تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة منهم (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أكثر المفسرين أجروه على ظاهره ونظيره في مانع الزكاة (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) [التوبة : ٣٥] ويدل عليه الحديث الذي رويناه وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له : انزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره فلا يقبل منه. وعن بعض جفاة الأعراب أنه سرق نافجة مسك فتليت عليه هذه الآية فقال : إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. قلت : ذلك الشقي قاس الأمور الأخروية على الأمور الدنيوية ، ولم يعلم أن ذلك المسك وقتئذ يكون أنتن من الجيفة وأثقل من الجبل وذلك ليذوق وبال أمره ويرى نقيض مقصوده. قال المحققون : والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته. ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل غادر لواء يوم القيامة» (١) وقال أبو مسلم : هذا على سبيل التمثيل والتصوير لوباله وتبعته. والمراد أنه تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية. وقيل : المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء ، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل ولا ضرورة. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) إثبات للجزاء لكل كاسب على سبيل العموم ليعلم صاحب الغلول أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وهذا أبلغ مما لو خص الغال بتوفية الجزاء فقيل : ثم يوفى ما كسب.

ثم فصل ما أجمل فقال : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ) والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره «أمن اتقى فاتبع». قال الكلبي والضحاك : أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) رجع منه بشدّة إرادة انتقام لأجل الغلول؟ وقال الزجاج : أفمن اتبع رضوان الله بامتثال أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاهم إلى دفع المشركين يوم أحد ، كمن باء بسخط من الله وهم الذين لم يمتثلوا؟ وقيل : الأولون المهاجرون والآخرون المنافقون. وقيل : أفمن اتبع رضوان الله بالإيمان والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وهذا القول أقرب لتكون الآية مجراة على العموم وإن كان سبب النزول خاصا. وقوله : (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) من تمام صلة من «باء». وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) اعتراض. قال القفال : لا يجوز في الحكمة أن يسوى بين المسيء والمحسن وإلا كان إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات وتنفيرا عنها. (هُمْ دَرَجاتٌ) قيل : أي لهم

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجزية باب ٢٢. مسلم في كتاب الجهاد حديث ٨ ، ١٠ ـ ١٧. أبو داود في كتاب الجهاد باب ١٥٠. الترمذي في كتاب السير باب ٢٨. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ٤٢. الدارمي في كتاب البيوع باب ١١. أحمد في مسنده (١ / ٤١١ ، ٤١٧).

٣٠١

درجات. وحسن هذا الحذف لأن اختلاف أعمالهم كأنه قد صيرهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها. وقالت الحكماء : النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية يدل عليها اختلاف صفاتها بالإشراق والإظلام ، ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» (١) فهم في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات. وقيل : المراد ذوو درجات. ثم الضمير إلى أي شيء يعود؟ قيل : إلى من اتبع رضوان الله لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب ، والدركات في أهل العقاب. ولأنه قد ذكر وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواه جهنم فيكون هذا وصفا لمن اتبع الرضوان ويؤيده قوله : (عِنْدَ اللهِ) وهذا وإن كان معناه في علمه وحكمه كما يقال : «هذه المسألة عند الشافعي كذا» ولا يراد به عندية المكان لتنزهه تعالى عن ذلك إلا أنه يفيد في الجملة تشريفا وأنه يليق بأهل الثواب. وقال الحسن : يعود إلى من باء بسخط لأنه أقرب لأنهم متفاوتون في العذاب. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن منها ضحضاحا وغمرا» (٢) وقال : «إن أهون أهل النار عذابا رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل يعذب أحد عذابي» (٣) والأوجه أن يكون عائدا إلى الكل ، لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، وكذا دركات أهل العقاب حسب تفاوت أعمال الخلق. وقد تستعمل الدرجات في مراتب أهل النار كقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام : ١٣٢] (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم بمقدارها.

قوله عز من قائل : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في النظم وجوه منها : أن هذا الرسول نشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة ، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة؟ ومنها كأنه تعالى قال : لا أكتفي في وصفه بأن أنزهه عن الخيانة ولكني أقول : إن وجوده فيكم من أعظم نعمي عليكم. ومنها أنكم كنتم خاملين جاهلين وإنما حصل لكم الشرف والعلم بسبب هذا الرسول ، فالطعن فيه طعن فيكم. ومنها أن مثل هذا الرجل يجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ويكون معه باليد واللسان والسيف والسنان ، فيكون المقصود العود إلى ترغيب المسلمين في الجهاد. ومعنى المنّ هاهنا الإنعام على من لا يطلب الجزاء منه. والوجه في المنة إما أن يعود إلى أصل البعثة ، وإما أن يعود إلى بعثة هذا الرسول. فمن الأول أن الخلق مجبولون على النقصان والجهالة ، والنبي يورد عليهم

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٣٩).

(٢) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٥٨.

(٣) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١ ، مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٦٢. الترمذي في كتاب جهنم باب ١٢. الدارمي في كتاب الرقاق باب ١٢١. أحمد في مسنده (٢ / ٤٣٢).

٣٠٢

وجوه دلائل الكمال ويزيح عللهم في كل حال. وأيضا إنهم وإن شهدت فطرتهم بوجوب خدمة مولاهم لكن لا يعرفون كيفية تلك الخدمة إلى أن يشرحها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم. وأيضا إنهم جبلوا على الكسل والملل فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات فيزول فتورهم ويتجدد نشاطهم. وبالجملة فعقول البشر بمنزلة أنوار البصر ، وعقل النبي بمنزلة نور الشمس. فكما لا يتم الانتفاع بنور البصر إلا عند سطوع نور الشمس ، فكذلك لا يحصل الاهتداء بمجرد العقل ما لم ينضم إليه إرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن الثاني أن هذا الرسول بعث (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من جنسهم عربيا مثلهم ، أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده. فعلى هذا يكون المراد بالمؤمنين من آمن مع الرسول من قومه. وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون به ، ووجه المنة أنه إذا كان اللسان واحدا سهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه ، وإذا كانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة كان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به. وفيه أيضا شرف لهم وفخر كما قال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] وذلك أن الافتخار بإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى وبالتوراة والإنجيل ، وما كان للعرب ما يقابل ذلك. فلما بعث الله محمدا وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم. وقيل : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من جنس الإنس لا من الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل. ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن فاطمة أنهما قرآ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بفتح الفاء أي أشرفهم ، وعلى هذا يكون المؤمنون عاما. ويحتمل أن يراد بهم العرب ويصح لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما سائر أوصافه من قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) فقد مر تفسيرها في البقرة عند قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) [البقرة : ١٢٩] وإعراب قوله : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كما سلف في قوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) [البقرة : ١٤٣] ومعنى المنة فيه أن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان موقعها أعظم. فبعثة هذا الرسول عقيب الجهل والذهاب عن الدين تكون أعم نفعا وأتم وقعا. ثم لما أجاب عن نسبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغلول ، حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم لو كان رسولا من عند الله ما انهزم عسكره وهو المراد بقوله : (أَنَّى هذا) وأجاب عنها بقوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) والواو في قوله (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ) لعطف هذه الجملة الاستفهامية على ما قبلها من قصة أحد إلا أن حرف الاستفهام قدم على واو العطف لأن له صدر الكلام و (لَمَّا) ظرف (قُلْتُمْ) ومقول القول (أَنَّى هذا). و (أَصابَتْكُمْ) في محل

