تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

«الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» (١) وإنما يتوارث أهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية والذكورة والأنوثة في الجدّ والاجتهاد وحسن الاستعداد وبتوارثهم العلوم الدينية واللدنية كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» (٢) وقول موسى للخضر (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [الكهف : ٦٦]. (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) هي النفوس الأمارات بالسوء (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي من خواص العناصر الأربعة التي أنتم منها مركبون وهي التراب ومن خواصه الخسة والذلة ، والماء ومن خواصه اللين والأنوثة والشره ، والهواء ومن خواصه الحرص والحسد والبخل والشهوة ، والنار ومن خواصها الكبر والغضب وحب الرياسة (فَإِنْ شَهِدُوا) بأن يظهر بعض هذه الصفات من النفوس (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) في سجن الدينا وأغلقوا عليهن أبواب الحواس الخمس حتى تموت النفس بالانقطاع عن حظوظها دون حقوقها (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) بانفتاح روزنة القلوب إلى عالم الغيب (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها) أي النفس والقالب يأتيان من الفواحش ظاهرا في الأعمال وباطنا في الأحوال والأخلاق (فَآذُوهُما) ظاهرا بالحدود وباطنا بالرياضات وترك الحظوظ (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) باللطف بعد العنف ، وباليسر بعد العسر. (بِجَهالَةٍ) أي بصفة الجهولية وهي داخلة في الظلومية لأن الظلومية تقتضي المعصية والإصرار عليها ، والجهولية تقتضي المعصية فحسب. فالعمل السوء إذا كان مصدره الجهولية فحسب يكون على عقيبه التوبة كما قال : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي عقيب المعصية. قال عليه‌السلام : «أتبع السيئة الحسنة تمحها» (٣) والحسنة التوبة. ويحتمل أن يقال : من قريب أي قبل أن يموت القلب بالإصرار فإن الله لا يقبل التوبة من قلب ميت لأنها تكون اضطرارية باللسان لا اختيارية بالجنان (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) فيه إشارة إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرف فيها آباؤكم العلوية (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة اكتساب الكمالات ، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق والله أعلم.

تم الجزء الرابع ، ويليه الجزء الخامس أوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) ..

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٤٨. مسلم في كتاب الفضائل حديث ١٤٣ ، ١٤٤. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٣.

(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥ / ١٩٦).

(٣) رواه الترمذي في كتاب البر باب ٥٥. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٧٤. أحمد في مسنده (٥ / ١٥٣ ، ٢٢٨).

٣٨١

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الخامس من أجزاء القرآن الكريم

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

القراآت : (وَالْمُحْصَناتُ) في كل القرآن بكسر الصاد إلّا قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) على الباقون بالفتح. (وَأُحِلَ) مبنيا للمفعول : يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون : مبنيا للفاعل. (أُحْصِنَ) بفتح الهمزة والصاد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون : (أُحْصِنَ) بضم الهمزة وكسر الصاد. (تِجارَةً) بالنصب : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون : بالرفع.

الوقوف : (دَخَلْتُمْ بِهِنَ) الأولى (ز) لابتداء الشرط مع اتحاد المقصود (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) (ز) لذلك فإن جملة الشرط معترضة (أَصْلابِكُمْ) (لا) للعطف (سَلَفَ) (ط)

٣٨٢

(رَحِيماً) (ه) لا للعطف (أَيْمانُكُمْ) (ج) لأن (كِتابَ اللهِ) يحتمل أن يكون مصدر التحريم لأنه في معنى الكتابة ، ويحتمل أن يكون مصدر محذوف أي كتب الله كتابا ، والأحسن أن يكون مفعولا له أي حرمت لكتاب الله. من قرأ (وَأُحِلَ) بالفتح لم يحسن الوقف له على (عَلَيْكُمْ) للعطف على «كتب» ، ومن قرأ (وَأُحِلَ) بالضم عطفا على (حُرِّمَتْ) جاز له الوقف لطول الكلام. (مُسافِحِينَ) (ط) لابتداء حكم المتعة. (فَرِيضَةً) (ط) (الْفَرِيضَةِ) (ه) (حَكِيماً) (ه) (فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (ط) (بِإِيمانِكُمْ) (ط) (مِنْ بَعْضٍ) (ج) لعطف المختلفين (أَخْدانٍ) (ج) لذلك (مِنَ الْعَذابِ) (ط) (الْعَنَتَ مِنْكُمْ) (ط) (خَيْرٌ لَكُمْ) (ط) (رَحِيمٌ) (ه) (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (ط) (حَكِيمٌ) (ه) (عَظِيماً) (ه) (يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (ج) لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى أي يخفف لضعفكم (ضَعِيفاً) (ه) (أَنْفُسَكُمْ) (ط) (رَحِيماً) (ه) (ناراً) (ط) (يَسِيراً) (ه).

التفسير : إنه سبحانه نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان ، سبعة من جهة النسب : الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، وسبعة أخرى لا من جهة النسب : الأمهات من الرضاعة ، والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء ، وبنات النساء بشرط الدخول بالنساء ، وأزواج الأبناء والآباء ـ وهذه في الآية المتقدمة ـ والجمع بين الأختين ، والمحصنات من النساء. وذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات ، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال وذلك غير مذكور في الآية ، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض وهذا معنى الإجمال. والجواب من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن لا سيما وقد تقدم قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا لإحدى خصال ثلاث» (١) فإنه لا يشتبه أن المراد لا يحل إراقة دمه. ثم إنّ قوله : (حُرِّمَتْ) إنشاء للتحريم كقول القائل «بعت» أو «طلقت» لا إخبار عن التحريم في الزمان الماضي ولا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى كقوله : (بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) [العاديات : ٩ ، ١٠] والخطاب لأولئك الحاضرين بالذات ولمن عداهم من الأمة بالتبعية. والأصل في كل حكم هو الاستمرار والتأبيد ما لم ينسخه ناسخ ، والقرينة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الديات باب مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٥ ، ٢٦. أبو داود في كتاب الحدود باب ١. الترمذي في كتاب الحدود باب ١٥. النسائي في كتاب التحريم باب ٥ ، ١١. الدارمي في كتاب السير باب ١١. أحمد في مسنده (١ / ٦١ ، ٧٠).

