تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الأقرب وهو الفئة الكافرة أولى ، ولأنه سبحانه جعل هذه الحالة آية للكفار حيث خاطبهم بقوله (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) فوجب أن يكون الراؤون هم الكفار حتى تكون حجة عليهم ، ولو كانت الآية مما شاهدها المؤمنون لم يصلح جعلها حجة على الكفرة. والحكمة في ذلك أن يهابهم المشركون ويجبنوا عن قتالهم وهذا لا يناقض قوله في سورة الأنفال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الآية : ٤٤] لاختلاف الوقتين فكأنهم قللوا أوّلا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. على أن تقليلهم تارة في أعينهم وتكثيرهم أخرى أبلغ في القدرة وإظهار الآية. الاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون. فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين والسبب فيه ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] والكافرون كانوا قريبا من ثلاثة أمثالهم ، فلو رأوهم كما هم لجبنوا وضعفوا. الاحتمال الرابع أن يكون الراؤون هم المسلمين ، ثم إنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين وهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة الكفار وإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك. وفي الآية احتمال خامس وهو أن أول الآية قد بينا أنه خطاب مع اليهود فيكون المراد : ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة. وهاهنا بحث وهو أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا ، والاحتمال الثالث يوجب أن يكون الموجود والحاضر غير مرئي. أما الأول فهو محال عقلا والقول به سفسطة فلهذا قيل : لعل الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرا. وعلى هذا تكون الرؤية رؤية البصر ، ويكون (مِثْلَيْهِمْ) نصبا على الحال ، أو تحمل الرؤية على الظن والحسبان فإن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنه في غاية الكثرة ، لكن قوله : (رَأْيَ الْعَيْنِ) لا يجاوب ذلك إذ معناه رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات. وأما الثاني فهو جائز عند الأشاعرة إذ عند حصول الشرائط وصحة الحاسة لا يكون الإدراك واجب الحصول بل يكون عندهم جائزا لا واجبا والزمان زمان خوارق العادات. وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند استجماع الشروط وسلامة الحس ، فاعتذروا عن ذلك بأن الإنسان عند الخوف لا يتفرغ للتأمل البالغ ، فقد يرى البعض دون البعض. أو لعل الغبار صار مانعا عن إدراك البعض ، أو خلق الله تعالى في الهواء ما صار مانعا عن رؤية ثلث العسكر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقل به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين وكل ذلك محتمل. (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) إما بالغلبة كيوم بدر ، وإما بالحجة والعاقبة كيوم أحد. (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكره من

١٢١

الآية (لَعِبْرَةً) نوع عبور وهو المجاوزة من منزل الجهل إلى مقام العلم (لِأُولِي الْأَبْصارِ) ذوي العقول التي تصير القضايا معها كالمشاهد المعاين. ثم ذكر ما هو كالشرح والبيان لمعتبر الإنسان وهو أنه (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) اللذات الجسمانية والآخرة. وهي عالم الروحانيات ـ خير وأبقى ، وأنها معدة لمن واظب على العبودية واتصف بالخصال الحميدة. وأما ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه يمنعه من اتباعه حب المال والجاه. وروينا أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها ، والآخرة خير. والمزين هو الله تعالى. أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها ، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها. كان الصاحب بن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب. ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثوابا. وعن الجبائي واختاره القاضي ، أن كل ما كان واجبا أو مندوبا أو مباحا فالتزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراما قالتزيين فيه من الشيطان. وحكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك. واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات ، وإن تزيينها وظيفة الشيطان. وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده. وقال في معرض الذم (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) والذام للشيء لا يكون مزينا له. وقال (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزينا لها؟. ثم إنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور «قدرة» وللمرجو «رجاء». وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية. فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها. قال المتكلمون : في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايرا للمضاف إليه. فالشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد ، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات. واعلم أن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه يحب أن لا يحبه ، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة ، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان

١٢٢

عليه‌السلام (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) [ص : ٣٢] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محبا للخير. فقوله : (حُبُّ الشَّهَواتِ) قريب من ذلك لأن الشهوة نوع محبة. ولفظ (لِلنَّاسِ) عام فظاهره يقتضي أن هذا المعنى عام لجميع الناس ولا شك أنه موجود في الأغلب وفي أكثر الأوقات فلا يبعد التعميم ، فطالما أعطى للأغلب حكم الكل. على أن من همته بجوامعها مقصورة على طلب اللذات الروحانية في غاية الندرة ، وبقاء ذلك النادر في جميع الأحيان على ذلك الخاطر أعز وأمنع. ثم شرع في بيان تلك الأعيان المشتهيات فذكر منها ما هي الأمهات ورتبها في سبع مراتب : الأولى النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أخوف ما أخاف على متي النساء» الثانية الأولاد ولا سيما البنين ولهذا خصوا بالذكر ، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات. الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ومنه القنطرة. والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب. أبو عبيد : إنه وزن لا يحد. روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القنطار اثنا عشر ألف أوقية» (١) وروى أنس عنه هو ألف دينار. وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس : ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية. وبه قال الحسن. وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة. وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار. والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم «ألف مؤلفة وبدرة مبدّرة وإبل مؤبلة». قال الكلبي : القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة. وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء.

وكل الصيد يوجد في الفرا

ولو لا التقى لقلت جلت قدرته

وصفة المالكية هي القدرة ، وأنها صفة كمال والكمال محبوب لذاته. والخامسة الخيل المسوّمة قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلا لاختيالها وهو جولانها في مشيتها. ويسمى الخيال خيالا لجولان هذه القوة في استحضار الصور. والمسومة قيل المرعية. أسمت الدابة وسوّمتها إذا أرسلتها في مرجها للرعي. ولا شك أنها إذا رعت ازدادت حسنا وبهاء. وقيل : هي المعلمة من السومة

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الأدب باب ١. الدارمي في كتاب فضائل القران باب ٣٢. أحمد في مسنده (٢ / ٣٦٣).

