تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم. قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) قالت الأشاعرة : معنى هذا الصرف أنه تعالى رد المسلمين عن الكفار وحالت الريح دبورا وكانت صبا حتى وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل منهم من قتل واستولى الكفرة. ولا يتوجه عليهم إشكال لأن من مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه. وأما المعتزلة فلم يرضوا بهذا التفسير وقالوا : كيف يضيف الصرف بهذا المعنى إلى نفسه والصرف عن الكفار معصية وقد أضافها إلى الشيطان في قوله (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) وأيضا إنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز المعاتبة على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم؟ فعند ذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها. قال الجبائي : إن الرماة كانوا فريقين : بعضهم فارقوا المكان أوّلا لطلب الغنائم ، وبعضهم بقوا هناك إلى أن أحاط بهم العدو ، وعلموا أنهم لو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو. ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه فتحصنوا به ، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الله إلى نفسه بمعنى أنه كان يأمره وبإذنه. ثم قال (لِيَبْتَلِيَكُمْ) والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا فيه أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين. ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقاربهم وأحبائهم ، من أعظم أنواع الابتلاء ، فإذن الآية مشتلمة على المعذورين في الانصراف وعلى غير المعذورين. فقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) يرجع إلى المعذورين ، وقوله (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) يرجع إلى غير المعذورين. وسبب العفو ما علم من ندمهم على ما فرط منهم من عصيان أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الكعبي : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) بكثرة الأنعام عليكم والتخفيف عنكم. وقال أبو مسلم الأصفهاني : المعنى من الصرف أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة لهم على عصيانهم وفشلهم. ومعنى الابتلاء أنه جعل ذلك الصرف محنة عليهم ليتوبوا عما خالفوا فيه أمره ، ثم أعلمهم أنه قد عفا عنهم. قال القاضي : ظاهر قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) يقتضي تقدم ذنب منهم. فإن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بالعفو عنهم من غير توبة ، وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو. وقالت الأشاعرة : لا شك أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ، وصارت تلك

٢٨١

المخالفة سببا لانهزام عسكر الإسلام ولقتل جم غفير من الصحابة. ثم إن ظاهر الآية دل على أنه تعالى قد عفا عنهم من غير توبة لأنها غير مذكورة فصارت الآية دليلا على أنه قد يعفو عن أصحاب الكبائر. (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال ، سواء كانت الدولة لهم أو عليهم ، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة. وقد يستدل بالآية على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنه سماهم مؤمنين خلاف ما يقوله المعتزلة من أنه لا مؤمن ولا كافر.

قوله سبحانه : (إِذْ تُصْعِدُونَ) إما مستأنف بإضمار «واذكر» ، وإما أن يتعلق بما قبله أي عفا عنكم إذ تصعدون ، لأن ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين ذنب اقترفوه. أو المعنى ليبتليكم إذ تصعدون ، أو ثم صرفكم حين إصعادكم ، والإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها. قال أبو معاذ النحوي : كل شيء له أسفل وأعلى كالوادي والنهر والأزقة فيقال فيه أصعد إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه ، وأما ما ارتفع كالسلم والجبل فإنه يقال صعد. (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) لا تلتفتون إليه. وأصله أن المعرّج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) كان يقول : إليّ عباد الله ، أنا رسول الله من كرّ فله الجنة. فيحتمل أنه كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا ، ويحتمل أنه كان يدعوهم إلى محاربة العدو. (فِي أُخْراكُمْ) في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقي هو في الجماعة المتأخرة. يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى. (فَأَثابَكُمْ) قال في الكشاف : إنه عطف على صرفكم. وأقول : لا يبعد أن يعطف على (تُصْعِدُونَ) لأنه بمعنى أصعدتم بدليل أن يقال : ثاب إليه أي رجع. والمرأة تسمى ثيبا لأن واطئها عائدا إليها. فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله خيرا كان أو شرا إلا أن العرف خصه بالخير. فإن حملنا لفظ الآية على أصل اللغة استقام بلا تأويل ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان واردا على سبيل التهكم كقولهم : عتابك السيف وتحيتك الضرب. أي جعل مكان ما يرجون من الثواب الغم وهو في الأصل التغطية ومنه الغمام ، فكأن الغم يستر وجه اللذة والسرور. والباء في (بِغَمٍ) يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة نحو : بعت هذا بذاك ، ويحتمل أن تكون بمعنى المصاحبة. أما الاحتمال الأول ففيه وجوه : قال الزجاج : إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيان أمره ، أذاقكم الله غم الانهزام. وقيل : المجازاة والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم. وقال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين. وفي الكشاف : يجوز أن يكون الضمير في (فَأَثابَكُمْ)

٢٨٢

للرسول أي فآساكم في الاغتنام. فكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته وشج وجهه وقتل عمه وغيره ، غمه ما نزل بكم من قتل الأعزة ومن الانضمام في سلك العصاة لطلب الغنيمة ثم الحرمان عنها. وأما الاحتمال الثاني ففيه وجهان : أحدهما أن يكون هناك غمان : الأوّل ما أصابهم عند الفشل والتنازع ، والثاني ما حصل عند الهزيمة. أو الأول غم فوت الغنائم ، والثاني أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعا عظيما. أو الأول هذا والثاني خوفهم من رجوع المشركين واستئصال المسلمين. أو الأول ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم ، والثاني غم الإرجاف بقتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو الأول خوف عقاب المعصية ، والثاني غم التوبة فإنها لا تتم إلا بالعود إلى المحاربة ، وإذا أمر بالمعاودة بعد القلة والذلة فإن فعل غلب على ظنه القتل ، وإن لم يفعل خاف الكفر وعقوبة الآخرة. وثانيهما أن يراد بغم مع مواصلة الغموم وتتابعها وكثرتها ، فيشمل جميع الغموم المعدودة وما ينخرط في سلكها. ثم اللام في قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) يحتمل أن يتعلق بقوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل هم وحزن ، وإما أن يتعلق بقوله : (فَأَثابَكُمْ) فيكون المعنى على قول الزجاج : إنه عاقبهم بغم الهزيمة ليتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار ، وليصير ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله. وعلى قول الحسن : جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلهم مغمومين يوم بدر لكيلا تحزنوا بإدبار الدنيا ومصائبها ، ولا تفرحوا بإقبالها وعوائدها. قالت الأشاعرة : معنى إثابة الغم من الله تعالى خلق الغم فيهم ولا يقبح منه شيء. وأما المعتزلة فإنهم يقولون : الغم فعل العبد لكنه أسند إليه تعالى لأنه طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون. وإن سلم أنه بخلق الله فلرعاية المصالح ، وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين فإن ذلك كفر ومعصية ، ولكن الغرض أن لا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله ، ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال. وإن جعل الإثابة مسندا إلى الرسول فإنما فعل ذلك ليسليهم وينفس عنهم لئلا يحزنوا على ما فاتهم من نصر الله ولا على ما أصابهم من غلبة العدوّ. وإن جعلت الباء بمعنى «مع» فالمعنى كما في قول الزجاج : أو المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة ، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك ، فيصير هذا مانعا لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة في وقعة أخرى. ثم كما زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) عالم بجميع

