تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

أنه مالك الملك ، والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء لم يكن ذلك ظلما. فخلق ذلك الفعل فيهم وترتيب العذاب عليه لا يكون ظلما. قيل : إنه نفى الظلم الكثير عن نفسه وذلك يوهم ثبوت أصل الظلم له ، أجاب القاضي بأن العذاب الذي توعد بأن يفعل بهم لو كان ظلما لكان عظيما ، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا. وهذا يؤكد ما ذكر أن إيصال العقاب إليهم كان يكون ظلما عظيما لو لم يكونوا مذنبين. أقول : إنه تعالى نفى حقيقة الظلم عنه في قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ) [هود : ١٠١] (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨١] وبحقيقة ما ذكرناه أنه مالك الكل له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ، ولكنه نفى هاهنا كثرة الشر والظلم أن يصدر عنه كأنه قال : إن خيّل إليكم أن في الوجود شرا بناء على ما في ظنكم من أن الحكيم قد يصدر عنه الشر القليل بتبعية الخير الكثير ، فاعلموا أني منزه عن صدور الشر الكثير مني ، وأن هذا من الشر القليل الذي في ضمنه خير كثير. ونقول : أراد نفي الشر القليل وأصل الظلم عنه ، ولكن القليل من الظلم بالنسبة إلى رحمته الذاتية كثير ، فلهذا عبر عنه بلفظ الكثرة والمبالغة. ثم قرر الشبهة الأخرى لهم فقال : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) قال الكلبي : نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا ، وأنزل عليك الكتاب ، وإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك فنزلت. قال عطاء : كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف ، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت ، فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان وهو البر الذي يتقرب به إلى الله. وأصله مصدر كالكفران والرجحان. ثم سمي به نفس المتقرب به إلى الله ومنه قوله عليه‌السلام لكعب بن عجرة : «يا كعب ، الصوم جنة والصلاة قربان» (١) أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه. وللعلماء فيما ادعاه اليهود قولان : قال السدي : إن هذا الشرط جاء في التوراة مع الاستثناء. قال : من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا. فكانت هذه العادة جارية إلى مبعث المسيح ثم زالت. وقيل : إنه افتراء لأن المعجزات كلها في كونها خارقة للعادة وآية لصحة النبوة سواء ، فأي فائدة في تخصيصها؟ ولأنه إما أن يكون في التوراة أن مدعي

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٣٢١ ، ٣٩٩).

٣٢١

النبوّة وإن جاء بجميع الآيات لا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه الآية المعينة ، وحينئذ لا تكون سائر المعجزات دالة على الصدق ، وإذا جاز الطعن فيها جاز في هذه. وإما أن يكون فيها أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة أية كانت. وحينئذ يكون طلب هذا المعجز المعين عبثا فلهذا نسبهم الله تعالى إلى الجحود والعناد فقال : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) أي بمدلوله ومؤدّاه (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنما الإيمان يجب عند الإتيان بالقربان. وإنما ذكر مجيء الرسل بالبينات ولم يقتصر على مجيء القربان ليتم الإلزام. وذلك أن القوم يحتمل أن يقولوا إن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها ، والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط. فلو اكتفى بذكر القربان لم يتم الإلزام ، وحيث أضاف إليه البينات ثبت أنهم أتوا بالموجب وبالشرط جميعا ، فكان الإقرار بالنبوة واجبا. ثم سلى رسوله بقوله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) في أصل الشريعة والنبوة أو في قولك إن الأنبياء الأقدمين جاؤهم بالبينات وبالقربان فقتلوهم. (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) وأي رسل والمصيبة إذا عمت طابت (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) وهي الحجج الواضحات والمعجزات الباهرات. والزبر هي الصحف جمع زبور بمعنى مزبور أي مكتوب. وقال الزجاج : الزبور كل كتاب ذي حكمة فيشبه أن يكون من الزبر بمعنى الزجر عن خلاف الحق وبه سمي زبور داود لما فيه من الزواجر والمواعظ والكتاب المنير الموضح أو الواضح المستنير. ويعلم من عطف الزبور والكتاب على البينات ، أن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم ، وأنها لم تكن معجزة لهم والإعجاز من خواص القرآن. وعطف الكتاب المنير على الزبر لأن الكتاب بوصفه بالإثارة أو الاستنارة أشرف من مطلق الزبر فخص بعد العموم لشرفه مثل (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] وقيل : المراد بالزبر الصحف ، وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور.

ثم أكد التسلية بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الغموم والأشجان الدنيوية ، وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا يتميز فيها المحسن عن المسيء ، ويرى كل منهما جزاء عمله. والمراد بكل نفس ذائقة الموت كل ذات. فالقضية لا يمكن إجراؤها على عمومها لاستثناء الله تعالى منها (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] وكذا كل الجمادات لأن لها ذوات. ولقوله : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] ولأنه لا موت ولا لأهل الجنة ولأهل النار. فالمراد المكلفون الحاضرون في دار التكليف ، والملائكة عند من يجوّز الموت عليهم. روي عن ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن :

٣٢٢

٢٦] قالت الملائكة : مات أهل الأرض. فلما نزل (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) قالت الملائكة : متنا. وفي الآية دليل على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن ، لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول الذوق. قالت الحكماء : الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية لأنها لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية ، ثم إن الحرارة الغريزية تؤثر في تقليل الرطوبة الغريزية. وإذا قلت : الرطوبة الغريزية ضعفت الحرارة الغريزية ، ولا يزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة. قالوا : والأرواح المجردة لا موت لها ، وناقشهم المسلمون فيه. (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) في ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور يعطى قبل ذلك اليوم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) الزح التنحية والإبعاد والزحزحة تكريره (فَقَدْ فازَ) لم يقيد الفوز بشيء لأنه لا فوز وراء هذين الأمرين : الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب. فمن حصل له هذان فقد فاز الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» (١) فالأول رعاية حقوق الله ، والثاني محافظة حقوق العباد. ثم شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغرّ حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته ، وذلك أن لذاتها تفنى وتبعاتها تبقى. والغرور بالضم مصدر ، والغار المدلس هو الشيطان. عن علي بن أبي طالب : لين مسها قاتل سمها. وعن بعضهم : الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور. وعن سعيد بن جبير : إنما هذا المن آثرها على الآخرة. فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) اللام جواب القسم المقدر ، والنون دخلت مؤكدة ، وضمت الواو للساكنين ولما كان يجب لما قبلها من الضم. والمراد ما نالهم من الفقر والضر والقتل والجرح ، والتكاليف الشاقة البدنية والمالية من الصلاة والزكاة والصوم والجهاد ، والذي كانوا يسمعونه من الكفرة كالطعن في الدين الحنيف وأهليه ، وإغراء المخالفين وتحريضهم عليهم وإغواء المنافقين وتنفيرهم عنهم (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ما ابتلاكم الله به (وَتَتَّقُوا) المخالفة أو تصبروا على أداء الواجبات وتتقوا ارتكاب المحظورات (فَإِنَّ ذلِكَ) الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من معزوماتها الذي لا يترخص العاقل في تركه لكونه حميد العاقبة بين الصواب ، أو هو من

