تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

إخبارا عن كونه كذلك وحيث قال كان دل على أنه إخبار وقع مخبره على وفقه فكان أدل على كونه حقا وصدقا. قالت الأشاعرة : أخبر عن العفو والمغفرة مطلقا غير مقيد بحال التوبة فدل على أن العفو مرجو من غير التوبة. قال ابن عباس في رواية عطاء : كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن ، فكتب إليهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) الآية. فلما قرأها المسلمون قال ضمرة بن جندب الليثي لبنيه ـ وكان شيخا كبيرا ـ احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي إلى الطريق. فحمله بنوه على سرير متوجها إلى المدينة ، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله وقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومات حميدا. فبلغ خبره أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقالوا : لو وافى المدينة لكان أتم أجرا فأنزل الله تعالى فيه : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً) أي مذهبا ومهربا ومضطربا قاله الفراء. وفي الكشاف يقال : راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك وأصله من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون : رغم أنفه يريدون أنه وصل إليه شيء يكرهه ، وذلك لأنّ الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة. ويمكن أن يقال : إنّ من فارق أهل بلدته فإذا استقام أمره في بلدة أخرى رغمت أنوف أهل بلدته بسبب سوء معاملتهم معه.

واعلم أنه سبحانه لما رغب في الهجرة ذكر بعده ما لأجله يمتنع الإنسان عن هجرة الوطن ، وبين الجواب عنه والمانع أمران : الأوّل أن يكون له في وطنه نوع رفاهية وراحة فيخاف زوال ذلك عنه فأجاب الله تعالى عنه بقوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ) كأنه قيل للمكلف إن كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإنّ الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب السنية في مهاجرك ما يكون سببا لرغم أنوف أعدائك ، ويصير سببا لسعة عيشك ، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج المهاجر بدولته من حيث إنها سبب رغم آناف الأعداء أشد من ابتهاجه بها من حيث إنها سبب سعة رزقه وعيشه. المانع الثاني أن الإنسان يقول : إن خرجت من بيتي في طلب العمل والجهاد والمهاجرة إلى الله ورسوله ، وفي معناه كل غرض ديني من طلب علم أو حج أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا في الدنيا وابتغاء رزق طيب ، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه ، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة لطلب شيء مظنون ، فأجاب الله سبحانه عنه بقوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) قال بعضهم : ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل ، وأما أجر تمام العمل فمحال. والصحيح أن المراد من قصد طاعة

٤٨١

ثم عجز عن إتمامها فإن له ثواب تمام تلك الطاعة كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المريض إذا عجز عما كان يفعله من الطاعة في حال الصحة كتب له ثواب مثل ذلك إلى أن يبرأ». وأيضا من المعلوم أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر فلا يبقى في الآية فائدة الترغيب. وأيضا لا تكون الآية جوابا عن قول الصحابة في ضمرة لو وافى المدينة لكان أتم أجرا. قالت المعتزلة : في الآية دليل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأن الوقوع والوجوب السقوط. قال تعالى : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) [الحج : ٣٦] أي وقعت وسقطت ولفظ الأجر وكلمة «على» يؤكدان ما قلنا ، وأجيب بأنا لا ننازع في أن الثواب يقع البتة لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم. واستدل بعض الفقهاء بالآية على أن الغازي ، إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة كما وجب أجره ، وردّ بأن قسم الغنيمة يتوقف على حيازتها بخلاف الأجر. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر ما كان منه من القعود إلى أن خرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدين. ومما يفتقر المجاهد إليه معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلا جرم قال : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) يقال : قصر صلاته وأقصرها وقصرها بمعنى. ولفظ القصر مشعر بالتخفيف إلّا أنه ليس صريحا في أن التخفيف في كمية الركعات أو كيفية أدائها. والجمهور على أن المراد القصر في العدد وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات وهي الظهر والعصر والعشاء فإنها تصير في السفر ركعتين ، ويبقى المغرب والصبح بحالهما ، وعن ابن عباس : فرض الله صلاة الحضر أربعا ، وصلاة السفر ركعتين ، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم. وعنه أيضا أن المراد التخفيف في كيفية الأداء كما يؤتى به عند شدة التحام القتال من الصلاة مع تلطخ الثوب بالدم ومن الإيماء مقام الركوع والسجود ويؤكد هذا الرأي بقوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فإن خوف فتنة العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على تمام أوصافهما ، وإنما يزول بالتجوز والتخفيف فيهما. حجة الجمهور ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب : كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ)؟ فقال عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. فهذا الخبر يدل على أنهم فهموا من القصر التخفيف في أعداد الركعات ويؤيده حديث ذي اليدين : «أقصرت الصلاة أم نسيت؟» وأيضا القصر بمعنى تغيير هيئة الصلاة يجيء بعد ذلك ، فجمل الكلام على ما لا يلزم منه التكرار أولى. أما تقييد القصر بحالة الخوف فلأن الآية نزلت على غالب أسفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف قتال الكفار فلا يمكن الاستدلال بمفهومها على عدم جواز القصر في حالة الأمن ولا في حالة الخوف بسبب آخر ، على أن

٤٨٢

كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة. ثم إن الشافعي قال : القصر رخصة كسائر رخص السفر فإن شاء أتم وإن شاء قصر لأن قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) مشعر بعدم الوجوب ، ولما روي أن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : اعتمرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما قدمت مكة قلت : يا رسول الله بأبي وأمي قصرت. وأتممت وصمت وأفطرت. فقال : أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ. وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه. وقال أبو حنيفة : القصر واجب فإنّ صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته لما روي عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاقبلوا صدقته» (١) وظاهر الأمر للوجوب. وعن عائشة : أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما تصنع بقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) قلت : كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفي عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وأجيب بأن هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر ، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر وحرمت عليكم الإتمام وجعلته مفسدا لصلاتكم فلا يخطر هذا الاحتمال ببال عاقل. وحديث ابن عباس إنما يدل على كون القصر مشروعا لا على أن الإتمام غير جائز ، وخبر عائشة لا تعاضده الآية لأن تقرير الصلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر. ثم إن بعض الظاهريين زعموا أن قليل السفر وكثيره سواء في القصر لإطلاق قوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) وجمهور الفقهاء على أن السفر المرخص مقدر بمقدار مخصوص ، فعن الأوزاعي والزهري ويروى عن عمر أن القصر في يوم تام ، وعن ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر. وقال أنس بن مالك : المعتبر خمسة فراسخ. وقال الحسن : مسيرة ليلتين. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير : من الكوفة إلى المدائن وهو ثلاثة أيام. وهو قول أبي حنيفة قياسا على مدة جواز المسح للمسافر ، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عوّلوا على ما روي عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان. والمراد بالبريد أربعة فراسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث ٤. أبو داود في كتاب السفر باب ١. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب ٢٠. النسائي في كتاب الخوف باب ١. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ٧٣. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٧٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٥ ، ٣٦) ، (٦ / ٦٣).