٢٨٣

أعمالكم وقصودكم ودواعيكم فيجازيكم بحسب ذلك. ثم أخبر أن الذين كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فريقان : أحدهما الجازمون بحقية هذا الدين وأن هذه الواقعة لا تؤدي الى الاستئصال لإخبار الصادق أن هذا الدين سيظهر على سائر الأديان ، فخاطب الجماعة بقوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) وأراد هؤلاء بقول : (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) والأمنة مصدر كالأمن ومثله من المصادر العظمة والغلبة. والنعاس فتور في أوائل النوم. وانتصاب (أَمَنَةً) على أنها حال متقدمة من (نُعاساً) مثل : رأيت راكبا رجلا ، أو مفعول له بمعنى نعستم أمنة ، أو على أنه حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة ، أو على جمع آمن كبارّ وبررة ، أو على أنه مفعول (أَنْزَلَ) و (نُعاساً) بدل منه. قال أبو طلحة : غشانا النعاس ونحن في مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وما أحد إلّا ويميل تحت حجفته. وعن الزبير : كنت مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم. والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) وعن ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان. وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله. وكان في ذلك النعاس فوائد منها : أن شموله للمؤمنين كلهم لا في الوقت المعتاد معجزة ظاهرة جديدة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجبة لزيادة وثوقهم بأن الله ينجز وعده وينصرهم ، فيزداد جدهم واجتهادهم في الجهاد. ومنها أن الأرق والسهر يوجبان الفتور والكلال ، والنعاس يجدد القوة والنشاط. ومنها شغلهم عن مشاهدة قتل الأعزة والأحبة. ومنها أن الأعداء كانوا حراصا متهالكين في قتلهم. فبقاؤهم سالمين في تلك المعركة وهم في النوم من أدل الدلائل على أن حفظ الله وكلاءته معهم. ومن الناس من زعم أن ذكر النعاس هاهنا كناية عن غاية الأمن وهذا صرف للفظ عن ظاهره من غير ضرورة مع أن فيه إبطال الفوائد والحكم المذكورة. واعلم أن من قرأ (تَغْشى) بالتاء فللعود إلى الأمنة ويؤيده أن الأمنة مقصودة بالذات ، والنعاس مقصود بالعرض ، ولأنها متبوع وأنه تابع. ومن قرأ بالياء فللعود إلى النعاس ، وينصره كونه أقرب ، وكون المبدل منه في حكم النحي ، وموافقته لقوله في قصة بدر (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) [الأنفال : ١١] ولأن العرب تقول : غشية النعاس ، وقلما يقولون غشيه الأمن ، ولأن النعاس والأمنة لما كانا شيئا واحدا كان التذكير أولى. وأما الفريق الثاني فهم المنافقون الذين كانوا في شك من نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة كعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم ، فأخبر عنهم بقوله : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ النبي ولا المسلمين. والهمّ

٢٨٤

الأمر الشديد. ويقال : أهمه ذلك الأمر أي أقلقه وأحزنه. فالمعنى أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان منهم بسبب التشكك وعدم الثبات. والتحقيق فيه أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلا عما سواه ، فلما كان أحب الأشياء عندهم هو النفس ، وكانت أسباب الخوف على النفس هناك موجودة والدافع لذلك وهو الوثوق بنصر الله ووعده غير حاصل لهم فلم يكن لهم هناك إلا همّ أنفسهم. (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) وهو في حكم المصدر أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به. و (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل منه. والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة ، وأرداها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولا أنهم يظنون بالله ظنا باطلا ، ثم بين أنهم اختاروا من الأديان أرذلها كما يقال : فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة. أو (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) مصدر و (غَيْرَ الْحَقِ) تأكيد لـ (يَظُنُّونَ) كقولك : هذا القول غير ما تقول. و (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) كقولك : حاتم الجود ورجل صدق. مما أضيف للملابسة أي الظن المختص بالملة الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام. أو أريد ظن أهل الجاهلية وهم أهل الشرك الجاهلون بالله. فالجاهلية مصدر كالعالمية والقادرية. قيل : إن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون الإله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ، وينكرون النبوة والمعاد ، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يقوّيهم وينصرهم. وقيل : الظن هو أنهم كانوا يقولون : لو كان محمد نبيا حقا لم يسلط الله الكفار عليه ، وهذا ظن فاسد. أما عند أهل السنة فلأنه تعالى فاعل لما يشاء ولا اعتراض لأحد عليه ، وإذا شرف المولى عبده بخلعة لم يجب أن يشرفه بأخرى. وأما عند من يعتبر المصالح في أفعاله وأحكامه فلا يبعد أن يكون في التخلية بين الكافر والمسلم وغير ذلك من المصائب حكم خفية. ولو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال المصائب عنه اضطر الناس الى معرفة الحق ، وكان ينافي التكاليف واستحقاق الثواب والعقاب. وإنما يعرف كون الإنسان محقا بالدلائل والبينات ، ولا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة والمال والجاه على حقية صاحبها والله أعلم. (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) حكاية شبهة تمسك بها أهل النفاق فاستفهموا عنها على سبيل الإنكار. وإنما يحتمل وجوها : أحدها هل لنا من التدبير من شيء يعنون رأي عبد الله بن أبي وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقبل قوله حين أمره أن يسكن في المدينة ولا يخرج منها. ونظيره ما حكى عنه (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٦٨] وثانيها من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لأحد قالوا له الأمر ، وإذا كانت لعدوّه قالوا عليه الأمر. أي هل لنا من الأمر الذي كان يعدنا به محمد وهو النصر والقدرة شيء؟ وثالثها أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ والغرض منه تعيير المسلمين على التسديد في