٣٨٣

تدل على أن المراد أنه تعالى حرم على كل أحد أمه خاصة وبنته خاصة. واعلم أنّ حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمان آدم إلى هذا الزمان ، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان ، بل إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله إلّا أن أكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا. أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمان آدم عليه‌السلام وذلك للضرورة ، وبعض المسلمين ينكره ويقول : إنه تعالى بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم ، ويرد عليه أنّ هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك بالإجماع باطل. قال العلماء : السبب في تحريم الأمهات والبنات أن الوطء إذلال وإهانة فلا يليق بالأصل والجزء. والأمهات جمع الأم والهاء زائدة. ووزن أم «فعل» أو أصلية ووزنه «فع». وقد يجيء جمعه على «أمات» وقد يقال الأمهات للإنسان ، والأمات لغيره. وكل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو درجات بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك. ولا شك أن لفظ الأم حقيقة في التي ولدتك ، أما في الجدة فيحتمل أن يكون حقيقة أيضا وحينئذ يكون اللفظ متواطئا فيها إن كان موضوعا بإزاء قدر مشترك بينهما ، وتكون الآية نصا في تحريمها أو يكون مشتركا بينهما. وحينئذ إن جوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه فالآية نص في تحريمها أيضا وإلّا فطريقان : أحدهما أن تحريم الجدات مستفاد من الإجماع ، والثاني أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين لكل من المفهومين. وكذا الكلام إن قلنا إنّ الأم حقيقة في الوالدة مجاز في الجدات. قال الشافعي : إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد. وقال أبو حنيفة : لا يلزمه. حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لكونه محرّما قطعا في حكم الشرع فيكون وطؤها زنا محضا.

الصنف الثاني من المحرمات البنات ويراد بهن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو بذكور. والكلام في أن إطلاق لفظ البنت على بنت الابن وبنت البنت حقيقة أو مجاز كما مر في الأمهات. قال أبو حنيفة : البنت المخلوقة من ماء الزنا تحرم على الزاني. وقال الشافعي : لا تحرم لأنها ليست بنتا له شرعا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الولد للفراش» وهذا يقتضي حصر النسب في الفراش ، ولأنها لو كانت بنتا له لأخذت الميراث ولثبت له ولاية الإجبار عليها ، ولوجب عليه نفقتها وحضانتها ، ولحل الخلوة بها ، لكن التوالي باطلة بالاتفاق فكذا المقدم. وأيضا إنّ أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له على الحقيقة وهي كونها مخلوقة من مائه ، أو بناء على حكم الشرع والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا. أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره إلى أن تلد

٣٨٤

فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلّا عند الاستلحاق ، وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه. والثاني أيضا باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزاني من الزاني ، ولو انتسب إليه وجب على القاضي منعه. الصنف الثالث : الأخوات ويشمل الأخوات من الأب والأم ، ومن الأب فقط ، ومن الأم فقط. الصنف الرابع والخامس العمات والخالات. قال الواحدي : كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك ، وكل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك ، ولا تحرم أولاد العمات وأولاد الخالات. الصنف السادس والسابع : بنات الأخ وبنات الأخت ، والقول فيهما كالقول في بنت الصلب. الثامن والتاسع : قوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) سمى المرضعات أمهات تفخيما لشأنهن كما سمى أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمهات لحرمتهن. وليس قوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) كقول القائل : وأمهاتكم اللاتي كسونكم أو أطعمنكم. وإلّا كان تكرارا لقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) بل المراد أن الرضاع هو الذي تستحق هي بسببه الأمومة ويعلم من تسمية المرضعة. أما والراضعة أختا إنه أجرى الرضاع مجرى النسب لأن المحرمات بسبب النسب سبع : اثنتان بالولادة وهما الأمهات والبنات ، والباقية بطريق الإخوة وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، فذكر من كل واحد من القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي منهما. فذكر من قسم الولادة الأمهات ، ومن قسم الإخوة الأخوات. ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكد هذا البيان بصريح قوله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (١) فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية. وهذا بيان لطيف فأمك من الرضاع كل أنثى أرضعتك ، أو أرضعت من أرضعتك ، أو أرضعت من ولدك من الآباء والأمهات ، أو ولدت المرضعة ، أو الفحل الذي منه اللبن بواسطة أو بغير واسطة. وبنتك من الرضاع كل أنثى أرضعت بلبنك ، أو أرضعت بلبن من ولدت من الأبناء أو البنات. وأختك من الرضاع كل أنثى أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك ، أو ولدتها المرضعة أو الفحل الذي در لبنه على المرضعة. وعمتك كل أنثى من الرضاع من جهة الأب ، وكل أنثى أرضعت بلبن واحد من أجدادك ، أو كانت أخت الفحل الذي أرضعت

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب ٧. مسلم في كتاب الرضاع حديث ١ ، ٢. أبو داود في كتاب النكاح باب ٦. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٣٤. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٨. الموطأ في كتاب الرضاع حديث ١ ، ٢ ، ١٦. أحمد في مسنده (١ / ٢٧٥ ، ٢٩٠).

٣٨٥

بلبنه. ومن جهة الأم كل أنثى هي أخت ذكر أرضعت أمك بلبنه بواسطة أو بغير واسطة. وخالتك من الرضاع من جهة الأم كل أنثى هي أخت أمك من الرضاع ، أو أخت من أرضعتك من النسب أو الرضاع. ومن جهة الأب كل أنثى هي أخت أنثى أرضعت أباك من الرضاع أو النسب. وبنات الإخوة والأخوات من الرضاع كل أنثى ولدها ابن مرضعتك أو بنتها أو ولدها ابن الفحل الذي منه اللبن ، أو بنته من الرضاع أو النسب ، أو أرضعتها أختك أو أرضعت بلبن أخيك. وكذلك حكم بنات أولاد من أرضعته أختك أو أرضعت بلبن أخيك من الرضاع أو النسب ، وكذلك بنات من أرضعته أمك أو أرضع بلبن أبيك وبنات أولادهما من الرضاع أو النسب. والرضاع المحرّم قد يسبق النكاح فيمنع انعقاده ، وقد يطرأ عليه فيقطعه. وللرضاع أركان : أحدها المرضع ويجب أن تكون امرأة. فلبن البهيمة لا يثبت تحريما بين الذكر والأنثى للذين شربا منه وكذا لبن الرجل ، وأن تكون حية. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد يتعلق بلبن الميتة التحريم ، وأن تكون محتملة للولادة بأن بلغت تسع سنين. وثانيها اللبن ويتعلق به التحريم ولو تغيّر بحموضة أو انعقاد أو إغلاء أو اتخذ منه جبن أو زبد أو مخيض أو أقط أو ثرد فيه طعام أو عجن به دقيق وخبز أو خلط بمائع حلال أو حرام. وثالثها المحل وهو معدة الصبي الحي فلا أثر للحقنة ، ولا بعد الحولين الهلاليين ، ولا للوصول إلى معدة الصبي الميت. ولا بد مع ذلك من خمس رضعات لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحرم المصة والمصتان ولا الرضعة والرضعتان» (١) ، ولما روت عائشة «خمس رضعات يحرّمن» (٢) وعند أبي حنيفة : الرضعة الواحدة كافية. الصنف العاشر قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ويدخل فيه الجدات من قبل الأب والأم. الحادي عشر (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) والربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره ، ومعناها مربوبة لأنّ الرجل يربها. والحجور جمع حجر بالفتح والكسر. وكونها في حجره عبارة عن تربيته وهو بناء للكلام على الغالب ومثله هو في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الإبط. وقال أبو عبيد : في حجوركم أي في بيوتكم. وعن علي عليه‌السلام أنه جعل كونها ربيبة له وكونها في حجره شرطا في التحريم وهو استدلال حسن. وأما سائر العلماء فذهبوا إلى