١٢٣

العلامة. ثم اختلفوا في تلك العلامة فعن أبي مسلم : الغرة والتحجيل ، وقال الأصم : هي البلق. وقال قتادة : الشية ـ وقيل : الكي. وقال مجاهد وعكرمة : المسومة المطهمة أي الحسان. قال الأصمعي : رجل مطهم وفرس مطهم أي تام ، كل شيء على حدته فهو بارع الجمال. السادسة الأنعام وهو جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم. ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها. السابعة الحرث وهو الزراعة ذلك الذي ذكر متاع الحياة الدنيا لأن وجوه الانتفاعات الدنيوية للإنسان إما أن تكون من بني نوعه أو من غيره. والأول أصل وهو المرأة وفرع وهو الولد ، وإنما فرض الكلام في الذكور لشرفهم. والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر ، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل ، أو للحمل واللحم وهو الأنعام ، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب ، والقرآن يخاطب أولا معهم. (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي المرجع. وإنما لم يذكر المآب القبيح وهو النار لأنها غير مقصودة بالذات لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ولهذا قال : «سبقت رحمتي غضبي» (١) ثم بيّن أن ذلك المرجع كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا. والمقصود أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أفسح وأوسع من الدنيا ، أو لأنه لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها فقال مستفهما على سبيل التقرير (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ) أي بشيء هو خير (مِنْ ذلِكُمْ) الذي عددنا. ثم استأنف بيانه وتقريره فقال : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) كما تقول : هل أدلكم على حبر خير من فلان؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت. وبيان الخيرية ظاهر من وصف الجنات والأزواج مع قيد الخلود ، فإن النعمة وإن عظمت ، فتوهم الانقطاع والزوال ينغص صفوها وينقص لذتها ، وبعد زوال هذا الوهم لن يتكامل طيبها إلا بالنساء فبهن يحصل الأنس. ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة فقال : (مُطَهَّرَةٌ) أي من الأقذار والمنفرات. وبعد ذكر تمام النعمة ذكر ما هو فوق التمام فقال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) ويندرج فيه جميع المطالب والمقاصد لأن العبد إذا رضي عنه المولى لم يتصور منصب أجل منه وأعلى ، وكأن المولى وما يملكه للعبد ، كما أن العبد وما يملكه للمولى (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ٧٢] ويحتمل أن يكون اللام في قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) متعلقا بخير. واختص المتقين لأنهم

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢).

١٢٤

هم المنتفعون به ويرتفع (جَنَّاتٌ) على الخبر أي هو جنات ويعضده قراءة بعضهم (جَنَّاتٌ) بالجر على البدل من (بِخَيْرٍ) وذلك أن اللام في هذه القراءة يتعين أن يكون متعلقا بخير. وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يحتمل أن يتعلق بما يتعلق بما تعلق به قوله : (لِلَّذِينَ) أي ثبت لهم عند ربهم. ويحتمل أن يكون صفة لخير ، ويحتمل أن يكون من تمام قوله : (اتَّقَوْا) فيكون إشارة إلى أن هذا الثواب لا يحصل إلا لمن كان متقيا عند الله تعالى فلا يدخل فيه إلا من كان مؤمنا في علم الله (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختار لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا ، أو بصير بهم يثيب ويعاقب بحسب الاستحقاق ، أو بصير بالذين اتقوا ربهم وبأحوالهم فلذلك أعدّ لهم الجنات (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة. وقد حكى الله تعالى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فقيل : دل ذلك على أن الإيمان هو التصديق فقط ، فإن العمل الصالح لو كان داخلا فيه كما زعموا كان إدخاله في النار قبيحا عندهم فيكون ممتنع الوقوع من الله تعالى ، وضده واجب الوقوع ، وسؤال الواجب وقوعه عبث فلا يصلح للمدح. ويمكن أن يجاب عنه بأن العبد قد يدعو بما يعلم أنه حاصل له إظهار الذل العبودية وإبداء للاستكانة والخشوع. وأيضا صورة العمل الصالح لا تفيد ما لم تقع في حيز القبول. فعلى المتقي أن لا يتكل عليها ويبتهل إلى الله في مواجب الغفران. ثم عدد من أوصاف عباده خمسة ووسط العاطف بينها دلالة على كمالهم في كل واحد منها ، أو إشارة إلى أن كل واحد منها يكفي في استحقاق المدح والثواب فقال : (الصَّابِرِينَ) أي في أداء الطاعات وعلى ترك المحظورات وعند المحن والشدائد. وقف رجل على الشبلي فقال : أيّ صبر أشد على الصابرين؟ فقال : الصبر في الله تعالى. فقال : لا. فقال : الصبر لله. فقال : لا. فقال : الصبر مع الله. قال : لا. قال : فأي شيء؟ قال : الصبر عن الله. فصرخ الشبلي صرخة كاد يتلف روحه. (وَالصَّادِقِينَ) أي في الأقوال وفي الأفعال بأن لا ينصرف عنها قبل تمامها ، وفي النيات بأن يمضي العزم على الخيرات. (وَالْقانِتِينَ) والمقيمين على الطاعات والمواظبين عليها (وَالْمُنْفِقِينَ) ما تيسر على من تيسر بشروطه ومصارفه وجوبا وندبا (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) أي فيها. والسحر قبل طلوع الفجر. وخص هذا الوقت لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار هذا ليلهم وذلك نهارهم. وللاستغفار بالأسحار مزيد آثار وأنوار لأن السحر وقت النوم والغفلة ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة عرض الذلة على حضرة العزة لا يبعد أن يفيض عليه سجال المغفرة وأن يطلع صبح العالم الصغير عند طلوع صبح العالم الكبير فيستنير قلب المؤمن بأنوار المعارف وآثار اللطائف. أما بيان ترتيب الأوصاف ،

