحريف وليس بشيطان مضل. ثم ذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك لمعجزات أظهرها الله تعالى على يد الرسول حتى استدلت الأمة بها على أنه صادق في دعواه وهو المرتبة المتأخرة. ومن تأمل في نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه ، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم مبانيه. ولعل الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك. ثم هاهنا احتمالان : أحدهما أن يكون تمام الكلام عند قوله : (الْمُؤْمِنُونَ) فيكون المعنى آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم ابتدأ بقوله (كُلٌّ آمَنَ) فيكون الضمير الذي التنوين نائب عنه في كل عائدا إلى الرسول والمؤمنين أي كلهم آمن بل كل واحد ممن تقدم ذكره من الرسول والمؤمنين آمن ، ولهذا وحد. ومثل هذا الضمير يجوز أن يفرد بمعنى كل واحد ، ويجوز أن يجمع كقوله (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] وهذا الاحتمال يشعر بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان مؤمنا بربه ثم آمن ، فيحمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال وذلك أنه عرف بما ظهر من المعجزات على يد جبريل عليه‌السلام أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزل من عند الله تعالى وليس من باب إلقاء الشياطين ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة. والاحتمال الثاني أن يتم الكلام عند قوله (مِنْ رَبِّهِ) ثم ابتدأ من قوله (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) وفي هذا الاحتمال إشعار بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي نزلت عليه كما قال (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] أما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال فقد كان حاصلا منذ خلق من أول الأمر بل كان نبيا وآدم بين الماء والطين ، كما أن عيسى خلق كامل العقل حتى قال في المهد (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم : ٣٠] وعلى هذا فإنما خص الرسول بذلك لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون متلوا يسمعه الغير ويعرفه فيمكنه أن يؤمن به ، وقد يكون وحيا لا يعلمه سواه. فيكون هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختصا بالإيمان به ولا يتمكن الغير من الإيمان به.

واعلم أن الآية دلت على أن معرفة هذه المراتب الأربع من ضروريات الإيمان :

المرتبة الأولى هي الإيمان بالله سبحانه فإن صدق المبلغ والرسول يتوقف على وجود المبلغ والمرسل.

والثانية الإيمان بالملائكة فإنهم وسائط بين الله وبين البشر. (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ

٨٦

مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [النحل : ٢] (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥].

والثالثة الكتب فإنه الوحي الذي يتلقفه الملك ويوصله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فمثال الملك في عالم الصورة جرم القمر ، ومثال الوحي نور القمر. فكما أن القمر يستفيد من نور الشمس ويوصله إلينا فكذا الملك يأخذ الوحي من الله تعالى ويلقيه على الأنبياء فلا جرم وقع الرسل في المرتبة الرابعة. وهذا الترتيب مما تقتضيه حكمة عالم التكليف والوسائط وإلا فمقام لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل معلوم لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا سر تطلع منه على أسرار أخرى إن كنت من أهلها ، ثم الإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده وبصفاته وبأفعاله بأحكامه وبأسمائه. أما الإيمان بوجوده فهو أن تعلم أن وراء المتحيزات موجودا خالقا لها ، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقرا بوجود الإله تعالى فيكون الخلاف معهم في ذات الله تعالى. وأما الفلاسفة والمعتزلة فالخلاف معهم في الصفات لا في الذات ، لأنهم مقرون بوجود موجود غير متحيز ولا حال في المتحيز ، وأما الإيمان بصفاته فالصفات إما ثبوتية أو سلبية أو إضافية. وقد عرفت في تفسير البسملة ما يصح وصفه تعالى بها وما لا يصح ، وكذا في تفسير آية الكرسي. وأما الإيمان بأفعاله فأن تعلم أن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وتكوينه حتى الأفعال التي تسمى اختيارية للحيوانات ، وذلك أن مشيئة الإنسان محدثة منتهية إلى الله سبحانه فهو مضطر في صورة مختار. وقد حققنا هذه المسألة في تفسير قوله (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧] وأما الإيمان بأحكامه فإن تعلم أنها غير معللة بغرض وإن كان يترتب عليها الفوائد ، وأن تعلم أن المقصود من شرعها منافع عائدة إلى العباد لا إلى الله فإنه منزه عن جلب المنافع ودفع المضار ، وأن تعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ، وأن تعلم أنه لا يجب على الحق بسبب الأعمال شيء ، وأنه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله ولا يقبح منه شيء ، لأن الكل ملكه وملكه. وأما الإيمان بأسمائه فهي الأسماء الواردة في كتب الله المنزلة وفي كلمات أنبيائه المرسلة ، وقد مر في تفسير البسملة فهذا هو الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله. وأما الايمان بالملائكة فهو الإيمان بوجودها. فأما البحث عن أنها روحانية محضة ، أو جسمانية محضة ، أو مركبة من القسمين ، وبتقدير كونها جسمانية فلطيفة أو كثيفة ، وإن كانت لطيفة فنورانية أو هوائية فذاك مقام العلماء الراسخين في العلوم القرآنية والبرهانية. ويدخل في الإيمان بالملائكة اعتقاد أنهم معصومون ، وأن لذتهم بذكر الله ، وحياتهم بمعرفته وطاعته ، وأنهم وسائط بين الله وبين البشر ، وبهم وصلت الكتب إلى الأنبياء ، ولكل طائفة منهم مقام معلوم وجزء مقسوم من أقسام هذا العالم. وأما الإيمان بالكتب