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٩. مسلم في كتاب الإمارة حديث ٤٦. النسائي في كتاب البيعة باب ٢٥. أحمد في مسنده (٢ / ١٦١ ، ١٩١).

٣٢٣

عزائم الله ومما ألزمكم الأخذ به. قال الواحدي : كان هذا قبل نزول آية القتال. وقال القفال : الظاهر أنها نزلت بعد قصة أحد فلا تكون منسوخة بآية السيف. والمراد الصبر على ما يؤذون به الرسول على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال. والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه. عن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط ـ المسلمون والمشركون واليهود ـ فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستصلحهم كلهم. فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى ، فأمر الله نبيه بالصبر على ذلك فنزلت الآية. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب على حمار وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن خزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي وذلك قبل أن يسلم عبد الله. فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم وقف. فنزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون. فلم يزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفضهم حتى سكنوا. ثم ركب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له : يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب ـ يريد عبد لله بن أبي؟ قال : كذا وكذا. فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله اعف عنه واصفح ، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي نزل عليك ، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك فعفا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزل الله هذه الآية. ثم إنه تعالى عجب من حال اليهود أنه كيف يليق بحالهم إيراد الطعن في نبوته مع أن كتبهم ناطقة به ـ وأيضا من جملة إيذائهم الرسول أنهم كانوا يكتمون نعته وصفته فلهذا قال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) بإضمار «اذكر» والضمير في (لَتُبَيِّنُنَّهُ) قيل لمحمد لأنه معلوم وإن كان غير مذكور أي لتبينن حاله وهذا قول سعيد بن جبير والسدي. وقال الحسن وقتادة : يعود إلى الكتاب كأنه أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه. وقيل له الله لتفعلن (وَلا تَكْتُمُونَهُ) قيل : الواو للحال أي غير كاتمين. ويحتمل أن تكون للعطف وإن لم يكن مؤكدا بالنون. والأمر بالبيان يتضمن النهي عن الكتمان ، لكنه صرح به للتأكيد (فَنَبَذُوهُ

٣٢٤

وَراءَ ظُهُورِهِمْ) جعلوه كالشيء المطروح المتروك. وعن علي رضي‌الله‌عنه : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. وقال قتادة : مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب. طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع ، هذا علم علما فبذله ، وهذا سمع خيرا فوعاه. ومعنى قوله : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أنهم كتموا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان حظ يسير من الدنيا (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) هو ويدخل في الوعيد كل من كتم شيئا من أمر الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارّهم واستجذاب لمبارّهم ، أو لتقية من غير ضرورة ، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إلى غيره. ثم ذكر نوعا آخر من إيذاء اليهود وأوعدهم عليه وسلى رسوله بذلك فقال : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) من قرأ بتاء الخطاب وفتح الباء فالخطاب للرسول أو لكل أحد ، وأحد المفعولين (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) والثاني (بِمَفازَةٍ). وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) إعادة للعامل لطول الكلام وإفادة التأكيد. ومن ضم الباء في الثاني مع تاء فالخطاب للمؤمنين ، ومن ضمها مع ياء الغيبة فالضمير للذين يفرحون ، والمفعول الأول محذوف أي لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، والثاني للتأكيد. ومعنى (بِما أَتَوْا) بما فعلوا. وأتى وجاء يستعملان بمعنى فعل. قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) [مريم : ٦١] (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) [مريم : ٢٧]. ومعنى بمفازة من العذاب بمنجاة منه أي بمكان الفوز. وقال الفراء : أي ببعد منه لأن الفوز التباعد عن المكروه. في الصحيحين أن مروان قال لرافع أبوابه : اذهب إلى ابن عباس وقل له : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه إنما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهودا فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ، ثم قرأ ابن عباس (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآيتين. وقال الضحاك : كتب يهود المدينة إلى يهود العراق واليمن ومن بلغهم كتاب من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس نبي الله فأثبتوا على دينكم واجمعوا كلمتكم على ذلك. فاجتمعت كلمتكم على الكفر بمحمد والقرآن ، ففرحوا بذلك وقالوا : الحمد لله الذي جمع كلمتنا ولم نتفرق ولم نترك ديننا ونحن أهل الصوم والصلاة ، نحن أولياء الله. فذلك قول الله (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) بما فعلوا (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) فأنزل الله هذه الآية. يعني بما ذكروا من الصوم والصلاة والعبادة. وعن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه ، فإذا قدم اعتذروا عنده وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فأنزل الله هذه الآية. وهذه الوجوه كلها مشتركة في الإتيان بما لا ينبغي ومحبة

٣٢٥

الحمد عليه ووصفه بسداد السيرة وحسن السريرة. ونحن إذا أنصفنا من أنفسنا وجدنا أكثر مجاري أمورنا على هذه الحالة ، فنسأله العصمة والهداية. ثم ختم الكلام بقوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والغرض أنه كيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب؟

