تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

والشيطانية ، ظلمات بعضها فوق بعض ، دركات بعضها تحت بعض (أُولئِكَ) أي أرواح الكفار مع النفس والشيطان والأصنام أصحاب النار ، لأن الأرواح ، وإن لم تكن من جنسهم ولكن من تشبه بقوم فهو منهم. والله المستعان.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

القراآت : (رَبِّيَ الَّذِي) مرسلة الياء : حمزة. الباقون بالفتح. (أَنَا أُحْيِي) بالمد : أبو جعفر ونافع ، وكذلك ما أشبهها من المفتوحة والمضمومة ، وزاد أبو نشيط بالمد في المكسورة في قوله تعالى (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) [الأعراف : ١٨٨] وأشباه ذلك (مِائَةَ) وبابه مثل «فئة» وقد مر. (لَبِثَ) وبابه بالأظهار : ابن كثير ونافع وخلف وسهل ويعقوب (لَمْ يَتَسَنَّهْ) في الوصل والوقف بالهاء : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، لأن الهاء للسكت وهاء السكت تزاد للوقف. الباقون : بالهاء الساكنة في الحالين ، والهاء إما أصلية مجزومة بلم ، أو هاء سكت. وأجروا الوصل مجرى الوقف. (إِلى حِمارِكَ) كمثل الحمار بالإمالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون ، وحمدويه والنجاري عن ورش ، وابن ذكوان وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو بن شنبوذ عن أهل مكة. ننشرها بالراء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع. الباقون بالزاي. (قالَ أَعْلَمُ) موصولا والابتداء بكسر الهمزة على الأمر : حمزة وعلي. الباقون : مقطوعا والميم مضمومه على الإخبار. (فَصُرْهُنَ) بكسر الصاد : يزيد وحمزة وخلف ورويس والمفضّل ، (جُزْءاً) بتشديد الزاي : يزيد ووجهه أنه خفف بطرح همزته ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل

٢١

مجرى الوقف. وقرأ أبو بكر وحماد «جزءا» مثقلا مهموزا. الباقون : ساكنة الزاي مهموزة.

الوقوف : (الْمُلْكَ) م لأن إذ ليس بظرف لإيتاء الملك. (وَيُمِيتُ) (لا) لأن (قالَ) عامل ، إذ (وَأُمِيتُ) ط ، (كَفَرَ) ط ، (الظَّالِمِينَ) لا ، للعطف بأو التعجب. (عُرُوشِها) ج لأن ما بعده من تتمة كلام قبله من غير عطف. (مَوْتِها) ج لتمام المقول مع العطف بفاء الجواب والجزاء (بَعَثَهُ) ط. (كَمْ لَبِثْتَ) ط. (يَوْمٍ) ط. (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ج وإن اتفقت الجملتان لوقوع الحال المعترض بينهما ، ومن وصل حسن له الوقف على (حِمارِكَ) بإضمار ما يعطف عليه قوله (وَلِنَجْعَلَكَ) أي لتستيقن ولنجعلك ، ومن جعل الواو مقحمة لم يقف. (لَحْماً) ط لتمام البيان (لَهُ) (لا) لأن (قالَ) جواب لما. (قَدِيرٌ) ه (الْمَوْتى) ط (تُؤْمِنْ) ط. (قَلْبِي) ط. (سَعْياً) ط ، لاعتراض جواب الأمر (حَكِيمٌ).

التفسير : إنه سبحانه ذكر هاهنا قصصا ثلاثا ؛ أولاها في إثبات العلم بالصانع والباقيتان في إثبات البعث والنشور. فالقصة الأولى مناظرة إبراهيم ملك زمانه ، عن مجاهد أنه نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادّعى الربوبية والمحاجة المغالبة بالحجة. والضمير في «ربه» لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون ل «نمرود» ، والهاء في «أن آتاه» قيل لإبراهيم لأنه أقرب في الذكر ، ولأنه لا يجوز أن يؤتى الكافر الملك والتسليط ، ولأنه يناسب قوله (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤]. وقال جمهور المفسرين : الضمير لذلك الشخص الذي حاج إبراهيم ، ولا يبعد أن يعطي الله الكافر بسطة وسعة في الدنيا. ومعنى أن آتاه لله أي لأن أتاه الله الملك فأبطره وأورثه الكبر والعتو أو جعل محاجته في ربه شكرا له كقولك «عاداني فلان لأني أحسنت إليه» تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ويجوز أن يكون المعنى : حاج وقت أن آتاه. وعن مقاتل أن هذه المحاجة كانت حين ما كسر إبراهيم الأصنام وسجنه نمرود ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال : من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت. وهذا دليل في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة فلا بد أن يستند إلى مؤثر قادر مختار خبير بأجزاء الحيوان وأشكاله ، بصير بأعضائه وأحواله ، ولأمر ما ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه فقال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] و (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [غافر : ٦٧] (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات : ٢٠] ويروى أن الكافر دعا حينئذ شخصين فاستبقى أحدهما وقتل الآخر وقال : أنا أيضا أحيي وأميت. ثم للناس في هذا المقام طريقان : الأول وعليه أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه‌السلام لما رأى من