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الرضاع حديث ١٧ ، ٢٠ ، ٢٣. أبو داود في كتاب النكاح باب ١٠. الترمذي في كتاب الرضاع باب ٣. النسائي في كتاب النكاح باب ٥١. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٣٥. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٩. أحمد في مسنده (٤ / ٤ ، ٥ ، ٣١).

(٢) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ٩ ، ١٠. الموطأ في كتاب الرضاع حديث ١٣. أحمد في مسنده (٦ / ١ ، ٢٠ ، ٢٥٥). بلفظ «.. فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة».

٣٨٦

أنّ الكلام أخرج مخرج الأعم الأغلب ، وأنه إذا دخل بالمرأة حرمت ابنتها عليه سواء كانت في تربيته أو لم تكن. أما اشتراط الدخول بأمها فلقوله : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) وهو متعلق بربائبكم كما تقول : بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خديجة. وأما عدم اشتراط التربية فلقوله : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول ، وهذا يقتضي أن السبب لحصول الجناح هو مجرد الدخول. وذهب جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس. وحجتهم أنه تعالى ذكر جملتين وهو قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ثم ذكر شرطا وهو قوله : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا. وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين فعلى أن قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) جملة مستقلة بنفسها ولم يدل دليل على عود ذلك الشرط إليه إذ الظاهر تعلق الشرط بالثانية ، وإذا تعلق الشرط بالثانية أو تعلق بإحدى الجملتين فلا حاجة إلى تعليقه بأخرى. وأيضا عود الشرط إلى الجملة الأولى وحدها باطل بالإجماع وكذا عوده إليهما معا ، لأنّ معنى «من» مع الأولى البيان ، ومعناها مع الثانية ابتداء الغاية ، واستعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا غير جائز. نعم لو جعل «من» للاتصال كقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] أمكن اعتبار الاتصال في النساء والربائب معا ، فأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن ، كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن. إلّا أن هذا التفسير فيه خلل من جهة اللفظ ومن جهة المعنى. أما اللفظ فلأن قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وكذا ربائبكم يكون حينئذ مبتدأ وقوله (مِنْ نِسائِكُمُ) خبرا ويقع بين المعطوفات فاصلة لأن قوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) وما بعده معطوف على فاعل (حُرِّمَتْ). وأما من جهة المعنى فلأن الحكم بالاتصال والاتحاد يقتضي التحليل لا التحريم ظاهرا. ومما يدل على أن الجملة الأولى مرسلة ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا نكح الرجل امرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل ، وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلّقها فإن شاء تزوّج البنت» (١) وكان عبد الله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة. فاتفق أن ذهب إلى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه ، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة. وعن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب ٢٥.

٣٨٧

قال : إنّ الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فله ذلك ، وإن ماتت عنده لم يتزوّج أمها أقام الموت مقام الدخول في التحريم كما قام مقامه في باب المهر. والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم : بنى عليها أو ضرب عليها الحجاب. يعني أدخلتموهن الستر ، والباء للتعدية. وقد تقدم أن الخلوة الصحيحة عند أبي حنيفة تقوم مقام الدخول في التحريم. وقد تمسك أبوبكر الرازي بالآية في إثبات أن الزنى يوجب حرمة المصاهرة. قال : لأنّ الدخول بها اسم لمطلق الوطء من نكاح كان أو سفاح. ورد بأنّ تقديم قوله : (مِنْ نِسائِكُمُ) يوجب تخصيص الوطء بالحلال.

الصنف الثاني عشر (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) فيخرج المتبنى وكان في صدر الإسلام بمنزلة الابن إلى أن نزل : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) [الأحزاب : ٣٧] وحكم الابن من الرضاع حكم الابن من النسب في تحريم حليلته على أبيه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (١) وإن كان ظاهر قوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) وظاهر قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) يقتضي الحل فههنا قد تخصص عموم القرآن بخبر الواحد. واتفقوا على أنّ حرمة التزوّج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد ولا تتوقف الحرمة على الدخول. وما روي عن ابن عباس أنه قال : أبهموا ما أبهم الله أراد به التأبيد. ألا ترى أنه قال في السبع المحرّمات من جهة النسب إنها من المبهمات أي من اللواتي تثبت حرمتهن على التأبيد؟ واتفقوا أيضا على تحريم حليلة ولد الولد على الجد. أما جارية الابن فقد قال أبو حنيفة : يجوز للأب أن يتزوّج بها. وقال الشافعي : لا يجوز لأنّ الحليلة فعيلة إما بمعنى المفعول من الحل أي المحللة ، أو من الحلول بمعنى أن السيد يحل فيها ، وإما بمعنى الفاعل لأنهما يحلّان في لحاف واحد ، أو يحل كل واحد منهما في قلب صاحبه لما بينهما من الإلفة والمودّة. وعلى التقادير يصدق على جارية الابن أنها حليلته كما يصدق على زوجته أنها حليلته فتناولها الحرمة بالآية. الصنف الثالث عشر (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي حرمت عليكم الجمع بينهما والتأنيث للتغليب أو للاكتساب أو بتأويل الخصلة. ويمكن أن يقال : الواو نائب عن الفعل المطلق من غير اعتبار تذكيره أو تأنيثه ، والجمع يكون إما بالنكاح أو بالملك أو بهما. أما النكاح فلو عقد عليهما معا فنكاحهما باطل ، وعلى الترتيب بطل الثاني

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب ٧. مسلم في كتاب الرضاع حديث ١ ، ٢. أبو داود في كتاب النكاح باب ٦. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٣٤. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٨. الموطأ في كتاب الرضاع حديث ١ ، ٢ ، ١٦. أحمد في مسنده (١ / ٢٧٥ ، ٢٩٠).

