تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

في حقهم معنى الربوبية ، فثبت أن النصارى جمعوا بين الأمور الثلاثة ، وبطلانها كالأمر المتفق عليه بين العقلاء. فإن قيل : المسيح ما كان المعبود إلا الله فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح عليه ، والقول بالاشتراك أيضا ضائع. وإذا لم يكن الحكم إلا الله وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والائتمار إلا إليه. عن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو ذاك. وعن الفضيل : لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد (فَقُولُوا) أيها المسلمون لأهل الكتاب (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) دونكم كما يقول الغالب لمغلوبه في جدال أو صراع : لزمتك الحجة فاعترف بأني أنا الغالب. أو يكون من باب التعريض ومعناه فاعترفوا بأنكم كافرون حيث أعرضتم عن الحق بعد ما تبين. ثم إن اليهود كانوا يقولون : إن إبراهيم على ديننا وكذا النصارى ، فأبطل الله تعالى ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده. فبين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يعقل أن يكون يهوديا أو نصرانيا؟ لا يقال هذا أيضا لازم عليكم لأنكم تدعون أن إبراهيم كان على دين الإسلام ، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان أطول مما بينه وبين إنزال التوراة والإنجيل. لأنا نقول : القرآن أخبر بأن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما ، وليس في الكتابين أنه كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق. وأيضا المسيح ما كان موجودا في زمان إبراهيم حتى يعبد ، وعبادة المسيح هي النصرانية عندكم. وأيضا لا نسخ في دين اليهود والنسخ جائز في ملة إبراهيم (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) «ها» حرف التنبيه و (أَنْتُمْ) مبتدأ و (هؤُلاءِ) خبره و (حاجَجْتُمْ) جملة مستأنفة مبينة للأولى يعني أنتم هؤلاء الحمقى ، وبيان حماقتكم أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو ليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد : هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به البتة ولا ذكر له في كتابكم؟ وعن الأخفش : (ها أَنْتُمْ) أصله أأنتم على الاستفهام. فقلبت الهمزة هاء ، ومعنى الاستفهام التعجب من جهالتهم. ثم حقق ذلك بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ) كيف كان حال هذه الشرائع في الموافقة والمخالفة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ثم بين ذلك مفصلا فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، أو عرض بالمشركين عن اليهود والنصارى لإشراكهم بالله عزيرا والمسيح. فإن قيل : قولكم «إبراهيم على دين الإسلام» إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع لزم أن لا يكون محمد صاحب شريعة بل كان

١٨١

مقررا لشرع من قبله. قلنا : نختار الأول والاختصاص ثابت. فإن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير والمسيح بالله إلى غير ذلك من قبائح أفعالهم ، أو الثاني ولا يلزم ما ذكرتم لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى ، ثم في زمان محمد نسخ شرع موسى بتلك الشريعة التي كانت ثابتة في زمان إبراهيم ، فيكون محمد صاحب الشريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع. روى الواحدي عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثأرا بمن قتل منكم ببدر. فأجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع هدايا الأدم وغيره ، فركبا البحر وأتيا الحبشة. فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له : إن قومنا لك ناصحون شاكرون وإصلاحك محبون ، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدروا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء. وإنا كنا ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل أحد منا عليهم ولا يخرج منهم أحد ، قد قتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك ، وقد جئتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك. قال : فدعاهم النجاشي. فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله. فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر. فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته. فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك. ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي : ما يمنعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيي بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان ، فبعث الله فينا نبيا صادقا وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي «السلام» تحية أهل الجنة. فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل. قال : أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر : أنا. قال : فتكلم. قال : إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم ، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي.

١٨٢

فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر : تكلم. فقال جعفر للنجاشي : سل هذا الرجل أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فأرددنا إليهم. فقال النجاشي : أعبيد هم أم أحرار؟ فقال : بل أحرار كرام. فقال النجاشي : نجوا من العبودية. قال جعفر للنجاشي : سلهما هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو : لا ولا قطرة. قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي : يا عمرو إن كان قنطارا فعليّ قضاؤه. فقال عمرو : لا ولا قيراط. قال النجاشي : فما تطلبون منهم؟ قال عمرو : كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا ، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ولزمناه نحن ، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني. قال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنا نكفر بالله عزوجل ونعبد الحجارة. وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الإسلام ، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له. فقال النجاشي : يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك. ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوش فاجتمع إليه كل قسيس وراهب. فلما اجمعوا عنده قال النجاشي : أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ فقالوا : اللهم نعم ، قد بشرنا به عيسى وقال : من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر : ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ قال : يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له. فقال : اقرأ علي شيئا مما يقرأ عليكم. فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا : يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال : إنهم يشتمون عيسى وأمه. فقال النجاشي : ما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم. فلما أتى ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذى العين وقال : والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا. ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم. قال : أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة أي لا خوف اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو : يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤا من عنده ومن اتبعهم. فأنكر ذلك المشركون وادعوا أنهم في دين إبراهيم. ثم رد النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة.