٤٨٣

آلاف خطوة ، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة. قالت الفقهاء : فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر. وقال أهل الظاهر : اضطراب السلف في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن. (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) يريد أن العداوة الحاصلة بينكم وبينهم قديمة فكونوا على حذر منهم.

التأويل : ليس لمؤمن الروح أن يقصد قتل مؤمن القلب إلّا أن يكون قتل خطأ ؛ وذلك أن الروح إذا خلص عن حجب ظلمات الصفات البشرية يتجلى الروح للقلب فيتنور بأنوار الروحانية ، ثم تنعكس أنوار الروح عن مرآة القلب إلى النفس الأمارة فتموت عن صفاتها الذميمة الظلمانية ، وتحيا بالصفات الحميدة الروحانية ، وتطمئن إلى ذكر الله كاطمئنان القلب به ، ففي بعض الأحوال يتأيد الروح بوارد روح قدسي رباني ويتجلى في تلك الحالة الروح للقلب فيخر موسى القلب صعقا ميتا بسطوة تجلي الروح القدسي الرباني ويجعل جبل النفس دكا. وكان قتله خطأ لأنه ما كان مقصودا بالقتل في هذا التجلي وكان القصد تنويره وتصفيته وقتل النفس الكافرة. (مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً) أي قلبا مؤمنا : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهي رقبة السر الروحاني فتصير رقبة السر محررة عن رق المخلوقات (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) يعني يسلم العاقلة ـ وهو الله تعالى ـ دية القلب إلى أهل القلب وهم الأوصاف الحميدة الروحانية من جمال كمال ألطافه لتصير الأوصاف بها أخلاقا ربانية إلّا أن تتصدق الأوصاف بهذه الدية على مساكين أوصاف النفس الحيوانية والشيطانية (فَإِنْ كانَ) القتيل بالتجلي (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي من صفات النفس (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي هذه الصفة قد آمنت بأنوار الروح القدسي دون أخواتها من الصفات : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهي رقبة القلب تصير محررة عن رق حب الدنيا ولا دية لأهل القتيل. (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) وهم صفات النفس وميثاقها قبول أحكام الشرع ظاهرا وترك المحاربة مع القلب وأوصافه (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) على عاقلة الرحمة إلى أهل تلك الصفة المقبولة وهم بقية صفات النفس كما قال تعالى : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [يوسف : ٥٣] وتحرير رقبة مؤمنة وهي رقبة الروح يصيرها محررة عن رقة الكونين. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة مؤمنة من الروح والقلب والسر للتحرير بأن تكون رقابهم قد حررت عن رق ما سوى الله : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي فعليه الإمساك عن مشارب العالمين على التتابع والدوام مراقبا قلبه لا يدخله شيئا من الدنيا والآخرة مراعيا وقته. فلو أفطر بأدنى شيء من المشارب كلها يستأنف الصوم ولا يفطر بشيء دون لقاء الله تعالى. قال قائلهم :

٤٨٤

لقد صام طرفي عن شهود سواكم

وحق له لما اعتراه نواكم

يعيد قوم حين يبدو هلالهم

ويبدو هلال الصب حين يراكم

(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) جذبة منه. (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) أي النفس الكافرة إذا قتلت قلبا مؤمنا متعمدا للعداوة الأصلية بينهما ففي حياة أحدهما موت الآخر (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) وهي سفل عالم الطبيعة. (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بقدم السلوك حتى صار الإيمان إيقانا والإيقان إحسانا والإحسان عيانا والعيان عينا والعين شهودا والشهود شاهدا والشاهد مشهودا وهذا مقام الشيخوخة (فَتَبَيَّنُوا) عن حال المريد في الرد والقبول. (وَلا تَقُولُوا) له (لَسْتَ مُؤْمِناً) صادقا ولا تنفروه بالتشديدات والتصرف في النفس والمال (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي تهتمون لأجل رزقه فإن الضيف إذا نزل نزل برزقه. (كَذلِكَ كُنْتُمْ) ضعفاء في الصدق والطلب محتاجين إلى الصحبة في بدو الإرادة (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) هم العوام الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها (فِيمَ كُنْتُمْ) في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم وتبطلون استعدادكم الفطري ، وفي أي واد من أودية الهوى تهيمون ، وفي أي روضة من رياض الدنيا تسرحون؟ أكنتم تؤثرون الفاني على الباقي وتنسون الشراب الطهور والساقي؟ (مُسْتَضْعَفِينَ) عاجزين لاستيلاء النفس الأمارة وغلبة الهوى (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ) أي أرض القلب (واسِعَةً) فتخرجوا عن مضيق سجن البشرية إلى قضاء هواء الهوية (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) في الخروج عن الدنيا لكثرة العيال وضعف الحال (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) إلى صاحب ولاية وهؤلاء المستضعفون هم الخواص المقتصدون ، وأما خواص الخواص وهم السابقون بالخيرات فهم المجاهدون الجهاد الأكبر وقد مر. (وَمَنْ يُهاجِرْ) عن بلد البشرية في طلب حضرة الربوبية (يَجِدْ) في أرض الإنسانية (مُراغَماً) متحوّلا ومنازل مثل القلب والروح والسر (وَسَعَةً) في تلك العوالم من رحمة الله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ٦] «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن» فافهم يا قصير النظر كثير الفكر قليل العبر والله أجل وأكبر.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ

٤٨٥

وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))

القراءات : (عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) عباس بالاختلاس. (اطْمَأْنَنْتُمْ) وبابه بغير همز : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. بريا بالتشديد : يزيد والشموتي وحمزة في الوقف.