١٢٥

فالصبر يشمل أداء جميل التكاليف. ثم الإنسان قد يلتزم من نفسه ما هو غير واجب عليه ، فالصادق من يخرج عن عهدة ذلك (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] ثم المواظبة على سلوك سبيل الخيرات أمر محمود فأشير إلى ذلك بقوله : (وَالْقانِتِينَ) ثم إن هاهنا أمرين يعينان على الطاعة : الخدمة بالمال والابتهال والتضرع إلى حضرة القدس والجلال وذلك قوله : (وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) فقوله : (وَالْمُنْفِقِينَ) معناه الشفقة على خلق الله وباقي الأوصاف حاصله التعظيم لأمر الله. قال الكلبي : لما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا : أنت محمد؟ قال : نعم. قالا : وأنت أحمد؟ قال : نعم. قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سلاني. قالا : أخبرنا من أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله على نبيه (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فأسلم الرجلان وصدقا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ووجه النظم أنه مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله : (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) ثم بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية.

واعلم أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم يحتمل أن تكون بمعنى واحد ، ويحتمل أن لا تكون كذلك. أما الأول فتقريره من وجهين : أحدهما أن الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم. أما من الله فذلك أنه أخبر في القرآن أنه إله واحد لا إله إلا هو وذلك في مواضع كثيرة كالإخلاص وآية الكرسي وغيرهما ، والتمسك بالدلائل السمعية في هذه المسألة جائز لأن العلم بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتوقف على العلم بها. وأما من الملائكة وأولي العلم وهم الذين عرفوا وحدانية الله تعالى بالدلائل القاطعة ، فكلهم أخبروا أيضا أن الله واحد لا شريك له. وثاني الوجهين أن تجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان. فالله تعالى أظهر ذلك وبيّن بأن خلق ما يدل على ذلك ، والملائكة وأولو العلم أظهروا ذلك وبينوه. أيضا الملائكة للرسل والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق. فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان. فأما مفهوم الإظهار والبيان فشيء واحد في حق الكل ، فكأنه قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المبين والمنهج القويم لا يضعف بمخالفة بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان ، فأثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك ، فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام. وأما الثاني فهو قول من يقول شهادة الله تعالى على

١٢٦

توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة. فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله. فكيف يكون المدعي شاهدا؟ فالجواب أنه ليس الشاهد بالحقيقة إلا الله لأنه خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ثم وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل والتوصل بها إلى معرفة الوحدانية ، ثم وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى ذلك ولهذا قال : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٩] وفي انتصاب (قائِماً بِالْقِسْطِ) وجوه : الأول أنه حال مؤكدة والتقدير : شهد الله قائما بالقسط ، أو لا إله إلا هو قائما بالقسط. وهذا أوجه لكون الإلهية والتفرد بها مقتضيا للعدالة مثل : هذا أبوك عطوفا. أو لا رجل إلا عبد الله شجاعا. ويحتمل أن يكون حالا من «أولي العلم» أي حال كون كل واحد منهم قائما بالقسط في أداء هذه الشهادة. الثاني أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلا هو. وقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف. الثالث أن يكون نصبا على المدح وإن كان نكرة كقوله :

ويأوي إلى نسوة عطل

وشعثا مراضيع مثل السعالى

ومعنى كونه قائما بالقسط قائما بالعدل كما يقال : فلان قائم بالتدبير أي يجريه على سنن الاستقامة ، أو مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ، ويثيب ويعاقب وفيما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. واعلم أن وجوب الوجود يلزمه الغنى المطلق والعلم التام والفيض العام والحكمة الكاملة والرحمة الشاملة وعدم الانقسام بجهة من الجهات وعدم الافتقار بوجه من الوجوه الى شيء من الأشياء وعدم النقص والنقض في شيء من الأفعال والأحكام إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العليا. ومركوز في العقل السليم أن من هذا شأنه لا يصدر منه شيء إلا على وفق العدالة وقضية التسوية ورعاية الأصلح عموما أو خصوصا. فكل ما يخيل إلى المكلف أنه خارج عن قانون العدالة أو يشبه الجور أو القبح ، وجب أن ينسب ذلك إلى قصور فهمه وعدم إحاطته التامة بسلسلة الأسباب والمسببات والمبادئ والغايات ، فانظر في كيفية خلقه أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله وحكمته فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والألم ، واقطع بأن كل ذلك عدل وصواب. ثم انظر في كيفية خلقه العناصر وأجرام الأفلاك والكواكب وتقدير كل منها بقدر معين وخاصية معينة ، فكلها حكمة وعدالة. وانظر إلى تفاوت الخلائق