التأويل : (هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) كل واحد من صفتي البخل والسخاء بمنزلة الإكسير حتى يجعل الخير شرا وبالعكس. (سَيُطَوَّقُونَ) شبه بالطوق لأنه يحيط بالقلب ومنه ينشأ معظم الصفات الذميمة كالحرص والحسد والحقد والعداوة والكبر والغضب والبخل «حب الدنيا رأس كل خطيئة». (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الإنسان وارث الدنيا والآخرة أولئك هم الوارثون. والوارث إذا مات من غير وارث فميراثه لبيت المال. فالإشارة فيه أن من غلب عليه هذه الصفات ومات قلبه فقد بطل استعداد وراثته فميراثه لله (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) فيه أن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ، فيعكس القضايا فيصف الرب بصفات العبد والعبد بصفات الرب وذلك لغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى والشيطان ، فيقول تارة : أنا ربكم الأعلى ، وتارة إن الله فقير ونحن أغنياء. (بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قالت يهود صفات النفس البهيمية والسبعية والشيطانية لا ننقاد لرسول أي لخاطر رحماني أو إلهام رباني حتى يأتينا بقربان هو الدنيا وما فيها يجعلها نسيكة لله عزوجل ، تأكله نار الله الموقدة التي تقدح من زناد محبتهم ، فإن كثيرا من الطالبين الصادقين يجعلون الدنيا وما فيها قربانا لله فلا تأكله نار الله. قل يا وارد الحق (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) أي واردات الحق بالبينات بالحجج الباهرة (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) أي بجعل الدنيا قربانا (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم يبق أثر الواردات. (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) كلهم مستعدون للفناء في الله ، ولا بد لها من موت. فمن كان موته بالأسباب تكون حياته بالأسباب ، ومن كان فناؤه في الله يكون بقاؤه بالله. (لَتُبْلَوُنَ) بالجهاد الأكبر (وَلَتَسْمَعُنَ) من أهل العلم الظاهر ومن أهل الرياء (أَذىً كَثِيراً) بالغيبة والملامة والإنكار والاعتراض (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على جهاد النفس (وَتَتَّقُوا) بالله عما سواه (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي من أمور أولي العزم (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] والله أعلم.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا

٣٢٦

سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

القراآت : (الْأَبْرارِ) بالإمالة : أبو عمرو وحمزة غير خلاد ورجاء. والكسائي والنجاري عن ورش ، وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. وكذلك كل ما تكرر فيه الراء غير ابن مجاهد والنقاش في جميع القرآن. وقتلوا وقاتلوا حمزة وعلي وخلف ، وقرأ ابن كثير وابن عامر (وَقُتِلُوا) مشددا. الباقون : (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) مخففا. (لا يَغُرَّنَّكَ) بالنون الخفيفة : رويس. الباقون بالتشديد (نُزُلاً) حيث كان بالاختلاس عباس.

الوقوف : (الْأَلْبابِ) ج لاحتمال الذين صفة أو مستأنفا نصبا أو رفعا على المدح بتقدير أعني الذين أو هم الذين والوصل أشهر. (وَالْأَرْضِ) ج لحق المحذوف أي يقولون ربنا. (باطِلاً) ج للابتداء بسبحانك تعظيما وإلا فالقول متحد وفاء التعقيب متعقب. (النَّارَ) ه (أَخْزَيْتَهُ) ط (أَنْصارٍ) ه (فَآمَنَّا) قف قتيل : والوصل أولى لأن كلمة (رَبَّنا) تكرار لمزيد الابتهال ، وقوله : (فَاغْفِرْ لَنا) معطوف على (فَآمَنَّا) أي إذا آمنا فاغفر. (الْأَبْرارِ) ه ج للآية وللعطف. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ط (الْمِيعادَ) ه (أُنْثى) ج لاتحاد الكلام وإلا فبعضكم مبتدأ (مِنْ بَعْضٍ) ج (الْأَنْهارُ) ز لأن (ثَواباً) مفعول له أو مصدر. (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ط (الثَّوابِ) ه (الْبِلادِ) ه ط لأن التقدير لهم متاع أو ذلك متاع. (جَهَنَّمُ) ط (الْمِهادُ) ه (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ط (لِلْأَبْرارِ) ه (لِلَّهِ) لا لأن ما بعده حال آخر. (قَلِيلاً) ط (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ط (الْحِسابِ) ه (تُفْلِحُونَ) ه.

التفسير : إنه لما طال الكلام في تقرير القصص والأحكام عاد إلى ما هو الغرض

٣٢٧

الأصلي من هذا الكتاب الكريم وهو جذب القلوب والإسرار بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء ، عن ابن عمر قلت لعائشة : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب. أتاني في ليلتي فدخل في لحافي ، حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة ، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض. فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : يا بلال ، أفلا أكون عبدا شكورا؟. ثم قال : وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وعن علي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). واعلم أنه ذكر في سورة البقرة أن في خلق السموات والأرض إلى أن عد ثمانية دلائل ، وهاهنا اقتصر منها على الثلاثة الأول تنبيها على أن العارف بعد استكمال المعرفة لا بد له من تقليل الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول ، فإن البصيرة إذا التفتت إلى معقول عسر عليها الالتفات إلى آخر كالبصر إذا حدّق إلى مرئي امتنع تحديقه نحو آخر ، وإليه الإشارة بقوله : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢] يعني المقدمتين اللتين وصلت بهما الى النتيجة وهو وادي قدس الوحدانية. وإنما وقع الاقتصار على الدلائل السماوية لأنها أقهر وأبهر ، والعجائب فيها أكثر ، وانتقال النفس منها إلى عظمة الله أيسر. وإنما قال في تلك السورة (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٦٤] وفي هذه السورة (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأن العقل له ظاهر ولب ، ففي أول الأمر يكون عقلا وفي كمال الحال يكون لبا. وباقي التفسير قد مر هناك. ثم بعد دلائل الإلهية ذكر وظائف العبودية وهي أن يكون باللسان وسائر الأركان وبالجنان مع الرحمن. فقوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) إشارة إلى عبودية اللسان. وقوله : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) وهو في موضع حال آخر أي معتمدين على الجنب إشارة إلى عبودية سائر الجوارح والأركان. والمراد أنهم ذاكرون في أغلب أحوالهم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» (١). وقيل : المراد بالذكر هاهنا الصلاة أي يصلون في حال القيام فإن عجزوا

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٨٢.