٢٢

نمرود أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر ومثال آخر أوضح من الأول فقال (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) قالوا : وفي هذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. وأورد عليه أن الشبهة إذا وقعت في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك الجهل واللبس. ولما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة ذلك واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب مع أن فيه إيهام أن كلامه الأول كان ضعيفا؟ ولئن سلمنا أن الانتقال من دليل إلى دليل حسن لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح. لكن الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس ، فإن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه. وأيضا دلالة الإحياء والإماتة على الحاجة إلى المؤثر القادر لكونهما من المتبدلات أقوى من دلالة طلوع الشمس لكون حركة الأفلاك على نهج واحد. وأيضا إن نمرود لما لم يستحي من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب. وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك وقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن يطلع الشمس من مغربها ، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام طلوع الشمس من المغرب ، فما الذي حمل إبراهيم على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك ، والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال ، وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب؟ ولما كانت هذه الاعتراضات واردة على الطريق الأول عدل بعض المحققين إلى طريق آخر وقالوا : إن إبراهيم عليه‌السلام لما احتج بالإحياء والإماتة قال المنكر : أتدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء أم بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية؟ أما الأول فلا سبيل إليه ، وأما الثاني فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر. فإن الجماع يفضي إلى الولد بتوسط الأسباب ، وتناول السم يفضي إلى الموت ، فأجاب إبراهيم عليه‌السلام بناء على معتقدهم ، وكانوا أصحاب تنجيم ـ بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن الحركات والاتصالات لا بد لها من فاعل ومدبر ، وليس ذلك هو البشر فإنه لا قدرة لهم على الفلكيات ، فهي إذن بتحريك رب الأرض والسموات. قلت : وفيه أيضا طريق آخر نذكره في التأويلات إن شاء الله تعالى. (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) يقال : بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير ، وبهت بالضم مثله. وقد قرىء بهما وأفصح منهما القراءة المشهورة فبهت على البناء للمفعول لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال

٢٣

باهت ولا بهيت قاله الكسائي. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فلهذا لم ينفعه الدليل وإن بلغ في الظهور إلى حيث صار المبطل مبهوتا محجوجا ، فيعلم منه أن الكل بقضاء الله وقدره وبمشيئته وإرادته.

القصة الثانية قوله سبحانه (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ذهب الكسائي والفراء والفارسي وأكثر النحويين إلى أنه معطوف على المعنى ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر ، ونظيره من القرآن (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون : ٨٤ ، ٨٥] ثم قال (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون : ١٨٦ ، ١٨٧] فهذا عطف على المعنى كأنه قيل : لمن السموات؟ فقيل : لله. ومثله قول الشاعر :

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وعن الأخفش : أن الكاف زائدة والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، أو إلى الذي مر. وعن المبرد : أنا نضمر الفعل في الثاني والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إلى إبراهيم أو ألم تر إلى مثل الذي مر. واختلف في المار بالقرية فعن مجاهد وعليه أكثر المفسرين من المعتزلة أن المار كان رجلا كافرا. شاكا في البعث لأن قوله (أَنَّى يُحْيِي) استبعاد وإنه لا يليق بالمؤمن ، ولأنه تعالى قال في حقه (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) وفيه دليل على أن ذلك التبين لم يكن حاصلا قبل ذلك. وكذا قوله (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وذهب سائر المفسرين إلى أنه كان مسلما ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس هو أرميا. ثم من هؤلاء من قال : إن أرميا هو الخضر عليه‌السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران وهذا قول محمد بن إسحق. وقال وهب بن منبه : إن أرميا هو النبي الذي بعثه الله عند ما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة. وقيل : هو عزير على ما يجيء. حجة هؤلاء أن قوله (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) يدل على أنه كان عالما بالله ، وبأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، والاستبعاد إنما هو في القرية المخصوصة. وأيضا قد شرفه الله تعالى بالتكلم في قوله (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) وفي قوله (وَانْظُرْ وَلِنَجْعَلَكَ) وفي نفس قصته من الإعادة وغيرها إكرام له أيضا. روي عن ابن عباس أن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير ـ ومنهم عزير وكان من علمائهم ـ فجاء بهم إلى بابل. فدخل عزير تلك القرية ونزل تحت ظل شجرة وربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحدا ، فعجب من ذلك وقال (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) أي من أين يتوقع عمارتها؟ لا على