٣٨٨

لأنّ الدفع أسهل من الرفع ، وأما الجمع بينهما بملك اليمين أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى فقد اختلف الصحابة فيه ؛ فقال علي وعمرو بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر : لا يجوز الجمع بينهما لإطلاق الآية ، ولأنه لو لجاز الجمع بينهما في الملك لجاز وطؤهما معا لقوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦] ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة ، فلو سلم أن الآية تدل على الجواز فالأحوط جانب الترك. وأما سائر الصحابة والفقهاء فقد قالوا : النهي وارد عن نكاحهما ، فلو جمع بينهما في الملك جاز إلّا أنه إذا وطئ إحداهما حرّم وطء الثانية عليه ، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج. قال أبو حنيفة هاهنا : لا يجوز نكاح الأخت في عدّة الأخت البائن لأنّ النكاح الأول كأنه باق بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة. وقال الشافعي : يجوز لأن نكاح المطلّقة زائل بدليل لزوم الحد بوطئها. وأما وجوب العدة ولزوم النفقة فنقول : متى حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها ، ولا يلزم من حصول القدرة على حبسها حصول النكاح لأنّ استثناء عين التالي لا ينتج. وإذا أسلم الكافر وتحته أختان فقد قال الشافعي : اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى سواء تزوّج بهما معا أو على الترتيب ، لأنّ الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشرائع في أحكام الدنيا إذا لا يتصوّر تكليفه بالفروع ما دام كافرا. نعم يعاقب بترك الفروع في الآخرة كما يعاقب على ترك الإسلام. ومما يؤيّد قول الشافعي ما روي أن فيروزا الديلي أسلم على ثمان نسوة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اختر منهن أربعا وفارق سائرهن أطلق ولم يتفحص عن الترتيب. وقال أبو حنيفة : إن تزوّج بهما معا تركهما أو على الترتيب فارق الثانية ، لأنّ الخطاب في قوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا) عام فيتناول المؤمن والكافر فخالف أصليه حيث جعل النهي دالا على الفساد ، والكافر مخاطبا بالفروع. ومما يدل على أن الخطاب بالفروع لا يظهر أثر في حق الكافر في الأحكام الدنيوية الإجماع على أنه لو تزوج بغير وليّ وشهود أو على سبيل القهر والغصب فبعد الإسلام يقرّر ذلك النكاح ، أما قوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فمعناه أن ما مضى مغفور بدليل قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وقد مرّ نظيره.

واعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألحق بالأختين جميع المحارم حيث قال : «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» (١) وضبط العلماء ذلك بأنّ كل شخصين بينهما قرابة أو رضاع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب النكاح باب ٢٧. مسلم في كتاب النكاح حديث ٣٧ ـ ٣٩. أبو داود في كتاب النكاح باب ١٢. الترمذي في كتاب النكاح باب ٣. النسائي في كتاب النكاح باب ٣١. الدارمي في كتاب النكاح باب ٨. أحمد في مسنده (١ / ٧٨ ، ٣٧٣).

٣٨٩

لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى حرّم النكاح بينهما فلا يجوز الجمع بينهما. فيحرم الجمع بين المرأة وبنت أخيها وبنات أولاد أخيها ، وكذلك بين المرأة وبنت أختها وبنات أولاد أختها سواء كانت العمومة والخئولة من النسب أو الرضاع. ولا يحرم نكاح المرأة وأم زوجها ، ولا نكاح المرأة وبنت زوجها لأنه لا توجد الحرمة على تقدير ذكورة كل واحدة منهما ، وإنما توجد على تقدير ذكورة أم الزوج أو بنته فقط لمكان المصاهرة حينئذ بخلاف ما لو فرضت المرأة ذكرا فإنه لا يكون بينهما قرابة ولا رضاع. وقد يضبط تحريم الجمع بعبارتين أخريين : إحداهما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع يقتضي المحرمية ، والثانية يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما وصلة قرابة أو رضاع لو كانت تلك الوصلة بينك وبين امرأة لحرمت عليك. الصنف الرابع عشر (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان : أحدها الحرية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النور : ٤] وثانيها العفة (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) أحصنت فرجها. وثالثها الإسلام (فَإِذا أُحْصِنَ) قيل في تفسيره إذا أسلمن. ورابعها كونها ذات زوج (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) أي ذوات الأزواج منهن. والوجوه كلها مشتركة في أصل المعنى اللغوي وهو المنع. يقال : مدينة حصينة ودرع حصينة مانعة صاحبها من الآفات والجراحات. والحرية سبب لمنع الإنسان من نفاذ حكم الغير فيه ، والعفة مانعة من ارتكاب المناهي ، وكذا الإسلام والزوج مانع لزوجته من كثير من الأمور ، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا. قرىء بكسر الصاد لأنهن أحصن فروجهن بالتزوج. ومعنى قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أن اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين ؛ وهكذا إذا سبى الزوجان معا خلافا لأبي حنيفة قياسا على شراء الأمة واتهابها وارثها فإن كلا منها لا يوجب الفرقة. وأجيب بأنّ الحاصل عند السبي إحداث الملك فيها ، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص ، والأول أقوى فظهر الفرق. وقيل : المعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلّا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع الفراق بينهن وبين أزواجهنّ. وقيل : المحصنات الحرائر. والمعنى حرمت عليكم الحرائر إلّا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع ، أو إلّا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن لحصول الشرائط المعتبرة من حضور الولي والشهود وغير ذلك ، والقول هو الأول لما روي عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فاستحللناهن. ثم أكد تحريم المذكورات بقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) قال الزجاج : يحتمل أن يكون منصوبا باسم فعل ويكون (عَلَيْكُمْ) مفسرا له أي الزموا كتاب الله. (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي ما وراء هذه المذكورات سواء كن