٢٨٥

الجهاد ، فأمره الله تعالى أن يجيب عنها بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) والحوادث بأسرها مستندة الى قضائه وقدره. فإذا كان قدر الخروج إلى الكفار واختصاص جمع من الصحابة بالشهادة فلا مفر من ذلك ، وإذا أراد إعلاء كلمة الإسلام وإظهار هذا الدين على الأديان وقع لا محالة. (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) في ضمائرهم أو فيما بينهم (ما لا يُبْدُونَ لَكَ) وذلك المخفي قولهم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي لو كان هذا الدين حقا لما سلط الله الكفار على من يذب عنه ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، فأمر الله تعالى نبيه أن يجيبهم بقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) وهي مصارعهم التي قتلوا فيها ، لأن ما كتب الله في اللوح لم يكن بد من وجوده. فلو قعدتم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم أن يقتلوا في المصارع المعلومة حتى يوجد ما علم الله وجوده. وقيل : معناه لو تخلفتم أيها المنافقون عن الجهاد ، لخرج المؤمنون الذين كتب الله عليهم قتال الكفار إلى مصارعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم ، على أن البروز إلى هذه المصارع لا يخلو عن الفوائد وذلك قوله : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) خص الابتلاء بما في الصدور والتمحيص بما في القلوب إما لاختلاف العبارة ، وإما لأن الابتلاء محله القلب الذي في الصدر. والتمحيص مورده الهيئات والعقائد التي في القلب. واعلم أن نسق هذه الآية أنيق ونظمه عجيب. أما نسقه فقوله : (وَطائِفَةٌ) مبتدأ و (أَهَمَّتْهُمْ) صفته و (يَظُنُّونَ) خبره. ويحتمل أن يكون خبره محذوفا أي وثمة ، أو ومنهم طائفة أهمتهم ، و (يَظُنُّونَ) صفة أخرى ، أو حال بمعنى أهمتهم أنفسهم ظانين ، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها ، و (يَقُولُونَ) بدل من (يَظُنُّونَ) أو بيان له. وإنما صح وقوع القول الذي مقوله إنشاء بدلا من الإخبار بالظن لأن سؤالهم كان صادرا عن الظن. و (يُخْفُونَ) حال من (يَقُولُونَ) و (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اعتراض بين الحال وذي الحال ، فمن قرأ (كُلَّهُ) بالرفع فلأنه مبتدأ و (لِلَّهِ) خبره ، والجملة خبر «إن». ومن قرأ بالنصب فلكونه تأكيدا للأمر و (لِلَّهِ) خبر «إن» كما لو قلت : إن الأمر أجمع لله. وقوله : (يَقُولُونَ) استئناف ، وقوله : (وَلِيَبْتَلِيَ) تقدم ذكره في الوقوف. وأما نظمه فإنه لما أخبر عن هذه الطائفة بأنهم يظنون ظن الجاهلية ، فسر ذلك الظن بأنهم يقولون هل لنا من الأمر من شيء ، لأن هذا القول لا يصدر إلا عمن كان ظانا بل شاكا في حقية هذا الدين وفي المبدأ والمعاد وفي القضاء والقدر ، فأزال ذلك الظن بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) بيده الإماتة والإحياء والفقر والإغناء والسراء والضراء. ثم لما كان سؤالهم ذلك مظنة أن يكون سؤال المؤمنين المسترشدين لا المعاندين المنكرين ، أراد أن يكشف عن حالهم ويبين مقالهم كيلا يغتربه المؤمنون فقال : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا

٢٨٦

يُبْدُونَ لَكَ) أي ذلك القول إنما صدر عنهم في هذه الحالة ، فكان لسائل أن يسأل ما الذي يخفونه في أنفسهم؟ فقيل (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) وقد مر تفسيره. ويحتمل أن يراد : لو كان لنا رأي مطاع لم نخرج من المدينة فلم نقتل هاهنا؟ فيكون كالطعن في قوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) قال في التفسير الكبير : هذا بعينه هو المناظرة الدائرة بين السني والمعتزلي. فذاك يقول : الطاعة والعصيان والكفر والإيمان من الله. وهذا يقول : الإنسان مختار مستقل إن شاء آمن وإن شاء كفر. فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب عن هذا الاعتقاد بأن ما قضى الله فهو كائن ، والحذر لا يرد القدر ، والتدبير لا يبطل التقدير. وإن شئتم المصالح ففائدته الابتلاء وهو أن يتميز الموافق عن المنافق كما في المثل : لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين وتطهير القلوب عن وساوس الشبهات وتبعات المعاصي والسيئات. ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) صاحبتها وهي الأسرار والضمائر ليعلم أن ابتلاءه ليس لأنه لا يخفى عليه شيء ، وإنما ذلك لمحض الإلهية أو للاستصلاح.

قوله عز من قائل : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) يعني يوم أحد. وذكر محمد بن إسحق أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا. ومن المنهزمين من ورد المدينة وكان أولهم سعد بن عثمان أخبر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل. ثم بعده رجال ودخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن : أعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفرون؟ وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل اغزل. وقال بعض الرواة : إن المسلمين لم يعدوا الجبل. قال القفال : الذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا قليلا تولوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب. وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هنالك ـ ومن المنهزمين عمر ـ إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين. ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنهم أيضا عثمان انهزم هو مع رجلين من الأنصار ـ يقال لهما سعد وعقبة ـ انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد ذهبتم فيها عريضة. وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا. سبعة من المهاجرين : أبو بكر ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وأبو عبيدة بن الجراح ، والزبير بن العوّام. وسبعة من الأنصار : الحباب بن المنذر ، وأبو دجانة ، وعاصم بن ثابت ، والحرث بن الصمة ، وسهل بن حنيف ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن معاذ. وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين : علي وطلحة والزبير. وخمسة من الأنصار : أبو دجانة ، والحرث بن الصمة ، وحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن

٢٨٧

حنيف. ثم لم يقتل منهم أحد. وروى ابن عيينة أنه أصيب بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء وعليك السلام غير مودع (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) تقول : زللت يا فلان تزل زليلا إذا زل في طين أو منطق. والاسم الزلة ، واستزله غيره كأنه طلب منه الزلة ودعاه إليها. والباء في (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) للاستعانة مثلها في : كتبت بالقلم. والمعنى أنه كان قد صدر عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم في التولي. وعلى هذا التقدير ففيه وجوه : قال الزجاج : إنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها وإلا بعد الإخلاص في التوبة. فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه. وقيل : إنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة المركز ، أوقعهم الشيطان بشؤم تلك المعصية في الهزيمة. وقيل : كانت لهم ذنوب قد تقدمت ، فبشؤمها قدر الشيطان على دعائهم إلى التولي لأن الذنب يجر إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفا فيها. وإنما قال : (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) لأن الكسب قد يكون خيرا كقوله : (لَها ما كَسَبَتْ) [البقرة : ١٣٤ ، ١٤١ ، ٢٨٦] أو لأن جميع الذنوب لا يؤاخذ بها الله تعالى كقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] وقال الحسن : استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة. ويحتمل أن تكون الباء بمعنى «في» أي السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان في بعض الأعمال. إما قبل هذه الغزوة وإما فيها كالفشل والتنازع والتحول عن المركز وطلب الغنيمة ، فاقترفوا ذنوبا فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وعلى هذا التقدير لا يكون الفعل المسند إلى استزلال الشيطان فيه هو التولي ، وإنما يكون أعمالا أخر إما في هذه الغزوة أو قبلها. (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) فيه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم لأن العفو عن الكفر لا يجوز. بقي البحث في أنه أي ذنب هو؟ والظاهر أنه التولي لأن التوبيخ وقع عليه والآية سيقت لأجله. ثم إنه من الصغائر أو من الكبائر؟ قالت المعتزلة : كلاهما محتمل. لكنه إن كان من الصغائر فلا حاجة إلى إضمار التوبة ، وإن كان من الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم وإن كانت غير مذكورة في الآية. قال القاضي : الأقرب أنه من الصغائر لأنه لا يكاد يقال في الكبائر إنها زلة ، ولأنهم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق في ثباتهم حاجة ، فلا جرم تحولوا لطلب الغنيمة ، والخطأ في الاجتهاد ليس من الكبائر. وقالت الأشاعرة : إنه من الكبائر لأنهم خالفوا النص. وحيث عفا عنه من غير ذكر التوبة ـ والأصل عدم الإضمار ـ غلب على الظن أن العفو عن الكبائر واقع من غير شرط.

٢٨٨

ثم ندب الى المؤمنين ما يزيد رغبتهم في الجهاد فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) قيل : إنه عام. وقيل : يعني المنافقين. وقيل : منافقي يوم أحد كعبد الله بن أبيّ وأصحابه. وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان كما يقوله الكرامية وإلا لم يسم المنافق كافرا (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي لأجل إخوانهم مثل (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] وذلك أنهم قالوا : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) والميت والمقتول لا يكلم. وعلى تقدير فرض التكلم كان المناسب أن لو قيل : لو كنتم عندنا ما متم وما قتلتم. ومعنى الأخوة اشتراك النسب. فلعل المقتولين كانوا أقارب المنافقين وإن كانوا مسلمين. أو اتفاق الجنس فلعل بعض المنافقين صار مقتولا في بعض الغزوات. والضرب في الأرض الإبعاد فيها للتجارة وغيرها. والغزو قصد محاربة العدو قريبا كان أو بعيدا. والفاعل غاز والجمع غزّى مثل : سابق وسبق ، وراكع وركع. وإنما قال : (إِذا ضَرَبُوا) دون «إذ ضربوا» أو «حين ضربوا» ليشاكل في المعنى قوله : (وَقالُوا) لأنه أراد حكاية الحال الماضية. والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض. فالكافرون يقولون : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد أن يقول : «قالوا». ويجوز أن يكون (قالُوا) في تقدير «يقولون» لكنه وقع التعبير عنه بلفظ الماضي لأنه لازم الحصول في المستقبل مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وفيه دلالة على أن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة قد بلغ الغاية ، فكأن هذا المستقبل كالكائن الواقع. ويمكن أن يقال : عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ليعلم أن المقصود الإخبار عن جدّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة. وقال قطرب : كلمه «إذ» و «إذا» يجوز إقامة كل منهما مقام الأخرى ، وهذا وإن لم يوجد له في كلام العرب نظير ، لكن القرآن أولى ما يستشهد به وهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه. قال الواحدي : في الكلام محذوف والتقدير : إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وأما اللام في قوله : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) ففي متعلقه وجهان : الأول أنه (قالُوا) أي قالوا ذلك الكلام واعتقدوه ليجعل الله ذلك الكلام حسرة فتكون لام العاقبة كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] وكيف استعقب ذلك القول حصول الحسرة؟ فيه وجوه : فقيل : لأن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام تخيلوا أنهم لو بالغوا في منعه عن ذلك السفر أو الغزو لم يمت أو لم يقتل فازدادت حسرتهم وتلهفهم بسبب أنهم قصروا في منعه ، بخلاف المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكونان إلا بتقدير الله فإنه لا يحصل له شيء من هذا النوع من الأسف. وقيل :