٨٧

فإن تعلم أن كلها وحي من عند الله وليس لأحد من المخلوقات أن يلقي فيها شيئا من ضلالاتهم ولا سيما في القرآن العظيم. وإن من قال : إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان ، فقد أخرج القرآن عن كونه حجة وطرق إليه التغيير والتحريف. وأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، ومحكمه يكشف عن متشابهه. وأما الإيمان بالرسل فإن تعلم كونهم معصومين عن الذنوب في باب الاعتقاد في أمر التبليغ وفي الفتيا وفي الأخلاق وفي الأفعال كما مر في قصة آدم ، وأن تعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل ممن ليس بني خلافا لبعض الصوفية ، وأن بعض الأنبياء أفضل من بعض كما قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة : ٢٥٣] وأما فضلهم على الملائكة فقد قال بعضهم : إن الأنبياء أفضل من الملائكة. وقال كثير من العلماء : إن الملائكة السماوية أفضل منهم وإنهم أفضل من الملائكة الأرضية. وقد مر تحقيق ذلك في قصة آدم أيضا. وأن تعلم أن شرعهم وإن صار منسوخا إلا أن نبوتهم لم تصر منسوخة. وإنهم الآن أنبياء ورسل كما كانوا ، وناقش بعض المتكلمين في ذلك. فهذه إشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. وأما من قرأ وكتابه على الوحدة فإما أن يراد به القرآن ، ثم الإيمان به يتضمن الإيمان بمجموع الكتب والرسل. وإما أن يراد به جنس الكتب السماوية فإن اسم الجنس المضاف قد يفيد العموم كقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] وقال (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) [البقرة : ١٨٧] وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام. قال العلماء : قراءة الجمع أولى لمشاكلة ما قبله وما بعده. وقيل : قراءة الإفراد أولى لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع. ومن هنا قال ابن عباس : الكتاب أكثر من الكتب. ومن قرأ (لا نُفَرِّقُ) بالنون فلا بد من إضمار أي يقولون لا نفرق. ومن قرأ بالياء على أن الفعل لكل فلا حاجة إلى الإضمار ، ثم إن الجملة خبر أو حال واحد في معنى الجمع. أي بين كل منهم وبين آخر منهم ، فإن النكرة في سياق النفي تعم ولذلك صلحت لدخول «بين» عليها. وليس المراد بعدم التفريق عدم التفضيل لقوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة : ٢٥٣] بل المراد عدم التفريق في الإيمان بهم وفي اعتقاد نبوتهم لظهور المعجزات على أيديهم حسب دعاويهم. والغرض منه تزييف معتقد اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى دون نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن أبي مسلم : لا نفرق ما جمعوا كقوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣] واعلم أن قوله (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى قوله (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) إشارة إلى استكمال القوة العملية بالأعمال