١٨٣

قال جعفر : وانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار ، وأنزل الله عزوجل ذلك اليوم في خصومتهم في إبراهيم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالمدينة قوله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على ملته وسنته في زمانه (وَهذَا النَّبِيُ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) في آخر الزمان (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة والتأييد والتوفيق والتسديد. ومعنى (أَوْلَى النَّاسِ) أخصهم به وأقربهم منه من الولي القرب. وقرىء (وَهذَا النَّبِيُ) بالنصب عطفا على الهاء في (اتَّبَعُوهُ) وبالجر عطفا على (بِإِبْراهِيمَ). عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ إن أولى الناس الآية» ثم بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات وإبداء المكايد كما أرادوا بحذيفة وعمار ومعاذ بن جبل وقد ذكرناه في سورة البقرة. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن وبال الإضلال يعود عليهم فيضاعف لهم العذاب بالضلال والإضلال ، أو وما يقدرون على إضلال المؤمنين وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم (وَما يَشْعُرُونَ) أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين. ثم وبخهم على قبائح أفعالهم بطريق الاستفهام فقال : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قيل : أي بالتوراة والإنجيل لما فيهما من البشارة بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ، أو أن الدين عند الله الإسلام ، ومعنى الكفر بالتوراة والإنجيل إما الكفر بما يدلان عليه فيكون قد أطلق اسم الدليل على المدلول ، أو الكفر بنفس التوراة والإنجيل لأنهم كانوا يحرّفونهما وينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض شهدوا بصحتها ، وعلى هذا فيكون في الآية إخبار عن الغيب فيكون معجزا. وقيل : آيات الله في القرآن وشهادتهم أنهم يعرفون في قلوبهم أنه حق. وقيل : آيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فمعنى تشهدون أنكم تعترفون بدلالة المعجزة على صدق المدعي. ثم لما وبخهم على الغواية أردفه التوبيخ بالإغواء. وهو إما بإلقاء الشبهات في الدين وهو معنى لبسهم الحق بالباطل ، وإما بإخفاء الدلائل وهو كتمانهم الحق. عن الحسن وابن زيد : حرفوا التوراة فخلطوا المنزل بالمحرف. وعن ابن عباس : أظهروا الإسلام في أول النهار ثم رجعوا عنه في آخره تشكيكا للناس. قيل : إن في الكتابين ما يدل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبشارة به وفيهما ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه في القرآن. فلبسوا على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعل كثير من المشبهة. وهذا قول القاضي. وقيل : كانوا يقولون : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم معترف بأن شرع موسى حق ، ثم إن التوراة دلت على أنه لا ينسخ ،

١٨٤

وكل ذلك إلقاء الشبهات. وأما كتمان الحق فهو أن الآيات الدالة في التوراة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان الاستدلال بها مفتقرا إلى التدبر والتأمل ، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي بمجموعها يتم الاستدلال كما يفعل المبتدعة في زماننا (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا ، أو تعلمون أنكم من أهل المعرفة ، أو تعلمون حقيتها ، أو أن عقاب من يفعل هذه الأفعال عظيم والله حسبي.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

القراآت : آن يؤتى بهمزتين وتليين الثانية : ابن كثير. الباقون بهمزة واحدة يؤدهى ولا يؤدهى ابن كثير ونافع غير قالون وابن عامر وعلي وخلف وحفص والمفضل وعباس وسهل وزيد عن يعقوب ، وقرأه أبو جعفر وقالون ويعقوب غير زيد وأبو عمرو في رواية الزيدي طريق أبي أيوب الهاشمي بالاختلاس. الباقون ساكنة الهاء. تعلمون بالتشديد : عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر. فحذف المفعول الأول للعلم به وهو الناس. الباقون تعلمون بالتخفيف من العلم. (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالرفع : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي والأعشى والبرجمي وأبو زيد غير المفضل ، وقرأ أبو عمرو بالاختلاس. الباقون بالنصب.

١٨٥

الوقوف : (يَرْجِعُونَ) ج للعطف (دِينَكُمْ) ط (هُدَى اللهِ) (لا) لأن التقدير ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم. وقوله : «قل» مع مقوله معترض. ومن قرأ آن يؤتى مستفهما وقف عليها. (عِنْدَ رَبِّكُمْ) ط (بِيَدِ اللهِ) ج ط لأن (يُؤْتِيهِ) لا يتعلق بما قبله مع أن ضمير فاعله عائد إلى الله. (مَنْ يَشاءُ) ط (عَلِيمٌ) ه ط ج لاحتمال الاستئناف والصفة. (مَنْ يَشاءُ) ط (الْعَظِيمِ) ه (إِلَيْكَ) الأولى ج لتضاد الجملتين معنى مع اتفاقهما لفظا. (قائِماً) ط (سَبِيلٌ) ج لأن الواو للاستئناف مع اتساق معنى الكلام (يَعْلَمُونَ) ه (الْمُتَّقِينَ) ه (يُزَكِّيهِمْ) ص (أَلِيمٌ) ه (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) ج لعطف المتفقتين مع وقوع العارض (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ج (يَعْلَمُونَ) ه (تَدْرُسُونَ) ه لا لمن قرأ (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالنصب عطفا على (أَنْ يُؤْتِيَهُ أَرْباباً) ط (مُسْلِمُونَ) ه.