الوقوف : (مِنْ وَرائِكُمْ) ج. (وَأَسْلِحَتَهُمْ) ط لانقطاع النظم مع اتصال المعنى. (واحِدَةً) ط (أَسْلِحَتِكُمْ) ج (حِذْرَكُمْ) ط (مُهِيناً) ه (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) ط للابتداء بإذا الشرطية مع الفاء. (الصَّلاةَ) ج لاحتمال فإن أو لأن. (مَوْقُوتاً) ه (الْقَوْمِ) ط (كَما تَأْلَمُونَ) لا لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال : (ما لا يَرْجُونَ) ط (حَكِيماً) ه (أَراكَ اللهُ) ط لأن ما بعده استئناف. (خَصِيماً) ه لا للعطف (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) ط (رَحِيماً) ه للآية مع العطف. (أَنْفُسَهُمْ) ط (أَثِيماً) ه ج لاحتمال ما بعد الوصف. (مِنَ الْقَوْلِ) ط (مُحِيطاً) ه ط (وَكِيلاً) ه (رَحِيماً) ه (عَلى نَفْسِهِ) ط (حَكِيماً) ه (مُبِيناً) ه (يُضِلُّوكَ) ط (مِنْ شَيْءٍ) ط (تَعْلَمُ) ط (عَظِيماً) ه.

التفسير : قال أبو يوسف والحسن بن زياد : صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٨٦

ولا تجوز لغيره لقوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) ولأن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل إلّا أنا جوّزنا ذلك في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفضيلة الصلاة خلفه فينبغي لغيره على المنع. وجمهور الفقهاء على أنها عامة لأن أئمة الأمة نواب عنه في كل عصر ؛ ألا ترى أن قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] لم يوجب كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا به دون أئمة أمته؟ وذهب المزني إلى نسخ صلاة الخوف محتجا بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلها في حرب الخندق ، وأجيب بأن ذلك قبل نزول الآية. عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة فلقي المشركين بعسفان ، فلما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه قال بعضهم لبعض : كأن هذا فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم. فقال قائل منهم : فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم فاستعدّوا حتى تغيروا عليهم فيها فأنزل الله عزوجل على نبيه : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) إلى آخر الآية أما شرح صلاة الخوف فهو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بإحداهما ركعة واحدة ، ثم إذا فرغوا من الركعة سلموا منها ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم. وهذا مذهب من يرى صلاة الخوف ركعة فللإمام ركعتان وللقوم ركعة ، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد. وقال الحسن البصري : إن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن نخل. وليس في هذه الصلاة إلّا اقتداء مفترض بمتنفل ، فإن الصلاة الثانية نافلة للإمام لا محالة. وفي جواز ذلك اختلاف بين العلماء. وقال الشافعي إن كان العدو في جهة القبلة صلى الإمام بجميع العسكر إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى ، فإذا حان وقت السجدة حرست فرقة إما صف أو فرقة من صف إلى أن يفرغ الإمام وغير الحارسة من السجدتين ، فإذا فرغ الإمام منهما سجدت الفرقة الحارسة ولحقت به حيث أمكنها ، وإذا سجد الإمام الركعة الثانية حرست فرقة إما الفرقة الحارسة في الركعة الأولى أو الفرقة الأخرى وهذه أولى. فإذا فرغ الإمام من السجود سجدت الحارسة ولحقت بالإمام في التشهد ليسلم بهم. وليس في هذه الصلاة إلّا التخلف عن الإمام بأركان السجدتين والجلسة بينهما ، واحتمل لحاجة الخوف وظهور العذر وبمثله صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان ، وأما إن لم يكن العدوّ في وجه القبلة أو كانوا بحيث يمنعهم شيء من أبصار المسلمين صلى الإمام في الثنائية كالصبح أو الرباعية المقصورة بكل فرقة ركعة ، وذلك أن ينحاز الإمام بفرقة إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو فيصلي بهم ركعة ، فإذا قام إلى الثانية انفردوا بها وسلموا وأخذوا مكان ، إخوانهم في الصف ، وانحاز الصف المقاتل إلى الإمام وهو ينتظر لهم واقتدوا به في

٤٨٧

الثانية ، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية ولحقوا به قبل السلام وسلم بهم ، وهذه صلاة ذات الرقاع رواه أبو داود والنسائي عن صالح عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو حنيفة : ويروى عن ابن عمر وابن مسعود أن الطائفة الأولى يصلي بهم الإمام ركعة ويعودون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة. والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة فهي في حكم من خلف الإمام ، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته. ولا خلاف في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى بهذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصالح ، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أيّ هذه الأقسام. فقال الواحدي : (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية كما هو مذهب الشافعي. وأما عند أبي حنيفة فالطائفة الثانية تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها. وأيضا قوله : (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام. قال أصحاب أبي حنيفة : (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة. أجاب الواحدي بأن هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة ، لكن السجود للأولى والكون من الوراء الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية ، أو معنى سجدوا صلوا وحينئذ لا يبقى إشكال وأيضا الذي اختاره الشافعي أحوط لأمر الحرب فإنها أخف على الطائفتين جميعا والحراسة خارج الصلاة أهون وليس فيها ما في غيرها من زيادة الذهاب والرجوع وكثرة الأفعال والاستدبار ، وليس فيها إلّا الانفراد عن الإمام في الركعة الثانية وذلك جائز على الأصح في الأمن أيضا ، وإلّا انتظار الإمام بالطائفة الثانية مرتين وإن كانت الصلاة مغربا فيصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ويجوز العكس. وإن كانت رباعية فيصلي بكل طائفة ركعتين ، ويجوز أن يفرقهم أربع فرق إن مست الحاجة إليه بأن لا يكفي نصف المسلمين لعدوهم. واعلم أن الصلاة على الوجه المشروع ليست عزيمة بل لو صلى الإمام بطائفة وأمر غيره فيصلي بالآخرين أو صلى بعضهم أو كلهم منفردين جاز ، لكن كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة ويتنافسون في الاقتداء به فأمره الله تعالى بترتيبهم هكذا لتحوز إحدى الطائفتين فضيلة التكبير معه ، والأخرى فضيلة التسليم معه. فالخطاب في قوله : (وَإِذا كُنْتَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم (فَأَقَمْتَ لَهُمُ