٨٨

الفاضلة الكاملة. أو نقول : إن للإنسان أياما ثلاثة الأمس والبحث عنه يسمى معرفة المبدأ ، واليوم والبحث عنه يسمى بالوسط ، والغد والفحص عنه يسمى بعلم المعاد. فقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى قوله (مِنْ رُسُلِهِ) إشارة إلى معرفة المبدأ (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) إشارة إلى الوسط و (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) علم المعاد ومثله في آخر سورة هود (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) [هود : ١٢٣] وهو معرفة المبدأ لأن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة. وقوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [هود : ١٢٣] فيه بيان كمال العلم ، وقوله (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ) فيه كمال القدرة. وأما علم الوسط وهو علم ما يجب أن يشتغل به اليوم فبدايته الاشتغال بالعبودية وهو قوله : (فَاعْبُدْهُ) [هود : ١٢٣] ونهايته قطع النظر عن الأسباب ، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب وهو قوله (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣] وأما علم المعاد فقوله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود : ١٢٣] أي ليومك غد سيصل إليك فيه نتائج أعمالك ومثله (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٨٠] وهو معرفة المبدأ (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٨١] وفيه إشارة إلى عالم الوسط (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الصافات : ١٨٢] إشارة إلى علم المعاد كقوله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] والوقوف على هذه الأسرار إنما يكون بجذبة من ضيق عالم الأسرار إلى فسحة عالم الأنوار. أو نقول (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) إشارة إلى الأحكام العقليات (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) إشارة إلى الأحكام السمعيات. قال الواحدي : أي سمعنا قوله وأطعنا أمره. وقيل : حذف المفعول صورة. ومعنى هاهنا أولى ليفيد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله ، ولا أمر تجب إطاعته إلا أمره. والسماع هاهنا بمعنى القبول أي سمعناه بآذان عقولنا وعرفنا صحته وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام ، فهو حق صحيح واجب قبوله ، ثم قال (وَأَطَعْنا) فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها ، فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكاليف علما وعملا. (غُفْرانَكَ) مصدر منصوب بإضمار فعله أي اغفر. ويقال : غفرانك اللهم لا كفرانك. من قوله (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران : ١١٥] أي لن تعدموا جزاءه. وفي الكشاف : أي نستغفرك ولا نكفرك. وقيل : معناه نسألك غفرانك فيكون مفعولا به. والأشهر أنه مصدر حذف فعله وجوبا لكثرة الاستعمال وللاستغناء به عن فعله نحو : سقيا ورعيا. وهاهنا سؤال وهو أن القوم لما قبلوا التكليف وعملوا به فأي حاجة بهم إلى طلب المغفرة؟ والجواب لعلهم خافوا أن يكون قد فرط منهم تقصير فيما يأتون

٨٩

ويذرون ، أو لعلهم كانوا يرتقون في درجات العبودية فيستغفرون مما قد خلفوها ، ومن هاهنا قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» (١) على مثل هذا. ولأن جميع الطاعات في جنب مواجب حقوق الإلهية جنايات وتقصير وقصور ، ولهذا حكى عن أهل الجنة (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) [يونس : ١٠] أي أنت منزه عن تسبيحنا وتقديسنا (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] أي كل الحمد له ، وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا. ثم إن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين : أحدهما بالإضافة إليه ، والثاني بقوله : (رَبَّنا) أما القيد الأول فمعناه أطلب المغفرة منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة ، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب ويبدّلها حسنات. أو تكون الإضافة إشارة إلى ما ورد في الحديث «إن لله تعالى مائة جزء من الرحمة قسم جزءا منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فبها يتراحمون ويتعاطفون. وأخر تسعة وتسعين جزءا ليوم القيامة» (٢) أو لعل العبد يقول : كل صفة من صفاتك فإنما يظهر أثرها في محل معين. فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ، ولو لا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك ، ولو لا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لم يظهر آثار مغفرتك ورأفتك. فأنا أطلب الغفران الذي لا يمكن ظهوره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المذنبين. وأما القيد الثاني فمعناه ربيتني إذ أوجدتني مع أنك لو لم تربني في ذلك الوقت لم أتضرر به لأني كنت أبقى في العدم ، والآن لو لم تربني أتضرر به فأسألك أن لا تهملني. أو ربيتني حين لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تربيني وقد أفنيت عمري في توحيدك؟ أو ربيتني في الماضي فاجعل تربيتك لي في الماضي شفيعا إليك في أن تربيني في المستقبل ، أو ربيتني فيما مضى فأتمم هذه التربية فيما يستقبل فإن إتمام المعروف خير من ابتدائه ، (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) حيث لا حكم إلا حكمك ولا يشفع أحد إلا بإذنك. وفيه اعتراف بأنه تعالى عالم بالجزئيات قادر على كل الممكنات ، له المحيا وله الممات. قوله سبحانه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إن قلنا إنه

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ٤١. أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٦. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٤٧ باب ١. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٧. الدارمي في كتاب الرقاق باب ١٥. أحمد في مسنده (٢ / ٤٥).

(٢) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١٩. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٧. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٥.