٣٠٣

الجر بإضافة (لَمَّا) إليه. والتقدير : أقلتم حين أصابتكم؟ ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على محذوف كأنه قيل : أفعلتم كذا ، وقلتم حينئذ من أين أصابنا هذا ، وكيف نصروا علينا ، ونحن على الحق ومعنا الرسول وهم على الباطل ولا نبي معهم؟ والمراد بالمصيبة واقعة أحد ، وبمثلها وقعة بدر. وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين ، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، وقيل : أراد نسبة الضعف في الهزيمة لا في عدد القتلى والأسرى. فالمسلمون هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضا في الأولى يوم أحد ، ثم لما عصوا الله هزمهم المشركون فانهزام المشركين حصل مرتين ، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة فخرج عن قوله : (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) جواب ضمني يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة ، فإذا أصبتم منهم مثلي ما نالوا منكم فما وجه الاستبعاد؟ لكنه صرح بجواب آخر فقال : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وفي تقريره وجهان : الأول أن هذه المصيبة بشؤم معصيتكم. وذلك أنهم عصوا الرسول في أمور في الخروج عن المدينة وكان رأيه في الإقامة ، ثم في الفشل وفي التنازع وفي مفارقة المركز وفي الاشتغال بطلب الغنيمة. الثاني ما روي عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال : جاء جبريل عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى ، وأمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم. فذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لقومه فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى أن يستشهد منا بعددهم. فقتل يوم أحد سبعون رجلا بعدد أسارى بدر. فمعنى (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) هو بأخذكم الفداء واختياركم القتل. وتمسك المعتزلة بالآية على أن للعبد اختيارا في الفعل والترك ، وأنه من عند نفسه. وعارضهم الأشاعرة بقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإن فعل العبد من جملة الأشياء فيكون الله قادرا عليه. فلو وجد بإيجاد العبد امتنع من الله أن يقدر عليه إذ لا قدرة على إيجاد الموجود والحق أن وجود الواسطة لا ينافي انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب ويؤيده قوله : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) قال ابن عباس : أي وقع بقضائه وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين لأن الرضا بالقضاء لازم. وقيل : بتخليته لأن الإذن مخل بين المأذون له ومراده ، فاستعير الإذن للتخلية ، وإن اعتبرتم المصالح فذاك قد وقع (لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليتميزوا عن أهل النفاق. وإنما لم يقل «وليعلم المنافقين» ليناسب المؤمنين لفظا لأن الغرض تصوير أنهم شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت وأحدثوها ، ولأنه عطف على الصلة. (وَقِيلَ لَهُمْ) قال الأصم : هذا القائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يدعوهم إلى

٣٠٤

القتال. وقيل : هو أبو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، لما انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس تبعهم وقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إن كان في قلبكم حب هذا الدين (أَوِ ادْفَعُوا) عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم يكن بكم هم الآخرة وطلب مرضاة الله أي كونوا من رجال الدين أو من رجال الدنيا. وقال السدي وابن جريج : ادفعوا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والرعب. ثم إنه كأن سائلا سأل فما أجاب المنافقون عند دعاء المؤمنين إياهم إلى القتال؟ فقيل : (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) كأنهم جحدوا أن يكون بين الفريقين قتال البتة. أو المراد لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لوافقناكم عليه ، ولكنكم تلقون بأيديكم إلى التهلكة ، وذلك أن رأي عبد الله كان في الإقامة وما كان يستصوب الخروج من المدينة ، وكلا المعنيين منهم في الجواب فاسد. أما الأول فلأن ظهور أمارات الحرب كاف في وجوب القتال والدفع عن النفس والمال. والظن في أمور الدنيا قائم مقام العلم ، ولا أمارة أقوى من قرب الأعداء من المدينة عند جبل أحد. وأما الثاني فلأنه تعالى لما وعدهم النصر والغلبة إن صبروا واتقوا لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء النفس إلى التهلكة. ولركاكة جوابهم قال : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) لأنهم تباعدوا بهذا الجواب المنبئ عن الدغل والنفاق عن الإيمان المظنون بهم قبل اليوم. والمراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية لجانب المشركين وعلى الأول قال أكثر العلماء : إنه تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار لأن القرب من الكفر حصول الكفر. قال الحسن : إذا قال الله أقرب فهو اليقين بأنهم مشركون كقوله : (مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١١٧] فهذه الزيادة لا شك فيها. وقال الواحدي : فيه دليل على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي لا يتجاوز الإيمان حناجرهم ومخارج الحروف منهم خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم ما نطقوا به من التوحيد (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من بغض الإسلام والمسلمين وسائر مجاري أحوالهم فيما بينهم. وذلك أن المؤمنين قد علموا بعض ذلك بالقرائن والأمارات ، وهو تعالى عالم بتفاصيل ذلك (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣].