٢٨٩

لأنهم إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الجهاد ، فإذا نال المسلمون في الجهاد غنيمة بقي أولئك المتخلفون في الخيبة والندامة. وقيل : المراد حسرتهم يوم القيامة إذا رأوا ثواب المجاهدين. وقيل : المقصود خيبتهم عن ترويج شبهتهم بعد ما أعلم الله المؤمنين بطلانها. وقيل : الغرض أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات يقسي قلوبهم ويضيق صدورهم فيقعون لذلك في الحيرة والحسرة. الوجه الثاني : أن متعلق اللام قوله : (لا تَكُونُوا) وذلك إشارة إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله ذلك الانتفاء انتفاء كونكم مثلهم حسرة ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمهم ويغيظهم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) رد لجهالتهم وجواب عن مقالتهم أي الأمر بيده والخلق له. فقد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد. فعلى المكلف أن يتلقى أوامره بالامتثال ، فالله أعلم بحقيقة الأحوال ولا يجري الأمور إلا على وفق إمضائه وأحكامه ونقضه وإبرامه وكل ميسر لما خلق له. عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة وها أنا ذا أموت كما يموت الغير فلا نامت أعين الجبناء. وفي أمثالهم «الشجاع موقى والجبان ملقى». وكان عليّ يقول : إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش ، ويجوز أن يكون المراد : والله يحيي قلوب أوليائه بنور اليقين والعرفان ، ويميت قلوب أعدائه بظلمة الشك والخذلان (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا تكونوا مثلهم. ومن قرأ على الغيبة فالضمير للذين كفروا ويكون وعيدا لهم. ثم إنه لما كذب الكافرين في قولهم : لإخوانهم (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) ونهى المؤمنين عن كونهم مثلهم لأنه يسبب التقاعد عن الجهاد وينفر الطبع عنه رغبهم فيه بقوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) شيء من مغفرته ورحمته (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فاللام الأولى هي الموطئة ، والثانية لام جواب القسم المقدر ، وكذا في الآية الأخرى. والمعنى أن القتل والموت في السفر غير لازم الحصول لأن ذلك منوط بالقدر لا بالسفر. ولئن سلم أنه لازم فإنه يستعقب المغفرة ويستجلب الرحمة من الله ، وإن ذلك خير مما تجمعون من الدنيا وما فيها لو لم تموتوا. وعن ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. ومن قرأ بالياء فالضمير للكفار لأن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا ، أو ورد على حسب معتقدهم أن أموالهم خيرات لهم. وإنما كانت المغفرة والرحمة خيرا من المال لأن المال الذي يجمع لأجل الغد قد يموت صاحبه قبل الغد ، وإن لم يمت فلعل المال لا يبقى في الغد ، فكم من أمير أصبح أسيرا. وعلى تقدير بقاء المال وبقاء صاحبه إلى الغد فلعل مانعا من مرض أو خوف يمنعه عن الانتفاع به ،

٢٩٠

وبتقدير عدم المانع فلذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار ، وبتقدير صفائها عن الشوائب فلا بد لها من الزوال والانقطاع ، ومنافع الآخرة أصفى وأضفى وأبقى وأنقى ولا سيما منافعها العقلية ، وأي نسبة لانتفاع الحمار بلذة قبقبه؟ فذبذبه إلى ابتهاج الملائكة المقربين بشروق أنوار العزة عليهم ، ثم رغبهم بنوع آخر فقال : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) كأنه قيل : إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أياما قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم ، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية. وإنما قدم القتل على الموت في الآية الأولى وعكس في الثانية ليقع الابتداء والختم على ما هو أفضل ، أو لأن الآية الأولى سيقت لبيان فضل الجهاد والقتل في سبيله ، فقدم ما هو الأغلب من حال المجاهدين الذين يفارقون الدنيا وهو القتل ، والثانية سيقت لبيان أن حشر الخلائق كلهم إليه بأي وجه يفارقون الدنيا. ولا شك أن الغالب على أحوال الخلق كلهم الموت ، ولهذا السر أطلق القتل إطلاقا ليعم أنواع القتل كلها. وفي قوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لطائف منها : تقديم الجار على الفعل لإفادة الحصر ، وأنهم لا يحشرون إلى غيره ، وأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم إلا له ، ومنها تخصيص اسم الله بالذكر ليدل على كمال اللطف والقهر ، فهو لدلالته على كمال اللطف أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. ومنها إدخال لام التوكيد القسمي في الحرف المتصل باسم الله تنبيها على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر لحكمة المجازاة. ومنها بناء (تُحْشَرُونَ) على المفعول تعويلا على ما هو مركوز في العقول من أنه هو الذي يبدىء ويعيد ، لا قدرة على الإعادة لأحد غيره. ومنها أنه أضاف حشره إلى غيرهم ليعلم أنهم أحياء كانوا أو أمواتا لا يخرجون عن قبضته. ومنها أنه خاطب الكل ليعلم أن القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والقاعد والمجاهد كلهم في بساط العدل وفضاء القضاء موقوفون. واعلم أنه تعالى ذكر في الآيتين المغفرة والرحمة والحشر إليه. فالأول إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه ، والثاني إشارة إلى من يعبده طمعا في ثوابه ، والثالث إشارة إلى من يعبده لأنه يستحق العبادة. فهم أهل الحشر إلى الله لا إلى ثوابه ولا إلى إزالة عقابه ، وما أحسن هذا النسق! يروى أن عيسى عليه‌السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال : ماذا تطلبون؟ فقالوا : نخشى عذاب الله. فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا : نطلب الجنة والرحمة. فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات

٢٩١

العبودية أكثر فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرهبة ولا لرغبة. فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحققون. قال القاضي : في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) عطفا للشيء على نفسه. قلت : لا ، ولكنه عطف الأخص على الأعم. ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم. روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي يغسلان السلاح ـ فقالت : ما فعل عثمان؟ أما والله لا تجدونه أمام القوم. فقال لها علي : ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مه. وروي أنه قال حينئذ : أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا. ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : لقد ذهبتم فيها عريضة. وعنه أنه قال : «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده ، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه» فلما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا لأن الغرض من البعثة ـ وهو التزام التكاليف ـ لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه ، وسكنت نفوسهم لديه ، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة. وعن بعض الصحابة أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان. كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة ، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها ، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة.

واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية ، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر ، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب ، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات ، فلا ينازع أحدا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها ، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق. ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، وجب أن يكون أكمل الناس خلقا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٤. النسائي في كتاب الطهارة باب ٣٥. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ١٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٧ ، ٢٥٠).