٩٠

من تمام كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع وإنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا. وإن قلنا إنه من كلام الله تعالى مستأنفا فالوجه أنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا ثم طلبوا المغفرة ، دل ذلك على أنه لا يصدر عنهم زلة إلا على سبيل السهو والنسيان ، فلا جرم خفف الله تعالى عنهم إجابة لدعائهم. والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه كالصلوات الخمس وصوم رمضان والحج ، فإنه كان من إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة. ولكنه تعالى ما جعل في الدين من حرج لكمال رحمته وشمول رأفته. واعلم أن المعتزلة عولوا في نفي تكليف ما لا يطاق على هذه الآية ، ثم استنبطوا منها أصلين : الأول أن العبد موجد لأفعال نفسه إذ لو كان بتخليق الله تعالى لم يكن للعبد قدرة على دفعها لضعف قدرته ، ولا على فعلها إذ الموجود لا يوجد. ثانيا ، فتكليف العبد بالفعل يكون تكليف ما لا يطاق. الثاني أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان المأمور بالإيمان غير قادر عليه ، فيلزم تكليف ما لا يطاق. أما الأشاعرة فقالوا : تكليف من مات على الكفر كأبي لهب مع العلم بعدم إيمانه تكليف بالجمع بين النقيضين. والجواب أن العلم بعدم الإيمان ليس تكليفا بعدم الإيمان حتى يلزم التكليف بالنقيضين ، والتكليف بأمر ممكن لذاته ممتنع لغيره غير التكليف بأمر مستحيل لذاته الذي هو محل النزاع. لكن الأشعري لما كانت حجته قوية عنده خصص الآية بأنها إنما وردت في التكاليف الممكنة ، إذ التكليف بالممتنع ليس تكليفا بالحقيقة وإنما هو إعلام وإشعار بأنه خلق من أهل النار. على أنه لو جعلت من قول المؤمنين لم يبق فيها حجة ، ويحتمل أن يقال : لما حكاه عنهم في معرض المدح وجب أن يكونوا صادقين فيه (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) قال الواحدي : إن الكسب والاكتساب واحد. قال تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤] وقيل : الاكتساب أخص لأن الكسب لنفسه ولغيره ، والاكتساب ما يكتسب لنفسه خاصة. وقيل : في الاكتساب مزيد اعتمال وتصرف لهذا خص بجانب الشر دلالة على أن العبد لا يؤاخذ من السيئات إلا بما عقد الهمة عليه وربط القلب به بخلاف الخير فإنه يثاب عليه كيفما صدر عنه. قالت المعتزلة : في الآية دليل على أن الخير والشر كلاهما مضاف إلى العبد ، ولو كانا بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة وجرى صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله مما لا قدرة له عليه البتة ، ولانتفت فائدة التكليف وقد سبق تحقيق المسألة مرارا ، وكذا تفسير الكسب وبيان المذاهب فيه في تفسير وبيان المذاهب فيه في تفسير قوله (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة : ١٣٤]. واحتج الأصحاب بالآية على فساد القول بالمخاطبة لأنه تعالى بيّن أن لها

٩١

ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت ، وهذا صريح في أن الاستحقاقين يجتمعان ، وأنه لا يلزم من طرّو أحدهما زوال الآخر. وقال الجبائي : تقدير الآية لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم يبطله ، وعليها ما اكتسبت إذا لم يكفر بالتوبة وإنما أضمرنا هذا الشرط لأن الثواب منفعة دائمة والعقاب مضرة دائمة ، والجمع بينهما محال. واحتج كثير من المتكلمين بالآية في أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم ، والفقهاء تمسكوا بها في إثبات أن الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار. وفرعوا عليه مسائل منها : أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان ، لأن المقتضى لبقاء الملك قائم وهو قوله (لَها ما كَسَبَتْ) والعارض الموجود إما الغصب وإما الضمان وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبر. ومنها أنه لا شفعة للجار لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله (لَها ما كَسَبَتْ) عدلنا عن الدليل في الشريك لكثرة تضرره بالشركة فيبقى في الجار على الأصل. ومنها أن القطع لا يسقط الضمان لوجود المقتضي ، والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقيا وجب رده على المالك. ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به ، والجواب أن دلائل وجوب الزكاة أخص والخاص مقدم على العام.