٢٤

سبيل الشك في القدرة ، بل بسبب اطراد العادة في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معمورا. وكانت الأشجار مثمرة فتناول منها التين والعنب وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عنه في موته أبصار الإنس والطير والسباع ، ثم أحياه بعد المائة ونودي من السماء يا عزير (كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ : لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قالَ : بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) من التين والعنب (وَشَرابِكَ) من العصير لم يتغير. فنظر فإذا التين والعنب كما شاهد. ثم قال (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) فنظر فإذا عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله. فسمع صوتا : أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحا فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به ، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب ، ثم العروق ، ثم انبسط اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور من الجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخر عزير ساجدا فقال (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرحيا مات ببابل ، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفا من قراء التوراة وكان فيهم عزير. والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفا. وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورضت بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله. وعن وهب وقتادة وعكرمة والربيع أن القرية إيليا وهو بيت المقدس. وقال ابن زيد : هي القرية التي خرجت منها الألوف حذر الموت. ومعنى قوله (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ساقطة على سقوفها من خوى النجم إذا سقط. والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب ، كان حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة ، وهذا من أحسن ما يوصف به خراب المنازل. ويحتمل أن يكون من خوى المنزل إذا خلا عن أهله ، وخوى بطن الحامل. «وعلى» بمعنى «عن» أي خاوية عن عروشها ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع بقاء عروشها وسلامتها. قال في الكشاف : ويجوز أن يكون (عَلى عُرُوشِها) خبرا بعد خبر كأنه قيل : هي خالية وهي على عروشها أي هي قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان بحالها فيه مشرفة على السقوف الساقطة ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة ، وكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية أن يبطل ما فيها من عروش الفواكه (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) لأن الإحياء بعد مدة طويلة أغرب فيكون أدخل في كونه آية (ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه كما كان أوّلا عاقلا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال أحياه لم

٢٥

تحصل هذه الفوائد. (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) أي كم مدة؟ فحذف المميز. والحكمة في السؤال هو التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق وإلا فمن المعلوم أن الميت لا يمكنه بعد أن صار حيا أن يعلم أن مدة موته طويلة أو قصيرة (قالَ) بناء على الظن لا بطريق الكذب (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غروب الشمس. فقال قبل النظر إلى الشمس : يوما. ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم. والظاهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت بأمارات شاهدها في نفسه وفي حماره (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتغير. وأصله من السنة أي لم يأت عليه السنون لأن مرّ السنين إذا لم يغيره فكأنها لم تأت عليه. وعلى هذا فالهاء إما للسكت بناء على أن أصل سنة سنوة بدليل سنوات في الجمع وسنية في التحقير ، وقولهم «سانيت الرجل مساناة» إذا عامله سنة. وإما أصلية على أن نقصان سنة هو الهاء بدليل سنيهة في التصغير ، وقولهم «أجرت الدار مسانهة». وقيل : أصله لم يتسنن إما من السن وهو التغير قال تعالى (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦] أي متغير منتن. وإما من السنة أيضا بناء على ما نقل الواحدي من أن أصل سنة يجوز أن يكون سننة بدليل سنينة في تحقيرها وإن كان قليلا. وعلى التقديرين أبدلت النون الأخيرة ياء مثل تقضي الباري في تقضض. ثم حذفت الياء للجزم وزيدت هاء السكت في الوقف. وعن أبي علي الفارسي أن السن هو الصب فقوله «لم يتسن» أي الشراب بقي بحاله لم ينصب. فعلى هذا يكون قوله (لَمْ يَتَسَنَّهْ) عائدا إلى الشراب وحده ، ويوافقه قراءة ابن مسعود فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن وأما على سائر الأقوال فيكون عدم التغير صالحا لأن يعود إلى الطعام وإلى الشراب جميعا. فإن قيل : إنه تعالى لما قال (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك ، ولكن قوله (فَانْظُرْ) يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يوما أو بعض يوم. فالجواب أن الشبهة كلما كانت أقوى كان الاشتياق إلى الدليل الكاشف عنها أشد ولهذا قيل : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) فرآه عظاما نخرة فعظم تعجبه حيث رأى ما يسرع إليه التغير وهو الطعام والشراب باقيا ، وما يمكن أن يبقى زمانا طويلا وهو الحمار غير باق فعرف طول مدة لبثه بأن شاهد عظام حماره رميما. وهذا بالحقيقة لا يدل بذاته لأن القادر على إحياء الحيوان قادر على إماتته وجعل عظامه نخرة في الحال ، ولكن انقلاب عظام الحمار إلى حالة الحياة كانت معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ). (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً) قال الضحاك : معناه أنه جعله دليلا على صحة البعث. وقال غيره : كان آية (لِلنَّاسِ) لأن الله تعالى بعثه شابا أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والمفارق. وقيل : إنه كان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه فذلك كونه آية. وقيل : إن حماره لم يمت. والمراد وانظر إلى حمارك سالما في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة

٢٦

عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير ، وأما فائدة الواو في قوله (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) فقد قال الفراء : فإنما دخلت لنية فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطا وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام. بل المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء. ومثله في القرآن كثير (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام : ١٠٥] (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥] وانظر إلى العظام كيف ننشرها بالراء المهملة أي كيف نحييها. وقرىء كيف ننشرها من نشر الله الموتى بمعنى أنشرهم. ويحتمل أن يكون من النشر ضد الطي فإن الحياة تكون بالانبساط. وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩] ومن قرأ بالزاء فمعناه نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب. والنشز ما ارتفع من الأرض ومنه نشوز المرأة لأنها ترتفع عن حد رضا الزوج. «وكيف» في موضع الحال من العظام والعامل فيه «ننشرها» لا «انظر» لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. ثم أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، وأن اللام فيه بدل من الكناية. وعن قتادة والربيع وابن زيد : أن العظام عظام هذا الرجل نفسه. قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاما نخرة وكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفا كما ربطه ، وزيف بأن قوله (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) إنما يليق بمن لا يرى في نفسه أثر التغير لا بمن شاهد أجزاء بدنه متفرقة وعظامه رميمة. وأيضا قوله (ثُمَّ بَعَثَهُ) يدل على أن المبعوث هو تلك الجملة التي أماتها ، وقيل : هي عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وفاعل تبين مضمر تقديره (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أن الله على كل شيء قدير (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فخذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قوله «ضربني وضربت زيدا» أو التقدير : فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر الإماتة والإحياء قال أعلم. وتأويله إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك استدلالا. ومن قرأ (أَعْلَمُ) على لفظ الأمر فمعناه أنه عند التبين أمر نفسه بذلك ، والله تعالى أمره بذلك كما في آخر قصة إبراهيم (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال القاضي : القراءة الأولى أولى لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) فلا يحسن الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك. أما الإخبار عن أنه حصل فجائز. قلت : ليس هذا من باب الأمر بتحصيل الحاصل ، وإنما الأمر فيه عائد إلى شيء آخر غير حاصل وهو عدم التعجب من إيجاد سائر الممكنات البعيدة ، فإن من قدر

٢٧

على إيجاد أمر مستبعد الحصول كان قادرا على نظائره من الغرائب والعجائب لا محالة ، ولهذا أوردت القضية كلية. نعم لو قيل : اعلم أن الله قادر على إحياء الموتى لأشبه أن يكون أمرا بتحصيل الحاصل ، على أن ذلك أيضا ممنوع فإن الأمر حينئذ يعود إلى شيء آخر غير حاصل هو عدم الشك فيما يستأنف من الزمان أي لتكن هذه الآية على ذكر منك كيلا يعترض لك شك فيما بعد ، وذلك كقولك للمتحرك «تحرك» أي واظب على الحركة ولا تفتر. وليت شعري كيف يطعن بعض العلماء في بعض القراآت السبع مع ثبوت التواتر وكونها كلها كلام الحكيم العليم تقدس وتعالى؟