٤٨٨

الصَّلاةَ) فاجعلهم طائفتين : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) فصل بهم (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) فإن كان الضمير لغير المصلين فلا كلام ، وإن كان للمصلين فليأخذوا من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ، ويحتمل أن يكون أمرا للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط. ثم قال للطائفة الثانية : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ) فكأنه جعل الحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي. وفيه رحمة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة. وإنما أمر هذه الطائفة بأخذ الحذر والأسلحة جميعا لأن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين في الصلاة بل يظنونهم قياما للمحاربة ، وأما في الركعة الثانية فيظهر لهم ذلك من ركوعهم وسجودهم الأولين فربما ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم كما ذكرنا في سبب النزول ، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير (مَيْلَةً واحِدَةً) شدة واحدة. ثم رخص لهم في وضع السلاح إذا أصابه بلل المطر فيسود وتفسد حدته وجدته أو يثقل على المرء إذا كان محشوا ، وحين كان الرجل مريضا فيشق عليه حمل السلاح ولكنه أعاد الأمر بأخذ الحذر لأن الغفلة عن كيد العدو لا تجوز بكل حال. قال بعض العلماء أخذ السلاح في صلاة الخوف سنة مؤكدة والأصح أنه واجب لأن ظاهر الأمر للوجوب ، ولأن رفع لجناح عند العذر ينبىء عن وجود الجناح في غير ذلك الوقت لكن الشرط أن لا يحمل سلاحا فحسب أن أمكنه ، ولا يحمل الرمح إلّا في طرف الصف. وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد وفي هذا دليل على أنه كان يجوز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا غير غافل عن كيد العدو ، فلا يكون شيء من الروايات الواردة فيها على خلاف نص القرآن وكما أن الآية دلت على وجوب الحذر عن العدو كذلك تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنون ، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء في الجلوس تحت الجدار المائل واجبا. قالت المعتزلة : لو لم يكن العبد قادرا على الفعل والترك ، وعلى جميع وجوه الحذر لم يكن للأمر بالحذر فائدة. والجواب أنا لا ننكر الأسباب لكنا ندعي انتهاء الكل إلى مسببها ولهذا ختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) ليعلموا أنه تعالى رتب على هذا الحذر كون الكفار مخذولين مقهورين وكان كما أخبر. أما قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) ففيه قولان : الأول فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال فإن ما أنتم عليه من الخوف والحرب جدير بذكر الله وإظهار الخشوع واللجا إليه. الثاني أن المراد بالذكر الصلاة أي صلوا قياما حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة ، وقعودا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالرمي ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح. وأورد على هذا القول أن الذكر بمعنى الصلاة مجاز وأن المعنى يصير حينئذ : فإذا قضيتم الصلاة فصلوا وفيه بعد اللهم إلّا أن يقال : المراد فإذا أردتم قضاء الصلاة فصلوا في

٤٨٩

شدّة التحام القتال.

واعلم أن الآية مسبوقة بحكمين : أحدهما بيان القصر في صلاة المسافر والثاني بيان صلاة الخوف. فقوله : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) يحتمل أن يراد به فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة ، ويحتمل أن يراد فإذا زال الخوف وحصل سكون القلب فأقيموا الصلاة التي كنتم تعرفونها من غير تغيير شيء من هيئاتها (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي مكتوبة موقوتة محدودة بأوقات لا يجوز إخراجها عنها ولو في شدة الخوف ، وفيه دليل للشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها. وعند أبي حنيفة هو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وأوقات الصلاة الخمس مشهورة وقد يستدل عليها بقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] فإن الوسطى يجب أن تكون مغايرة للصلوات لئلا يلزم التكرار فهي زائدة على الثلاث ، ولو كان الواجب أربعا لم يوجد لها وسطى فإذا أقلها خمس وسيجيء آيات أخر دالة على الأوقات الخمس كقوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [هود : ١١٤] (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وسنشرحها إن شاء الله تعالى في مواضعها. قال المحققون : إن للإنسان خمس مراتب : سن النمو إلى تمام سن الشباب ، وسن الوقوف وهو أن يبقى ذلك الشخص على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان ، وسن الكهولة ويظهر فيها نقصان خفي في الإنسان ، وسن الشيخوخة ويظهر فيها نقصانات جلية فيه إلى أن يموت ويهلك. وأما المرتبة الخامسة فهي أخباره وآثاره إلى أن يندرس وينطمس ويصير كأن لم يكن ، وكذا الشمس إذا ظهر سلطانها من المشرق لا يزال يزداد ضياؤها إلى طلوع جرمها ، ثم يزداد ارتفاعها شيئا بعد شيء إلى أن يبلغ وسط السماء ، ثم يظهر فيها نقصانات خفية من الانحطاط وضعف النور والحر إلى وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثله ، ثم تظهر النقصانات الجلية إلى أن يصير في زمان لطيف ظل كل شيء مثليه ، ثم أزيد إلى أن تغرب ، ثم يبقى أثرها في أفق المغرب وهو الشفق ، ثم ينمحي حتى يصير كأن الشمس لم توجد قط. فهذه الأحوال الخمس أمور عجيبة لا يقدر عليها إلّا خالقها وخالق جميع الأشياء ، وموافقة لأسنان الإنسان فلهذا تعينت أوقاتها للعبادة والإقبال على المعبود الحق تعالى جده. ثم عاد إلى الحث على الجهاد فقال : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) لا تضعفوا في طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم بما يقلقهم. ثم ألزمهم الحجة بقوله : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) والمعنى أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم ولكم مع ذلك رجاء الثواب على الجهاد دونهم لأنهم ينكرون المعاد فأنتم أولى بالصبر على القتال