ثم إنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء :

الأول (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ومعنى لا تؤاخذنا لا تعاقبنا. وقد يكون فاعل بمعنى فعل نحو : سافرت وعاقبت اللص. وقيل : معنى المشاركة هاهنا أن الناسي قد أمكن من نفسه وطرّق السبيل إليها بفعله فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه. وفي التفسير الكبير : إن الله يأخذ المذنب بالذنب والمذنب يأخذ ربه بالعفو والكرم أي يتمسك عند الخوف من عذابه برحمته ، وهذا معنى المؤاخذة بين العبد والرب. والمراد بالنسيان إما الترك وهو أن يترك الفعل لتأويل فاسد كما أن الخطأ هو أنه يفعل الفعل لتأويل فاسد ومنه قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] أي تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم ، وإما ضد الذكر. وأورد عليه أن النسيان والخطأ متجاوز عنهما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (١) فما معنى الدعاء؟ والجواب من وجوه : الأول أن النسيان منه ما يعذر صاحبه فيه ومنه ما لا يعذر. فمن رأى دما في ثوبه وأخر إزالته إلى أن نسي فصلى وهو على ثوبه عد مقصرا إذا كان يلزمه المبادرة إلى إزالته. وكذا إذا تغافل عن تعاهد القرآن حتى نسي فإنه يكون ملوما بخلاف ما لو واظب على القراءة ومع

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب ١٦.

٩٢

ذلك نسي فإنه يكون معذورا. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطا في أصبعه فثبت أن الناسي قد لا يكون معذورا وذلك إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر ، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء. والحاصل أنه ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنهما من التفريط والإغفال. الثاني أن هذا على سبيل الفرض والتقدير وذلك أنهم كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه الخطأ والنسيان ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به فكأنه قيل : إن كان النسيان مما يجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به. الثالث أن العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه بالدعاء ، فربما يدعو الإنسان بما يعلم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله إما لاستدامته وإما لاعتداد تلك النعمة أو لغير ذلك كقوله (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢] (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] وقالت الملائكة : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) [غافر : ٧]. الرابع أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلا وإنما عرف عدم المؤاخذة بالآية والحديث ، فلما كان ذلك جائزا في العقل حسن طلب المغفرة منه بالدعاء. وقد يتمسك به من يجوّز تكليف ما لا يطاق فيقول الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل ، فلو لا أنه جائز من الله تعالى عقلا لما أرشد الله تعالى إلى طلب ترك المؤاخذة عليه. وقد يستدل به على حصول العفو لأهل الكبائر قالوا : إن النسيان والخطأ لا بد أن يفسرا بما فيه العمد والقصد إلى فعل ما لا ينبغي. إذ لو فسرا بما لا عمد فيه فالمؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم ، وما يقبح من الله فعله يمتنع طلب تركه بالدعاء. وإذا فسرا بما ذكرنا وقد أمر الله المسلمين أن يدعوه بترك المؤاخذة على تعمد المعصية دل ذلك على أنه يعطيهم هذا المطلوب فيكون العفو لصاحب الكبيرة مرجوا.

النوع الثاني : من الدعاء (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) الإصر الثقل والشدة ثم يسمى العهد إصرا لأنه ثقيل. والإصر العطف لأن من عطفت عليه ثقل على قلبك ما يصل إليه من المكاره. يقال : ما تأصرني على فلان آصرة أي ما تعطفني عليه قرابة ولا منة ، والمعنى لا تشدد علينا في التكاليف كما شدّدت على من قبلنا من اليهود ، قال المفسرون : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، وكان عذابهم معجلا في الدنيا. فأجاب الله تعالى دعاءهم كما قال : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق» وإنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير والتقصير موجب العقوبة. وقيل : معناه لا تحمل علينا عهدا أو ميثاقا يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة وهو قريب من الأول. قال بعض العلماء : اليهود لما كانت الفظاظة

٩٣

وغلظ القلب غالبة عليهم كانت مصالحهم في التكاليف الشديدة الشاقة ، وهذه الأمة الرقة وكرم الخلق غالبة عليهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ. وأما أن اليهود لم خصت بغلظ الطبع وهذه الأمة باللطافة والكرم فليس إلينا أن نعلم تفاصيل جميع الكائنات وما لا يدرك كله لا يترك كله.