٣٩٠

مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو خفية أو ببيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قلنا في تحريم الجمع بين الأختين وغيرهما. وقد دخل بعد هذه العناية في الآية تخصيصات أخر منها : أنّ المطلقة ثلاثا لا تحل ودليل ذلك قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] ومنها الحربية والمرتدة بدليل قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] ومنها المعتدة بدليل قوله (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٢٨] ومنها أن من في نكاحه حرة لم يجز له أن ينكح أمة بالاتفاق. وعند الشافعي القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة بدليل (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) ومنها الخامسة بدليل (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣] ومنها الملاعنة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا». وقوله : (أَنْ تَبْتَغُوا) مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم في حال كونكم محصنين لا في حال كونكم مسافحين ، لئلّا تضيّعوا أموالكم التي جعل الله لكم قياما فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم. ويجوز أن يكون (تَبْتَغُوا) بدلا من (ما وَراءَ ذلِكُمْ) ومفعول (تَبْتَغُوا) مقدر وهو النساء. والأجود أن لا يقدر لأنّه مفهوم من سوق الكلام وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم. ومعنى محصنين متعففين عن الزنا وسمي الزنا سفاحا لأنّه لا غرض للزاني إلّا سفح النطفة أي صبّها. قال أبو حنيفة : لا يجوز المهر بأقل من عشرة دراهم لأنّه تعالى قيد التحليل بالابتغاء بالأموال والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا. وقال الشافعي : يجوز بالقليل والكثير لأنّ قوله : (بِأَمْوالِكُمْ) مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد ، فيتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا ، والقليل والكثير في هذه الحقيقة سواء. وعن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق فقد استحل» وقال أبو حنيفة : لو تزوّج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها ، لأنّ الابتغاء بالمال شرط والمال اسم للأعيان لا للمنافع ، وكذا قوله (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ) [النساء : ٤] والإيتاء والأكل من صفة الأعيان. ولو تزوّج امرأة على خدمة سنة وإن كان حرا فلها مهر مثلها ، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة. وقال الشافعي : الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه أن الابتغاء بغيره جائز أو لا. وأيضا قد خرج الخطاب مخرج الأعم الأغلب فلا يدل على نفي ما سواه. ومما يدل على جواز جعل المنفعة صداقا قوله تعالى في قصة شعيب (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) [القصص : ٢٧] والأصل في شرع من قبلنا البقاء إلى أن يظهر الناسخ. وأيضا التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد التزوّج بها شيئا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل معك شيء من القرآن؟ قال : نعم ، سورة كذا وكذا. فقال : زوّجتكها

٣٩١

بما معك من القرآن. ومنه يعلم جواز عتق الأمة صداقا لها لا سيما وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وكونه من خواصه ممنوع.

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) أي فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن أو خلوة صحيحة عند أبي حنيفة (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي عليه فأسقط الراجع للعلم به. ويجوز أن يراد بما النساء «ومن» للتبعيض أو البيان لا لابتداء الاستمتاع ، ويكون رجوع الضمير إليه في (بِهِ) على اللفظ وفي (فَآتُوهُنَ) على المعنى. والأجور المهور لأنّ المهر ثواب على البضع كما يسمى بدل منافع الدار والدابة أجرا. و (فَرِيضَةً) حال من الأجور بمعنى مفروضة ، أو أقيمت مقام إيتاء لأنّ الإيتاء مفروض ، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة. ولا يخفى أنه إن استمتع بها بدخول بها يجب تمام المهر ، وإن استمتع بعقد النكاح فقط فالأجر نصف المهر. قال أكثر علماء الأمة : إنّ الآية في النكاح المؤبد. وقيل : المراد بها حكم المتعة وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معلوم ليجامعها ، سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. واتفقوا على أنها كانت مباحة في أول الإسلام ، ثم السواد الأعظم من الأمة على أنها صارت منسوخة. وذهب الباقون ومنهم الشيعة إلى أنها ثابتة كما كانت ، ويروى هذا عن ابن عباس وعمران بن الحصين. قال عمارة : سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ قال : لا سفاح ولا نكاح. قلت : فما هي؟ قال : هي متعة كما يقال. قال : قلت هل لها عدة؟ قال : نعم ، عدّتها حيضة. قلت : هل يتوارثان؟ قال : لا. وفي رواية أخرى عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال : قاتلهم الله إني ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكني قلت : إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له ، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال : اللهم إني أتوب إليك من قولي في الصرف والمتعة. وأما عمران بن الحصين فإنه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمتعنا معه ومات ولم ينهنا عنها ، ثم قال رجل برأيه ما شاء ـ يريد أن عمر نهى عنها ـ وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي أنه قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي. حجة الجمهور على حرمة المتعة أنّ الوطء لا يحل إلّا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦] وهذه المرأة ليست بمملوكة ولا بزوجة وإلّا لحصل التوارث ولثبت النسب ولوجبت العدة عليها بالأشهر والتوالي باطلة بأسرها بالاتفاق. وروي عن عمر أنه نهى عن المتعة على المنبر بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم ، فلو سكتوا لعلمهم بحرمتها فذاك ، ولو سكتوا لجهلهم

٣٩٢

بحلها وحرمتها فمحال عادة لشدة احتياجهم إلى البحث عن أمور النكاح ، ولو سكتوا مع علمهم بحلها فإخفاء الحق مداهنة وكفر وبدعة وذلك محال منهم. وما روي عن عمر أنه قال : لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته. ثم إنّ الصحابة لم ينكروا عليه مع أنّ الرجم لا يجوز في المتعة فلعله ذكر ذلك على سبيل التهديد والسياسة ومثل ذلك جائز للإمام عند المصلحة. ألا ترى أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من منع منا الزكاة فإنا آخذوها منه وشطر ماله» (١) مع أن أخذ شطر المال من مانعي الزكاة غير جائز إلّا للسياسة. وروى الواحدي في البسيط عن مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. قال : وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال : غدوت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول : يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ، ألا وإن الله قد حرمه عليكم إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. القائلون بإباحة المتعة قالوا : الابتغاء بالأموال يتناول الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأبيد وعلى سبيل التوقيت ، بل الآية مقصورة على نكاح المتعة لما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن وبه قرأ ابن عباس أيضا ، والصحابة ما أنكروا عليهما فكان إجماعا. وأيضا أمر بإيتاء الأجور لمجرد الاستمتاع أي التلذذ وهذا في المتعة ، وأما في النكاح المطلق فيلزم الأجر بالعقد. وأيضا قال في أول السورة : (فَانْكِحُوا) [النساء : ٣] فناسب أن تحمل هذه الآية على نكاح المتعة لئلا يلزم التكرار في سورة واحدة ، والحمل على حكم جديد أولى. ومما يدل على ثبوت المتعة ما جاء في الروايات أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. وأكثر الروايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح. وذلك أنّ أصحابه شكوا إليه يومئذ طول العزوبة فقال : استمتعوا من هذه النساء. وقول من قال إنه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلّا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات. ونهي عمر يدل على أنه كان ثابتا في عهد الرسول ، وما كان ثابتا في عهده لم يمكن نسخه بقول عمر كما أشار إليه عمران بن الحصين. وأجيب بأنّ المراد من قول عمر «وأنا أنهي عنها» أنه قد ثبت عندي نسخها في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سلموا له ذلك فكان إجماعا.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) الذين حملوا الآية على بيان