٢٩٢

كما قال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) و «ما» مزيدة للتوكيد. أما الحكم بزيادتها فللنظر إلى أصل المعنى. وعمل حرف الجر فيما بعدها فكأنه قال : فبرحمة. وأما إفادتها التوكيد فلاستحالة زيادة حرف لا فائدة فيه أصلا. وجوز بعضهم أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير : فبأي رحمة. وإنما كان لينه ورفقه رحمة من الله لأن الدواعي والقصود والإرادات كلها بفعل الله تعالى. فلا رحمة بالحقيقة الإله ، ولا رحيم إلا هو ، لأن كل رحيم سواه فإنه يستفيد برحمته عوضا كالخوف من العقاب ، أو الطمع في الثواب ، أو الثناء ، أو يحمله على ذلك رقة طبع أو حمية أو عصبية إلى غير ذلك من الأغراض. وأيضا رحمة المخلوق على غيره لن تتم ولن ينتفع بها المرحوم إلا بعد مواتاة سائر الأسباب السماوية من سلامة الأعضاء وغيرها. فلا رحمة إلا بإعانة الله وتوفيقه بربطه على جأش الراحم وضبطه حال المرحوم. ثم بيّن أن الحكمة في لين جانبه ما هي فقال : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) سيىء الخلق وأصله فظظ كحذر. فظظت يا رجل بالكسر فظاظة (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيه بحيث لا يتأثر عن شيء يوجب الرقة والعطف (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد والتركيب يدل على التفريق ومنه «فض الختام». ويقال : لا يفضض الله فاك أي أسنانك. ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) تشافههم بالملامة على ذلك (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم. وهاهنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم : ٩] وقال في إقامة حد الزنا : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النور : ٢] ومثله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه ، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان ، ومنه المثل «لا تكن حلوا فتسترط ولا مرا فتعقى». واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر. وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله ، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين. فكل ما فعله مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب. فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء ، فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادا من رحمة الله ،

٢٩٣

وهذا خلاف نص الآية ، فإذن جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره. والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف ، واستبعده الأشاعرة لأن كل ما كان ممكنا من الألطاف فقد فعله في حق كل المكلفين ، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك بالحقيقة كسب نفسه ، ويجب عندهم إيصاله إليه فلا يكون برحمة من الله. ثم قال : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يختص بك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يختص بحق الله إتماما للشفقة عليهم. قيل : في فاء التعقيب دلالة على أنه أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال كما أنه تعالى قد عفا عنهم كأنه قيل : اعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، واستغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، وهذا من كمال رحمة الله بهذه الأمة. ثم قال : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) والمشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أي اجتنيتها واستخرجتها من موضعها. وقيل : من شرت الدابة شورا عرضتها على البيع ، أقبلت بها وأدبرت. والمكان الذي تعرض فيه الدواب يسمى مشوارا. يقال : إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار. وتركيبه يدل على الإظهار والكشف ، فبالمشاورة يظهر خير الأمور وحسن الآراء. وقد ذكر العلماء لأمر الرسول بالمشاورة مع أنه أعلم الناس وأعقلهم فوائد منها : أنها توجب علو شأنهم ورفعة قدرهم وزيادة إخلاصهم ومحبتهم ، وفي ترك ذلك نوع من الإهانة والفظاظة ، وكان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم. ومنها أن علوم الإنسان متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال أحد ما لم يخطر بباله ولا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا. ومنها قال الحسن وسفيان بن عيينة : قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده ، ومنها أنه شاورهم في وقعة أحد فأخطؤا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك الواقعة. ومنها أن يظهر له مقادير عقولهم فينزلهم على قدر منازلهم. ومنها أن تصير النفوس الطاهرة متطابقة على تحصيل أصلح الوجوه فيكون أعون على الظفر بالمقصود ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» وهذا هو السر في الجماعات والجمعات. ومنها أنه تعالى ما أمر رسوله بالمشاورة قبل تلك الواقعة وأمره بها بعدها مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالا مما كانوا ، وأن عفوه أعظم من كل ذنب ، وأن الاعتماد على فضله وكرمه لا على العمل والطاعة. ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس كما قيل : إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى. وفيما وراء ذلك هل تجوز المشاورة في كلها أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء : إن الأمر بها مخصوص بالحرب لأن اللام في لفظ (الْأَمْرِ) ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق ، فهو إذن لمعهود سابق وليس

٢٩٤

ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في قصة أحد. وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنزول على الماء فقبل منه ، وأشار عليه السعدان ـ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ـ يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة. ومنهم من قال : اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحي فيبقى حجة في الباقي ، وكيف لا وإنه كان مأمورا بالاجتهاد فيما لم ينزل فيه وحي لعموم (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة. وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين ، وقد عد المشاورة من جملة ما خص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوجوب عليه لأن ظاهر الأمر للوجوب. وقد يروى عن الشافعي أنه حمله على الندب قال : وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البكر تستأمر في نفسها» (١) ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا هاهنا. (فَإِذا عَزَمْتَ) أي قطعت الرأي على شيء بعد الشورى (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) لأن الاعتماد في جميع الأمور عليه لا على الفكر والتدبير والرأي الحسن. عن جابر بن زيد أنه قرأ (فَإِذا عَزَمْتَ) بالضم إذا أرشدتك إلى شيء وألزمته إياك فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحدا. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) عن ابن عباس : إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا يغلبكم أحد (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كما خذلكم يوم أحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد خذلانه لدلالة الفعل عليه ، أو هو من قولك «ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان» تريد إذا جاوزته. وقيل : إن ينصركم بجذبات العناية فلا غالب لكم من الصفات البشرية ، وإن يخذلكم بترك الجذبات فمن ينصركم بعده من الأنبياء والأولياء؟ فإنه القادر على الإخراج عن هذا الوجود كما أنه هو القادر على الإدخال فيه. (وَعَلَى اللهِ) وليخص المؤمنون إياه بالتوكل لما علم أن الأمر كله له ولا رادّ لقضائه ولا دافع لبلائه ، ولأن الإيمان يوجب ذلك ويقتضيه. وليس المراد بالتوكل أن يهمل الإنسان حال نفسه بالكلية ويرفض الوسائط والأسباب كما يتصور الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل ، وإنما التوكل هو أن يراعي الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعوّل على عصمة الحق وتأييده وتوفيقه وتسديده.