النوع الثالث : الدعاء (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ومن الأصحاب من تمسك به في جواز تكليف ما لا يطاق إذ لو لم يكن جائزا لما حسن طلب تركه بالدعاء. وأجاب المعتزلة عنه بأن معنى قوله : (لا طاقَةَ لَنا) أي ما يشق فعله لا الذي لا قدرة لنا عليه. وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في المملوك : «له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» أي لا يشق عليه. وزيف بأن معناه ومعنى الآية المتقدمة يكون حينئذ واحدا فعدلوا عن ذلك وقالوا : المراد منه العذاب أي لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله. سلمنا أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم ما لا قدرة لهم عليه ، لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلاف ذلك كما أن قوله (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) لا يدل على جواز أن يحكم بباطل. وكذا قول إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧] لا يدل على أن خزي الأنبياء جائز. قيل : لم خص التكليف الشاق بالحمل والتكليف الذي لا قدرة عليه بالتحميل؟ وأجيب بأن الحاصل فيما لا يطاق هو التحميل دون الحمل. قيل : لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق كان من لوازمه أن لا يكلفه بما لا يطاق فكان المناسب طرح هذا الدعاء لا أقل من عكس الترتيب. والجواب على تفسير المعتزلة ظاهر أي لا تحملنا عذابك فإنهم طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وأما على تفسير الأشاعرة فهو أنهم سألوا أن لا يكلفهم تكليفا شاقا مقيدا وهو التكليف بما كلف من قبلهم ، ثم سألوا أن لا يكلفهم التكليف الشاق الذي لا قدرة لهم عليه مطلقا سواء كلف بذلك من قبلهم أم لا. وقيل : الأول طلب ترك التشديد في مقام القيام بظاهر الشريعة ، والثاني طلب ذلك في مقام الحقيقة وهو مقام الاشتغال بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمه أي لا تطلب مني حمدا يليق بجلالك ولا شكرا يليق بآلائك ونعمائك ، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك وكمالك. وأما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بصيغة الجمع في (لا تُؤاخِذْنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا) فذلك أنه إذا اجتمعت النفوس والهمم على كل شيء كان حصوله أرجى.

النوع الرابع من الدعاء (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) وإنما حذف النداء وهو قوله «ربنا» هاهنا لأن النداء يشعر بالبعد. فترك النداء يؤذن بأن العبد إذا واظب على التضرع

٩٤

والدعاء نال مقام القربة والزلفى من الله. والفرق بين العفو والمغفرة والرحمة أن العفو إسقاط العذاب ، والمغفرة أن يستر عليه بعد ذلك جرمه صونا له عن عذاب التخجيل والفضيحة فإن الخلاص من عذاب النار إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة. فالأول هو العذاب الجسماني والثاني هو العذاب الروحاني. وبعد التخلص منهما أقبل على طلب الثواب وهو أيضا قسمان : جسماني هو نعيم الجنة وطيباتها وهو قوله (وَارْحَمْنا) وروحاني هو إقبال العبد بكليته على مولاه وهو قوله (أَنْتَ مَوْلانا) ففيه الاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة ينالونها ، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها ، وأنهم بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه ، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه. وبهذا الاعتراف يحق الوصول إلى الحق «من عرف نفسه» أي بالإمكان والنقصان «عرف ربه» أي بالوجوب والتمام. ثم إذا وصل إلى الحق أعرض بالكلية عما سواه وهو قوله (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أعنا على قهر كل من خالفك وناواك وعلى غلبة القوى الجسمانية الداعية إلى ما سواك.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة قيل : وما البطلة؟ قال : السحرة» (١) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (٢) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي» (٣) وعنه صلى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» وروى الواحدي عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السماء أعطي خواتيم سورة البقرة فقالت الملائكة له : إن الله عزوجل أكرمك بحسن الثناء بقوله (آمَنَ الرَّسُولُ) فاسأله وارغب إليه. فعلّمه جبريل عليه‌السلام كيف يدعو فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (غُفْرانَكَ رَبَّنا) فقال الله : قد غفرت لكم. فقال : (لا تُؤاخِذْنا) فقال الله : لا أؤاخذكم. فقال : لا تحمل علينا إصرا. فقال : لا أشدد عليكم. فقال : لا تحملنا ما لا طاقة لنا به. فقال : لا أحملكم ذلك. فقال : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) فقال الله : قد عفوت عنكم

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ١٣.

(٢) رواه البخاري في كتاب المغازي باب ١٢. مسلم في كتاب المسافرين حديث ٢٥٥. أبو داود في كتاب رمضان باب ٩. الترمذي في كتاب ثواب القران باب ٤. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٨٣. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٧٠.

(٣) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٤٧ ، ١٥٨) ، (٥ / ١٥١)

٩٥

وغفرت لكم وأنصركم على القوم الكافرين. وفي بعض الروايات أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يذكر هذه الدعوات والملائكة كانوا يقولون آمين.