٣٢٨

ففي حال القعود ، فإن عجزوا ففي حال الاعتماد. وهذا موافق لمذهب الشافعي في ترتيب صلاة المريض العاجز ويوافق بحثا طبيا ، وهو أن الاستلقاء يمنع من استكمال الفكر والتدبر بخلاف الاضطجاع على الجنب. والصلاة إذا كانت عن فكر وتدبر كانت أولى ، ولأن الاستغراق في النوم يكون في هيئة الاستلقاء أكثر فذاك وضع الغافلين. وقال أبو حنيفة : بل يصلي مستلقيا إن عجز عن القعود حتى لو وجد خفة قعد. وقوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى عمل الجنان. وقد عرفت معنى الفكر في البحث الخامس من تفسير قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) [البقرة : ٣١] وإنما لم يقل و «يتفكرون في الله» كما قال : (يَذْكُرُونَ اللهَ) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» والسبب فيه أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة وإنما يمكن على نعت المخالفة ، فإنا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها ، وبإمكانها على وجوبه ، وبافتقارها على غناه. فالفكر في المخلوقات ممكن وفي الخالق غير ممكن ، كيف وإن الفكر ترتيب المقدمات على وجه منتج ، والمقدمة لها موضوع ومحمول لا بد من تصورهما ، وتصوره سبحانه محال لأن تصور الشيء عبارة عن حصول صورته في النفس ، فتكون الصورة محاطة والنفس محيطة بها ، ولا يحيط بالواجب شيء ألا إنه بكل شيء محيط ، لكنه إذا تفكر في مخلوقاته ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وإلى الأرض مع ما عليها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان ، عرف أوّلا أن لها ربا وصانعا فيقول : (رَبَّنا). ثم يعترف بأن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا يحيط بتفاصيلها إلا موجدها فيقول : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ثم إذا قاس أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها علم أن ذاته تعالى منزه عن مشابهة شيء من هذه المصنوعات فيعلم أنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا مؤلف ولا في حيز وجهة فيقول : (سُبْحانَكَ) أي أنزهك عما لا يليق بك من مناسبة الجواهر والأعراض. ثم إذا بلغ من الاستغراق في بحار العظمة والجلال هذا المبلغ وجد نفسه ذرة من ذرات الكائنات واقعة في حضيض عالم البشرية محاطة بالطبائع والأركان ، فيتضرع إلى خالق السموات والأرض أن يخلصه من قيد العناصر ويعرج به من الأرض ويقيه عذاب كرة النار ويوصله إلى معارج السموات وذلك قوله (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ، ثم ذكر سبب الاستعاذة من النار بقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي أبلغت في إخزائه نظيره قوله : (فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] وفي كلامهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك. ثم توسل إلى ما سأل بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك قوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) الآية. فهذا بيان وجه النظم في هذه الكلمات والآيات على وجه

٣٢٩

«ألقى في روعي» (١) والله أعلم بأسرار كلامه. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال : أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض» قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا عبادة كالتفكر». وهذا إشارة إلى لفظ الخلق على أنه بمعنى المخلوق أو إلى السموات والأرض بتأويل المخلوق. وفي كلمة (هذا) ضرب من التعظيم كأنه لعظم شأنه معقود به الهمم حتى صار حاضرا في خزانه الخيال. و (باطِلاً) نصب على المصدر أي خلقا باطلا أو على الحال ، وقيل. بنزع الخافص أي بالباطل أو للباطل. قالت المعتزلة : فيه دليل على أن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبد ولأجل حكمة وغاية. وقوله : (سُبْحانَكَ) جملة معترضة تنزيها له من العبث وأن يخلق شيئا بغير حكمة. فوجه النظم في قوله : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أن الحكمة في خلق الأرض والسموات أن يجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفته ووجوب طاعته واجتناب معصيته ، والنار جزاء من عصى ولم يطع. وقالت الأشاعرة : الدليل الدال على أن أحد طرفي الممكن لا يترجح إلا بمرجح عام ، وذلك المرجح لا بد أن ينتهي إلى الله تعالى ، فإذن الخير والشر والأفعال كلها بقضاء الله وقدره ، فلا يمكن أن تعلل أفعال الله بمصالح العباد بل له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء. والباطل في اللغة الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوّة ولا صلابة فيكون بصدد التلاشي والاضمحلال. والمراد أن خلقهما خلق محكم متقن كقوله : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) [النبأ : ١٢] (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣]. ومعنى (سُبْحانَكَ) أنك وإن خلقتهما في غاية شدة التركيب وبصدد البقاء إلا أنك غني عن الاحتياج إليهما ، منزه عن الانتفاع بهما. ثم لما وصف ذاته تعالى بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة فقال (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) واحتج حكماء الإسلام بالآية على أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة ، وجعلها بحيث يحصل من حركتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع قطان العالم السفلي. قالوا : لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ، ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع لأن كل ذرة من ذرات الهواء والماء يشاركها في ذلك ، فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص. وناقشهم المتكلمون في ذلك وقالوا : إن الفلكيات أسباب للأرضيات على مجرى

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث ٦٤. أحمد في مسنده (٣ / ٥٠).