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب ٧. أحمد في مسنده (٥ / ٢ ، ٤).

٣٩٣

حكم النكاح قالوا : المراد أنه إذا كان المهر مقدّرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا أو تبرّئه عنه بالكلية كقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ) [النساء : ٤] وقال الزجاج : لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر ، إذا طلّقها قبل الدخول. قال أبو حنيفة : إلحاق الزيادة بالصداق جائز لأنّ التراضي قد يقع على الزيادة وقد يقع على النقصان وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها ، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد. وقال الشافعي : الزيادة بمنزلة الهبة. فإن أقبضها ملكته بالقبض وإن لم يقبضها بطلت ، والدليل على بطلان هذه الزيادة أنها لو التحقت بالأصل فإما أن ترفع العقد الأول وتحدث عقدا ثانيا وهو باطل بالإجماع ، وإما أن تحصل عقدا مع بقاء العقد الأول وهو تحصيل الحاصل. والذين حملوا الآية على حكم المتعة قالوا : المراد أنه ليس للرجل سبيل على المرأة من بعد الفريضة وهي المقدار المفروض من الأجر والأجل ، فإن قال لها زيدي في الأيام وأزيد في الأجر فهي بالخيار. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) لا يشرع الأحكام إلّا على وفق الحكمة والصواب.

ثم وسع الأمر على عبادة فقال : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) فضلا في المال وسعة ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه كما أن القصر قصور فيه ونقصان. و (أَنْ يَنْكِحَ) متعلق ب (طَوْلاً) يقال : طال على الأمر إذا غلبه فتمكن من فعله. والمحصنات هاهنا الحرائر ، والمعنى ومن لم يقدر على نكاح الحرة فلينكح من الإماء التي ملكتها أيمانكم. قال ابن عباس : يريد جارية أخيك فإنّ الإنسان لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه والفتيات المملوكات. تقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي» (١) وقال الشافعي : إنّ الله تعالى شرط في نكاح الإماء ثلاث شرائط : اثنتان في الناكح الأولى فقد طول الحرة وهو عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أحج إذا كان لا يجد ما يحج به. فإذا كان كذلك جاز له التزوّج بالأمة لأنّ العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة ساداتهن. والثانية خشية العنت كما يجيء في آخر الآية. والثالثة في المنكوحة وهي أن تكون الأمة لمسلم ومع ذلك تكون مؤمنة لا كافرة لقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فالقيد الأول مستفاد من قوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ) أي من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين ، والقيد الثاني من وصف الفتيات بالمؤمنات. أما فائدة القيد الأول فهي أن الولد تابع

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الألفاظ حديث ١٤. أحمد في مسنده (٢ / ٤٤٤).

٣٩٤

للأم في الحرية والرق ، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر. إلّا أن هذا القيد ألغاه أكثر الأئمة لأنّ الولد إذا رق للكافر بيع عليه في الحال. وأما فائدة القيد الثاني فالحذر من اجتماع النقصانين الكفر والرق. وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن ومذهب مالك والشافعي. أما أبو حنيفة فإنه يقول : الغني والفقير سواء في جواز نكاح الأمة. وذلك أنه يحمل النكاح في الآية على الوطء ويقول : المراد أن من لم يملك فراش الحرة فله أن ينكح أمة. ثم الأمة لو كانت كتابية جاز له نكاحها ولكن نكاح الأمة المؤمنة أفضل فحمل التقييد في الآية على الفضل لا على الوجوب قياسا على جواز نكاح الحرة الكتابية بالإجماع مع وصف الجرائر أيضا بالمؤمنات. وأجيب بالفرق وهو اجتماع النقصانين. ومن الناس من قال : لا يجوز التزوّج بالكتابيات البتة ولا شك أن في الآية دلالة على الحذر عن نكاح الإماء وأن الإقدام عليه لا يجوز إلّا عند الضرورة وذلك لتباعة الولد الأم في الرق ، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة فربما تعوّدت بسبب ذلك فجورا وقحة ، ولما للمولى عليها من حق الاستخدام فلا تخلص لخدمة الزوج ، ولأنّ السيد قد يبيعها فتصير مطلقة عند من يقول بذلك ، ولأنّ مهرها ملك لمولاها فلا تقدر على هبة مهرها من زوجها ولا على إبرائه. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) قال الزجاج : أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله أعلم بما في الصدور. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) كلكم أولاد آدم فلا يتداخلكم أنفة من التزوّج بالإماء عند الضرورة ، أو كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم المقاصد فإذا حصل الاشتراك فيه فما وراءه غير ملتفت إليه. وفيه توهين ما كانوا عليه في الجاهلية من الفخر بالأنساب والأحساب وتأنيس بنكاح الإماء إذا كن مؤمنات. ثم شرح كيفية هذا النكاح فقال : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) فلذلك اتفقوا على أنّ نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل لأنّ نكاحهن غير واجب فيتوجه الأمر إلى اشتراط الإذن ، ولأنّ التزوّج بها يعطل على السيد أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز إلّا بإذنه. ولفظ القرآن مقتصر على الأمة. وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث. روى جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تزوّج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر» (١) واستدل الشافعي بالآية على أنّ المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلّا بإذن الولي لأنّ قوله : (فَانْكِحُوهُنَ) الضمير فيه يعود إلى الإماء. والأمة ذات موصوفة بصفة الرق ، وصفة الرق صفة زائلة ، والإشارة إلى ذات موصوفة بصفة عرضية زائلة تبقى بعد زوال تلك الصفة بدليل أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ١٦. الترمذي في كتاب النكاح باب ٢١. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٤٣. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٠. أحمد في مسنده (٣ / ٣٠١ ، ٣٧٧).