(الَّذِينَ قالُوا) منصوب على الذم أو على البدل من (الَّذِينَ نافَقُوا) أو مرفوع على الذم أي هم الذين ، أو على البدل من ضمير (يَكْتُمُونَ) وقيل : يجوز أن يكون مجرورا بدلا من الضمير في (بِأَفْواهِهِمْ) أو (قُلُوبِهِمْ لِإِخْوانِهِمْ) لأجل إخوانهم المقتولين يوم أحد

٣٠٥

إخوة في النسب أو في سكنى الدار أو في الجنسية في النفاق. والقائلون ـ عند جمهور المفسرين ـ عبد الله بن أبيّ وأصحابه. واعترض الأصم بأنه قد خرج يوم أحد فكيف وصف بالقعود في قوله : (وَقَعَدُوا) أي والحال أنهم قد قعدوا عن القتال. والجواب أن القعود عن القتال وهو الجبن عنه وتركه لا ينافي الخروج. (لَوْ أَطاعُونا) في أمرنا إياهم بالقعود (ما قُتِلُوا) كأنهم قعدوا وما اكتفوا بذلك بل أرادوا تثبيط غيرهم وذلك لما في الطباع من محبة الحياة وكراهة الموت. «ومن يسمع يخل» فلعل بعض ضعفة المسلمين إذا سمع ذلك رغب في القعود ونفر طبعه عن الجهاد فأجابهم الله تعالى بقوله : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن الحذر يغني عن القدر ، وأن سلامتكم كانت بسبب قيودكم لا بغيره من أسباب النجاة. وفيه استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادفعوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا. وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا. جميع ذلك بناء على أن القتل أمر مكروه يجب على العاقل أن يتحرز منه لو أمكنه ، لكنا لا نسلم ذلك وهو المراد بقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) والخطاب للرسول أو لكل أحد. ومن قرأ على الغيبة فالضمير للرسول. أو المراد لا يحسبن حاسب أو لا يحسبنهم أمواتا. وضمير المفعول للذين قتلوا أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الكلام عليه ، فكأنه مذكور كما حذف المبتدأ في قوله : (بَلْ أَحْياءٌ) أي هم أحياء للدلالة. عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عزوجل أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآية» (١) وعن جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما لي أراك مهتما؟ قلت : يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا. «فقال : ألا أخبرك ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا. فقال : يا عبدي سلني أعطك. فقال : أسألك أن تردّني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية. فقال : إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. فقال : يا رب فأبلغ من ورائي» (٢) فنزلت. وقال جماعة من أهل التفسير : نزلت

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٢١. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٢٥. الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب ١٩. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٤. الدارمي في كتاب الجهاد باب ١٨. أحمد في مسنده (٦ / ٣٨٦).

(٢) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب ١٨. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. كتاب الجهاد باب ١٦.

٣٠٦

الآية في شهداء بئر معونة. وقال بعضهم : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا : نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ، فنزلت الآية تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم أنهم أحياء متنعمون. واختلف العلماء في معنى هذه الحياة. فعن طائفة أنها على سبيل المجاز. وقال الأصم والبلخي : أريد بها الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى. وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال : ما مات من خلف مثلك. ومن هذه الطائفة من قال : مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وأنها لا تبلى تحت الأرض البتة. روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين إلى قبور الشهداء أمر بأن ينادي : من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع. قال جابر : فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصاب المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما. ومن هؤلاء من قال : المراد أنهم لا يغسلون كما لا يغسل الأحياء. وذهبت طائفة من متكلمي المعتزلة إلى أن المراد أنهم سيصيرون أحياء والغرض تعذيب منكري المعاد ، وزيف بأنه عدول عن الظاهر ، وبأن عذاب القبر ثابت. فالثواب أولى. وبأنه نهى عن حسبانهم أمواتا والذي يزيل هذا الحسبان هو اعتقاد أنهم أحياء في الحال لا اعتقاد أنهم أحياء في يوم القيامة ، فإن ذلك مما لا يشك النبي والمؤمنون فيه. وبما رويناه عن ابن عباس أن أرواحهم في أجواف طير. وبقوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) والاستبشار بمن يكون في الدنيا لا بد أن يكون قبل يوم القيامة. وذهب كثير من المحققين إلى أنهم أحياء في الحال لكن بحياة روحانية ، وأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة. وذلك أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ، لأن أجزاء البدن في الذوبان والانحلال ويعرض لها السمن والهزال والقوّة والكلال ، وكلنا يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل. ولأن الإنسان يكون عالما بنفسه حالما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم. ثم ذلك الشيء المغاير لهذا البدن المحسوس سواء كان جسما مخصوصا ساريا أو جوهرا مجردا لا يبعد أن ينفصل بعد موت البدن حيا أو أماته الله فيعيده حيا ، وبهذا يثبت عذاب القبر وثوابه وتزول الشبهات. ومن تأمل في الأمور الواردة عليه وجد أحوال النفس مضادة لأحوال البدن ، ووجد قوة أحدهما مقتضية لضعف الآخر ، كما أن البدن يضعف وقت النوم وتقوى النفس على مشاهدة المغيبات ونقوش عالم الأرواح. وإذا أعرضت النفس عن الطعام والشراب وأقبلت على مطالعة العالم العلوي زادت سرورا وابتهاجا وفرحا وارتياحا ، وانطبعت فيها الجلايا القدسية ، وانكشفت لها المعارف الإلهية. وأكثر أرباب

٣٠٧

الشرع على أنهم أحياء في الحال بحياة جسمانية. ثم منهم من قال : إنه تعالى يصعد أجسادهم إلى السموات وإلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادات والكرامات إليها ، ومنهم من قال : بل يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها. ومن الناس من طعن في هذا القول وقال : إن تجويز كون البدن الميت الملقى في التراب حيا متنعما عاقلا عارفا نوع من السفسطة. والحق في هذه المسألة عندي خلاف ما يقوله أهل التناسخ من أن النفس بعد موت بدنها تقبل على بدن آخر وتعرض عن الأوّل بالكلية ، وخلاف ما يقوله الفلاسفة من أن النفس تنقطع علاقتها عن البدن مطلقا وإنما تلتذ أو تتألم هي بما اكتسبت من المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة أو بالعقائد الباطلة والملكات الذميمة. والذي أقوله : إن النفس تبقى لها علاقة مع بدنها لا بالتحريك واكتساب الأعمال ، ولكن بالتلذذ والتألم والتعقل ونحوها. وليس ببدع أن يتغير التعلق بحسب تغير الأطوار كما كان يتغير في مدّة العمر بحسب الأسنان والأمزجة. والتحقيق فيه أن النفس في هذا العالم جعلت متصرفة في البدن لأجل اكتساب الأعمال والملكات ، وأنه يفتقر إلى تحريك الأعضاء وأعمال الجوارح والآلات ، وبعد الموت تجعل متصرفة فيه من جهة الجزاء والحساب ، فكيف ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر؟ فلعله يكفي بعد الموت أن يكون له علاقة التلذذ والتألم والإدراك فقط إلى أن تقوم القيامة الكبرى. وهذا القدر لا ينافي كون البدن مشاهدا في القبر من غير تحرك ولا إحساس ونطق ، ويؤيده ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على قليب بدر وقال : يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا. فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئا. وفي حديث عذاب القبر «إنه ليسمع قرع نعالهم» (١) ولعل السر في أنه اكتفى بهذا القدر من التصرف أنه إن كان أكثر من ذلك كما سيكون في القيامة الكبرى نافى تكليف سائر الأحياء وأفضى الأمر إلى الإلجاء وهو السر في آخر حديث عذاب القبر «فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» (٢) وأما الشهداء فلا يبعد أن يجازيهم الله تعالى بمزيد التلذذ بنعيم الآخرة كما قتلوا تعجيلا للثواب. وكما عجلوا الانقطاع عن طيبات الدنيا ومشتهياتها فإن جزاء كل طائفة ينبغي أن يناسب عملهم. فافهم