٣٣٠

العادة لا على سبيل الحقيقة. والإنصاف في هذا المقام أن وجود الوسائط لا ينافي استناد الكل إلى مسبب الأسباب ، وأن كون أفعال الله تعالى مستتبعة لمصالح العباد لا ينافي جريان الأمور كلها بقضائه وقدره. ثم إنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك ما يدل على عظم ذلك العقاب وهو الإخزاء ليدل على شدة إخلاصهم وجدهم في الهرب من ذلك فيكون أقرب إلى الاستجابة ، كما أنهم قدموا الثناء على الله بقولهم : (سُبْحانَكَ) على الطلب ليكون أقرب إلى الأدب وأحرى بالإجابة ، وكل ذلك تعليم من الله تعالى عباده في حسن الطلب. قال الواحدي : الإخزاء جاء لمعان متقاربة. عن الزجاج : أخزى الله العدوّ أي أبعده. وقيل : أهانه. وقيل : فضحه. وقيل : أهلكه. وقال ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن لأنه إذا دخل النار فقد أخزاه الله والمؤمن لا يخزى لقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من أمن وهو مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخزي أن لا يكون غيره وهو مؤمن مخزي. وأيضا الآية ليست على عمومها لقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : ٧١] فثبت أن كل من دخل النار فإنه ليس بمخزي. وعن سعيد بن المسيب والثوري أن هذا في حق الكفار الذين أدخلوا النار للخلود. وأيضا إنه مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبته الخروج. وقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي) [التحريم : ٨] نفى الخزي على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهي نفي الخزي المخلد. ويحتمل أن يقال : الإخزاء مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك ، وإذا كان المثبت هو الأول والمنفي هو الثاني لم يلزم التنافي. واحتجت المرجئة بالآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] ولقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] والمؤمن لا يخزى لقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) [التحريم : ٨] والمدخل في النار مخزي بهذه الآية ، والمقدمات بأسرها يدخلها المنع. أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمنا وإن كان قبله مؤمنا ، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفا. وقد يتمسك حكماء الإسلام بهذا في أن العذاب الروحاني أشد لأنه بين سبب الاستعاذة بالإخزاء الذي هو التخجيل وهو أمر نفساني. وقد يتمسك المعتزلة بقوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي الداخلين في النار (مِنْ أَنْصارٍ) أي في نفي الشفاعة للفساق لأنها نوع نصرة ، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع. والجواب أن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) في

٣٣١

[البقرة : ٢٥٤] وأيضا لا تأثير للشفاعة إلا بإذن الله فيؤل معنى الآية إلى أن الأمر يومئذ لله. وعلى هذا ففائدة تخصيص الظالمين بهذا الحكم أنه وعد المتقين الفوز فلهم هذه الحجة بخلاف الفساق. وأيضا أدلة الشفاعة مخصصة لعموم الآية. قالوا : الفاسق لا يخرج من النار وإلا كان مخرجه ناصرا له. وعورض بالآيات الدالة على العفو (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي) تقول : سمعت رجلا يتكلم بكذا فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع اكتفاء بما وصفته به ، أو جعلته حالا عنه. والمنادي عند الأكثرين هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) [النحل : ١٢٥] (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) [يوسف : ١٠٨] (وَداعِياً إِلَى اللهِ) [الأحزاب : ٤٦] وقيل : القرآن كما نسب إليه الهداية في قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) [الإسراء : ٩] كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من الدلائل كما قيل في جهنم (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) [المعارج : ١٧] والفصحاء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ لدلالة تصاريفه قال :

يا واضع الميت في قبره

خاطبك الدهر فلم تسمع

ويقال : ينادي إلى كذا ولكذا ودعاه إليه وله وهداه للطريق وإليه فيقام كل من اللام و «إلى» مقام الأخرى نظرا إلى وقوع معنى الانتهاء والاختصاص معا. وقال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي كما يقال : جاء مناد للأمير فنادى بكذا. وقيل : معناه لأجل الإيمان. ولهذا الغرض فسر بقوله : (أَنْ آمِنُوا) و «أن» مفسرة أو مخففة معناه أي آمنوا أو بأن آمنوا. والفائدة في الجمع بين المنادى وينادي للإيمان هي فائدة الإطلاق ثم التقييد والإجمال ثم التفصيل من رفع شأن المطلق والمجمل ، وكونه حينئذ أوقع في النفس وأعز. (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أصل الغفر والتكفير كلاهما الستر والتغطية. وأما الذنوب والسيئات فقيل : هما واحد والتكرار للتأكيد والإلحاح ، إن الله يحب الملحين في الدعاء. وقيل : الأوّل الكبائر والثاني الصغائر. وقيل : الأوّل أريد به ما تقدم منهم ، والثاني المستأنف. وقيل : الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية وذنبا ، والثاني ما أتى به مع الجهل بكونه ذنبا (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي معدودين منهم ومن أتباعهم أو مشاركين لهم في الثواب أو على مثل أعمالهم ودرجاتهم كقول الرجل : أنا مع الشافعي في هذه المسألة أي مساو له في ذلك الاعتقاد. احتجت الأشاعرة بالآية على أن العفو غير مشروط بالتوبة لأنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب في (فَاغْفِرْ) بعد قولهم : (فَآمَنَّا). ثم إنه تعالى أجابهم إلى ذلك بقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) ويعلم منه ثبوت شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحاب الكبائر بالطريق الأولى. (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا

٣٣٢

عَلى رُسُلِكَ) أي على تصديق رسلك لأنها مذكورة عقيب ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول ، وعقيب قوله : (فَآمَنَّا) وهو التصديق ، فتكون على صلة للوعد كقولك : وعد الله الجنة على الطاعة. ويحتمل أن يتعلق بمحذوف أي ما وعدتنا منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك لأن الرسل يحملون ذلك فإنما عليه ما حمل. وقيل : على ألسنة رسلك والمتعلق كما ذكر والموعود هو الثواب. وقيل : النصر على الأعداء. وإنما دعوا الله بإنجاز ما وعد مع علمهم بأنه لا يخلف الميعاد كما صرحوا به في آخر الأدعية ، لأن معظم الغرض من الدعاء إظهار سيما العبودية. أو المراد وفقنا للأعمال التي بها نصير أهلا لوعدك ، واعصمنا عما بها نكون أهلا لإخزائك ، أو طلبوا تعجيل النصرة على الأعداء. أو المراد احفظ علينا أسباب إنجاز الميعاد. وقيل : فيه دليل على أنهم طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق. ثم إن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم فلهذا ختموا الأدعية بقولهم (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأن التخجيل والتفضيح يكدّر صفو كل منّ وعطاء. والحاصل من هذه الآيات أنهم نظروا في المصنوع فعرفوا منه الصانع فقالوا : (رَبَّنا) ثم تفكروا في عجيب خلقه وبديع شكله فعرفوا أن صانعه حكيم والحكيم لا تخلو أفعاله من الفوائد والغايات وإن لم يكن مستكملا بها فقالوا : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ثم تأملوا في غاية الغايات ونهاية الحركات فوجدوها الإنسان المكلف على ألسنة الرسل ، ووجدوا عاقبة التكليف الجنة أو النار فتضرعوا إلى معبودهم في توفيق الوصول إلى الجنة والخلاص من النار ، ولأن دفع الضرر أهم من جلب المنفعة فجعلوا أول دعائهم وآخره الاستعاذة من العذاب ، ولأن العذاب الروحاني عند العقلاء أشد من العذاب الجسماني فلا جرم وقع الختم على الاستعاذة من الإخزاء ، اللهم شاركنا في هذا الدعاء واجعلنا من السعداء المتفكرين في ملكوت الأرض والسماء إنك واهب العطاء وكاشف الغطاء. عن جعفر الصادق : من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف ، وأعطاه ما أراد لأن الله تعالى حكى عنهم في هذه الآيات أنهم قالوا خمس مرات «ربنا» ثم قال : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) أي أجابهم (أَنِّي) أي بأني (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) «من» في (مِنْكُمْ) للتبعيض. لأن كل عامل فرد من أفراد المخاطبين وفي «من» ذكر للتبيين لأن العامل إما ذكر وإما أنثى. وإضاعة العمل عبارة عن إضاعة ثوابه (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد ، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله. أو المراد بعضكم كأنه من البعض الآخر لفرط اتصالكم واتحادكم كما يقال : فلان مني أي على خلقي وسيرتي. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من غشنا فليس منا». وقيل : المراد وصلة الإسلام. وهذه جملة معترضة بيّن بها شركة النساء مع