القصة الثالثة قوله عم طوله (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) التقدير : واذكر وقت قول إبراهيم. وقيل : معطوف على قوله (إِلَى الَّذِي) أي ألم تر إلى وقت قول إبراهيم. وهاهنا دقيقة وهي أنه لم يسم عزيرا في قصته بل قال (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) وهاهنا سمى إبراهيم لأن عزيرا لم يحفظ الأدب بل قال ابتداء (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وإبراهيم أثنى على الله أولا بقوله (رَبِّ أَرِنِي) وأيضا إن عزيرا استبعد الإحياء فأرى ذلك في نفسه ، وإبراهيم التمس ودعا بقول (أَرِنِي) فأرى ذلك في غيره. ومعنى أرني بصرني. وذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوها. الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج : إنه رأى جيفة مطروحة على شط النهر ، فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت ، فإذا أكل السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : رب أرني كيف تجمع أجزاء هذا الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر. فقيل : أو لم تؤمن؟ قال : بلى. ولكن المطلوب بالسؤال أن يصير العلم الاستدلالي ضروريا. الثاني : قال محمد بن إسحق والقاضي : إنه في مناظرته مع نمرود لما قال ربي الذي يحيي ويميت قال الكافر أنا أحيي وأميت فأطلق محبوسا وقتل آخر فقال إبراهيم : ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) لتنكشف هذه المسألة عند نمرود وأتباعه ، ويزول الإنكار عن قلوبهم. وروي أن نمرود قال له : قل لربك يحيي وإلا قتلتك ، فسأل الله ذلك ، وقوله (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي بنجاتي من القتل ، أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني ، وأن عدو لي إلى غيرها كان بسبب جهل المستمع. الثالث : عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أوحى إليه أني أتخذ بشرا خليلا ، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه‌السلام وقال : إلهي ، ما علامة ذلك؟ فقال : علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه‌السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله أني لعلي أكون ذلك الخليل. فسأل الله إحياء الموتى فقال الله : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي على أني خليل

٢٨

لك. الرابع : لا يبعد أن يقال : إنه لما جاء الملك إلى ابراهيم وأخبره بأن الله بعثك رسولا إلى الخلق طلب المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم. الخامس : لعله طالع في الصحف المنزلة عليه أن الله تعالى يحيي الموتى بدعاء عيسى ، فطلب ذلك ليطمئن قلبه أنه ليس أقل منزلة عند الله من عيسى وأنه من أولاده. السادس : أمر بذبح الولد فسارع إلى ذلك فقال : إلهي ، أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح فامتثلت فشرفني بأن تجعل بدعائي فاقد الروح ذا روح. السابع : أراد أن يخصصه الله بهذا التشريف في الدنيا بأن جميع الخلائق يشاهدون الحشر في الآخرة. الثامن : لعل إبراهيم لم يقصد إحياء الموتى بل قصد سماع الكلام بلا واسطة. وأما أن إبراهيم عليه‌السلام كان شاكا في المعاد فلا ينبغي أن يعتقد فيه ، ومن كفر النبي المعصوم فهو بالكفر أولى وكيف يظن ذلك بإبراهيم عليه‌السلام وقوله (بَلى) اعتراف بالإيمان ، وقوله (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) كلام عارف طالب لمزيد اليقين. والشك في قدرة الله يوجب الشك في نبوّة نفسه ، والذي جاء في الحديث من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» (١) فذلك أنه لما نزلت هذه الآية قال بعض من سمعها : شك إبراهيم ولم يشك نبينا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه «نحن أحق بالشك منه» (٢) والمعنى أننا لم نشك ونحن دونه ، فكيف يشك هو؟ والاستفهام في قوله (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) للتقرير كقوله : ألستم خير من ركب المطايا؟ وأيضا المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مؤمنا بذلك عارفا به ، وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر. واللام في قوله (لِيَطْمَئِنَ) تتعلق بمحذوف أي ولكن سألت ليزيد قلبي سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال. وقد تعرض الخواطر للمستدل بخلاف المعاين ، هذا إذا قلنا : المطلوب حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أما إذا قلنا : إن الغرض شيء آخر فلا إشكال (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) عن ابن عباس : هنّ طاوس ونسر وغراب وديك. وفي قول مجاهد وابن زيد : حمامة بدل النسر (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد وكسرها من صاره يصوره ويصيره أي أملهن وضمهن إليك. وقال الأخفش : يعني وجههنّ إليك. وفائدة أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها أن يتأملها ويعرف أشكالها وهيئتها وحلاها كيلا تلتبس بعد الإحياء ، ولا يتوهم أنها غير تلك. وفي الآية حذف كأنه قبل أملهن وقطعهن (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وقيل : معنى صرهن قطعهن فلا إضمار. روي أنه أمر بذبحها ونتف ريشها وأن يقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط

__________________

(١ ، ٢) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١١. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٣٨. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٢٣. أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٦).