التفسير : هذا نوع آخر من تلبيساتهم. وقوله (بِالَّذِي أُنْزِلَ) يحتمل أن يراد كل ما أنزل الله عليهم ، ويحتمل أن يراد بعض ما أنزل. أما الاحتمال الأول فقول الحسن والسدي تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد باللسان دون الاعتقاد (وَجْهَ النَّهارِ) أي أوله. والوجه في اللغة مستقبل كل شيء ومنه وجه الثوب لأول ما يبدو منه. روى ثعلب عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار. وأنشد الربيع بن زياد :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرا يندبنه

قد قمن قبل تبلج الأسحار

وذلك أنه كان من عادتهم أن لا يظهروا الجزع على المقتول إلى أن يدركوا الثأر. فمعنى البيت من كان مسرورا فلير أثر تشفي الغيظ ودرك الثأر قبل أن يمضي على المقتول تمام يوم وليلة. واكفروا به آخر النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك ، فإن أصحابه متى شاهدوا هذا غلب على ظنونهم أن هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد وإلا لما آمنوا به في أول الأمر ، وإنما ذلك لأمر لأجل أنهم أهل كتاب وقد تفكروا في أمره وفي دلائل نبوته ، فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الشافي أنه كذاب فيكون في هذا الطريق تشكيك لضعفة المسلمين فربما يرجعون عن دينهم. وقال أبو مسلم : معنى وجه النهار وآخره أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض : نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب ، فإن أمر هؤلاء في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم

١٨٦

فيرجعوا إلى دينكم ، فتكون هذه الآية كقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤]. وقال الأصم : معناه تفريق أحكام الإسلام إلى قسمين ، وذلك أنه قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به علم عوامكم كذبكم لأن كثيرا مما جاء به حق ، ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض ليحملوا كلامكم على الإنصاف فيقبلوا قولكم ويرجعوا عن دين الإسلام والرغبة فيه. وأما الاحتمال الثاني فقول من قال إنها نزلت في شأن القبلة ثم اختلفوا. فعن ابن عباس : وجه النهار أوله وهو صلاة الصبح ، وآخره صلاة الظهر. وتقريره أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ففرح اليهود بذلك ، فلما حوّله الله إلى الكعبة عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره : آمنوا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الصبح فهي الحق. وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود لمخالفتهم فقالوا : آمنوا بالذين أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها من أول النهار ، ثم اكفروا بالكعبة آخر النهار وارجعوا إلى قبلتكم الصخرة لعلهم يقولون : هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم منا فربما يرجعون إلى قبلتنا ، فحذر الله نبيه مكر هؤلاء وأطلعه على سرهم كيلا تؤثر الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين. ولأن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة لم يقدموا على أمثالها من الحيل ويصير ذلك وازعا لهم. وفيه أيضا أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا. ثم قال تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) اتفق المفسرون على أنه من بقية حكاية كلام أهل الكتاب. واتفقوا على أن قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) وكذا قوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) إلى آخرها كلام الله إلا أنهم اختلفوا في أن قوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) من جملة كلام الله ، أو من جملة كلام اليهود ، ومن تتمة قولهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) فهذان احتمالان ذهب إلى كل منهما طائفة من المحققين ، وكل منهما يحتاج في تصحيح المعنى إلى تقدير وإضمار ، فلهذا عدت الآية من المواضع المشكلة. أما الاحتمال الأول فوجهه على قراءة ابن كثير ظاهر ، وكذا في قراءة من قرأ بهمزة واحدة ويقدر همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ وكذا لام الجر. وهذا الوجه يروى عن مجاهد وعيسى بن عمر. والمعنى ألأن أي من أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم تنكرون اتباعه؟ فحذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير. ويقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه وعد ذنوبه عليه وقد أحسن إليه : أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت أم من ذاك؟ ونظيره قوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر : ٩] ومعنى قوله حكاية عنهم (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) على هذا الوجه لا تصدقوا إلا نبيا

١٨٧

يقرر شرائع التوراة ، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم. واللام زائدة مثل (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] فإنه يقال : صدقت فلانا ولا يقال صدقت لفلان. فأمر الله نبيه أن يقول لهم في الجواب إن الدين دين الله ، فكل ما رضيه دينا فهو الدين الذي يجب متابعته كقوله في جواب قولهم : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١٤٢] ثم وبخهم بالاستفهام المذكور. ويحتمل أن يكون المعنى : ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. فقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) وقد جئتكم به فلن ينفعكم هذا الكيد الضعيف. ثم استفهم فقال : ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتم لا لشيء آخر؟ يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم؟ ثم قال : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) يعني دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لما يتصل بالإيتاء عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم لأن ما أوتوا مثل ما أوتيتم ، فحين لم تؤمنوا به ثبت لهم حجة عليكم. وأما إن لم تقدر همزة الاستفهام فالتقدير إما كما سبق. أو يقال : (الْهُدى) اسم «إن» و (هُدَى اللهِ) بدل منه. والتقدير : قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. ويكون «أو» بمعنى «حتى» ويتم الكلام بمحذوف أي حتى يحاجوكم عند ربكم فيقضي لهم عليكم ويدحض حجتكم ، أو يقال : (أَنْ يُؤْتى) مفعول فعل محذوف هو لا تنكروا لأنه لما كان الهدى هدى الله كان له أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار فصح أن يقال : لا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم من الهدى ما أوتيتموه أو يحاجوكم ـ يعني هؤلاء المسلمين ـ بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم. أو يقال (الْهُدى) اسم للبيان و (هُدَى اللهِ) بدل ويضمر لا بعد «إن» مثل (أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] أي لا تضلوا. والتقدير : قل يا محمد لأمتك إن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان ، وأن لا يحاجوكم ـ يعني هؤلاء اليهود ـ عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم مهتدون وأنهم ضالون. وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون قوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من تتمة كلام اليهود ، وقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) جملة معترضة. فمعناه لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أو لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم. فحذف حرف الجر من «أن» على القياس. قال في الكشاف : أراد أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا

١٨٨

تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام. وقوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) عطف على (أَنْ يُؤْتى) والضمير في (يُحاجُّوكُمْ) ل (أَحَدٌ) لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة. قال : ومعنى الاعتراض ، أن الهدى هدى الله ، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك ، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم أي ستركم تصديقكم عن المسلمين والمشركين. وكذلك قوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) مؤكد للاعتراض الأول ، أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام كقوله : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل : ٣٤] بعد قوله : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) [النمل : ٣٤] فإن قيل : إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار؟ ربما يدل على صحة دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب. فالجواب : ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم ، بل المراد أنه ان اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم. على أنه يحتمل أن يكون شائعا ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان من غيرهم. فإن قيل : كيف وقع قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) فيما بين جزأي كلام واحد؟ وهذا لا يليق بكلام الفصحاء؟ قلت : قال القفال : يحتمل أن يكون هذا كلاما أمر الله نبيه أن يقوله عند ما وصل الكلام إلى هذا الحد. كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقابله بقول حق ، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة : آمنت بالله أو لا إله إلا الله ، أو تعالى الله ، ثم يعود إلى تلك الحكاية. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل بيد. واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين : أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام فأجاب بقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ). وذلك أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة عين ولا أثر. وثانيها أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة فأجاب عنه بقوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة الزيادة ، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان. والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير. ومعنى قوله (بِيَدِ اللهِ) أنه مالك له غالب عليه يوضحه قوله (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وفيه دليل

١٨٩

على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز (وَاللهُ واسِعٌ) كامل القدرة (عَلِيمٌ) بالحكم والمصالح وبمواقع فضله فلهذا (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) والحاصل أنه بين بقوله : (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) أنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاكم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه. ثم قال : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) والرحمة المضافة إليه تعالى أمر أجل من ذلك الفضل لأنه لا يكون من جنس ما آتاهم بل يكون أشرف وأعظم. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فمن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين كان جاهلا بكمال الله تعالى في قدرته وحكمته. ثم إنه تعالى كذبهم في دعواهم الاختصاص بالمناصب العالية فإن فيهم الخيانة المستقبحة في جميع الأديان ونقص العهد والكذب على الله إلى غير ذلك من القبائح فقال : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية. فيها دلالة على انقسامهم إلى قسمين : أهل للأمانة وأهل للخيانة. فقيل : إن أهل الأمانة هم الذي أسلموا ، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من يخالفهم في الدين وأخذ أموالهم. وقيل : إن أصحاب الأمانة هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، وأهل الخيانة اليهود لكثرة ذلك فيهم. وقال ابن عباس : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ) هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه و (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ) هو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه. وقال أهل الحقيقة : هي فيمن يؤتى كثيرا من الدنيا فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه ثقة بالله وتوكلا عليه واكتفاء به ، وفيمن يمتحن بالدنيا فيكون همه مقصورا عليها معرضا عما سواها غير مؤد حقوقها. ويقال : أمنته بكذا وعلى كذا ، فمعنى الباء إلصاق الأمانة بحفظها وحياطتها ، ومعنى «على» استعلاؤها والاستيلاء عليها. والمراد بالقنطار والدينار هاهنا العدد الكثير والعدد القليل فلا حاجة إلى تعيينه. وأما الأقوال فيه فقد مرت في أوائل السورة. وقد يستدل بما روينا عن ابن عباس أن القنطار ألف ومائتا أوقية. ويدخل تحت القنطار والدينار العين والدين ، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين لكنه نقل عن ابن عباس أنه محمول على المبايعة فقال : منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك. ونقلنا عنه أيضا أنها نزلت في الوديعة. وأما قوله (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) فمنهم من حمله على حقيقته. قال السدي : يعني إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه مجتمعا معه ملازما إياه ، فإن

١٩٠

أنظرت وأخرت أنكر. ومنهم من يحمله على الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة. قال ابن قتيبة : أصله أن الطالب للشيء يقوم به والتارك له يقعد عنه ومنه قوله تعالى : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) [آل عمران : ١١٣] أي عاملة بأمر الله غير تاركة له. وقال أبو علي الفارسي : إنه في اللغة الدوام والثبات ومنه قوله : (دِيناً قِيَماً) [الأنعام : ١٦١] أي ثابتا لا ينسخ. فمعنى الآية إلا دائما ثابتا في مطالبتك إياه بذلك المال. (ذلِكَ) الاستحلال وترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل بالخطاب والعتاب. إما لأنهم يبالغون في التعصب لدينهم حتى استحلوا قتل المخالف وأخذ ماله بأي طريق كان ، وإنا لأنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا ، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا في الإسلام أنه كفر فيحكمون على المسلمين بالردة فيستحلون دماءهم وأموالهم. روي أن اليهود عاملوا رجالا في الجاهلية من قريش. فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فلا جرم قال تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بادعائهم أن ذلك في كتابهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون ، وهذه غاية الجرأة والجهالة. أو يعلمون حرمة الخيانة ، أو يعلمون ما على الخائن من الإثم. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عند نزولها : كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال : فتقولون ماذا؟ قال : نقول ليس علينا في ذلك بأس. قال : هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل. إنهم إذا أدوا الجزية لم يحل أكل أموالهم إلا بطيب أنفسهم ، (بَلى) قال الزجاج : عندي وقف التمام هاهنا لأنه لمجرد نفي ما قبله أي بلى عليهم سبيل في ذلك وما بعده استئناف ، وقال غيره : إنه يذكر في ابتداء كلام يقع جوابا عن المنفي قبله. فقولهم : ليس علينا جناح قائم مقام قوله : نحن أحباء الله تعالى فقيل لهم : إن أهل الوفاء بالعهد وأهل التقى هم الذين يحبهم الله. وعلى هذا فلا وقف على «بلى». وفيه أن اليهود ليسوا من الوفاء والتقى في شيء ، ولو أنهم أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الذي أخذه الله تعالى في كتابهم من الإيمان بنبي آخر الزمان وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولو أنهم اتقوا الله لم يكذبوا عليه ولم يحرفوا كتابه. وعموم لفظ المتقين قائم مقام الضمير العائد إلى المبتدأ والضمير في (بِعَهْدِهِ) يجوز أن يرجع إلى (مَنْ) ويجوز أن يرجع إلى اسم الله كقوله في الآية التالية (بِعَهْدِ اللهِ). واعلم أن الوفاء والتقى أصلان لجميع مكارم الأخلاق. فالوفاء بالعهد يشمل عهد الميثاق وعهد الله تعالى بالتزام التكاليف الخاصة