٣٣٣

الرجال فيما يرجع إلى استحقاق الثواب على العمل. روي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت. ثم فصل عمل العامل منهم تفخيما لشأن العمل وتنويها بذكره فقال : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) أوطانهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعده باختيارهم (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ألجأهم الكفار إلى الخروج (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) يريد طريق الدين (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) من قرأ بالتشديد فللتكثير وتكرر القتل فيهم. وقيل : أي قطعوا. ومن قرأ قتلوا وقاتلوا فإما لأن الواو لا تفيد الترتيب والترتيب الطبيعي : قاتلوا حتى قتلوا. وإما من قولهم : قتلنا ورب الكعبة إذا ظهرت أمارات القتل وإذا قتل قومه وعشيرته. وإما بإضمار «قد» أي قتلوا وقد قاتلوا (لَأُكَفِّرَنَ) جواب للقسم المقدر (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) وهو الذي طلبوه بقولهم : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهو الذي طلبوه بقولهم (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو الذي طلبوه من الثواب المقرون بالتعظيم بقولهم : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ثوابا يختص به وبقدرته وبفضله لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه. يقول الرجل : عندي ما تريد أنا مختص به وبملكه وإن لم يكن بحضرته. و (ثَواباً) نصب على المصدر المؤكد أي إثابة أو تثويبا من عنده لأن قوله : (لَأُكَفِّرَنَ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) في معنى لأثيبنهم. وقال الكسائي : هو منصوب على القطع أي على الحال. وقال الفراء : نصب على التفسير كقولك : هو لك هبة أو بيعا أو صدقة. ثم ختم بقوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) لأنه القادر على كل المقدورات ، العالم بكل المعلومات ، القاضي جميع الحاجات. وفي تعليقه حسن الإثابة على احتمال المشاق في دينه والصبر على صعوبة تكاليفه دليل على أن حكمة الله تعالى اقتضت نوط الثواب والجنة بالعمل حتى لا يتكل الناس على فضله بالكلية ، ولا يهملوا جانب العمل رأسا. عن الحسن : أخبر الله تعالى أنه استجاب لهم إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به ، فلا بد له من تقديمه بين يدي الدعاء يعني قوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ثم إنه تعالى لما وعد المؤمنين الثواب العظيم وكانوا في الدنيا في غاية الفقر والشدة ، والكفار كانوا في التنعم ، أراد أن يسليهم ويصبرهم فقال : (لا يَغُرَّنَّكَ) والخطاب لكل مكلف يسمعه أي لا يغرنك أيها السامع أو للرسول والمراد الأمة. قال قتادة : والله ما غرّوا نبي الله حتى قبضه الله أوله. والمراد هو فلعل السبب في عدم اغتراره هو تواتر أمثال هذه الآيات عليه. قيل : إن مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون ، فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت. وقيل : كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت. والمراد بتقلبهم

٣٣٤

تبسطهم وتصرفهم في المكاسب والمزارع والمتاجر ذلك التقلب أو الكسب والربح (مَتاعٌ قَلِيلٌ) في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة ، أو في جنب ما وعد الله المؤمنين من الثواب ، أو هو قليل في نفسه إذ لا نسبة لمدته إلى ما بين أمدي الأزل والأبد ، ومع قلته سبب للوقوع في نار جهنم أبد الآبدين. والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم تكن في الحقيقة نعمة ولهذا استدرك وقال (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية ، ويدخل في التقوى الأوامر والنواهي. والنزل ما يعدّ للضيف ويعجل ، ومن هنا تمسك به بعض الأصحاب في الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من شيء آخر يكون أصلا بالنسبة إليها. قلت : ويحتمل أن يكون قوله : (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦] إشارة إليه وهو مقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة. وقيل : المعنى وما عند الله من الكثير الدائم خير للأبرار مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل ، وانتصاب (نُزُلاً) على الحال من (جَنَّاتٌ) لتخصيصها بالوصف ، والعامل معنى الاستقرار في لهم ، أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل : رزقا أو عطاء ، أو نصب على التفسير كما قلنا في (ثَواباً). ثم إنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار بين حال مؤمني أهل الكتاب كلهم فقال : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهذا قول مجاهد. وقال ابن جريج وابن زيد : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل : في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه‌السلام فأسلموا. وعن جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس وقتادة : نزلت في النجاشي لما مات نعاه جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأصحاب : اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم. قالوا : ومن هو؟. قال : النجاشي. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له ، وقال لأصحابه : استغفروا له. فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه ، فأنزل الله هذه الآية. واللام في (لَمَنْ يُؤْمِنُ) لام الابتداء الذي يدخل على خبر «إن» أو على اسمه عند الفصل كما في الآية. والمراد (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) الكتابان و (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من فاعل يؤمن لأن «من» في معنى الجمع فحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كما يفعله من لم يسلم من أحبارهم ورؤسائهم (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولا يخفى فخامة شأن هذا الوعد حسبما أشار إليه بقوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل المقدورات فيعلم ويعطي ما لكل أحد من جزاء الحسنات والسيئات. أو المراد سرعة موعد حسابه