٢٩

ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال التي بحضرته وفي أرضه على كل جبل ربعا من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله. فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها. وأنكر أبو مسلم هذه القصة وقال : إن إبراهيم عليه‌السلام لما طلب إحياء الموتى من الله أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه. والمراد ب (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) الإمالة والتمرين على الإجابة أي قعود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة ، والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، ويؤكده قوله (ثُمَّ ادْعُهُنَ) أي الطيور لا الأجزاء (يَأْتِينَكَ سَعْياً) وزيف قول أبي مسلم بأنه خلاف إجماع المفسرين ، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم فلا يلزم له مزية. وأيضا إن ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ما سأل ، وعلى قوله لا تكون الإجابة حاصلة. ولأن قوله (عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) دليل ظاهر على تجزئة الطيور وحمل الجزء على أحد الطيور الأربعة بعيد ، ثم ظاهر قوله (عَلى كُلِّ جَبَلٍ) جميع جبال الدنيا. فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل : فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع : أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة والجهات الأربع. وقال السدي وابن جريج : المراد كل جبل كان يشاهده إبراهيم وكانت سبعة. أما قوله (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) فقيل : عدوا ومشيا على أرجلهنّ لأن ذلك أبلغ في الحجة ، وقيل : طيرانا. ورد بأنه لا يقال للطير إذا طار سعى. وأجيب بأن السعي هو الاشتداد في الحركة مشيا كانت أو طيرانا ، واحتج الأصحاب بالآية على أن البنية ليست شرطا في صحة الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو. قال القاضي : دلت الآية على أنه لا بد من البنية من حيث إنه أوجب التقطيع بطلان حياتها ، والجواب أن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فيدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ، ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء حال تفرقها كان دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة. (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على جميع الممكنات (حَكِيمٌ) عالم بعواقب الأمور وغايات الأشياء.

التأويل : إن الله تعالى لما أعطى نمرود ملكا ما أعطى أحدا قبله ادّعى الربوبية وما ادّعاها أحد قبله. وسبب ذلك أن الإنسان لحسن استعداده للطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال لا يتوقف لحظة إلا لمانع ، ولكنه جبل ظلوما جهولا ، فمتى وكل إلى نفسه مال إلى عالم الحس ، موافقا لسيره الطبيعي لأنه خلق من تراب وطبعه الميل

٣٠

إلى السفل فيرى الكمال في جمع المال ثم في طلب الجاه فيصرف المال فيه ثم في الحكم والتسلط. فإذا ملك السفليات بأسرها وقهر ملوك الأرض أراد أن ينازع ملك الملوك وجبار الجبابرة فيقول : أنا أحيي وأميت ، وليس للعالم رب إلا أنا جهلا بالكمال وذلك عند فساد جوهره وبطلان استعداده ، كما أنه إذا صلح جوهره بحسن تربية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من ينوب منابه ـ وهو الشيخ ـ قال : ليس في الوجود سوى الله. وهذا هو حقيقة (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩] يعني كن فانيا عن وجودك بالكلية ، واستغفر لذنب حسبان وجود غير وجوده فافهم جدا وإن لم تكن مجدا ، فإن المجد من يدق بمطرقة «لا إله إلا الله» دماغ نمرود النفس إلى أن يؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده كل ما سوى الله. (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) اعتراض على قول الكافر أنا أحيي وأميت ، والمراد أن إرسال النفس الناطقة لتدبير البدن اطلاع شمس الحياة من أفق البدن ، فإن كنت صادقا في دعواك أن هذا يتأتى منك فأمسكها عندك وهو الإتيان بالشمس من مغربها ، وأنه آية القيامة من مات فقد قامت قيامته. (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) لأنه إن أمكنه أن يدعي الإحياء بمعنى الإبقاء وهو اطلاع الشمس من المشرق ، فلن يمكنه أن يدعي الإماتة بمعنى قبض الروح من غير آلة القتل وهو الإتيان بالشمس من المغرب ، فهذه طريقة لا يرد عليها شيء من الاعتراضات المذكورة في التفسير. ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعي في حجته عقيب الدعوى بقوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) وذلك أن قوما أنكروا حشر الأجساد بعد اعترافهم بحشر الأرواح ، وزعموا أن الأرواح إذا خرجت من سجن الأشباح وتقوت بالعلوم الكلية التي استفادتها من عالم الحس فما حاجتها أن ترجع إلى السجن والقيد ، كما أن الصبي إذا استفاد العلوم في المكتب وكبر قدره وعظم وقعه لم يحتج إلى أن يرجع إلى المكتب وحال صباه ، فهو سبحانه لكمال فضله ورأفته دفع هذه التسويلات النفسية ورفع هذه الشبهات الفلسفية بأن أمات عزيرا مائة سنة وحماره معه ثم أحياهما جميعا ليعلم أن الله تعالى مهما أحيا عزير الروح أحيا معه حمار الجسد ، وكما أن عزير الروح يكون عند الملك الجبار يكون حمار الجسد في جنات تجري من تحتها الأنهار. فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلي صفات الجلال والجمال (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الدهر : ٢١] «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) ولحمار الجسد مرتع من

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب ٩. مسلم في كتاب الصيام حديث ٥٧. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣ / ٨) ، (٦ / ١٢٦).