٣٩٥

يحنث في يمينه. فعند زوال الرق عنها وهي حرة عاقلة بالغة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها ، وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة ثبت في سائر الصور ضرورة أنه لا قائل بالفرق. واعترض على قول الشافعي بأنّ ظاهر الآية يدل على الاكتفاء بحصول إذن أهلها وعنده لا يجوز للمرأة أن تزوّج أمتها. وأجيب بأن المراد بالإذن الرضا ، وعندنا أن رضا المولى لا بد منه. فإما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه ، وأيضا إن أهلهن عبارة عمن يقدر على إنكاحهن وهو المولى إن كان رجلا أو ولي المولى إن كان امرأة. سلمنا أن الأهل هو المولى لكنه عام يخصصه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العاهر هي التي تنكح نفسها» (١) إذ يلزمه أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكها ضرورة أنه لا قائل بالفرق. قلت : الإنصاف أن استدلال الشافعي لا يتم. فلقائل أن يقول : لا نسلم أن صفة الرق للأمة عرضية من حيث إنها أمة ، وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن الإشارة إلى ذات الأمة في الآية تبقى بعد زوال صفة الرق. فكونها مثل قول القائل لا أتكلم مع هذا الشاب ممنوع. فمن المعلوم عرفا أن المراد به ذات الشاب من حيث هو ولكنه كقول الحالف : لا أكلم شابا. فحينئذ لو كلّم زيدا وزيد شاب حنث فإذا صار شيخا ثم كلمه لم يحنث. (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن وفيه دلالة على وجوب مهرها إذا نكحها ـ سمى لها المهر أو لم يسم ـ وفي قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) دلالة على أنه مبني على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد المتعارف وهو مهر المثل ، أو المراد بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء. وقيل : الأجور النفقة عليهن لأن المهر مقدر فلا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بيّن أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة. وعن بعض أصحاب مالك أنّ الأمة هي المستحقة لقبض مهرها ، وأنّ المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجرة دونها واحتجوا في المهر بظاهر قوله : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وأما الجمهور فعلى أن مهرها لمولاها لقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) [النحل : ٧٥] وهذا ينفي كون المملوكة مالكة لشيء أصلا ، ولأنّ منافعها كانت مملوكة للسيد وقد أباحها للزوج بعقد النكاح فوجب أن يستحق بدلها. أما ظاهر الآية فلو حملنا لفظ الأجور على النفقة فلا إشكال ، ولو حملناه على المهور فالجواب أنها ثمن أبضاعهن فلذلك أضيف الأجور إليهن. وليس في قوله : (وَآتُوهُنَ) ما يوجب كون المهر ملكا لهن. وهب أن المهر ملك لهن ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العبد وما يملكه لمولاه» أو المراد وآتوا مواليهن فحذف المضاف (مُحْصَناتٍ) قال ابن عباس : أي عفائف وهو حال من قوله :

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب ١٥. بلفظ «البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بيّنة».

٣٩٦

(فَانْكِحُوهُنَ) وظاهره يقتضي حرمة نكاح الزواني لكن الأكثرون على أنه يجوز فالآية محمولة على الندب والاستحباب. (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) قال أكثر المفسرين : المسافحة هي التي تؤاجر نفسها أي رجل أرادها ، ومتخذة الخدن هي التي لها صديق معيّن. وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية ، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم فلا جرم أفردهما الله تعالى بالذكر تنصيصا على حرمتهما معا. والأخدان جمع خدن كالأتراب جمع ترب. والخدن الذي يخادنك أي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن ، يقع على الذكر والأنثى. (فَإِذا أُحْصِنَ) بالتزوّج وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد ، أو بالإسلام وهو قول عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي. وكأنه تعالى ذكر حال إيمانهن في النكاح في قوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) ثم كرر ذلك في حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة. وهاهنا إشكال وهو أن المحصنات في قوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) أريد بها الحرائر المتزوجات أو الحرائر الأبكار. وعلى الأول يجب عليهن نصف الرجم وتنصيف الرجم محال ، وعلى الثاني يجب عليهن خمسون جلدة وهذا القدر واجب في زنا الأمة محصنة كانت أو لم تكن ، وقد علق ذلك في الآية بمجموع الأمرين : الإحصان والزنا. والجواب أنا نختار القسم الأول ويسقط الرجم عنهن بالدليل العقلي لأن الرجم لا ينتصف ، أو الثاني والمراد بيان تخفيف عذابهن. وذلك أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوّجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليها ، فلأن يكون قبل التزوّج هذا القدر أولى.

واعلم أن الخوارج اتفقوا على إنكار الرجم واحتجوا بأنّ الآية تدل على أنّ عذاب الأمة نصف عذاب الحرة المحصنة ، فلو كان على الحرة الرجم لزم تنصيف الرجم في حق الأمة وهو محال. والجواب ما مرّ أن المخصص في حق الأمة دليل عقلي ، والفقهاء جعلوا الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحرة في غير الحد وإن كان من الأمور ما لا يجب ذلك فيه كالصلاة والصوم وغيرهما. (ذلِكَ) إشارة إلى نكاح الإماء بالاتفاق (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) وقد عرفت فيما مرّ أن معناه الوقوع في أمر شاق. وللمفسرين هاهنا قولان : أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تدعو إلى الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب الأليم في الآخرة ، والثاني أن الشبق قد يفضي إلى الأمراض الشديدة كأوجاع الوركين والظهر والوسواس وكاختناق الرحم للنساء ، والأول أليق ببيان القرآن وعليه أكثر العلماء. (وَأَنْ تَصْبِرُوا) أي صبركم عن نكاح الإماء بعد شروطه المبيحة متعففين خير لكم لما فيه من المفاسد المذكورة. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحرائر صلاح البيت