١٢٧

في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ، فإن الإنسان بل كل ما سوى الله تعالى لم يخلق مستعدا لإدراك تفاصيل كلمات الله. فالخوض في ذلك خوض فيما لا يعنيه بل لا يسعه ولا ينفعه إلا العلم الإجمالي بأنه تعالى واحد في ملكه ، وملكه لا منازع له فيه ولا مضاد ولا مانع لقضائه ولا راد ، وأن الكل بقضائه وقدره ، وفي كل واحد من مصنوعاته ولكل شيء من أفعاله حكم ومصالح لا يحيط بذلك علما إلا موجده وخالقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. هذا هو الدين القويم والاعتقاد المستقيم ، والعدول عنه مراء ، والجدال فيه هراء. فمن نسبه إلى الجور في فعل من الأفعال فهو الجائر لا على غيره بل على نفسه إذ لا يعترف بجهله وقصوره ، ولكن ينسب ذلك إلى علام الخفيات والمطلع على الكليات والجزئيات من أزل الآزال إلى أبد الآباد. ومن زعم أن شيئا من الأشياء خيرا أو شرا في اعتقاده حسنا أو قبيحا بحسب نظره خارج عن مشيئته وإرادته فقد كذب ابن أخت خالته ، لأنه يدعي التوحيد ثم يثبت قادرا آخر أو خالقا غير الله تعالى ، ولا خالق إلا هو ، فلهذا كرر مضمون الشهادة وقال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والتقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو. وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو كقولك : الدليل دل على وحدانية الله ، ومتى كان كذلك فقد صح القول بوحدانية الله. وفيه إيقاظ لأمة محمد أن يقولوا على وفق شهادة الله والملائكة وأولي العلم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وإعلام بأن هذه الكلمة يجب أن يكررها المسلم ما أمكنه.

هو المسك ما كررته يتضوّع

ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم. ولا تتم القدرة إلا بالتفرد والاستقلال ، ولا العدالة إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) جملة مستأنفة مؤكدة للأولى. والدين في اللغة الجزاء ثم الطاعة. سميت دينا لأنها سبب الجزاء. والإسلام في اللغة الانقياد والدخول في السلم أو في السلامة أو في إخلاص العبادة من قولهم : «سلم له الشيء» أي خلص له. والإسلام في عرف الشرع يطلق تارة على الإقرار باللسان في الظاهر ومنه قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٧] ويطلق أخرى على الانقياد الكلي وهو المراد هاهنا. وفيه إيذان بأن الدين هو العدل والتوحيد. أما التوحيد فأن يعلم أن الله تعالى لا شريك له ولا نظير في الذات ولا في صفة من الصفات كما شهد هو به ، وأما العدل فهو أن يعلم أن كل ما خلق وأمر المكلف به ونهاه

١٢٨

عنه فإنه عدل وصواب وفيه حكم ومصالح ، فيأتمر بذلك وينتهي عنه ليكون عبدا منقادا معترفا بأنه تعالى قائم بالقسط. ومن قرأ بفتح «أن» فتقديره عند البصريين ذلك بدل من الأول ، بدل الكل فكأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام فيكون من باب وضع الظاهر موضع المضمر كقوله :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

وقيل : تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام. وقيل : شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام. لأن كونه تعالى واحدا يوجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام ، لأن دين الإسلام مشتمل على هذه الوحدانية. وقرىء الأول بالكسر والثاني بالفتح على أن الفعل واقع على الثاني وما بينهما اعتراض. ثم ذكر أنه أوضح الدلائل وأزال الشبهات ، والقوم ما كفروا إلا لقصورهم وتقصيرهم فقال : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قيل : هم اليهود واختلافهم أن موسى عليه‌السلام لما قرب وفاته سلم التوراة إلى سبعين رجلا من الأحبار وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع ، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم التوراة بغيا بينهم وتحاسدا على طلب الدنيا. وقيل : المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه‌السلام بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله. وقيل : المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله. وأنكروا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل كتاب. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم. لأنا لو حملناه على العلم لزم نسبة العناد إلى جمع عظيم وهو بعيد قاله في التفسير الكبير. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يصعب عليه عد أفعاله ومعاصيه وإن كانت كثيرة ، أو المراد أنه سيصل إلى الله سريعا فيحاسبه أي يجازيه على كفره. ثم بين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يقوله في محاجتهم فقال : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) قال الفراء : أي أخلصت عملي لله. فعلى هذا «الوجه» في معنى العمل. وقيل : أي أسلمت وجه عملي لله. فحذف المضاف والمعنى كل ما يصدر مني من الأعمال. فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله والانقياد لإلهيته وحكمه. وقيل : الوجه مقحم ، والتقدير : أسلمت نفسي لله ، وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس كأنه موقوف على عبادته معرض عن كل ما سواه ، وقوله : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) معطوف على الضمير المرفوع في (أَسْلَمْتُ) وحسن للفصل. أو مفعول معه والواو بمعنى «مع». ثم في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : أحدهما أن هذا إعراض عن المحاجة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد أظهر المعجزات

١٢٩

كالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وقد مر في هذه السورة إبطال إلهية عيسى وإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم بيّن نفي الضد والند والصاحبة والولد بقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وذكر أن اختلاف هؤلاء اليهود والنصارى إنما هو لأجل البغي والحسد فلم يبق إلا أن يقول : أما أنا ومن اتبعن فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى. وهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه. وثانيهما أن قوله : (أَسْلَمْتُ) محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة ، فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك. فاليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان. فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ونظير هذه الآية (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) [آل عمران : ٦٤] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] كأنه قيل : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه ، فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) وهم مشركو العرب الذين لا كتاب لهم (أَسْلَمْتُمْ) ومعناه الأمر وفائدته التعيير بالعناد وقلة الإنصاف كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تأل جهدا في سلوك طريقة الكشف والبيان له : هل فهمتها؟ فإنه يكون توبيخا له بالبلادة وكلال الذهن ومثله في آية تحريم الخمر (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء. (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى ما يهدي الله إليه أو إلى الفوز والنجاة في الآخرة (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإسلام لي والاتباع لك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الرشاد (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يوفق للصلاح من شاء ويترك على الضلالة من أراد. ثم وصف المتولي بصفات ثلاث وأردفه بوعيده فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي ببعضها المعهود لأن اليهود كانوا مقرين ببعض الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته وعلمه وشيء من المعاد أو بكلها كما هو ظاهر الجمع المضاف ، وتوجيهه أن المكذب ببعض آيات الله كالكافر بجميعها (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) أي المعهودين لأنهم ما قتلوا كلهم ولا أكثرهم (بِغَيْرِ حَقٍ) من غير ما شبهة عندهم (وَيَقْتُلُونَ) أو يقاتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس. عن الحسن أن في الآية دلالة على أن الآمر