٣١

الرياض ومشرب من الحياض (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١] و (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة : ٦٠].

شربنا وأهرقنا على الأرض قسطها

وللأرض من كأس الكرام نصيب

ثم أكد حديث الحشر بقصة عن خليله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك قوله (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فيفوح منه رائحة قول موسى (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] إلا أن موسى لم يحفظ الأدب في الطلب فما رأى غير النصب والتعب ، وأدب بتأديب الخاطئ الجاني ، وعرك بتعريك (لَنْ تَرانِي) وذلك أنه كان صاحب شرب وكان الخليل صاحب ري ، وصاحب الشرب سكران ، وصاحب الري صاح.

شربت الحب كأسا بعد كأس

فما نفذ الشراب وما رويت

فلسكر موسى كان يبسط تارة مع الحق بقوله (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ويعربد أخرى بقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) [الأعراف : ١٥٥] ومن كمال صحو الخليل ما زل قدمه في أدب من آداب العبودية في الحضور والغيبة فلا جرم أكرم اليوم بكرامة الشيبة «إن أول ما شاب شيبة إبراهيم» ويحترم غدا بالكسوة «إن أول من يكسى إبراهيم» (١) ولما ابتلي في ماله فبذل للضيفان وابتلي في ولده فأسلم وتله للجبين وابتلي في نفسه فاستسلم لمنجنيق ابن كنعان ، وابتلي بجبرائيل فقال : أما إليك فلا. لا جرم أكرمه الله بالإمامة (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] ومن إمامته أنه كان أول من دق باب طلب الحق وقال (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] وأول من سلك طريق الحق وقال (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٦٩] وأول من نطق بالمحبة وقال (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦] وأول من أظهر الشوق وقال (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [الأنعام : ٧٨] وأول من أظهر العداوة مع غير المحبوب (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧] وأول من اشتاق فسأل الرؤية وقال (رَبِّ أَرِنِي) ولا تظن أن اشتياقه إلى الرب إنما كان وقت سؤاله.

ولست حديث العهد شوقا ولوعة

حديث هواكم في حشاي قديم

ولكنه من حفظ آداب الإجلال كان لا يفتح على نفسه باب السؤال ، ويقول حسبي من سؤالي علمه بحالي إلى أن ساقه التقدير إلى حسن التدبير. وسأله نمرود من ربك؟ فأجرى

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٨ ، ٤٨ ، مسلم في كتاب الجنّة حديث ٥٨. الترمذي في كتاب القيامة باب ٣. النسائي في كتاب الجنائز باب ١١٨. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٨٠.

٣٢

الحق على لسانه من فضله وإحسانه (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فقال نمرود : هل رأيت منه ما تقول؟ فوجد الخليل فرصة للمأمول فأدرج في السؤال السول فأخفى سره وهو أدنى في علنه وهو (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى. فأول باب فتح عليه من مقصوده أن أسمعه من كلامه بفضله وجوده. و (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) فكان في هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة معان مضمرة : أو لم تؤمن وقت ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت فما كان إيمانك حقيقا؟ أو لم تؤمن لميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة؟ أو لم تؤمن بما طلبت من الإحياء؟ مضمرا في كل منها الإثبات في لفظة النفي. فأجاب الخليل عن الاستفهامات الثلاثة ببلى سرا بسر أي بلى آمنت. وكان إيمانا حقيقيا ولكن ما كان مقصودي الإيمان والإيقان فإنه حاصل ، ولا إحياء الموتى فإني فارغ من الموتى وإحيائهم ، ولكني سألت ليطمئن قلبي بما تريد ، أو بلى آمنت بميعاد رؤيتك في الجنة ولكن ليطمئن قلبي برؤيتك ، فإنه كلما ازداد اليقين ازداد الشوق فاضطراب قلبي من غاية يقيني ، أو بلى آمنت بقدرتك على الإحياء ولكن ما سألتك عن الإحياء وإنما سألتك عن كيفية الإحياء ، ففي ضمن ذلك يحصل مقصودي كما أن من له معشوق خياط وهو يريد مشاهدة معشوقه ويحتشم أن يقول : أرني وجهك لأنظر إليك. لأنه يعلم أن الدلال قرين الجمال ، وأن العزة والحسن توأمان : وفي مذهب الملاح الطلب رد والسبيل سد فيقول : أرني كيف تخيط الثياب؟ فكل صانع فاخر في صنعته يريد أن يرى جودة عمله فيحضر المعشوق عنده بلا حجاب وهو يخيط الثوب فيقول : انظر إليّ كيف أخيطه؟ فالعاشق ينظر بعلة الصنع إلى الصانع ويحظى منه بلا مانع ودافع ويطمئن قلبه بذلك. فالخليل لما اعتذر عن الجليل من اضطراب قلبه واضطرار حاله وتضرع بين يدي مولاه ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه حقق رجاءه وقال (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) الآية. والمراد أنك محجوب بك عني فبحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب ، وبحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع ، فمهما تموت عن صفاتك تحيا بصفاتي ، فإذا فنيت عن ذاتك بقيت ببقاء ذاتي (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) وهي الصفات الأربع التي تولدت من العناصر الأربعة التي خمرت طينة الإنسان منها فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان : فمن التراب وقرينها وهو الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان يوجدان معا ، ومن النار وقرينها وهو الهواء تولد الغضب والشهوة ، ولكل واحدة من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن إليها. فالحرص زوجه الحسد ، والبخل زوجه الحقد ، والغضب زوجه الكبر ، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات فتعلق بها كل صفة ، فهن الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر : ٤٤] يعني من الخلق. فمن كان الغالب عليه صفة منها دخل النار من