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٦٨ ، ٨٧. النسائي في كتاب الجنة باب ٧٠. أبو داود في كتاب الجنائز باب ٧٤. أحمد في مسنده (٣ / ١٢٦).

(٢) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٦٧ ، ٨٦. أبو داود في كتاب السنّة باب ٢٤. النسائي في كتاب الجنائز باب ١١٠. أحمد في مسنده (٢ / ٢٧٢ ، ٤٥٧) ، (٣ / ١٢٦).

٣٠٨

هذه الأسرار فإنها علق مضنة وبه ثبت جميع ما ورد في الشريعة الحقة والله أعلم. ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أنهم مقربون ذوو كرامة كقوله : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [فصلت : ٣٨] أو المراد بحيث لا يملك أحد جزاءهم سوى ربهم ، أو المراد في علمه وحكمه كما يقال : «هذه المسألة عند الشافعي كذا». يرزقون كما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله كما ورد في الحديث. (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو توفيق الشهادة وما خصصهم به من التفضيل على غيرهم من قبل تعجيل رزق الجنة ونعيمها. وقال المتكلمون : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله : (يُرْزَقُونَ) إشارة إلى المنفعة وقوله : (فَرِحِينَ) إشارة إلى الابتهاج الحاصل بسبب التعظيم. وبلسان الحكماء (يُرْزَقُونَ) إشارة إلى كون ذواتهم مشرقة بالمعارف الإلهية و (فَرِحِينَ) رمز إلى ابتهاجها بالنظر إلى ينبوع النور ومصدر الكمال ، و (يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ) بإخوانهم من المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة. ومعنى (مِنْ خَلْفِهِمْ) أنهم بقوا بعدهم. وقيل لم يلحقوا بهم أي لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل الاشتمال من «الذين». وذلك أن الله يبشرهم بأن من تركوا خلفهم من المؤمنين يبعثون امنين يوم القيامة ، فهم مستبشرون بأنه لا خوف عليهم. وإنما بشرهم الله بذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بغتة كان ذلك مظنة أن يكون لهم نوع تعلق بأحوال إخوانهم وهو شبه تألم ، فأكرمهم الله تعالى بإزالة ذلك التعلق بأن أعلمهم أمن إخوانهم من عذاب الله فحصل لهم سروران : من قبل حالهم في أنفسهم وذلك قوله : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ومن قبل حال إخوانهم وأعزتهم وذلك قوله (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) ثم كرر هذا المعنى لمزيد التأكيد فقال : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) وهي الثواب. وفضل وهو التفضل الزائد وهذا هو سرورهم بسعادة أنفسهم. (وَأَنَّ اللهَ) أي وبأن الله (لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) وهذا سرورهم بسعادة إخوانهم المؤمنين. ثم إنه تعالى مدح المؤمنين بغزوتين متصلتين بغزوة أحد تعرف أولاهما بغزوة حمراء الأسد ، والثانية بغزوة بدر الصغرى. أما الأولى فما روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلّا القليل. فلم تركناهم؟ فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوّتهم فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال : لا أريد الآن أن يخرج معي إلا من حضر يومنا بالأمس. فخرج في سبعين من الصحابة حتى بلغوا حمراء الأسد ـ وهي من المدينة على ثمانية أميال ـ فألقى الله الرعب في قلوب

٣٠٩

المشركين وانهزموا. فنزلت (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) بإتيان جميع المأمورات (وَاتَّقَوْا) بالانتهاء عن المحظورات و (أَحْسَنُوا) في طاعة الرسول واتقوا مخالفته وإن بلغ الأمر بهم إلى الجراحات. روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة. ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. و «من» في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم. وقال أبو بكر الأصم : نزلت في يوم أحد لما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم ، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنهم بعد أن مثلوا بحمزة ، فصلى عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير : ردّها لئلا تجزع من مثلة أخيها. فقالت : قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى. فقال للزبير : فدعها تنظر إليه ، فقالت خيرا واستغفرت له. وجاءت امرأة أخرى قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها ، فلما رأت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حي قالت : إن كل مصيبة بعدك هدر. وأما الثانية فروى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى القابل فنقتتل بها إن شئت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : قل بيننا وبينك ذاك إن شاء الله. فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل مرّ الظهران ، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع ، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال : يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن أرجع. ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة فألحق بالمدينة وثبطهم ولك عندي عشر من الإبل. فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقراركم فقتلوا أكثركم ، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد ، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده لأخرجنّ إليهم وحدي. فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل ، إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام. فلم يلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أحدا من المشركين. وكانت معهم تجارت ونفقات فوافوا السوق وباعوا ما معهم واشتروا بها أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق وأنزل الله في المؤمنين (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) يعني نعيم بن مسعود كما ذكرناه. وإنما عبر