٤٩٠

والحد فيه منهم ، ويحتمل أن يراد بهذا الرجاء ما وعدهم الله من النصر والغلبة على سائر الأديان ، أو يراد أنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه ، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى. ويروى أن هذا في بدر الصغرى كان بهم جراح فتواكلوا. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) لا يكلفكم إلا ما فيه صلاح لكم في دينكم ودنياكم. ثم رجع إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث المنافقين ، وفيه أن الأحكام المذكورة كلها بإنزال الله تعالى وليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه ، وفيه أن كفر الكافر لا يبيح المساهلة في النظر له وإن كان يجوز الجهاد معه بل الواجب أن يحكم له وعليه بما أنزله تعالى على رسوله. قال أكثر المفسرين : إن رجلا من الأنصار ـ يقال له طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحرث ـ سرق درعا من جار له ـ يقال له قتادة بن النعمان ـ وجرابا فيه دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ـ يقال له زيد بن السمين ـ فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف لهم والله ما أخذها وما له بها من علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلموه في ذلك وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرىء اليهودي. فَهَمَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل وكان هواه صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم وأن يعاقب اليهودي. وقيل : همَّ أن يقطع يده فأنزل الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الآيات إلى قوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) وفي الآية دليل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين وإلا لما طلبوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي. قال أبو علي : قوله : (بِما أَراكَ اللهُ) ليس منقولا بالهمزة من رؤية البصر لأن حكم الحادثة لا يرى بالبصر ولا من رؤية القلب وإلا لاقتضى ثلاثة مفاعيل وليس في الآية إلا اثنان : أحدهما الكاف والآخر الضمير العائد المحذوف فهو إذن بمعنى الاعتقاد معناه بما علمك الله. وسمى ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور ، وكان عمر يقول : لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه والرأي منا ظن وتكلف. قال بعض العلماء : في الآية دلالة على أنه ما كان يحكم إلا بالوحي والنص ، وأن الاجتهاد ما كان جائزا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحينئذ يجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله : (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] وأجيب بأن العمل بالقياس عمل بالنص أيضا وكأنه تعالى قال : مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر

٤٩١

جامع بين الصورتين ، فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن. (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) أي لأجلهم يريد بني ظفر وهم قوم طعمة (خَصِيماً) مخاصما وأصله من الخصم بالضم والسكون وهو ناحية الشيء وطرفه ، وكأن كل واحد من الخصمين في ناحية من الحجة والدعوى. قال بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا أن الرسول أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه لما ورد النهي عنه ولما أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار. والجواب أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي مرتكبا للمنهي عنه ، بل ثبت في الرواية أن قوم طعمة لما التمسوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذب عن طعمة ويلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي ، ولعله أمر بالاستغفار لأنه مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو لعل القوم شهدوا بسرقة اليهودي وبراءة طعمة ولم يظهر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم ، فهم بالقضاء على اليهودي فأطلعه الله تعالى على مصدوق الحال ، أو لعل المراد واستغفر لأولئك الذين يذبون عن طعمة ثم قال : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يعني طعمة ومن عاونه من قومه ممن علموا كونه سارقا. والاختيان كالخيانة يقال : خانه واختانه ، والعاصي خائن نفسه لأنه يحرم نفسه الثواب ويوصلها إلى العقاب. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) قال المفسرون : إن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة. وإنما ورد البناءان على المبالغة والعموم ليتناول طعمة وكل من خان خيانة فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه لأن الله لا يحبه. وأيضا كان الله عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب الإثم. وروي أنه هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله ، ومن كانت تلك خاتمة أمره لا يشك في حاله. وقالت العقلاء : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة. وفي الآية دليل على أن من كان قليل الخيانة والإثم لم يكن في معرض السخط من الله. (يَسْتَخْفُونَ) يستترون من الناس حياء منهم وخوفا من ضررهم (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) أي لا يستحيون منه لأن الاستخفاء لازم الاستحياء وهو معهم بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجرا للإنسان عن المعاصي. (إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبرون (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرق دونه ويحلف ببراءته وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا ليس فيها إشكال عند القائلين بالكلام النفسي ، وأما عند غيرهم فمجاز ، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه الله ، أو المراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ها للتنبيه في أنتم

٤٩٢

وأولاء وهما مبتدأ وخبر وقوله : (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) جملة موضحة للأولى كما يقال للسخي : أنت حاتم تجود بمالك. أو المراد أنتم الذين جادلتم والخطاب لقوم مؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وقومه لأنهم في الظاهر مسلمون. والمعنى : هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذي يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) حافظا ومحاميا عن عذاب الله. وهذا الاستفهام معطوف على الأول وكلاهما للإنكار والتقريع.

ثم أردف الوعيد بذكر التوبة فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) قبيحا متعديا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يجازي به كالحلف الكاذب. وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن إيصال الضرر إلى الغير سوء حاضر بخلاف الذي يعود وباله إلى فاعله فإن ذلك في الأكثر لا يكون ضررا عاجلا ، لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه. وقد يستدل بإطلاق الآية على أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب وإن كان كفرا أو قتلا عمدا أو غصبا للأموال ، بل على أن مجرد الاستغفار كاف. وعن بعضهم أن الاستغفار لا ينفع مع الإصرار فلابد من اقترانه بالتوبة (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) أي له فحذف هذا الرابط لدلالة الكلام عليه لأنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك. وقيل : ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك ، وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة مع العلم بما يكون منه ، أو بعث لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه. (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) لكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك. والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار وكأنه قال : الذنب الذي أتيت به إنما يعود وباله وضرره إليك لا إليّ فإني منزه عن النفع والضر ، ولا تيأس من قبول التوبة. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ما علمه منه. (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) صغيرة (وَإِثْماً) كبيرة وقيل : الخطيئة الذنب القاصر على فاعله والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل. وقيل الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو الخطأ ، والإثم ما حصل بسبب العمد. (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي بأحد المذكورين أو بالإثم أو بذلك الذنب لأن الخطيئة في معنى الذنب ، أو بذلك الكسب (بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) لأنه بكسب الإثم أثيم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين ، فلا جرم يلحقه الذم في الدارين. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) ولولا أن خصك الله الفضل وهو النبوة وبالرحمة وهي العصمة (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) من بني ظفر أو طائفة من الناس والطائفة بنو ظفر (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن القضاء الحق والحكم العدل (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بسبب تعاونهم على