١٣٠

بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزل الأنبياء فلهذا ذكرهم عقيبهم. وروي أن رجلا قام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أيّ الجهاد أفضل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. فإن قيل : إذا كان قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) في حكم المستقبل لا أقل من الحال لأنه وعيد لمن هو في زمن رسول الله ، ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط ، فكيف يصح الكلام؟ قلنا : إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين جميعا ، إلا أنه تعالى عصمهم منهم فصح إطلاق القاتل عليهم كما يقال : اسم قاتل أي ذلك من شأنه إن وجد القابل. أو نقول : وصفوا بسيرة أسلافهم لأنهم راضون بذلك. عن أبي عبيدة بن الجراح قلت : يا رسول الله أيّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ هذه الآية. ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة. فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) إنما دخلت الفاء لتضمن اسم «إن» معنى الشرط ، فإن لا يغير معنى الابتداء بخلاف «ليت» و «لعل».

واعلم أنه تعالى قسم وعيدهم إلى ثلاثة أقسام : الأول اجتماع أسباب الآلام والمكاره عليهم وهو العذاب الأليم ، واستعارة البشارة هاهنا للتهكم. الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وهو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أما في الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن وأسباب الاحترام والاحتشام بأصناف الذل والهوان من السبي والقتل والجزية ، وأما في الآخرة فكما قال عز من قائل (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] الثالث لزوم ذلك في حقهم وهو قوله : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ثم ذكر غاية عناد أهل الكتاب فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال : على ملة إبراهيم. فقالا : إن إبراهيم كان يهوديا. فقال رسول الله : فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا فنزلت. وقال الكلبي : نزلت في اللذين زنيا من خيبر وحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهما بالرجم وأنكر اليهود عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوف تجىء القصة في سورة المائدة مفصلة. وقيل : دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إياهم والنصارى إلى الآيات الدالة على صحة نبوته من التوراة أو منها ومن الإنجيل فأبوا فنزلت. ومعنى قوله : (أُوتُوا نَصِيباً) أي حظا وافرا من علم الكتاب يريد أحبار اليهود. و «من» إما للتبعيض وإما للبيان. والكتاب يراد به غير القرآن من الكتب التي كانوا مقرين بحقيتها.

١٣١

وقيل : أي حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة وهي نصيب عظيم. ثم بين سبب التعجيب بقوله : (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) وهو التوراة كما مر في أسباب النزول ، ولأنه تعالى عجب رسوله من تمردهم وإعراضهم ، وإنما يتوجه التعجيب إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته. وعن ابن عباس أنه القرآن وليس ببعيد لأنهم دعوا إليه بعد قيام الحجج على أنه كتاب من عند الله ليحكم أي الكتاب بينهم أي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحذف الثاني للعلم به. أو يراد الحكم في الاختلاف الواقع بينهم كما في قصة الزانيين ، ولهذا راجعوا في ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم ، قال في الكشاف : والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وهم الرؤساء والأحبار أو الذين لم يسلموا من أحبارهم ومعنى «ثم» استبعاد ما بين رتبتي الدعاء والتولي (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) قوم لا يزال الإعراض ديدنهم وهجيراهم. والضمير في «هم» إما أن يرجع إلى الفريق أي هم جامعون بين التولي والإعراض لا عن استماعهم الحجة في ذلك المقام فقط ، بل عنه وعن سائر المقامات. وإما أن يرجع إلى الباقين منهم فيكون قد وصف العلماء والرؤساء بالتولي والباقين بالإعراض لأجل إعراض علمائهم ومتقدميهم. وإما أن يرجع إلى كل أهل الكتاب أي هم قوم عادتهم الإعراض عن قبول الحق ذلك التولي والإعراض ، أو ذلك العقاب أو الوعيد بسبب أنهم كانوا يتساهلون في أمر العقاب ولا يفرقون بين ما يتعلق بأصول الدين وبين ما يتعلق بفروعها فقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٨] هي أيام عبادة العجل فاستوجبوا الذم من وجوه : أحدها استقصار مدة العذاب ومن أين لهم العلم بذلك؟ وثانيها أن عبادة العجل كفر والكفر يستحق به الكافر عذابا دائما. وثالثها أن استثناء الأيام المعدودات فقط فيه دليل على أنهم استحقروا تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن وذلك كفر صريح. (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] أو من قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً) [البقرة : ٨] أو من قولهم «نحن أولى بالنبوة من قريش» أو من زعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم. (فَكَيْفَ) يصنعون؟ أو فكيف حالهم؟ وفي هذا الحذف فخامة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من العذاب (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) قال الفراء : إذا قلت جمعوا اليوم الخميس معناه جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس. أما إذا قلت : جمعوا في يوم الخميس فلا تضمر فعلا. وأيضا من المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة والفرق بين المثاب والمعاقب. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) من ثواب أو عقاب أو جزاء

١٣٢

ما عملت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس كما تقول : ثلاثة أنفس تريد ثلاثة أناسي. روي أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الإشهاد ثم يأمر بهم إلى النار.