١٩١

والعامة ، والتقوى تتممها وتزينها حتى يأتي بها على وجه الكمال من غير شائبة الاختلال. فكل متق موف بالعهد ولا يلزم العكس ، فلهذا اقتصر على قوله : (يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) دون أن يقول يحب الموفين أو الموفين والمتقين فافهم. ثم إنه سبحانه لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس ـ والخيانة فيها لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة غالبا ـ لا جرم أردفها بالوعيد عليها. وأيضا الخيانة في العهود وفي تعظيم أسماء الله تناسب الخيانة في الأموال ، فلا جرم قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) الآية. واختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود لأن الآيات السابقة فيهم وكذا اللاحقة ، ومنهم من خصها بغيرهم والروايات هذه. قال عكرمة : نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رؤوس اليهود. كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا أنه من عند الله كيلا يفوتهم الرشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم. وقال الكلبي : إن ناسا من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة. فسألهم كعب : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم؟ قالوا : نعم ، وما تعلمه أنت؟ قال : لا. قالوا : فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله. قال كعب : لقد حرمكم الله خيرا كثيرا. لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسو عيالكم فحرمكم الله وحرم عيالكم. فقالوا : فإنه شبه لنا فرويدا حتى نلقاه. فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ثم انتهوا إلى رسول الله فكلموه وسألوه ثم رجعوا فقالوا : لقد كنا نرى أنه رسول الله فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا ، ووجدنا نعته مخالفا للذي عندنا. وأخرجوا الذي كتبوا فنظر إليه كعب ففرح وأمارهم وأنفق عليهم فنزلت. وعن الأشعث بن قيس : خاصمت رجلا في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : شاهداك أو يمينه. فقلت : إذا يحلف ولا يبالي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف عليّ يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان» ونزلت الآية على وفقه. وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه. ومعنى يشترون يستبدلون ، وعهود الله مواثيقه ، واليمين هي التي يؤكد الإنسان بها خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إقرار بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته أو ما يجري مجراه. والثمن القليل متاع الدنيا من المال والجاه ونحوهما. ثم إنه تعالى رتب على الشراء بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا خمسة أنواع من الجزاء فقوله : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) إشارة إلى أنه لا نصيب لهم في منافعها ونعيمها. وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) إشارة إلى حرمانهم عما عند الله من الكرامات والقرب. وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) إشارة إلى ما يحصل لهم هنالك من صنوف الآلام وضروب

١٩٢

الأهوال. قال المحققون ومنهم القفال : المقصود من هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع كلامه في الدنيا غيره فإنما ذلك لسخطه عليه ، وقد يأمره بحجبه عنه ويقول : لا أكلمك ولا أرى وجهك. وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل. قال في الكشاف : لا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم. تقول : فلان لا ينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به. وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر. ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر. قلت : لعله أراد بهذا المجاز الاستعارة كأنه شبه هذا النظر بذاك النظر ، ثم حذف المشبه وأداة التشبيه فبقي استعارة. وفي التفسير الكبير : لا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وهو تعالى منزه عن ذلك ، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف «إلى» ليس بمعنى الرؤية وإلا لزم من هذه الآية أن لا يكون الله رائيا وذلك باطل. قلت : يجوز أن يراد بهذا النظر النظر المعهود وهو الذي سيخص الله تعالى به أولياءه من أنه ينظر إليهم وينظرون إليه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وعلى هذا جاز أن يكون النظر بمعنى الرؤية لأنه لا يلزم من نفي رؤية يراه العباد أيضا وقتئذ نفي رؤية لا يرونه حينئذ (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) عن ابن عباس هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) قال القفال : معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى. فإن الليّ عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية. وإنما كانوا يفعلون مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي غيرها بحسب أغراضهم الفاسدة. وفي الكشاف : أي يقتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف. أقول : وذلك أن لي اللسان أشبه بالتشدق والتنطع والتكلف مذموم ، فعبر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بليّ اللسان ذما لهم وتقريعا ، ولم يعبر عنها بالقراءة ، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد (لِتَحْسَبُوهُ) أي المحرف الذي دل عليه (يَلْوُونَ) ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) نفى أوّلا كونه من الكتاب ، ثم عطف عليه النفي العام