التأويل : الإنسان مركب من عالمي الأمر والخلق. له روح نوراني من عالم الأمر والملكوت ، وله نفس ظلمانية من عالم الخلق والملك ، ولكل منهما نزاع وشوق إلى عالمه. فغاية بعثة الأنبياء تزكية النفوس عن ظلمة أوصافها وتحليتها بأنوار الأرواح ، وحاصل تسويل الشيطان عكس هذه القضية وإليه الإشارة في قوله (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) مودع من أنوار الأخلاق الروحانية في الظاهر بأعمال الشريعة في الباطن بأحوال الحقيقة (أَوْ تُخْفُوهُ) بإبراز ظلمات الأوصاف النفسية في الظاهر بمخالفات الشريعة ، وفي الباطن بموافقات الطبيعة (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) بطهارة النفس لقبول أنوار الروح أو بتلوث الروح لقبول ظلمات النفس (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) فينور نفسه بأنوار الروح وروحه بأنوار الحق (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) فيعاقب نفسه بنار دركات السعير وروحه بنار فرقة العلي الكبير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الأمر والخلق (قَدِيرٌ) لما عرج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سدرة المنتهى وبلغ المقصد الأعلى (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩] أكرم بالسلام قبل الكلام فقيل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فقيل له (آمَنَ الرَّسُولُ) عبانا (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فقال من كمال رأفته بأمته (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) إلى قوله (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فقال الله تعالى : ما يطلبون مني في جزاء السمع والطاعة؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) ما يطلبون إلا أن تسترهم بسربال فضلك ويكون مصيرهم إليك لا إلى غيرك كما كان مصيري إليك لا إلى من سواك. قال الله في جوابه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إنك في مقام لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولهذا قال لك جبريل : لو دنوت أنملة لاحترقت. وإن الأنبياء والمرسلين الذين اصطفيناهم على العالمين وكل طائفة منهم في سماء واقفون حبستهم رحمتي كيلا تحرقهم سبحات وجهي وسطوات قهري ، فكيف أكلف أمتك المذنبة المرحومة بهذا المصير وأنا بضعف حالهم بصير؟ وإنما بلغك هذا المقام حتى جاوزت الرسل الكرام أن اتخذتك حبيبا قبل أن أخلقك وخلقت الكائنات لمحبتك ولأن أمتك أكرم الأمم ، ولهم بسبب شفاعتك اختصاص بمحبتي إياهم ما داموا في متابعتك فقل لهم (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] فبقدر ما كسبت أمتك من أنوار متابعتك تستحق المصير إلى حضرة جلالنا وشواهد جمالنا ، وعلى قدر ما اكتسبت بالتواني عن ظل متابعتك تستأهل المصير إلى دركات السعير. فتارة

٩٦

أسكره لذة هذا الخطاب وأخرى أقحمته سطوة هذا العتاب. فقال (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي لا تعاقب أمتي إن نسيت عهدك الذي عاهدتهم أن يحبوك ولا يحبوا غيرك ، أو أخطأت طريق طلبك ولكن ما أخطأت طريق عبوديتك فلم يعبدوا غيرك وأنت قلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) بأن تجعلنا أسرى النفس الأمارة فنعبد عجل الهوى ونار الشهوات كما عبد الذين من قبلنا (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا) بالصبر عن شهود جمالك (وَاعْفُ عَنَّا) حجب أنانيتنا (وَاغْفِرْ لَنا) بشواهد هويتك (وَارْحَمْنا) برفع البينونة من بيننا (أَنْتَ مَوْلانا) وولينا في رفع وجودنا وناصرنا في نيل مقصودنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بجذبات عنايتك وأعنا في المصير إليك على قمع كفار الاثنينية التي تمنعنا من وحدتك.

بيني وبينك إنّي يزاحمني

فارفع بجودك إنّي من البين

٩٧

(سورة آل عمران وهي مدنية حروفها ٤٤٢٤ كلماتها ٤٨٥ آياتها مائتان)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١))

القراآت : (الم اللهُ) مقطوعة الألف والميم ساكنة : يزيد والمفضل والأعشى والبرجمي الباقون موصولا بفتح الميم. (التَّوْراةَ) ممالة حيث كان : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف والنجاري عن ورش ، والخزاز عن هبيرة ، وابن ذكوان غير ابن مجاهد (كَدَأْبِ) حيث كان بغير همزة : أبو عمرو وغيره شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش والخزاز عن هبيرة وحمزة عن الوقف.

الوقوف : (الم) ج كوفي مختلف فإن غير الأعشى والبرجمي ويزيد والمفضل يصلون. (إِلَّا هُوَ) ج (الْقَيُّومُ) ط (وَالْإِنْجِيلَ) ط (الْفُرْقانَ) ط (شَدِيدٌ) ط (انْتِقامٍ) ه ، (فِي السَّماءِ) ط (كَيْفَ يَشاءُ) ط (الْحَكِيمُ) ه ، (مُتَشابِهاتٌ) ط لاستئناف تفصيل (وَابْتِغاءَ