٣١٠

عن الإنسان الواحد بالناس لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل وما له إلا فرس واحد. ولأن الواحد إذا قال قولا وله أتباع يقولون مثل قوله ويرضون به ، حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل كقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] وحين قال نعيم ذلك القول لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه ، وقال ابن عباس ومحمد بن إسحق : مر ركب من عبد القيس بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليخوفوهم وضمن لهم عليه جعلا ـ حمل بعير من زبيب ـ. وقال السدي : هم منافقوا المدينة كانوا يثبطون المسلمين عند الخروج ويقولون : إن الناس قد جمعوا لكم يعني أبا سفيان وأصحابه. والمفعول محذوف أي جمعوا لكم الجموع. والعرب تسمي الجيش جمعا. (فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ) قول نعيم أو قول المثبطين (إِيماناً) لأنهم لم يسمعوا قولهم وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد ، وأظهروا حمية الإسلام فكان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم. واستدل بالآية من قال : إن الطاعات داخلة في مسمى الإيمان وأنه يزيد وينقص بحسب زيادتها ونقصانها. وأما من قال : الإيمان عبارة عن نفس التصديق فتأويله أن الزيادة وقعت في ثمرات الإيمان ، ولكنها جعلت في الإيمان مجازا. وقد مر تحقيق الكلام لنا في هذا المعنى في أوائل الكتاب. وكما أنهم أضمروا ذلك بحسب الاعتقاد وافقوا الخليل عليه‌السلام حين ألقي في النار فأظهروه باللسان وقالوا : حسبنا الله. وقد مر إعراب مثله في البقرة في قوله : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) [البقرة : ٢٠٦]. (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) الكافي أو الكافل أو الموكول إليه هو. ثم عملوا بما اعتقدوه وقالوه فخرجوا (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) وهي العافية (وَفَضْلٍ) وهو الربح بالتجارة ، أو النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة. (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) لم يصبهم قتل ولا جراح. وصفهم بأنه حصل لهم الملائم ولم يحصل لهم المنافي وهذه غاية المطلب ونهاية الأماني ، وإن ذلك ثمرة الإخلاص والتوكل على الله سبحانه وتعالى. ثم روي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا؟ فقال تعالى : (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) ليعلموا أن لهم ثواب المجاهدين حيث قضوا ما عليهم. ثم قال : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) تنبيها على أن السبب الكلي في ثواب المطيعين هو فضل ربهم ورحمته عليهم ولم ينج أحدا عمله إلا أن يتغمده الله برحمته ، فعلى المؤمن أن لا يثق إلا بالله ولا يخاف أحدا إلا إياه وذلك قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ) المثبط هو (الشَّيْطانُ) لعتوّه وتمرده وإغوائه. ثم بين شيطنته بقوله : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أو الشيطان صفة اسم الإشارة ، وهذه الجملة خبر والمفعول الأوّل محذوف أي يخوّفكم أولياءه (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس الذين هم أولياء المثبطين. والأولياء هم أبو سفيان وأصحابه. وقيل : الشيطان هو إبليس. وقيل : المضاف محذوف والتقدير إنما

٣١١

ذلكم قول الشيطان. وقيل : يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلى هذا فالضمير في (فَلا تَخافُوهُمْ) للناس في قوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وقيل : التقدير يخوّفكم بأوليائه كقوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [الزمر : ٣٦] فحذف حرف الجر قاله الفراء والزجاج وأبو علي ، وزيفه ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر. الله حسبي.

التأويل : قد ذكرنا أن النفس يبقى لها نوع تعلق ببدنها. فالآن نقول : إن روح الشهيد مخصوص بمزيد تعلق ببدنه جزاء له على تعجيب إذاقة مرارة الفراق عن الدنيا ، ولهذا لا تبلى أجساد كثير منهم وتبقى غضة طرية وكأنهم هم الشهداء في الحقيقة ، وهكذا أجساد الكاملين من النبيين والصديقين الذين قتلوا أنفسهم بسيوف الرياضات ، ومطارف الأذكار ، وأسنة ألسنة الطاعنين ، وتجرع سموم مخالفات النفس ، ومكايدة الشيطان حتى ماتوا بالإرادة وحيوا بالطبيعة. وليس كل تعلق بهذا العالم سببا للتألم بل بعضه سبب اللذة والابتهاج (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس : ٢٦ ـ ٢٧] وكما ورد في حديث الشهداء «من يبلغ إخواننا عنا إنا في الجنة» والذي جاء فيه «إن أرواحهم في أجواف طير خضر» (١) فلعل ذلك جزاء لهم على خروج الدم والأبخرة اللطيفة منهم ظلما. فمن الممكن أن يخلق الله تعالى من ذلك جسما لطيفا شبه طائر ، ويكون لروح الشهيد به مزيد تعلق حتى تحركه ويطير حيث شاء من السماء والأرض وإلى الجنة بإذن الله تعالى. وأما كون الطير خضرا فإما لأن بدن الميت يميل إلى الخضرة ، وإما أن يكون عبارة عن النضرة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] وإما لأن حالهم بالنسبة إلى ما سيؤل إليه أهل الجنة والنار يوم القيامة كالمتوسط بين الحالين الذين يعبر عنهما بالبياض والسواد في قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] وهذه المعاني ما وجدتها في كتب التفسير والتأويل ، وأرجو أن أكون مصيبا فيها الغرض والله تعالى ورسوله أعلم بمرادهما.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٢١. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٢٥. الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب ١٩. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٤. الدارمي في كتاب الجهاد باب ١٨. أحمد في مسنده (٦ / ٣٨٦).

٣١٢

أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

القراآت : (وَلا يَحْزُنْكَ) من الأفعال حيث كان إلا قوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] نافع ومثله (لَيَحْزُنُنِي) [يوسف : ١٣] و (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة : ١٠] وقرأ يزيد على ضده. الباقون : بفتح الياء وضم الراء. ولا خلاف في مثل (يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] و (لا تَحْزَنْ) [الحجر : ٨٨] مما هو لازم. (وَلا يَحْسَبَنَ) وثلاثة بعدها بالياء التحتانية مع ضم الباء في (تَحْسَبَنَّهُمْ) أبو عمرو وابن كثير ، وقرأ حمزة كلها بتاء الخطاب ، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب كلها بالتحتانية إلا قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) فإنها بالتاء وفتح الباء. الباقون : الأوليان على الغيبة والأخريان بالخطاب.

٣١٣

(يَمِيزَ) بالتشديد حيث كان : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب عياش مخير. الباقون : خفيف بفتح الياء وكسر الميم. (يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) بياء الغيبة : ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو (لَقَدْ سَمِعَ) وبابه مدغما : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام. سيكتب بضم الياء وفتح التاء (وَقَتْلَهُمُ) برفع اللام ويقول على الغيبة : حمزة الباقون : بالنون فيهما على التكلم. ونصب اللام في (وَقَتْلَهُمُ) (وَبِالزُّبُرِ) ابن عامر (وَبِالْكِتابِ) الحلواني عن هشام. الباقون : بغير إعادة الخافض فيهما. (زُحْزِحَ عَنِ) مدغما : شجاع وأبو شعيب من طريق العطار وابن مهران ليبيننه ولا يكتمونه بالياء فيهما لأنهم غيب : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير رويس وأبو بكر وحماد. الباقون : بتاء الخطاب فيهما على حكاية مخاطبتهم.