٤٩٣

الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان لأن وباله عليهم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما أمرت الأنبياء إلا بالأحكام على الظواهر ، أو هو وعد بإدامة العصمة له مما يريدون في الاستقبال من إيقاعه في الباطل. ثم أكد الوعيد بقوله : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي إنه لما أمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات؟ وعلى الأول يكون المراد أنه أوجب في الكتاب والحكمة بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر عليه (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من أخبار الأولين. فيه معنيان : أحدهما أن يكون كما قال : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] أي أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما ، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك حتى لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك. الثاني أن يكون المراد منها خفيات الأمور وضمائر القلوب أي علمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين ، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه مكايدهم ما تقدر على الاحتراز منهم (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) فيه دليل ظاهر على شرف العلم حيث سماه عظيما وسمى متاع الدنيا بأسرها قليلا.

التأويل : الصلاة صورة جذبة الحق ومعراج العبد فلهذا فرضت في الخوف والأمن وشدة القتال والسفر والحضر والصحة والمرض ليكون العبد مجذوب العناية على الدوام (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي أدمتها لهم لأن النظر إليك عبادة كما أن الصلاة عبادة ، وكما أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فإنك تنهاهم عن الفحشاء والمنكر (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ) هم الخواص (مِنْهُمْ) أي من عوامهم (مَعَكَ) أي مع الله لأنك مع الله كقوله : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] (وَلْيَأْخُذُوا) يعني طائفة من بقية القوم (أَسْلِحَتَهُمْ) من الطاعات والعبادات دفعا لعدو النفس والشيطان (فَإِذا سَجَدُوا) يعني من معك ونزّلوا مقامات القرب (فَلْيَكُونُوا) أي هؤلاء القوم (مِنْ وَرائِكُمْ) في المرتبة والمقام والمتابعة يحفظونكم باشتغالهم بالأمور الدنيوية لحوائجكم الضرورية للإنسان. (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) في الصحبة (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) في الوصلة (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ) وهو آداب الطريقة (وَأَسْلِحَتَهُمْ) وهي أركان الشريعة (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هم عدوّ النفس وصفاتها (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) يعني أشغال الدنيا وضروريات حوائج الإنسان يمطر عليكم في بعض الأوقات أن تضعوا أسلحة الطاعة والأركان ساعة فساعة. (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) من التوجه إلى الحق ومراقبة الأحوال وحفظ القلب وحضوره مع الله وخلو السر

٤٩٤

عن الالتفات لغير الله ورعاية التسليم والتفويض إلى الله والاستمداد من همم أعاظم الدين والالتجاء إلى ولاية النبوة (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ) بهذه الأسباب (لِلْكافِرِينَ) من كفار النفس والشيطان (عَذاباً مُهِيناً فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) المكتوبة (فَاذْكُرُوا اللهَ) في جميع حالاتكم (إِنَّ الصَّلاةَ) كانت في الأزل (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) مؤقتا إلى الأبد كما أشار إليه بقوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) [الفتح : ١] أي بابا من القدم إلى الحدوث (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) [الفتح : ٢] بما فتح عليك (ما تَقَدَّمَ) في الأزل (مِنْ ذَنْبِكَ) [الفتح : ٢] بأن لم تكن مصليا (وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] من ذنبك بأن لا تكون مصليا (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [الفتح : ٢] بأن يجعل سيئاتك وهي عدم صلاتك في الأزل أو الأبد مبدلة بالحسنات وهي الصلاة المقبولة من الأزل إلى الأبد (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) من الأزل إلى الأبد ومن الأبد إلى الأزل. (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) النفس وصفاتها (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) في الجهاد بعناء الرياضات والعبادات فإنهم يألمون في طلب اللذات والشهوات (كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ) العواطف الأزلية والعوارف الأبدية (ما لا يَرْجُونَ) لأنّ همم النفس الدنية لا تجاوز قصورها الدنية المجازية الفانية (بِما أَراكَ اللهُ) حين أوحى إليك بلا واسطة ما أوحى وأراك آياته الكبرى.

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ

٤٩٥

مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

القراآت : يؤتيه بالياء : أبو عمرو وحمزة وخلف وقتيبة وسهل. الباقون بالنون. (نُوَلِّهِ وَنُصْلِهِ) مثل (يُؤَدِّهِ) [آل عمران : ٧٥]. (يَدْخُلُونَ) بضم الياء وفتح الخاء وكذلك في «مريم» و «حم المؤمن» : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ويزيد وأبو بكر وحماد. الآخرون بالعكس. إبراهام وما بعده في هذه السورة : هشام وكذلك روى الموصلي عن الأخفش عن ابن ذكوان.

الوقوف : (بَيْنَ النَّاسِ) ط (عَظِيماً) ه (جَهَنَّمَ) ط (مَصِيراً) ه (لِمَنْ يَشاءُ) ط (بَعِيداً) ه (إِناثاً) ج لابتداء النفي مع واو العطف. (مَرِيداً) لا لأن ما بعده صفة له. (لَعَنَهُ اللهُ) م لأنّ قوله : (وَقالَ) غير معطوف على (لَعَنَهُ). (مَفْرُوضاً) ه لا للعطف (خَلْقَ اللهِ) ط (مُبِيناً) ط كيلا يصير (يَعِدُهُمْ) وصفا للخسران. (وَيُمَنِّيهِمْ) ط (غُرُوراً) ه (مَحِيصاً) ه (أَبَداً) ط (حَقًّا) ط (قِيلاً) ه (الْكِتابِ) ط يجز به لا للعطف. (نَصِيراً) ه (نَقِيراً) ه (حَنِيفاً) ط (خَلِيلاً) ه (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (مُحِيطاً) ه.