التأويل : (سَتُغْلَبُونَ) إشارة إلى أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلي بالشقاوة (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) [المؤمنون : ١٠٦] ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا. فبغلبات النفس والهوى يرد إلى أسفل سافلي الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه في قعر جهنم وبئس المهاد ، مهاد مهده في معاشه. (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) إن لله تعالى فئتين في الظاهر من المؤمن والكافر ، وفئتين في الباطن من القلب وصفاته والنفس وصفاتها الذميمة ، ولهما الحرب والالتقاء على الدوام وهو الجهاد الأكبر (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) من القلب وجنوده وهم الروح والسر والأوصاف الحميدة والملائكة ، ومن النفس وأعوانها وهم الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة والشياطين ثم أخبر عن جنود الفئتين وأعوان الفرقتين بقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ). واعلم أن الله خلق الخلق على طبقات ثلاث : العوام ويعبر عنهم بلفظ الناس والغالب عليهم الهوى وهم أصحاب النفوس ، والخواص ويعبر عنهم بلفظ المؤمن وهم أرباب الأرواح والغالب عليهم التقوى ، وخواص الخواص ويذكرهم بلفظ الولي (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] والغالب فيهم المحبة والشوق. ثم إن لجهنم سبع دركات محفوفة بالشهوات. فأشار بالنساء إلى شهوة الفرج ، وبالبنين إلى شهوة الطبيعة الحيوانية المائلة إلى الولد ، وبالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى شهوة الحرص على المال ، وبالخيل المسوّمة إلى شهوة الجاه والخيلاء بالركوب عليها ، وبالأنعام إلى شهوة الجمال والاقتناء (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦] وبالحرث إلى شهوة الحكم والرياسة على الرعايا وأهل القرى. ثم ذكر درجات الجنات الثمانية للخواص منها التقوى للذين اتقوا والرضا بالقضاء (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) والإيمان (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار بالأسحار هذه جنات عاجلة تجري من تحتها الأنهار الألطاف والواردات. والأزواج المطهرة الأخلاق الفاضلة التي تتولد منها ، فإذا عاش في الجنات مات وحشر كذلك. ثم أشار إلى أحوال خواص الخواص مستورة من نظر الخواص محفوظة عن فهم العوام بقوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ما احلولى لهم الدنيا يا دنيا مري على أوليائي ولا وقفوا عند جنة المأوى (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] وإنما طلبوا قرب المولى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦] (شَهِدَ اللهُ) بكلامه

١٣٣

الأزلي عن عمله السرمدي على ذاته الأحدي وكونه الصمدي (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهي شهادة الحق للحق بالحق أنه الحق ، وهو متفرد بهذه الشهادة الأزلية الأبدية لا يشاركه فيها أحد ، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات ، فشهادته لا تشبه الشهادات. شهد بجلال قدره على كمال عزه حين لا حين ولا أين ولا عقل ولا جهل ولا غير ولا شرك ولا عرش ولا فرش ولا الجنة ولا النار ولا الليل ولا النهار ولا الجن ولا الإنس ولا الملائكة ولا أولو العلم ولا الإنكار ولا الإقرار ، فأخبر الذي كان عما كان كما كان وهو أنه لا إله إلا هو ، ثم أبدع الموجودات كما شاء على ما شاء لما شاء. فكل جزء من أجزائها ، وكل ذرة من ذراتها ، بوجوده مفصح ، ولربوبيته موضح ، وعلى قدمه شاهد ، ولكن ينبوع ماء التوحيد هو القدم فجرى في مجاري أنهار المحدثات إلى أن ظهر من عيون الملائكة وأولي العلم. ثم الملائكة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد كما كان أولو العلم ، ولكن اختص أولو العلم منهم بمشربية (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦].

لي سكرتان وللندمان واحدة

شيء خصصت به من بينهم وحدي

فحقيقة معنى الآية : شهد الله أنه لا إله إلا هو وهو قائم بالقسط على أمور عباده حتى يشهد على شهادته الملائكة وأولو العلم. ثم فائدة التكرار بقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) عائدة إلى أولي العلم الذين لهم شركة مع الملائكة في مظهرية ماء التوحيد بالشهادة ، ولهم اختصاص بالمشربية لماء التوحيد فشاهدوا حقيقة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يشاهد عزته إلا أعزته من بين البرية (الْحَكِيمُ) الذي بحكمته اختارهم لهذه العزة من جملة الخليقة. (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الاختلاف في الصورة من نتائج تناكر الأرواح في عالم المعنى والأرواح فما تعارف منها في الميثاق لتقاربهم في الصف أو لتقابلهم في المنزل ائتلف ، وما تناكر منها لتباعدهم في الصف أو لتدابرهم في المنزل اختلف. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) فيه أن العلم مظنة الحسد ، ولكن المحمود منه ما يخص باسم الغبطة. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) الإنسان خلق مستعدا لقبول فيض صفات لطف الحق وقهره ، فكما أن كمال الإنسان في قبول فيض اللطف أن يفدي نفسه في متابعة الأنبياء حتى يكون خير البرية ، فنقصانه في قبول فيض القهر أن يقتل الأنبياء حتى يكون شر البرية ، فلهذا تحبط أعماله ولا ترجى توبته وترجى توبة إبليس (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) فيه إشارة إلى أن من أوتي حظا من العلم فعليه إذا دعي إلى حكم من أحكام الله أو إلى ترك الدنيا ومخالفة الهوى أن يمتثل وينقاد وإلا كان مغرورا بالدنيا مفتريا في الدعوى ، وهذه حال أكثر من أوتي نصيبا من

١٣٤

علم الظاهر ولم يؤت حظا من علم الباطن ، فهم أهل العزة بالله فكيف حال المغرورين إذا جمعهم الله؟

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))

القراآت : (الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) بالتشديد على «فيعل» حيث كان : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بالتخفيف على «فيل». (مِنْهُمْ تُقاةً) بكسر القاف وفتح الياء وتشديدها : أبو زيد عن المفضل وسهل ويعقوب. الباقون (تُقاةً) بضم التاء. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة.