الوقوف : (فِي الْكُفْرِ) ج للابتداء بأن ولاحتمال إضمار اللام أو الفاء (شَيْئاً) ط (فِي الْآخِرَةِ) ج لعطف المختلفتين مع اتحاد مقصود الكلام (عَظِيمٌ) ه (شَيْئاً) ج لما ذكر (فِي الْآخِرَةِ) ط (أَلِيمٌ) ه (لِأَنْفُسِهِمْ) ط (إِثْماً) ج لما ذكر أيضا (مُهِينٌ) ه (مِنَ الطَّيِّبِ) ط (وَرُسُلِهِ) ط (عَظِيمٌ) ه (خَيْراً لَهُمْ) ط (شَرٌّ لَهُمْ) ط (الْقِيامَةِ) ط (وَالْأَرْضِ) ط (خَبِيرٌ) ه (أَغْنِياءُ) م لئلا يصير ما بعده من مقولهم ، ومن قرأ بضم الياء فوقفه مطلق. (بِغَيْرِ حَقٍ) ج لمن قرأ ويقول بالياء لأن التقدير : ويقول الله أو يقول الزبانية فلا ينعطف على قوله : (سَنَكْتُبُ) مع اتساق المعنى. (الْحَرِيقِ) ه (لِلْعَبِيدِ) ج ه لاحتمال الصفة وأن يكون المراد هم الذين ، والوقف أولى لأنه لا يظلم العبيد مطلقا لا العبيد الموصوفة. نعم لو كان بدلا من الذين قالوا إن الله فقير صح (تَأْكُلُهُ النَّارُ) ط (صادِقِينَ) ه (الْمُنِيرِ) ه (الْمَوْتِ) ط (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ط لابتداء شرط في أمر معظم. (فَقَدْ فازَ) ط (الْغُرُورِ) ه (كَثِيراً) ط (الْأُمُورِ) ه (وَلا تَكْتُمُونَهُ) ز لأن الجملتين وان اتفقتا لم يكن النبذ متصلا بأخذ الميثاق فلم يضف إلى ظرف «إذ». (قَلِيلاً) ط (يَشْتَرُونَ) ه (مِنَ الْعَذابِ) ج لما ذكر. (أَلِيمٌ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (قَدِيرٌ) ه.

التفسير : نزلت في كفار قريش وإنه تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم وأتاح العاقبة له وإن جمعوا الجموع وجهزوا الجيوش حتى يظهر هذا الدين على الأديان كلها. وقيل في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوّفون المؤمنين بسبب واقعة أحد ، ويؤيسونهم من النصر والظفر ، وربما يقولون : إن محمدا لطالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة يكون عليه ، ولو كان رسولا ما غلبه أحد. وقيل : إن قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش ، فاغتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك فبيّن الله تعالى أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك. ونصر بعضهم هذا القول بأن المسارعة وهي شدة الرغبة في الكفر إنما تناسب من كفر بعد الإيمان

٣١٤

المستمر على الكفر ، وبأن إرادته أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة إنما تليق بمن آمن فاستوجب الحظ ثم أحبط ، وبأن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود وذلك هو ما قدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الانتفاع بإيمانهم أو انتفاعهم بالإيمان فبيّن الله تعالى أنه لا يحلق بسبب فوات ذلك ضرر بالدين ، وأن وبال ذلك يعود عليهم كما دل عليه بقية الآية. فإن قيل : الحزن على كفر الكافر وعلى معصية العاصي طاعة ، فكيف نهى نبي الله عن ذلك؟ فالجواب أنه نهي عن الإسراف في الحزن بحيث يأتي عليه ونظيره (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] أو المراد لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) أي دينه (شَيْئاً) من الضرر. (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) فيه دليل على أن إرادة الله تتعلق بالعدم ، وتنصيص على أن الخير والشر والنفع والضر بإرادة الله ، ومعنى قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أنه كما لا حظ لهم من منافع الآخرة فلهم حظ عظيم من مضارها. وفي الإخبار عن إرادة عدم الجعل دون الإخبار عن عدم الجعل إشعار بأن استحقاقهم للحرمان بلغ إلى حد أراد أرحم الراحمين أن لا يرحمهم وأن الداعي إلى تعذيبهم خلص خلوصا لم يبق معه صارف البتة. ثم أنزل في اليهود خاصة وهو الأشبه أو في الكفار عامة (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) الآية. والغرض تأكيد تقوية قلب الرسول كأنه قيل : إن أكثرهم ينازعونك في الدين لا لأجل شبهة لهم بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا. ومن كان عقله هذا القدر ـ وهو أن يبيع بالقليل من الدنيا السعادة الكثيرة في الآخرة ـ كان في غاية الحماقة ، ومثله لا يقدر على إلحاق الضرر بالغير. ولو قيل : إن الآية في المرتدين فالمعنى أن اختيار دين بعد دين ثم الارتداد على العقبين يدل على الاضطراب وضعف الرأي ، والإنسان المضطرب الحال لا قدرة له على إيصال الضرر إلى الغير. ثم بين أن بقاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد والكفار الذين بقوا بعد شهداء أحد لا خير فيه فقال : (وَلا يَحْسَبَنَ) من قرأ بالياء فقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل ، و «أن» مع ما في حيزه ساد مسد مفعوليه. ومن قرأ بتاء الخطاب ف (الَّذِينَ كَفَرُوا) مفعول أول و «أن» مع ما في حيزه بدل منه. وصح الإبدال وإن لم يمض إلا أحد المفعولين لأن المبدل في حكم المنحي. ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض. مع امتناع السكوت على متاعك؟ والتقدير : ولا تحسبن الذين كفروا أن إملائي خير لهم على أن «ما» مصدرية. ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي لا تحسبنهم أصحاب أن الإملاء خير لهم ، أو لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. قال الأصمعي : يقال أملى عليه الزمان أي طال. وأملى له أي طوّل له وأمهله. قال أبو عبيدة : ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة ، والملوان الليل والنهار. ويقال : أقمت عنده ملاوة من الدهر أي حينا وبرهة. و (إِثْماً) نصب على التمييز. وفي