١٩٣

ليعلم أنه كما أنه ليس من الكتاب ليس بسنة ولا إجماع ولا قياس. فإن كل هذا يصدق عليه أنه من عند الله بمعنى كونه حكما من أحكامه المستنبطة من الأصول. ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فقط وبقولهم : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء. وذلك أن القوم في نسبة ذلك المحرف إلى الله كانوا متحيرين خابطين. فإن وجدوا قوما من الأغمار الجاهلين بالتوراة قالوا : إنه من التوراة. وإن وجدوا قوما عقلاء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء. واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة أو إعراب ألفاظها فالذين أقدموا على ذلك يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب ، وإن كان المعنى تشويش دلالة تلك الآيات على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات كما يفعله المبطلون في ملتنا إذا استدل المحقون بآية من كتاب الله تعالى لم يبعد إطباق الخلق الكثير والجم الغفير عليه. احتج الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق اليهود في قولهم هو من عند الله ، لكن الله كذبهم. والغلط فيه أن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله وبخلقه ، وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله ، أو هو حكم من أحكامه فتوجه التكذيب تكذيب الله إياهم إلى هذا الذي زعموا لا إلى ما لم يزعموا ، فلم يبق لهما في الآية استدلال. ثم من جملة ما حرفه أهل الكتاب أن زعموا أن عيسى كان يدعي الإلهية ويأمر قومه بعبادته فلهذا قال عز من قائل : (ما كانَ لِبَشَرٍ) الآية. وقيل : إن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال : معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت. وقيل : إن رجلا قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله. وقيل : زعمت اليهود أن أحدا لا ينال من درجات الفضل ما نالوه فقال لهم الله : إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله : (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) كقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] ومعنى قوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) قال الأصم : لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الله منه نظيره (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ، ٤٥] (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) [الإسراء : ٧٤ ، ٧٥] وقيل : معناه أنه تعالى لا يشرف عبدا بالنبوة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل ذلك الكلام. وقيل : إن الرسول يدعي تبليغ الأحكام عن الله تعالى ويحتج

١٩٤

على صدقه بالمعجزة. فلو أمرهم بعبادة نفسه بطل دلالة المعجزة على كونه صادقا. والتحقيق أن الأنبياء موصوفون بصفات لا يحصل معها هذا الادعاء ، لأن النفس ما لم تكن كاملة بحسب قوتها النظرية والعملية لم تكن مستعدة لقبول نزول الكتاب السماوي عليه وللحكم وهو فهم ذلك الكتاب وبيانه. وقد يعبر عنه بالسنة والنبوة وهو كونه مأمورا بتبليغ ما فهم الى الخلق ، وما أحسن هذا الترتيب ، وإذا كانت كاملة بحسب القوتين وما يتبعهما امتنع من مثله مثل هذا القول والاعتقاد ، لأن غاية جهد النبي وقصارى أمره صرف القلوب والأرواح من الخلق إلى الحق ، فكيف يعقل منه ضده؟ فتبين أنه ليس المراد من قوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) إلى قوله : (كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق. ولو كان المراد منه التحريم لم يكن فيه تكذيب للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح ، لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلانا لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن مكذبا له فيما ادعاه عليه. ومثله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥] على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر. وكذا قوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [آل عمران : ١٦١] ومعناه النفي لا النهي. ومعنى «ثم» في قوله : (ثُمَّ يَقُولَ) تبعيد هذا القول عن مثل ذلك البشر (وَلكِنْ كُونُوا) ولكن يقول كونوا (رَبَّانِيِّينَ) قال سيبويه : الرباني منسوب الى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته كما يقال : رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته. وزيادة الألف والنون في النسبة فقط للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا : شعراني ولحياني ورقباني للموصوف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة. وقال المبرد : والربانيون أرباب العلم واحدها ربان وهو الذي يرب العلم ويرب الناس بتعليمهم وإصلاحهم والقيام بأمرهم. والألف والنون كما في ريان وعطشان لا يختص بحال النسبة. والربانيون بهذا التفسير يشمل الولاة أيضا. قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي يسمى ربانيا لأن يطاع كالرب تعالى فينسب إليه. فمعنى الآية : ولكن يدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته. وقال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية. وسواء كانت عربية أو عبرية تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ثم اشتغل بتعليم طرق الخير. عن محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة. والباء في قوله : (بِما كُنْتُمْ) للسببية و «ما» مصدرية و (تُعَلِّمُونَ) من التعليم أو العلم على القراءتين فيعلم منه أن التعليم أو العلم أو الدراسة وهي القراءة توجب على صاحبها كونه ربانيا ، والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا أمرا مغايرا لكونه عالما ومعلما ومواظبا على