التأويل : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ) أيها الطلاب (وَعْدَهُ) ألا من طلبني وجدني إذ تقتلون جنود الصفات البشرية بأمره لا على وفق الطبع حتى إذا تركتم قتال النفس وخالفتم في أمر

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الحيل باب ١١. كتاب الإكراه باب ٣. أبو داود في كتاب النكاح باب ٢٣ ـ ٢٥. الترمذي في كتاب النكاح باب ١٨. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ١١. الدارمي في كتاب النكاح باب ١٣. أحمد في مسنده (١ / ٢١٩) بلفظ «لا تنكح البكر .... ولا الثيب حتى تستأمر».

٢٩٥

الطلب وعصيتم الدليل المربي (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) الدليل بالتربية (ما تُحِبُّونَ) من دلالة الطريق ، وإنما عصيتم الدليل إذ دلكم على الله لأن منكم من كان همته زخارف الدنيا ، ومنكم من كان همته طلب نعيم الآخرة. قرئت هذه الآية عند الشبلي فصاح صيحة وقال : ما كان من أحد يقال له ومنكم من يريد الله ثم صرفكم عن جهاد النفس وقتل صفاتها باستيلائها عليكم ليمتحنكم بالستر بعد ما تجلى لكم أنوار المشاهدات ، وبالصحو بعد ما أسكركم بأقداح الواردات ، وبالفطام بعد ما أرضعكم بألبان الملاطفات (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) يعني بعد ابتلائكم عفا عن التفاتاتكم إلى الدنيا والآخرة بالعناية الأزلية (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في الأزل إذ تصعدون في طريق الحق طالبين بعد ما كنتم هاربين ولا تلتفتون إلى أحد من الأمرين الدنيا والآخرة ، ورسول الوارد من الحق يدعوكم إليّ عبادي إليّ عبادي ، فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة غم طلب الحق لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من زخارف الدنيا ولا لما أصابكم من نعيم الآخرة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من ترك نعيم الدنيا والآخرة في طلب وجدانه فلا يخيب رجاءكم ويوفي جزاءكم. ثم أخبر عن إنزال حقائق أصناف ألطافه على عباده في صور مختلفة. فأنزل الأمن في صورة النعاس على الصحابة ، وأخرج جواهر الوقائع السنية لأرباب القلوب والمكاشفات من معدن النعاس فإن أكثرها يقع بين النوم واليقظة. وطائفة من أرباب النفوس ومدعي الإسلام لا هم لهم إلا هم أنفسهم من استيفاء حظوظها واستيفاء لذاتها (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) وهو أن الأمور إلى الخلق لا إلى الله ولا بقضائه وقدره. هل لنا من أمر النصرة والظفر من شيء؟ (ما قُتِلْنا هاهُنا) بالباطل على أيدي حزب الشيطان (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أنها المنافقون لأن الصدور معدن النفاق والغل ووسوسة الشيطان (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [الأعراف : ٤٣] (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس : ٥] (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أيها المؤمنون لأن القلوب محل الإيمان والاطمئنان (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] ونسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) الشيطان خلق من نار فلهذا استخرج من معدن الإنسان حديد ما كسبوا من التولي ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم. (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ليعلم أن لله تعالى في كل شيء من الخير والشر أسرارا لا يعلمها إلا هو. ومن هنا قال : «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» (١) إذا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب التوبة حديث ١١. الترمذي في كتاب الجنّة باب ٢. أحمد في مسنده (١ / ٢٨٦) ، (٢ / ٣٠٥).

٢٩٦

ضربوا في الأرض سافروا في البلاد مستفيدين من العباد ، أو سلكوا في أرض نفوسهم سبيل الرشاد ، أو كانوا غزى مجاهدين مع كفار النفس والهوى والشيطان. لو كانوا موافقين معنا ما ماتوا بمقاساة الرياضة ، وما قتلوا بسيف المجاهدة ، ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوب الصديقين ، والله يحيي قلوب أهل المجاهدة بأنوار المشاهدة فلا يحسرون على ما يقاسون ، ويميت قلوب المنكرين بظلمة الإنكار وغلبة صفات النفس فيحسبون أنهم يحسنون. وباقي الحقائق قد مرت في التفسير. وقد سنح عند تحرير هذا الموضع أن قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) يمكن أن يفهم منه الخطاب مع الروح الإنساني أنه لان برحمة الله لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية حتى يستوفي كل منها حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ، ولو لا ذلك لاضمحلت تلك القوى وانفضت من الجوانب وتلاشت ، واختلت حكمة التمدن وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها. ثم الكلام في أن هذا اللين لا بد له من الغلظة حتى لا يتجاوز عن الوسط ولا يخرج عن قانون الشرع والعقل كما تقدم.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ

٢٩٧

الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

القراآت : (يَغُلَ) بفتح الياء وضم الغين : ابن كثير وأبو عمرو وعاصم غير المفضل ويعقوب غير رويس. الباقون : بالضم والفتح على البناء للمفعول. ولا يحسبن بياء الغيبة : الحلواني عن هشام. الباقون : بتاء الخطاب. (قُتِلُوا) بالتشديد : ابن عامر. الباقون : بالتخفيف. (وَأَنَّ اللهَ) بالكسر على الابتداء : عليّ. الباقون : بالفتح. وخافوني بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. الباقون بالحذف.