٣١٥

وصف العذاب أوّلا بالعظم ثم بالألم ثم بالإهانة تدرج من الأهون إلى الأشق ، وفيه من الوعيد والسخط ما لا يخفى. قالت الأشاعرة هاهنا : إن إطالة المدة من فعل الله لا محالة. والآية دلت على أنها ليست بخير ففيه دلالة على أنه سبحانه فاعل الخير والشر. وأيضا إنه نص على أن الغرض من هذا الإملاء ، أن يزدادوا إثما ، فإذن الكفر والمعاصي بإرادة الله. وأيضا أخبر عنهم أنه لا خير لهم فيه وأنهم لا يحصلون منه إلا على ازدياد الغي والإثم ، والإتيان بخلاف خبر الله تعالى محال ، فعلمنا أنهم مجبورون على ذلك في صورة مختارين. أجابت المعتزلة بأن المراد أن هذا الإملاء ليس خيرا من موت الشهداء إذ الآية من تتمة قصة أحد ، لا أنه ليس بخير مطلقا. وزيف بأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا مع المفضل عليه ، لكنه لم يذكر فعلمنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر ، وعن الثاني أن ازدياد الإثم علة للإملاء وليس كل علة بغرض كقولك : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة. ومثله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا) [إبراهيم : ٣٠] وهم ما فعلوا ذلك إلا ضلال. ويقال : ما كانت موعظتي لك إلا للزيادة في تماديك في الغي إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك. ورد بأن حمل اللام على لام العاقبة عدول عن الظاهر ، على أنا نعلم بالبرهان أن علمه تعالى بأنهم مزدادون إثما على تقدير الإمهال علة فاعلية لازديادهم إثما فكان تعالى فاعلا للازدياد ومريدا له. قالوا : في الكلام تقديم وتأخير وترتيبه : لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. ويعضده قراءة يحيى بن وثاب بكسر «إن» الأولى وفتح الثانية. وردّ بأن التقديم والتأخير خلاف الأصل ، والقراءة الشاذة لا اعتداد بها مع أن الواحدي أنكرها. ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجوز في حكمته أن يترك المؤمنين على ما هم عليه من اختلاط المخلص بالمنافق ، ولكنه يعزل أحد الجنسين عن الآخر بإلقاء الحوادث وإبداء الوقائع كما في قصة أحد.

لله در النائبات فإنها

صدأ اللئام وصيقل الأحرار

فقال : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) اللام لتأكيد النفي والخطاب في (أَنْتُمْ) للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق. خوطبوا بأنه ما كان في حكمة الله أن يترك المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض. وماز وميّز لغتان. مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزا ، وميّزته تمييزا. وفي الحديث «من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة وحجة» (١) ولفظ الطيب والخبيث وإن كان مفردا إلا أنه للجنس والمراد جميع

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ٤٢٢ ، ٤٢٣) بلفظ «أمز الأذى عن الطريق» عند ما طلب منه أبو برزة أن يحدثه بشيء ينفعه الله به.

٣١٦

المنافقين من المؤمنين ، وإنما قدم الخبيث على الطيب ليقع فعل الميز عليه ليعلم أنه المطرح من الشيئين الملقى لرداءته ، فإن الميز يقع على الأدون والأهون. وبم يحصل هذا الميز؟ قيل : بالمحن والمصائب كالقتل والهزيمة وكما دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الخروج مع ما بهم من القروح ، فبمثل ذلك يظهر الثابت من المتزلزل والساكن من المتقلقل. وقيل : بإعلاء كلمة الدين وقلة شوكة المخالفين ليظهره على الدين كله. وقيل : بالوحي إلى نبيه ولهذا أردفه بقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) أي يصطفي ويختار (مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) وبناء الكلام على ثلاث مراتب : الأولى أن هذا المنصب الذي استأثر الله تعالى بعلمه لا يليق بكل أحد منكم ، وإنما هو مخصوص بالمصطفين من عبيده. الثانية أن الرسول أيضا لا يعلم المغيبات بأن يطلع عليها من تلقاء نفسه وبخاصية فيه ، ولكنه إنما يعلم ذلك من طريق الوحي وإطلاع الله تعالى إياه عليه أن هذا مؤمن وذاك منافق. الثالثة أن هذا أيضا مختص ببعض الرسل وفي بعض الأوقات حسب مشيئته وإرادته. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ومن جملة الإيمان بالله أن تعتقدوه وحده علاما للغيوب ، ومن جملة الإيمان بالرسل أن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبيدا مصطفين لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى. ووجه النظم على القول الأول : لا تظنوا أن هذا التمييز يحصل بأن يطلعكم الله على غيبه ويقول إن فلانا مؤمن وفلانا منافق ، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع العوام على غيبه ولا يكون لهم سبيل إلى معرفة الأمور إلا بالامتحان والقرائن المفيدة للظن الغالب ، ولكنه يصطفي من رسله من يشاء ، فيعلمهم أن هذا مؤمن وذاك منافق ويختارهم للرسالة ووضع التكاليف الشاقة التي بمثلها يتميز الفريقان ويخلص أهل الوفاء من أهل الجفاء. أو المراد ما كان الله ليطلعكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول ، ولكنه يخص من يشاء بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل ، فآمنوا بالله ورسله كلهم ، لأن طريق ثبوت نبوّتهم واحد ، فمن أقر بنبوّة واحد منهم لزمه الإقرار بنبوّة كلهم. ثم اتبعه الوعد بالثواب فقال : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) قال السدي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر» فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤا فقالوا : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ). وقال الكلبي : قالت قريش : تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان ، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض ، فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك فنزلت. وقال أبو العالية : نزلت حين سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق.

٣١٧

ثم إنه عز من قائل لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد ، حرض على بذل المال في سبيل الله فقال : ولا تحسبن الذين يبخلون من قرأ بتاء الخطاب قدر مضافا أي لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم ، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعله ضمير النبي أو أحد. ومن جعل الموصول فاعلا فالمفعول الأول محذوف للدلالة. التقدير : ولا تحسبن هؤلاء بخلهم هو خيرا وهو صيغة الفصل. قال الواحدي : جمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مانعي الزكاة لترتب الوعيد عليه وسوق الكلام في معرض الذم ، ولأن تارك التفضل لو عدّ بخيلا لم يتخلص الإنسان من البخل إلا بإخراج جميع المال. وفي حكم الزكاة سائر المصارف الواجبة كالإنفاق على النفس وعلى الأقربين الذين يلزمه مؤنتهم ، وعلى المضطر ، وفي الذب عن المسلمين إذا قصدهم عدوّ وتعين دفعهم بالمال. وروى عطية عن ابن عباس أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوّته. وأراد بالبخل كتمان العلم الذي آتاهم الله ، وعلى هذا يكون عودا إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد ، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب ويعضده أن كثيرا من آيات بقية السورة فيهم. وعلى هذا التفسير فمعنى (سَيُطَوَّقُونَ) أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من النار كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار» (١) والسر فيه أنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. وعلى التفسير الأول فإما أن يكون محمولا على ظاهره وهو أن يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه ويقول : أنا مالك. عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل طوقا في عنقه شجاعا أقرع يفر منه وهو يتبعه» (٢). ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عزوجل ولا تحسبن الذين يبخلون الآية. وعن ابن عمر قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الذين لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان فيلزمه أي يطوّقه يقول : أنا كنزك» (٣) وأما أن يكون على طريق التمثيل لا على أن ثمة أطواقا أي سيلزمون إثمه في الآخرة إلزام الطوق. وفي أمثالهم «يقلدها طوق الحمامة». إذا جاء بهنة يسب بها ويذم. وقال مجاهد : معناه سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة. ونظيره ما روي عن