١٩٥

قراءة العلم ، وما ذاك إلا بأن يكون تعلمه لله وتعليمه لله ودراسته لله. فمن اشتغل بالعلم والتعليم والدراسة لا لهذا الغرض خاب وخسر وكان السبب بينه وبين ربه منقطعا وكان مثله كمن غرس شجرة تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعوذ بالله من قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع» (١) وفي الآية دليل على صحة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» (٢) تأمل تفهم بإذن الله. (وَلا يَأْمُرَكُمْ) من قرأ بالنصب فوجهان : أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد النفي أي ما ينبغي لبشر أن ينصبه الله منصب الدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة ثم يخالفه إلى أن يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمركم (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) كما نقول : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي. والثاني أن يكون حرف النفي غير زائد فيرجع المعنى إلى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح بحيث قالوا له : أنتخذك ربا؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء ، فيكون عدم الأمر في معنى النهي. ويراد بالنبيين غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه أخرج نفسه بتلك الدعوى عن زمرة الأنبياء. ومن قرأ بالرفع على الاستئناف فظاهر وتنصره قراءة عبد الله بن مسعود ولن يأمركم والضمير فيه على قراءة الرفع ـ قال الزجاج ـ لله. وقال ابن جريج لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : لعيسى. وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح. (أَيَأْمُرُكُمْ) أي البشر وقيل : الله (بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ومعنى الاستفهام الإنكار أي إنه لا يفعل ذلك. قيل : وفيه دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسجدوا له. قلت : وضع الشيء ابتداء أسهل من رفع نقيضه ثم وضعه ، فيحتمل أن يكون المراد ما صح ولا يعقل أن يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته بعبادة نفسه أول ما استنبىء ، فكيف يعقل أن يأمرهم بذلك بعد الفهم بالإسلام واستنارة باطنهم بنور الهدى والإيمان بالله؟

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ٧٣. أبو داود في كتاب الوتر باب ٣٢. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٦٨. النسائي في كتاب الاستعاذة باب ٢ ، ١٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٢٣. أحمد في مسنده (٢ / ١٦٧).

(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥ / ١٩٦).

١٩٦

مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

القراآت : (لَما) بكسر اللام حمزة والخزاعي. الباقون بفتحها. آتيناكم على صيغة جمع المتكلم : أبو جعفر ونافع. الباقون (آتَيْتُكُمْ) على الوحدة (يَبْغُونَ) بياء الغيبة وترجعون بتاء الخطاب مبنيا للمفعول : أبو عمرو غير عباس. وقرأ عباس وسهل وحفص بالياء التحتانية فيهما. وقرأ يعقوب (يَبْغُونَ) بالياء التحتانية (يُرْجَعُونَ) بالتحتانية مبنيا للفاعل. الباقون بتاء الخطاب فيهما. (مِلْءُ) بالهمزة (الْأَرْضِ) بغير الهمز. روى النجاري عن ورش وروى الأصفهاني عنه بغير همز فيهما. الباقون بالهمز فيهما.

الوقوف : (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) ط (إِصْرِي) ط (أَقْرَرْنا) ط (الشَّاهِدِينَ) ه (الْفاسِقُونَ) ه (يُرْجَعُونَ) ه (مِنْ رَبِّهِمْ) ص (مِنْهُمْ) ج (مُسْلِمُونَ) ه (مِنْهُ) ج لعطف المختلفتين (الْخاسِرِينَ) ه (الْبَيِّناتُ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (أَجْمَعِينَ) ه (فِيها) ج (لا) (يُنْظَرُونَ) ه (لا) للاستثناء (رَحِيمٌ) ه (تَوْبَتُهُمْ) ج (الضَّالُّونَ) ه ، (افْتَدى بِهِ) ط (ناصِرِينَ) ه.

التفسير : الغرض من هذه الآيات تعديد الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعا لأعذارهم وإظهارا لعنادهم من جملتها أخذ ميثاق النبيين. قال الزجاج : تقديره واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله. وقيل : واذكروا يا أهل الكتاب. وإضافة الميثاق إلى النبيين إما أن تكون من إضافة العهد الى المعاهد منه ، أو من إضافة

١٩٧

العهد إلى المعاهد كما تقول : ميثاق الله وعهد الله. أما الاحتمال الأول فيؤيده ما يشعر به ظاهر اللفظ من أن آخذ الميثاق هو الله والمأخوذ منهم النبيون وهو قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس. ثم على هذا القول ما نقل عن علي أنه ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. والذي يدل على صحته ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي» (١) فهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وهو أنهم لو كانوا أحياء لوجب عليهم الإيمان بمحمد وإلا فالميت لا يكون مكلفا. وقيل : المراد أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف ، أو أمة النبيين فقد ورد كثيرا في القرآن لفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويراد به الأمة كقوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] وقيل : النبيون أهل الكتاب وقد ورد على زعمهم تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون. ويؤكده قراءة أبي وابن مسعود وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وأما الاحتمال الثاني فالمعنى أن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ، ويؤكده أنه تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء وإنما يليق بالأمم. وروي عن ابن عباس أنه قيل له : إن أصحاب عبد الله يقرأون وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ونحن نقرأ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) فقال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم (لَما آتَيْتُكُمْ) من قرأ بفتح اللام ففيه وجهان : أحدهما : أن «ما» تكون موصولة واللام للابتداء وخبره (لَتُؤْمِنُنَ) واللام فيه جواب القسم المقدور. والعائد الى الموصول في (آتَيْتُكُمْ) محذوف وفي (جاءَكُمْ) ما يدل عليه (لِما مَعَكُمْ) لأنه في معنى «ما آتيتكم» والتقدير للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له والله لتؤمنن به ـ وثانيهما ـ واختاره سيبويه وغيره ـ كيلا يفتقر إلى تكلف الرابط أن يقال : أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف. و «ما» هي المتضمنة لمعنى الشرط وحينئذ يحتاج القسم إلى الجواب والشرط إلى الجزاء ، وليس هاهنا ما يصلح لكل منهما إلا الإيمان والنصرة. فالأصح في هذا المقام أن يجعل المذكور جوابا للقسم ظاهرا ، ولهذا أدخل اللام والنون المؤكدة في «لتؤمنن» و «لتنصرن» وأدخل اللام في الشرط وتسمى موطئة لأنها تعين من أول الأمر وتمهد أن المذكور هو جواب القسم لا الشرط. ثم إن جواب الشرط يكون مستغنى عنه لأن جواب القسم يسد مسدّه. ومن قرأ بكسر اللام للتعليل ففيه أيضا وجهان : أحدهما أن تكون «ما»

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١ ، ٦. أحمد في مسنده (٤ / ١٢٦).