٣٩٧

والإماء هلاك البيت». (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تأكيد لما ذكره من أن الأولى ترك النكاح إلّا أنه أباحه لاحتياج المكلفين فهو من باب المغفرة والرحمة (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أقيمت اللام مقام «أن» في قولك أريد أن يقوم. وقيل : زيدت اللام وقدر «أن» وذلك لتأكيد إرادة التبيين كما زيدت في «لا أبالك» لتأكيد إضافة الأب. وقيل : في الآية إضمار والأصل يريد الله إنزال هذه الأحكام ليبين لكم دينكم وشرعكم وما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ويهديكم مناهج من كان قبلكم. قيل : المراد أن كل ما بيّن لنا من التحريم والتحليل في شأن النساء فقد كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل. وقيل : بل المراد أن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلّا أنها متفقة في باب المصالح ، وقيل : المعنى سنن من كان قبلكم من أهل الحق لتقتدوا بهم ويتوب عليكم. قال القاضي : معناه كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزاح الشبه عنها ، كذلك يريد أن يتوب علينا إن وقع تقصير وتفريط. وفي الآية إشعار بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ، فيرد عليه أنه إذا أراد التوبة منا وجب أن تحصل التوبة لكنا وليس كذلك. وأجيب بأنّ المراد التوبة في باب نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وقد حصلت هذه التوبة ، وكذا الكلام في قوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) وقالت المعتزلة : يريد أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم. (وَيُرِيدُ) الفجرة (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق والقصد (مَيْلاً عَظِيماً) وقيل : هم اليهود ، وقيل : المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت ، فلما حرمهن الله قالوا : فإنكم تحلّون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت. يقول : يريدون أن تكونوا زناة مثلهم. (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص. (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) فلضعفه خفف تكليفه ولم يثقل. أما ضعف خلقته بالنسبة إلى كثير من المخلوقات بل الحيوانات فظاهر ولهذا اشتد احتياجه إلى التعاون والتمدن والأغذية والأدوية والمساكن والملابس والذخائر والمعاملات إلى غير ذلك من الضرورات ، وأما ضعف عزائمه ودواعيه فأظهر ولهذا لا يصبر على مشاق الطاعات ولا عن الشهوات ولا سيما عن النساء. عن سعيد بن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلّا أتاهم من قبل النساء ، لقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف علي النساء. عن ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً

٣٩٨

أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) [النساء : ١٤٧] اللهم لا تحرمنا مواعيدك إنك لا تخلف الميعاد.

ثم إنه لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهر والنفقات بيّن عقيب ذلك أنه كيف يتصرف في الأموال فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بما لا يبيحه الشرع بوجه وقد مر تفسيره في البقرة في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) وقد سبق مثله في آخر البقرة. وخص التجارة بالذكر وإن كان غير ذلك من الأموال المستفادة بنحو الهبة والإرث وأخذ الصدقات والمهور وأروش الجنايات حلالا ، لأنّ أكثر أسباب الرزق يتعلق بالتجارة. ويدخل تحت هذا النهي أكل مال الغير بالباطل ، وأكل مال نفسه بالباطل كما أن قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه. قال أبو حنيفة : النهي في المعاملات لا يدل على البطلان. وقال الشافعي : يدل لأن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول المالك فذلك غير منعقد بالإجماع فالتصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي وهو الله سبحانه أولى أن يكون باطلا. وأي فرق بين قوله : «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين» وبين قوله : «لا تبيعوا الحر» وإذا كان الثاني غير منعقد بالاتفاق فكذا الأول. وقال أبو حنيفة : خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة لأن التراضي المذكور في الآية قد حصل. وقال الشافعي : لا شك أن هذا التراضي يقتضي الحل إلّا أنا نثبت بعد ذلك للمتبايعين الخيار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» (١). (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) من كان من جنسكم من المؤمنين لأنّ المؤمنين كنفس واحدة ، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة حينما يعرضه غم أو خوف أو مرض شديد يرى قتل نفسه أسهل عليه. عن الحسن البصري قال : حدثنا جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان رجل جرح فقتل نفسه فقال الله : بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة» (٢). وعن أبي هريرة قال : شهدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام : هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراح. فقيل له : يا رسول الله الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ٤٢ ، ٤٤ ، ٤٧. مسلم في كتاب البيوع حديث ٤٥. أبو داود في كتاب البيوع باب ٥١. النسائي في كتاب البيوع باب ٩. الموطأ في كتاب البيوع حديث ٧٩. أحمد في مسنده (١ / ٥٦).

(٢) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٨٣.

٣٩٩

النار. فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبيناهم على ذلك إذ قيل له : إنه لم يمت ولكن به جراحات شديدة ، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله. وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» (١). وعن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صلّيت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله تعالى يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل شيئا. وقيل : معنى الآية لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الإحصان (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ولأجل رحمته نهاكم عما يضركم عاجلا وآجلا. وقيل من رحمته أنه لم يأمركم بقتل أنفسكم كما أمر بني إسرائيل بذلك توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) القتل (عُدْواناً وَظُلْماً) لا خطأ ولا قصاصا. هذا قول عطاء. وقال الزجاج : ذلك إشارة إلى القتل والأكل بالباطل. وعن ابن عباس أنه عائد إلى كل ما نهى الله تعالى عنه من أول السورة. وتنكير النار للتعظيم أو للنوع. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) مثل على وفق المتعارف كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وإلّا فلا مانع له عن حكمه ولا منازع له في ملكه.

التأويل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) الآية كلها إشارات إلى نهي التعلق ومنع التصرف في الأمهات السفليات والمتوالدات من أوصاف الإنسان وصفات الحيوان. (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) بأنواع غفرانه ظلمات الصفات الإنسانية التي تتولد من تصرفات الحواس في المحسوسات عند الضرورات بالأمر لا بالطبع (رَحِيماً) بالمؤمنين فيما اضطرهم إليه من التصرفات بقدر الحاجة الضرورية. (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) هي الدنيا التي تصرف فيها العلويات (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) بإذن الله تعالى حيث قال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١] (مُحْصِنِينَ) حرائر من الدنيا وما فيها (غَيْرَ مُسافِحِينَ) في الطلب مياه وجوهكم. (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) من الضروريات فأعطوا حقوق تلك الحظوظ بالطاعة والشكر والذكر. ثم إنّ الله تعالى أحب نزاهة قلب المؤمن عن دنس حب الدنيا كما أحب

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٧٥. الترمذي في كتاب الطب باب ٧. النسائي في كتاب الجنائز باب ٦٨. الدارمي في كتاب الديات باب ١٠. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٤ ، ٤٧٨).

٤٠٠