٩٨

تَأْوِيلِهِ) ج لأن الواو تصلح استئنافا والحال أليق (إِلَّا اللهُ) م عند أهل السنة لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه كما يعلم الله ، ومن لم يحترز عن هذا وجعل المتشابه غير صفة الله ذاتا وفعلا من الأحكام التي يدخلها القياس والتأويل وجعل المحكمات الأصول النصوص الجمع عليها فعطف قوله (وَالرَّاسِخُونَ) على اسم الله وجعل (يَقُولُونَ) حالا لهم ساغ له أن لا يقف على (إِلَّا اللهُ). (آمَنَّا بِهِ) (لا) لأن قوله (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) من مقولهم فإن التسليم من تمام الإيمان. (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ج لاحتمال أن ما بعده مقولهم (الْأَلْبابِ) ه ، (رَحْمَةً) ج للابتداء بأن ولاحتمال لام التعليل أو فاء التعقيب للتسبيب (الْوَهَّابُ) ه ، (فِيهِ) ط (الْمِيعادَ) ه ، (شَيْئاً) ط (النَّارِ) (لا) لتعلق كاف التشبيه (فِرْعَوْنَ) (لا) للعطف ، (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط ، (بِآياتِنا) ج للعدول مع فاء التعقيب (بِذُنُوبِهِمْ) ط (الْعِقابِ) ه.

التفسير : أما قراءة عاصم فلها وجهان : الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء. الثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل. وأما من فتح الميم ففيه قولان : أحدهما قول الفراء واختيار كثير من البصريين وصاحب الكشاف أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر تقول : ألف ، لام ، ميم كما تقول : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، وعلى هذا وجب الابتداء بقوله (اللهُ) فإذا ابتدأنا به تثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف وألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها ، فكأن الهمزة ساقطة بصورتها باقية بمعناها. وثانيهما قول سيبويه وهو أنه لما وصل (اللهُ) ب (الم) التقى ساكنان بل سواكن ضرورة سقوط الهمزة في الدرج ، فوجب تحريك الأول أعني الوسطاني منها وهو الميم وكان الأصل هو الكسر إلا أنهم فتحوا الميم محافظة على التفخيم. فافتحة على هذا القول ليست هي المنقولة من همزة الوصل فلا يرد عليه ما يرد على القول الأول من أن الهمزة حيث لا وجود لها في الوصل أصلا فكيف تنقل حركتها. قال الواحدي : نقل المفسرون أنه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نجران ستون راكبا فبهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم ، أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم ووزيرهم ، وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم ، والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل. وكان ملوك الروم شرفوه وموّلوه فأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينما بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه : تعس الأبعد يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال أبو حارثة : بل تعست

٩٩

أمك. فقال : ولم يا أخي؟ فقال : إنه والله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ننتظره. فقال له أخوه كرز : فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة وأكرمونا. فلو آمنا بمحمد لأخذوا منا كل هذه الأشياء. فوقع ذلك في قلب أخيه كرز وكان يضمره إلى أن أسلم ، وكان يحدث بذلك ، ثم تكلم أولئك الثلاثة ـ الأمير والسيد والحبر ـ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اختلاف من أديانهم. فتارة يقولون عيسى هو الله ، وتارة ابن الله ، وتارة ثالث ثلاثة ، ويحتجون لقولهم هو «الله» بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ، ويحتجون في قولهم «إنه ولد الله» بأنه لم يكن له أب يعلم ، ويحتجون على «ثالث ثلاثة» بقول الله تعالى : «فعلنا وفعلنا» ولو كان واحدا لقال «فعلت». وقد حان وقت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دعوهم. فصلوا إلى المشرق ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسلموا. فقالوا : قد أسلمنا قبلك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كذبتم. كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولدا ، وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير؟ قالوا : فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها آية المباهلة. ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناظر معهم فقال : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أنه حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ فهل يملك عيسى شيئا من ذلك؟ قالوا : لا. قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلا ما علم؟ قالوا : لا. قال : فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ، وتعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة وغذي كما يغذى الصبي ، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا : بلى. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكيف يكون هو كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا حجودا ثم قالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : بلى ، قالوا : فحسبنا. ففي ذلك نزل (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الآية. وتمام القصة سيجيء في آية المباهلة إن شاء الله تعالى.

واعلم أن مطلع هذه السورة له نظم عجيب ونسق أنيق. وذلك أن أولئك النصارى كأنه قيل لهم : إما أن تنازعوه في شأن الإله أو في أمر النبوة. أما الأول فالحق فيه معه لأنه تعالى حيّ قيوم كما مر في تفسير آية الكرسي ، وأن عيسى ليس كذلك لأنه ولد وكان يأكل ويشرب

١٠٠