الوقوف : (أَنْ يَغُلَ) ط لابتداء الشرط (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ج لانتهاء جزاء الشرط مع العطف (لا يُظْلَمُونَ) ه (جَهَنَّمُ) ط (الْمَصِيرُ) ه (عِنْدَ اللهِ) ط (بِما يَعْمَلُونَ) ه (وَالْحِكْمَةَ) ج لمكان العطف (مُبِينٍ) ه (مِثْلَيْها) (لا) لأن استفهام الإنكار دخل على (قُلْتُمْ هذا) ط (أَنْفُسِكُمْ) ط (قَدِيرٌ) ه (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) ه لا (نافَقُوا) ج لاحتمال العطف والاستئناف والوصل أولى على تقدير وقد قيل لهم. (أَوِ ادْفَعُوا) ط (لَاتَّبَعْناكُمْ) ط (لِلْإِيمانِ) ج لاحتمال الحال والاستئناف. (فِي قُلُوبِهِمْ) ط (يَكْتُمُونَ) ج لاحتمال كون «الذين» بدلا عن ضمير (يَكْتُمُونَ) أو خبر مبتدأ محذوف. (ما قُتِلُوا) ط (صادِقِينَ) ه (أَمْواتاً) ط (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ص (يُرْزَقُونَ) ه لا لأن (فَرِحِينَ) حالهم. (مِنْ فَضْلِهِ) (لا) للعطف. (مِنْ خَلْفِهِمْ) (لا) لتعلق «أن». (يَحْزَنُونَ) ه م للآية واستئناف الفعل إذ يستحيل أن يكون الاستبشار حالا للذين يحزنون. (وَفَضْلٍ) (لا) لأن التقدير وبأن ومن كسر وقف والجملة حينئذ اعتراضية. (الْمُؤْمِنِينَ) ه ج لأن «الذين» يصلح صفة للمؤمنين ومبتدأ خبره للذين أحسنوا ، أو نصبا على المدح والأول أوجه لاتحاد الصفة. (الْقَرْحُ) ط لمن لم يقف على (الْمُؤْمِنِينَ). (عَظِيمٌ) ج لاحتمال البدل وكونه خبر مبتدأ محذوف. (إِيماناً) ق والوصل أولى للعطف واتصال توكل اللسان بيقين القلب. (الْوَكِيلُ) ه (سُوءٌ) لا للعطف (رِضْوانَ اللهِ) ط (عَظِيمٍ) ه (أَوْلِياءَهُ) ص لوصل النهي عن الخوف بعد ذكر التخويف (مُؤْمِنِينَ) ه.

التفسير : هذا حكم من أحكام الجهاد. وأصل الغلول أخذ الشيء في خفية. يقال : أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم ليسرقه. والغل الحقد الكامن في الصدر. والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الدرع والثياب ، والغلل الماء الذي يجري في

٢٩٨

أصول الشجر لأنه مستتر بالأشجار. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» (١) وقال أيضا : «هدايا الولاة غلول» (٢). وقال الجوهري : غل يغل غلولا أي خان. وأغل مثله إلا أن العرف جعله في الغالب مخصوصا بالخيانة في الغنيمة حتى قال أبو عبيدة : الغلول في المغنم خاصة ، وقد جعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكبائر. عن ثوبان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين» (٣) وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال : «لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له زعاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك» (٤) ومعنى الآية فيمن قرأ بفتح الياء وضم الغين : ما كان لنبي أن يخون أي ما صح وما ينبغي له ذلك لأن النبوة تنافي الغلول لأنها أعلى المراتب الإنسانية ، فلا يليق بصاحبها ما هو عار في الدنيا ونار في الآخرة ، كيف وإنه أمين على الوحي النازل عليه من فوق سبع سموات ، أفلا يكون أمينا في الأرض؟ هيهات. وقيل : اللام منقولة والتقدير : وما كان نبي ليغل كقوله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥] أي ما كان الله ليتخذ ولدا. ومن قرأ بضم الياء وفتح الغين ففيه وجهان : أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته. وفي تخصيصه بهذه الحرمة والخيانة محرمة على الإطلاق فوائد منها : أن المجني عليه كلما كان أجل منصبا كانت الخيانة في حقه أفحش. ومنها أنه لا يكاد يخفى عليه من

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ١٤. أحمد في مسنده (٣ / ٤٩٨).

(٢) رواه أحمد في مسنده (٥ / ٤٢٤) بلفظ «هدايا العمال غلول».

(٣) رواه الترمذي في كتاب السير باب ٢١. ابن ماجه في كتاب الصدقات باب ١٢. الدارمي في كتاب البيوع باب ٥٢. أحمد في مسنده (٥ / ٢٧٦).

(٤) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ٢٤. أبو داود في كتاب الإمارة باب ١٢. أحمد في مسنده (٢ / ٤٢٦).

٢٩٩

قبل الوحي فكان فيه مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا. ومنها أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في غاية الفقر ، فكانت تلك الخيانة وقتئذ أقبح. وثانيهما يخوّن أي ينسب إلى الخيانة فيكون من الإغلال. قال المبرد : تقول العرب : أكفرت الرجل جعلته كافرا أو نسبته الى الكفرة. قال القتيبي : لو كان هذا هو المراد لقيل «يغلل» كما يقال : «يفسق ويكفر» والأولى أن يقال : هو من أغللته أي وجدته غالا كما يقال : أبخلته أي وجدته كذلك. ومن هنا قال في الكشاف : معناه راجع إلى القراءة الأولى إذ معناه ما صح له أن يوجد غالا ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا. وكان ابن عباس ينكر على هذه القراءة ويقول : كيف لا ينسب إلى الخيانة وقد كان يقتل؟ وقال خصيف : قلت لسعيد بن جبير : ما كان لنبي أن يغل. فقال : بل يغل ويقتل. ولا يخفى أن الإنكار لا يتوجه إذا كان أغل بمعنى وجده غالا ، وإنما يتوجه إذا كان الإغلال بمعنى النسبة إلى الخيانة كما روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها. وقد طعن بعضهم في هذه القراءة وقال : إن أكثر ما جاء من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ) [يوسف : ٣٨] (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ) [يوسف : ٧٦] (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) [آل عمران : ١٤٥] (ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) [التوبة : ١١٥] (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ) [آل عمران : ١٧٩] وحكى أبو عبيدة عن يونس أنه قال : ليس في الكلام «ما كان لك أن تضرب» بضم التاء. والحق أن القرآن حجة على غيره لا بالعكس. ويوافق هذه القراءة ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده غله رجل بمخيط فنزلت. وعلى هذا يغل بمعنى يخان. وإن جعل يغل بمعنى يوجد غالا فالقراءتان متعاضدتان ويوافقهما أسباب النزول ، أكثرها يروى أنه تأخرت قسمة الغنيمة في بعض الغزوات لمانع فجاءه قوم وقالوا : ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست منكم درهما ، أترون أني أغلكم مغنمكم؟ فنزلت. وعن ابن عباس أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغنائم بشيء زائد فنزلت. وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز طلبا للغنيمة وقالوا : يخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر. فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث طلائع فغنم بعدهم غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت مبالغة في النهي لرسوله يعني وما كان لنبي أن يعطي قوما ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض الغزاة غلولا تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر. وقيل : نزلت في أداء الوحي. كان يقرأ القرآن ـ وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم ـ فسألوه أن يترك ذلك فقيل :

٣٠٠