التفسير : ثم أشار إلى ما كانوا يتناجون به حيث يبيتون ما لا يرضى من القول. والنجوى سر بين اثنين وكذا النجو يقال : نجوته نجوا أي ساررته وكذلك ناجيته. قال الفراء : قد تكون النجوى اسما ومصدرا ، والآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق بعضا إلّا أنها في المعنى عامة. والمراد أنه لا خير فيما يتناجى به الناس ويخوضون فيه من الحديث. (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) وفي محل «من» وجوه مبنية على معنى النجوى. فإن كان النجوى السر جاز أن يكون «من» في موضع النصب لأنه استثناء الشيء من خلاف جنسه كقوله إلّا أواريّ ومعناه لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير ، أو في موضع الرفع كقوله : إلّا اليعافير وإلّا العيس. وأبو عبيد جعل هذا من باب حذف المضاف معناه إلّا نجوى من أمر على أنه مجرور بدل من كثير كما تقول : لا خير في قيامهم إلّا قيام زيد أي في قيامه ، وعلى هذا يكون الاستثناء من جنسه. وإن كان النجوى بمعنى ذوي نجوى كقوله : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسراء : ٤٧] كان محله أيضا مجرورا من (كَثِيرٍ) أو من نجوى كما لو قلت : لا خير في جماعة من القوم إلّا زيد إن شئت أتبعت زيدا الجماعة وإن شئت أتبعته القوم. وإنما قال : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ) مع أنه يصدق الحكم كليا بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلام ابن آدم كله عليه

٤٩٦

لا له إلّا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر» (١) أو ذكر الله استجلابا للقلوب وليكون أدخل في الاعتراف به ، وليخرج عنه الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. واعلم أن قول الخير إما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، والأول إن كان من الخيرات الجسمانية فهو الأمر بالصدقة ، وإن كان من الخيرات الروحانية بتكميل القوة النظرية أو العملية فهو الأمر بالمعروف. والثاني هو الإصلاح بين الناس فثبت أن الآية مشتملة على جوامع الخيرات ومكارم الأخلاق ، وهذه الأوامر وإن كانت مستحسنة في الظاهر إلّا أنها لا تقع في حيّز القبول إلّا إذا عمل صاحبها بما أمر كيلا يكون من زمرة (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤] (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ١] وإلّا إذا طلب بها وجه الله فلهذا قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ويمكن أن يقال : إنّ معنى (وَمَنْ يَفْعَلْ) الأمر والمراد أو؟؟؟ من يأمر فعبر عن الأمر بالفعل لأنّ الأمر فعل من الأفعال. والمراد بقوله : (مَنْ أَمَرَ) من فعل لأنّ الأمر يلزمه الفعل غالبا. ثم قال : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) قال الزجاج : إنّ طعمة كان قد تبيّن له بما أظهر الله من أمره ما دلّه على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعادى الرسول وأظهر الخلاف وارتد على عقبيه واتبع دين عبادة الأوثان وهو غير دين الموحدين وسبيلهم. ومعنى (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نجعله واليا لما اختاره لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه. قال بعض الأئمة : هذا منسوخ بآية السيف ولا سيما في حق المرتد. والظاهر أن المراد به الطبع والخذلان (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) نلزمه إياها (وَساءَتْ مَصِيراً) هي. وانتصب (مَصِيراً) على التمييز من الضمير المبهم في ساءت لأنه يعود إلى ما في الذهن لا إلى المذكور. يحكى أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله دالّة على أن الإجماع حجة ، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وقف على هذه الآية. ووجه الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام لأنه تعالى جمع بين اتباع غير سبيلهم وبين مشاقة الرسول ورتب الوعيد عليهما ، واتباع غير سبيل المؤمنين يلزمه عدم اتباع سبيل المؤمنين لاستحالة الجمع بين الضدين أو النقيضين. فعدم اتباع سبيل المؤمنين حرام فاتباع سبيلهم واجب كموالاة الرسول. وفي الآية دلالة على وجوب عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى وجوب الاقتداء بأقواله وأفعاله وإلّا وجب المشاقة في بعض من الأمور وهي منهي عنها في الكل. قيل : في الآية دلالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلّا بالنظر والاستدلال لأنّ الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لا معنى لتبين العلم لكنه رتب الوعيد على المخالفة بعد تبيين الدليل فيكون تبيين الدليل معتبرا في صحة الدين. وأقول : الموقوف على النظر هو معرفة وجود الواجب لذاته وصحة نبوّة

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٢.

٤٩٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والباقي يكفي في اعتقاده إخبار الصادق على أن إخبار الصادق أيضا دليل فلا حكم إلّا عن دليل. ثم إنه كرّر في السورة قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) للتأكيد. وقيل : لقصة طعمة وإشراكه بالله. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) لأنّه لا أجلى من وجود الصانع ووحدته ، والمطلوب كلما كان أجلى كان نقيضه أبعد. ثم أوضح هذا المعنى بقوله سبحانه : (إِنْ يَدْعُونَ) أي ما يعبدون (مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي أوثانا وكانوا يسمونها بأسماء الإناث كاللات والعزى ، فاللات تأنيث الله ، والعزى تأنيث الأعز. قال الحسن : لم يكن حي من أحياء العرب إلّا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويؤيده قراءة عائشة إلّا أوثانا وقراءة ابن عباس إلّا أثنا جمع وثن مثل أسد وأسد إلّا أن الواو أبدلت همزة كأجوه. وقيل : المراد إلّا أمواتا لأنّ الإخبار عن الأموات يكون كالإخبار عن الإناث. تقول : هذه الأحجار أعجبتني كما تقول هذه المرأة أعجبتني ، ولأن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي. وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله. وقيل : إنّ بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون الملائكة بنات الله. (وَإِنْ يَدْعُونَ) ما يعبدون بعبادة الأصنام (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) بالغا في العصيان مجردا عن الطاعة. يقال : شجرة مرداء إذا تناثر ورقها ، والأمرد ذلك الذي لم تنبت له لحية. قال المفسرون : كان في كل واحدة من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم. وقالت المعتزلة : جعلت طاعتهم للشيطان عبادة له لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه. والظاهر أنّ المراد بالشيطان هاهنا هو إبليس لأنه وصف بقوله : (لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَ) وهو جواب قسم محذوف أي شيطانا جامعا بين لعنة الله إياه وبين هذا القول الشنيع وهو الإخبار عن الاتخاذ مؤكدا بالقسم. ويمكن أن يقال : المراد بلعنة الله ما استحق به اللعن من استكباره عن السجود كقولهم : أبيت اللعن أي لا فعلت ما تستحقه به. ومعنى (نَصِيباً مَفْرُوضاً) حظا مقطوعا واجبا فرضته لنفسي وأصل الفرض القطع ومنه الفريضة لأنه قاطع الأعذار (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة : ٢٣٧] جعلتم لهن قطعة من المال. وفرض الجندي رزقه المقطوع المعين. قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وذلك لما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول الله تعالى : «يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير بيديك. قال : أخرج بعث النار. قال : وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون» (١) الحديث. وهاهنا سؤال وهو أن حزب الشيطان وهم الذين يتبعون خطواته من الكفار والفساق لما كانوا أكثر من حزب الله

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٧. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٧٩. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٢٢ باب ١ ، ٢. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٨) ، (٢ / ١٦٦).