٣٣٥

فتكون فيه بشارة بسرعة حصول الأجر. ثم ختم السورة بآية جامعة لأسباب سعادة الدارين ، وذلك أن أحوال الإنسان قسمان : الأول ما يتعلق به وحده فأمر فيه بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات ، والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها. الثاني ما يتعلق بالمشاركة مع أهل المنزل أو المدينة فأمر فيه بالمصابرة ، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الرديئة من الأقارب والأجانب ، وترك الانتقام منهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد مع أعداء الدين بالحجة وبالسيف وباللسان أو بالسنان. ثم إنه لا بد للإنسان في تكلف أقسام الصبر والمصابرة من قهر القوى النفسانية البهيمية والسبعية الباعثة على أضداد ذلك ، فأمر بالمرابطة من الربط الشدّ. فكل من صبر على أمر فقد ربط قلبه عليه وألزم نفسه إياه. ثم لا بد في جميع الأعمال والأقوال من ملاحظة جانب الحق حتى يكون معتدا بها ، فلهذا أمر بتقوى الله. ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام على وظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه ، فظهر أن هذه الآية مشتملة على كنوز الحكم والمعارف وجامعة لآداب الدين والدنيا. ثم إنها على اختصارها كالإعادة لما تقدم في هذه السورة من الأصول وهي : تقرير التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد. ومن الفروع كأحكام الحج والزكاة والجهاد. وعن الحسن (اصْبِرُوا) على دينكم فلا تتركوه بسبب الفقر والجوع (وَصابِرُوا) عدوّكم فلا تفشلوا بسبب ما أصابكم يوم أحد. وقال الفراء : اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم ، فلا ينبغي أن يكونوا أصبر منكم. وقال الأصم : لما كثرت تكاليف الله تعالى في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها. ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد فيها أمرهم بالمصابرة مع الأعداء. أما المرابطة ففيها قولان : أحدهما أن يربط هؤلاء خيولهم في الثغور ويربط أولئك أيضا خيولهم بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعدا لقتال الآخر قال تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال : ٦٠] وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» (١) وثانيهما أنها انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : لم يكن في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابط فيه ، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة. وفي حديث أبي هريرة ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال : فذلك الرباط ثلاث مرات والله أعلم.

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب ٣٩. الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ٢٥. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ٧. أحمد في مسنده (٥ / ٤٤٠ ، ٤٤١).

٣٣٦

التأويل : إن في خلق سموات القلوب وأطوارها ، وخلق أرض النفوس وقرارها ، واختلاف ليل البشرية وصفاتها ، ونهار الروحانية وأنوارها ، لآيات لأولي الألباب. الذين عبروا بقدمي الذكر والفكر عن قشر الوجود الجسماني ، ووصلوا إلى لب الوجود الروحاني ، فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمائر أن لهم وللعالم إلها قادرا حيا عليما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا. وإنما نالوا هذه المراتب لأنهم يذكرون الله في جميع الأحوال بالظاهر والباطن ، ويتفكرون في خلق المصنوعات من البسائط والمركبات ، ويقولون ما خلقت هذا باطلا أي خلقته إظهارا للحق على الخلق ، ووسيلة للخلق إلى الحق. سبحانك تنزيها للحق عن الشبه بالخلق ، (فَقِنا) باعد عنا عذاب نار قهرك والبعد عنك ، ففيها كل الخزي والندامة والغواية والضلالة. ثم أخبر عن شرط العبودية في استجلاب فضل الربوبية بقوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا) من هاتف الحق في الغيب بالسمع الحقيقي مناديا (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي كما أسمعتنا النداء بالإرادة القديمة لا بسعي منا قبل أن تخلقنا. فاغفر لنا بفضلك ورحمتك. (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) بالظاهر والباطن (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) على قدر همتكم ورجوليتكم (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) عن الأوطان والأوطار والأعمال السيئة والأخلاق الذميمة (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) من معاملات الطبيعة وديارها الى عالم الحقيقة بسطوات تجلي صفات الربوبية (وَأُوذُوا فِي) طلبي بأنواع البلاء (وَقاتَلُوا) مع النفس (وَقُتِلُوا) بسيف الصدق (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ) سيئات وجودهم (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) الوصول فيها أشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والإخلاص والهدى والقناعة والعفة والمروءة والفتوّة والمجاهدة والشوق والذوق والرغبة والرهبة والوفاء والطلب والمحبة والحياء والكرم والشجاعة والعلم والحلم والعزة والقدرة والهمة وغيرها من المقامات والأخلاق (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أنهار العناية (ثَواباً) من مقام العندية (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) لا يكون عند الجنة وغيرها. (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) من علماء الظاهر علماء متقين يكون إيمانه من نتيجة نور الله الذي دخل قلبه ، ويؤمن بما أنزل إليكم من الواردات والإلهامات والكشوف (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الخواطر الرحمانية (خاشِعِينَ لِلَّهِ) كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تجلى الله لشيء خضع له» (لا يَشْتَرُونَ) بما أوتوا من العلم والحكمة عرض الدنيا (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يوصلهم إلى مقام العندية قبل وفاتهم (اصْبِرُوا) على جهاد النفس بالرياضات (وَصابِرُوا) في مراقبة القلب عند الابتلاءات (وَرابِطُوا) الأرواح للوصل بالله (وَاتَّقُوا اللهَ) في الالتفات إلى ما سواه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فتفوزوا بالبقاء بالله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

٣٣٧

سورة النساء مدنية

حروفها ١٤٥٣٥ كلماتها ٣٧٤٥

آياتها مائة وست وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

القراآت : (تَسائَلُونَ) خفيفا بحذف التاء : عاصم وحمزة وعلي وخلف وعباس مخير. الباقون بالتشديد أي بإدغام تاء التفاعل في السين. (وَالْأَرْحامَ) بالجر حمزة. الباقون بالنصب. (ما طابَ) بالإمالة : حمزة. (فَواحِدَةً) بالرفع : يزيد. الباقون بالنصب. هنيّا مريّا بالتشديد فيهما : يزيد وحمزة في الوقف على أيهما وقف ، وإذا انفرد (هَنِيئاً)

٣٣٨

همزها كل القرآن : يزيد. قيما ابن عامر ونافع. الباقون (قِياماً ضِعافاً) بالإمالة : خلف عن حمزة وابن سعدان والعجلي وخلف لنفسه وقتيبة على أصله. (وَسَيَصْلَوْنَ) بضم الياء : ابن عامر وأبو بكر وحماد والمفضل. الباقون بفتحها.