الوقوف : (مِمَّنْ تَشاءُ) ط لتناهي الجملتين المتضايفتين معنى إلى جملتين مثلهما (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) ط (الْخَيْرُ) ط (قَدِيرٌ) ه ، (فِي اللَّيْلِ) ز للفصل بين الجملتين المتضادتين (مِنَ الْحَيِ) ز لعطف المتفقتين (حِسابٍ) ه ، (الْمُؤْمِنِينَ) ج (تُقاةً) ط (نَفْسَهُ) ط (الْمَصِيرُ) ه ، (يَعْلَمْهُ اللهُ) ط (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (قَدِيرٌ) ه ، (مُحْضَراً) ج والأجوز أن يوقف على (سُوءٍ) تقديره وما عملت من سوء كذلك. (بَعِيداً) ط (نَفْسَهُ) ط (بِالْعِبادِ) ه (ذُنُوبَكُمْ) ط (رَحِيمٌ) ه (وَالرَّسُولَ) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. (الْكافِرِينَ) ه ، (الْعالَمِينَ) (لا) لأن (ذُرِّيَّةً) بدل. (مِنْ بَعْضٍ) ج (عَلِيمٌ) (لا) لاحتمال أن «إذ» متعلق بالوصفين أي سمع دعاءها وعلم رجاءها حين قالت ، أو اصطفى آل عمران وقت قولها ولاحتمال نصب «إذ» بإضمار «اذكر».

١٣٥

التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من طريقة المعاندين ما ذكر ، علم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طريقة مباينة لطريقتهم من كيفية التمجيد والتعظيم فقال : (قُلِ اللهُمَ) ومعناه عند سيبويه يا الله والميم المشددة عوض عن الياء. وإنما أخرت تبركا باسم الله تعالى وهذا من خصائص اسم الله. كما اختص بدخول تاء القسم ، وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف ، وبقطع همزته في يا الله. وعند الكوفيين أصله يا الله أمنا بخير أي اقصدنا ، فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء. وخففت الهمزة من أمّ. وزيف بأن التقدير لو كان كذلك لزم أن يذكر الدعاء بعده بالعطف مثل : اللهم واغفر لنا. ولجاز أن يتكلم به على أصله من غير تخفيف الهمزة وبإثبات حرف النداء وأجيب بأنه إنما لم يوسط العاطف لئلا يصير السؤال سؤالين ضرورة مغايرة المعطوف للمعطوف عليه بخلاف ما لو جعل الثاني تفسيرا للأول فيكون آكد. وبأن الأصل كثيرا ما يصير متروكا مثل : ما أكرمه فإنه لا يقال : شيء ما أكرمه في التعجب. و (مالِكَ الْمُلْكِ) نداء مستأنف عند سيبويه. فإن النداء بأللهم لا يوصف كما لا توصف أخواته من الأسماء المختصة بالنداء نحو : يا هناه ويا نومان ويا ملكعان وفل. وأجاز المبرد نصبه على النعت كما جاز في «يا الله». عن ابن عباس وأنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك فنزلت الآية. وعن عمرو بن عون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون ، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يخبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذ المعول من سلمان فضربها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كالمصباح في جوف بيت مظلم ، وكبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبر المسلمون وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء ، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا. فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزلت. وقال الحسن : إن الله تعالى أمر نبيه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما. وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم. (مالِكَ الْمُلْكِ) أي تملك جنس الملاك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، وفيه أن قدرة الخلق في كل ما يقدرون عليه ليست إلا بأقدار

١٣٦

الله تعالى. ثم لما بين كونه مالك الملك وأنه هو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ويملك كل مالك على مملوكه فصل ذلك بقوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) أي النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك. فالأول عام شامل والآخر بعض من الكل. وهذا الملك قيل : ملك النبوة لأنها أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر على بواطن الخلق ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق. والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر ، فعلى كل أحد أن يقبل شريعتهم ولهم أن يقتلوا من أرادوا من المتمردين. ولهذا استبعد بعض الجهلة أن يكون النبي بشرا (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ومن المجوّزين من كان يقول إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقير يتيم فكيف يليق به هذا المنصب العظيم؟ (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وكانت اليهود تقول : النبوة في أسلافنا فنحن أحق بها. وقد روينا في تفسير قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) [آل عمران : ١٢] أن اليهود تكبروا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة عددهم وعددهم فرد الله تعالى على جميع هؤلاء الطوائف بأنه سبحانه مالك الملك يؤتي الملك ـ وهو النبوة ـ من يشاء ، وينزع الملك ـ النبوة ـ ممن يشاء لا بمعنى أنه يعزله عن النبوة فإن ذلك غير جائز بالإجماع بل بمعنى أنه ينقلها من نسل إلى نسل كما نزع عن بني إسرائيل ووضع في العرب ، أو بمعنى أنه لا يعطيه النبوة ابتداء كقوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] فإنه يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط. ومثله (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨] مع أن الأنبياء لم يكونوا في ملتهم قط حتى يتصور العود إليها. وقيل : المراد من الملك التسلط الظاهر وهو الاقتدار على المال بأنواعه وعلى الجاه ، وهو أن يكون مهيبا عند الناس وجيها غالبا مظفرا مطاعا. ومن المعلوم أن كل ذلك بإيتاء الله تعالى. فكم من عاقل قليل المال ، ورب جاهل غافل رخي البال ، وقد رأينا كثيرا من الملوك بذلوا الأموال لتحصيل الحشمة والجاه وما ازدادوا إلا حقارة وخمولا ، فعلمنا أن الكل بإيتاء الله تعالى سواء في ذلك ملوك العدل وملوك الجور ، لأن حصول الملك للجائر إن لم يقع بفاعل ففيه سد باب إثبات الصانع ، وإن حصل بفعل المتغلب فكل أحد يتمنى حصول الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له. فلم يبق إلا أن يكون من مسبب الأسباب وفاعل الكل ومدبر الأمور وناظم مصالح الجمهور.