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب العلم باب ٩. الترمذي في كتاب العلم باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٢٤. أحمد في مسنده (٢ / ٢٦٣ ، ٣٠٥).

(٢) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب ٢.

(٣) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٣. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٢. أحمد في مسنده (١ / ٣٧٧).

٣١٨

ابن عباس أنه كان يقرأ وعلى الذين يطوّقونه فدية [البقرة : ١٨٤] قال المفسرون : يكلفونه ولا يطيقونه أي يؤمرون بأداء ما منعوه حتى لا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخا على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا؟ (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله؟ ونظيره قوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧] وقال كثير من المفسرين : المقصود أنه يبطل ملك جميع المالكين إلا ملك الله فيصير كالميراث. قال ابن الأنباري : يقال ورث فلان علم فلان إذا تفرد به بعد أن كان مشاركا له فيه. ومثله (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] أي انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه أو غالبا عليه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) من قرأ على الغيبة فظاهر ، أي يجازيهم على منعهم الحقوق. ومن قرأ على الخطاب فللالتفات وهي أبلغ في الوعيد لأن الغضب كأنه تناهى إلى حد أقبل على الخطاب وشافه بالعتاب. ثم شرع في حكاية شبه الطاعنين في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذلك أنه لما أمر بالإنفاق في سبيل الله قالوا : لو كان محمد صادقا في أن الله تعالى يطلب منا المال فهو إذن فقير ونحن أغنياء ، لكن الفقر على الله محال فمحمد غير صادق. وأيضا لو كان نبيا لكان إنما يطلب المال لأجل أن تجيء نار من السماء فتحرقه كما كان في الأزمنة السالفة ، فلما لم يفعل ذلك عرفنا أنه ليس بنبي. فهذا بيان النظم وليس في الآية تعيين القائلين إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود لعنهم الله لقولهم في موضع آخر (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] عنوا أنه بخيل. وذلك الجهل يناسب هذا الجهل ، ولأن التشبيه غالب عليهم ، والقائل بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات ، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني ، ولما روى عكرمة ومحمد بن إسحق والسدي ومقاتل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا. فقال فنحاص بن عازوراء ـ وهو من علمائهم ـ أتزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا فهو إذن فقير ونحن أغنياء ، فغضب أبوبكر ولطمه في وجهه وقال : لو لا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله إن عدوّ الله قال هكذا. فجحد ذلك فنحاص فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر. وأيضا إن موسى لما طلب منهم الجهاد ببذل النفوس قالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا. فلا يبعد أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طلب منهم الأموال قالوا له : لو كان الإله غنيا فأي حاجة إلى أموالنا. ثم إن القائل لو كان فنحاصا وحده فإنما

٣١٩

يستقيم قوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) لأن أتباع الرجل والمقتدين به حكمهم حكمه. ثم إنه تعالى لم يجبهم عن شبهتهم. أما على قواعد أهل السنة فبأن يقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر عبيده ببذل الأموال مع كونه أغنى الأغنياء. وأما على قوانين المعتزلة فبأن في هذا التكليف فوائد منها : إزالة حب المال عن القلب ، ومنها التوسل إلى الثواب المخلد ، ومنها تسخير البعض للبعض فبذلك ترتبط أمور التمدن وتنتظم أحوال صلاح المعاش والمعاد وإنما لم يجب لكثرة ورودها في القرآن (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) [البقرة : ٢٧٢] ولأن وجوب الوجود عبارة عن الغنى المطلق حتى لا يحتاج في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا بجهة من جهاته إلى ما سوى ذاته. فمن اعترف بوجوب وجوده ثم شك في كمال غناه في وجوده فقد عاد بالنقض على موضوعه فلا يستحق الجواب عند أولي الألباب ، وإنما يستأهل صنوفا من العتاب وضروبا من العذاب. فلهذا قال على جهة الوعيد (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) في صحائف الحفظة ، أو نستحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فلا ينسى. وفي التفسير الكبير : سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يبقى على لسان الأمة إلى يوم القيامة. ثم عطف عليه قتلهم الأنبياء ليدل على أنهم كما لو يقدروا الله حق قدره حتى نسبوا إليه ما نسبوه ، فكذلك لم يقضوا حقوق الأنبياء ففعلوا بهم ما فعلوا. (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) وهو من أسماء جهنم. «فعيل» بمعنى «مفعول» كالأليم بمعنى المؤلم. أو سميت باسم صاحبها أي ذات حرقة. والمعنى : ينتقم منهم فيقول لهم ذوقوا عذاب النار كما أذقتم المسلمين جرع الغصص. وهذا القول يحتمل أن يقال عند الموت ، أو عند الحشر ، أو عند قراءة الكتب. ويحتمل أن يكون كناية عن الوعيد وإن لم يكن ثمة قول. (ذلِكَ) العذاب أو الوعيد (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من السب والقتل. وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يباشر باليد ، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب وإن كان بعضه باللسان أو بسائر الجوارح والآلات. وإنما جمع لأن المخاطب جمع ولو كان مفردا. قيل : بما قدمت يداك مثنى كما في سورة الحج. قال الجبائي : قوله : (وَأَنَّ اللهَ) أي وبأن الله ليس بظلام للعبيد ، فيه دلالة على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم الذنوب. وفيه بطلان قول المجبرة أن الله يعذب الأطفال بغير جرم ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب ، ويدل على كون العبد فاعلا وإلا لكان الظلم حاصلا. والجواب أنه لم ينف الظلم عن نفسه بمعنى أن الجزاء إنما كان مرتبا على الذنب الصادر بكسب العبد وفعله فلا ظلم ، بل بمعنى

٣٢٠