الوقوف : (وَنِساءً) ج. لأن الجملتين وإن اتفقتا إلا أنه اعترضت المعطوفات (وَالْأَرْحامَ) ط (رَقِيباً) ه (بِالطَّيِّبِ) ص (إِلى أَمْوالِكُمْ) ط (كَبِيراً) ه (وَرُباعَ) ج (أَيْمانُكُمْ) ط (أَلَّا تَعُولُوا) ط لابتداء حكم آخر (نِحْلَةً) ط لأن المشروط خارج عن أصل الشرط الموجب. (مَرِيئاً) ه (مَعْرُوفاً) ه (النِّكاحَ) ج بناء على أنه ابتداء شرط بعد بلوغ النكاح ، أو مجموع الشرط والجواب جواب «إذا» و «حتى» تكون داخلة على جملة شرطيه مقدمها حملية ، وثالثها شرطية أخرى. (أَمْوالَهُمْ) ج (أَنْ يَكْبَرُوا) ط لابتداء جملتين متضادتين (فَلْيَسْتَعْفِفْ) ج (بِالْمَعْرُوفِ) ط للعود إلى أصل الموجب بعد وقوع العارض. (عَلَيْهِمْ) ط (حَسِيباً) ه (وَالْأَقْرَبُونَ) الأول ص (أَوْ كَثُرَ) ط بتقدير جعلناه نصيبا مفروضا (مَعْرُوفاً) ه (خافُوا عَلَيْهِمْ) ص (سَدِيداً) ه (ناراً) ط (سَعِيراً) ه.

التفسير : لما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة من التعطيف على الأولاد والنساء والأيتام وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم ، ومن الأمر بالطهارة والصلاة ، والجهاد والدية ، ومن تحريم المحارم وتحليل غيرهن إلى غير ذلك من السياسات ومكارم الأخلاق التي يناط بها صلاح المعاش والمعاد ، افتتح السورة ببعث المكلفين على التقوى. ومن غرائب القرآن أن فيه سورتين صدرهما (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إحداهما في النصف الأول وهي الرابعة من سوره ، والأخرى في النصف الثاني وهي أيضا في الرابعة من سوره. ثم التي في النصف الأول مصدرة بذكر المبدأ (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) والتي في النصف الثاني مصدرة بذكر المعاد (اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى بأنه خلقنا من نفس واحدة. أما القيد الأوّل وهو أنه خلقنا فلا شك أنه علة لوجوب الانقياد لتكاليفه والخشوع لأوامره ونواهيه ، لأن المخلوقية هي العبودية ومن شأن العبد امتثال أمر مولاه في كل ما يأمره وينهاه. وأيضا الإيجاد غاية الإحسان فيجب مقابلتها بغاية الإذعان ، على أن مقابلة نعمته بالخدمة محال لأن توفيق تلك الخدمة نعمة أخرى منه. وأما القيد الثاني وهو خصوص أنه خلقنا من نفس واحدة ، فإنما يوجب علينا الطاعة لأن خلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم وتباين أمزجتهم واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر وبرهان باهر على وجود مدبر مختار وحكيم قدير ، ولو كان ذلك بالطبيعة أو لعلة موجبة كان كلهم على حد واحد ونسبة واحدة. ثم في

٣٣٩

هذا القيد فوائد أخر منها : أنه يأمر عقبه بالإحسان إلى اليتامى والنسوان ، وكونهم متفرعين من أصل واحد وأرومة واحدة أعون على هذا المعنى ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» (١). ومنها أنهم إذا عرفوا ذلك تركوا المفاخرة وأظهروا التواضع وحسن الخلق. ومنها أن تصوّر ذلك يذكر أمر المعاد فليس الإعادة بأصعب من الإبداء. ومنها أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لم يقرأ كتابا. وأجمع المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة هاهنا هو آدم عليه‌السلام ، والتأنيث في الوصف نظرا إلى لفظة النفس. (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) حواء من ضلع من أضلاعها. وقال أبو مسلم : المراد وخلق من جنسها زوجها لقوله (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٢] ولأنه تعالى قادر على خلق حواء من التراب فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم؟ والجواب أن الأمر لو كان كما ذكره أبو مسلم لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص وخلاف ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها» (٢) احتج جمع من الطبائعيين بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة ، وإن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال. والجواب أنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور. قال في الكشاف : قوله : (وَخَلَقَ مِنْها) معطوف على محذوف أي أنشأها وخلق منها ، أو معطوف على (خَلَقَكُمْ) والخطاب للذين بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي خلقكم من نفس آدم لأنهم من جنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) غيركم من الأمم الفائتة للحصر. أقول : وإنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعا للتكرار ، ولا تكرار بالحقيقة إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا. نعم لو كان المراد بقوله : (وَخَلَقَ مِنْها) إلى آخره بيان الخلق الأول وتفصيله ، لكان الأولى عدم دخول الواو إلا أن المراد وصف ذاته تعالى بالأوصاف الثلاثة جميعا من غير ترتيب يستفاد من النسق وإلا كان الأنسب أن يقال : «فبث» بالفاء. فدل العطف بالواو في الجميع على أن المراد هو ما ذكرنا ، وأن

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب ١٢ ، ١٦. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٩٣ ، ٩٤. أبو داود في كتاب النكاح باب ١٢. الترمذي في كتاب المناقب باب ٦٠. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥٦. أحمد في مسنده (٤ / ٥ ، ٣٢٦).

(٢) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١. مسلم في كتاب الرضاع حديث ٦١ ، ٦٢. الدارمي في كتاب النكاح باب ٣٥. أحمد في مسنده (٥ / ٨).

٣٤٠