٤٩٨

فلم أطلق عليهم لفظ النصيب مع أنه لا يتناول إلّا القسم الأقل؟ والجواب أنّ هذا التفاوت إنما يحصل من نوع البشر ، أما إذا ضمّ الملائكة إليهم فالغلبة للمحقين لا محالة. وأيضا الغلبة لأهل الحق وإن قلّوا ، وغيرهم كالعدم وإن كثروا. (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) يعني عن الحق. قالت المعتزلة : فيه دلالة على أصلين من أصولنا : الأول أنّ المضل هو الشيطان دون الله ، والثاني أنّ الإضلال ليس عبارة عن خلق الكفر والضلال فإنّ الشيطان بالاتفاق لا يقدر على ذلك. وأجيب بأنّ هذا كلام إبليس فلا يكون حجة على أنّ كلامه في هذه المسألة مضطرب جدا فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله : (لَأُضِلَّنَّهُمْ) (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) [ص : ٨٢] وأخرى إلى الجبر المحض كقوله : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الأعراف : ١٦] (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال واقتحام الأهوال وانتظام الأحوال فلا يكاد يقدم على التوبة والإقبال على تهيئة زاد الآخرة حتى يصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة. (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) البتك القطع ، وسيف باتك أي صارم ، والتبتيك التقطيع شدّد للكثرة. وجمهور المفسرين على أنّ المراد به هاهنا قطع آذان البحائر كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن إذا جاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ويسمونها بحيرة. وقال بعضهم : كانوا يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق. قوله : (فَلَيُبَتِّكُنَ) صيغة غابر للغائبين واللام لجواب قسم آخر أي فو الله ليبتكن وأصله ليبتكون ، فلما دخلت النون الثقيلة سقطت نون الرفع ولتوالي الأمثال وواو الجمع لالتقاء الساكنين واكتفى بالضمة ، والفاء للتسبيب والإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها والجملة كالتفسير لقوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ) ومثله في الإعراب قوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) والمراد من التغيير إما المعنوي وإما الحسي. فمن الأول قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والضحاك ومجاهد والنخعي وقتادة والسدي أنه تغيير دين الله بتبديل الحرام حلالا وبالعكس ، أو بإبطال الاستعداد الفطري (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] «كل مولود يولد على الفطرة». ومن الثاني قول الحسن المراد ما روى ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن الله الواشمات والواشرات والمتنمصات» (١) وذلك أنّ المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا. أما وشم اليد فهو أن

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ٢٥ ، ١١٣. مسلم في كتاب اللباس حديث ١١٩. أبو داود في كتاب الترجل باب ٥. الترمذي في كتاب اللباس باب ٢٥. النسائي في كتاب الطلاق باب ١٣. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥٢. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ١٩. أحمد في مسنده (١ / ٨٣ ، ٨٧) ، (٦ / ٢٥٠).

٤٩٩

يغرزها بالإبرة ثم يذر عليها النيل. والوشر تحديد الأسنان ، والتنميص نتف شعر الحاجب وغيره. وقال أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبو صالح : تغيير خلق الله هو الخصاء وقطع الآذان وفقء العيون. وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا أعور وأعين فحلها. وخصاء البهائم مباح عند عامة العلماء وأما في بني آدم فمحظور. وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم لأنّ الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم. وقال ابن زيد : هو التخنث تشبه الذكر بالأنثى. وعلى هذا فالسحق أيضا داخل في الآية لأنّه تشبه الأنثى بالذكر. وحكى الزجاج عن بعضهم أنّ الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب ، وخلق الشمس والقمر مسخرين للناس ينتفعون بهما فعبدوهما فغيروا خلق الله. واعلم أن دخول الضرر في الإنسان إنما يكون على ثلاثة أوجه : التشويش والنقصان والبطلان ، فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في ضرر الدين وهو قوله : (لَأُضِلَّنَّهُمْ) ثم فصل ذلك بقوله : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) وهو الضرر من جنس التشويش لأن صاحب الأماني يتشوّش فكره في استخراج الحيل الدقيقة والوسائل اللطيفة في تحصيل مطالبه الشهوية والغضبية والشيطانية. وقوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) إشارة إلى الضرر بالنقصان لأنّ الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف العزم في طلب الآخرة. وقوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) إشارة إلى البطلان لأن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الباقية فلا يزال يتزايد ميله وركونه إلى الدنيا حتى يتغير قلبه بالكلية ولا يخطر بباله ذكر الآخرة. (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) إذ فاته أشرف المطالب بسبب الاشتغال بأخسها. والسبب فيه أنّ الشيطان يعدهم ويمنيهم فيقول للشخص إنه سيطول عمره وينال من الدنيا مقصوده ويستولي على أعدائه ويوقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت لي كما تيسرت لغيري (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) لأنه ربما لم يطل عمره ، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه ، وإن طال عمره ونال مأموله على أحسن الوجوه فلا بد أن يكون عند الموت في أشد حسرة وأبلغ حيرة لأنّ المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الإلف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته آلم وأنكى. وأيضا لعل الشيطان يعدهم أنه لا قيامة ولا حساب ولا جزاء ولا عقاب فاجتهدوا في استيفاء اللذات العاجلة واغتنموا فرصة الحياة الزائلة فلذلك قيل : (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) مفرا ومعدلا وله معنيان : أحدهما لا بدّ لهم من ورودها ، والثاني التخليد بمعنى الدوام للكفار أو طول المكث للفساق.

٥٠٠