لو كان بالحيل الغنى لوجدتني

بتخوم أقطار السماء تعلقي

لكن من رزق الحجى حرم الغنى

ضدان مفترقان أيّ تفرق

ومن الدليل على القضاء وكونه

بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

١٣٧

وكذا الكلام في نزع الملك فإنه كما ينزع الملك من الظالم فقد ينزعه من العادل لمصلحة تقتضي ذلك. والنزع يكون بالموت وبإزالة العقل والقوى والقدرة والحواس وبتلف الأموال وغير ذلك. في بعض الكتب «أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة. وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم» وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كما تكونوا يولى عليكم» والصحيح أن الملك عام يدخل فيه النبوة والولاية والعلم والعقل والصحة والأخلاق الحسنة وملك النفاذ والقدرة وملك محبة القلوب وملك الأموال والأولاد إلى غير ذلك ، فإن اللفظ عام ولا دليل على التخصيص (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) كل من الإعزاز والإذلال في الدين أو في الدنيا ، ولا عزة في الدين كعزة الإيمان (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] وفي ضده لا ذلة كذلة الكفر وعزة الدنيا كإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت ، وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق ، وكل ذلك بتيسير الله تعالى وتقديره (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي بقدرتك يحصل كل الخيرات وليس في يد غيرك منها شيء. وإنما خص الخير بالذكر وإن كان بيده الخير والشر والنفع والضرّ ، لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة ، أي بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، أو لأن جميع أفعاله من نافع وضار لا يخلو عن حكمة ومصلحة وإن كنا لا نعلم تفصيلها فكلها خير ، أو لأن القادر على إيصال الخير أقدر على إيصال الشر فاكتفى بالأول عن الثاني. وللاحتراز عن لفظ الشر مع أن ذلك صار مذكورا بالتضمن في قوله : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ولأن الخير يصدر عن الحكيم بالذات والشر بالعرض فاقتصر على الخير. (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وذلك بأن يجعل الليل قصيرا ويدخل ذلك القدر في النهار وبالعكس. ففي كل منهما قوام العالم ونظامه ، أو يأتي بالليل عقيب النهار فيلبس الدنيا ظلمته بعد أن كان فيها ضوء النهار ، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوأه. فالمراد بالإيلاج إيجاد كل منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ ، فإن الإيلاج الإدخال فإذا زاد من هذا في ذلك فقد أدخله فيه. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) المؤمن من الكافر (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ٢٢] أي كافرا فهديناه. أو الطيب من الخبيث ، أو الحيوان من النطفة ، أو الطير من البيضة وبالعكس. والنطفة تسمى ميتا (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] أو يخرج السنبلة من الحبة ، والنخلة من النواة وبالعكس. فإخراج النبات من الأرض يسمى إحياء (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد : ١٧] (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تقدم مثله في البقرة. وإذا كان كذلك فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم

١٣٨

ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم. ثم لما علم كيفية التعظيم لأمر الله أردفه بشريطة الشفقة على خلق الله ، أو نقول : لما ذكر أنه مالك الملك وبيده العزة والذلة والخير كله ، بيّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه فقال : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ) بالجزم ، ولكن كسر الذال للساكنين. قال الزجاج : ولو رفع على الخبر جاز ، ولكنه لم يقرأ. والخبر والطلب يقام كل منهما مقام الآخر. وقوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم على المؤمنين. عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وهؤلاء كانوا من اليهود يباطنون نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم. فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود. فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك : نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا ، وكان له حلفاء من اليهود. فلما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله ، إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فنزلت. وقال الكلبي : نزلت في المنافقين ـ عبد الله بن أبيّ وأصحابه ـ كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم. وقد كرر ذلك في آيات أخر كثيرة (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨] (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١] (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] وكون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون راضيا بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه. والثالث كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، ولهذا قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يظهرون المودّة لكفار مكة مع اعتقاد أن دينهم باطل ، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذرا من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين ، فلا جرم هدد فقال : (مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ) أي من ولايته أو من دينه (فِي شَيْءٍ) يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ عن ولاية الله رأسا ، وهذا كالبيان لقوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ليعلم أن الاشتراك بينهم وبين المؤمنين في الموالاة غير متصوّر وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال :

تود عدوّي ثم تزعم أنني

صديقك ليس النوك عنك بعازب

١٣٩

قال بعض الحكماء : هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدوّ مشفقا على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما ، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لا بد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال الجوهري : يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة ، وفاؤها واو كتراث. فالتقاة اسم وضع موضع المصدر. قال الواحدي : ويجوز أن يجعل «تقاة» هاهنا مثل «دعاة» و «رماة» فيكون حالا مؤكدة ، وعلى هذين الوجهين يكون تتقوا مضمنا معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي ب «من». ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل : ضرب الأمير لمضروبه ، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه‌السلام : كن وسطا وامش جانبا أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله. وللتقية عند العلماء أحكام منها : إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرّض في كل ما يقول ما أمكن ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب. ومنها أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم. قال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم. ـ وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش ـ فتركه ودعا الآخر وقال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فقال : نعم نعم نعم. فقال : أتشهد أني رسول الله؟ فقال : إني أصم ثلاثا ، فقدمه وقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه. ونظير هذه الآية (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة. وقد يجوز أن تكون أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة. ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافرين محاماة على النفس. ومنها أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» (١) و «من قتل دون ماله فهو شهيد» (٢) ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (١ / ٤٤٦).

(٢) رواه الترمذي في كتاب الديات باب ٢١. أبو داود في كتاب السنّة باب ٢٩.

١٤٠