١٩٨

مصدرية أي أخذ الله ميثاقهم لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موافقا لكم في الأصول لتؤمنن به ، لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء. والثاني أن تكون «ما» موصولة وبيان الرابط كما مر. وعن سعيد بن جبير (لَما) بالتشديد بمعنى «حين». وقيل : أصله «لمن ما» أي لمن أجل ما آتيتكم. أدغمت النون في الميم فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفوا إحداها للتخفيف فيؤل المعنى إلى قراءة حمزة. وفي جميع القراآت قيل : لا بد من إضمار بأن يقال : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم. قلت : هذا من باب الالتفات فلا حاجة إلى الإضمار فكأنه قيل : وإذ أخذت أو أخذنا. ولما في أخذ الميثاق من معنى القول. ومن العلماء من قدر الإضمار بنوع آخر واستحسنه في التفسير الكبير مع أنه متكلف فقال : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. والنبيون عام وليس كلهم أصحاب كتاب ولكنه وصف الكل بوصف أشرفهم ، أو الكتاب لذوي الكتب والحكمة لغيرهم ، أو جعل الداعي إلى الكتاب وإلى العمل به كالذي أنزل عليه الكتاب. و «من» للبيان أو للتبعيض. وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم معناه أي في زمانكم وإن كان المراد من النبيين أولادهم أو أممهم فلا إشكال. والمراد بتصديقه لما معهم موافقته في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع. فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه عليه‌السلام وأن الحق في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس إلا شرعه عليه‌السلام. ولو قلنا : إن المراد بالرسول هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمراد إما ما ذكرنا أو أن نعته وصفته وأحواله مذكورة في الكتب المتقدمة ، فكان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم. والظاهر أن المراد بهذا الميثاق هو التوصية بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقا لما معهم. وقيل : يحتمل أن يكون الميثاق إشارة إلى ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولا عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه ، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه. وقيل : المراد بأخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتب الأنبياء المتقدمين ، فإذا صارت أحواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية وجب الانقياد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا إنما يصح لو كان المراد بالنبيين أولادهم أو أممهم أو ميثاق النبيين من الأمم أو ميثاق الله من النبيين على تقدير كونهم أحياء. أقول والله أعلم : يحتمل أن يراد بقوله (ثُمَّ جاءَكُمْ)

١٩٩

المجيء في الزمان الماضي ، فيكون معنى الآية أن الله تعالى أخذ ميثاقه من كل نبي أوتي كتابا وحكمة أن يؤمن بكل رسول كان قد جاء قبله موافقا لما معه وينصر دينه بأن يظهر حقيته في وقته وأنه من عند الله سبحانه وأنه موافق له في أصول العقائد وفي قواعد مكارم الأخلاق ، فتكون هذه الآية تمهيدا لما يجيء بعد من قوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) الآية. (قالَ) الله أو كل نبي لأمته مستفهما بمعنى الأمر (أَأَقْرَرْتُمْ) بالإيمان به والنصرة؟ والإقرار في الشرع إخبار عن ثبوت حق سابق. وفي اللغة منقول بهمزة التعدية من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه. (وَأَخَذْتُمْ) أي قبلتم (عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) عهدي. والأخذ بمعنى القبول كثير قال تعالى : (لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة : ٤٨] أي لا يقبل. ويأخذ الصدقات أي يقبلها. سمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد. ثم بعد المطالبة بالإقرار أكد ذلك بالإشهاد وقال : (فَاشْهَدُوا) أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار. وفي قوله : (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وأنه لا يخفى عليه خافية ، تذكير لهم وتوكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض. وقيل : فاشهدوا خطاب للملائكة. وقيل : معناه ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه كقوله : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الأعراف : ١٧٢] وقيل : بينوا هذا الميثاق للخاص والعام حتى لا يبقى لأحد عذر في الجهل به. وأصله أن الشاهد هو الذي يبين تصديق الدعوى. وقيل : استيقنوا وكونوا كالمشاهد للشيء المعاين له ، أو يكون خطابا للأنبياء بأن يكونوا شاهدين على الأمم. ثم ضم الى التوكيد الوعيد بقوله : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق وصنوف التوكيد فلم يؤمن ولم ينصر (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن دين الله وطاعته ، ووعيد الفساق المردة معلوم. ثم وبخ من خرج من دين الله إلى غيره بإدخال همزة الاستفهام على الفاء العاطفة فقال : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) ويحتمل أن يراد أيتولون فغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون من قرأ بتاء الخطاب فيهما فلأن ما قبله خطاب في «أقررتم» و «أخذتم» أو للالتفات بعد قوله (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ومن قرأ بياء الغيبة فلرجوع الضمير في الأول إلى الفاسقين ، وفي الثاني إلى جميع المكلفين. والأصل أفتبتغون غير دين الله؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الحوادث إلا أنه قدم المفعول لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو فائدة الهمزة هاهنا متوجه إلى الدين الباطل. وعن ابن عباس أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم ، فكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل الفريقين بريء من دين إبراهيم. فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت. وعلى هذا تكون الآية كالمنقطعة عما قبلها ، ولكن

٢٠٠