٣٣

ذلك الباب ، فأمر الله تعالى خليله بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة ، طاوس البخل فلو لم يزين المال في نظر البخيل ما بخل به ، وغراب الحرص وبكوره من حرصه ، وديك الشهوة ، ونسر الغضب لترفعه في الطيران وهذه صفة المغضب. فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقي له باب يدخل به النار فصارت النار عليه لما ألقي فيها بردا وسلاما. والمبالغة في تقطيعها ونتف ريشها وخلط أجزائها إشارة إلى محو آثار الصفات المذكورة وهدم قواعدها علي يدي إبراهيم الروح بأمر الشرع (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ) هي الجبال الأربعة التي جبل الإنسان عليها : النفس النامية وهي النباتية ، والأرواح الثلاثة الحيواني والطبيعي والإنسان الملكي. فهذه الجبال كالأشجار والزروع ، وأجزاء الطيور كالتراب المخلوط بالزبل يجعل على الزروع فيتقوى كل واحد من هؤلاء بقوّة واحد من أولئك ، ويتربى بتربيتها ويتصرف فيها الروح الإنساني فيحييها بنور هو من خصائص أرواح الإنسان ، فتكون تلك الصفات ميتة عن أوصافها حية بأخلاق الروحانيات. هذا لخواص الخلق الذي الغالب على أحوالهم الروح ، وأما خواص الخواص ومن أدركته العناية كالخليل ، فالله تعالى بعد خمود هذه الصفات يتجلى له بصفته المحيي فيحيي هذه الصفات الفانية عن أوصافها بنور صفته المحيية فيكون العبد في تلك الحالة حيا بحياته محييا بصفاته كما قال «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش» (١) كما أن أميا يقول لكاتب : أرني كيف تكتب. فيجعل الكاتب قلمه في يد الأمي ويأخذ يده بيده ويكتب فتظهر الكتابة من يدي الأمي على الصحيفة ، ففي تلك الحالة يظن الأمي أنه صار كاتبا فيقول أنا الكاتب كقوله :

عجبت منك ومني

أفنيتني بك عني

أدنيتني منك حتى

ظننت أنك أني

فإذا رفع الكاتب يده عن يد الأمي فيعلم الأمي أنه أمي والكاتب هو الكاتب فيستغفر عن ذنب حسبانه أنه هو الكاتب وإليه الإشارة بقوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩] أي ذنب حسبان أنك كاتب وأنت نبي أمي عربي ما وصلت إلى ما وصلت إلا بفضلنا (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء : ١١٣] ثم إن الله تعالى إن تجلى لخليله بصفة واحدة وهي صفة المحيي ليريه آية من آياته وهي كيفية الإحياء ، فقد تجلى لحبيبه بجميع صفاته ليلة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣٨. أحمد في مسنده (٦ / ٢٥٦).

٣٤

المعراج كما قال (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم : ١٨] والخليل طلب الرؤية لنفسه (رَبِّ أَرِنِي) والحبيب طلبها له ولأمته «أرنا الأشياء كما هي» وذلك لعلو مرتبته وهمته ورفعته وكمال معرفته ، فلعلو همته قال : أرنا. ولرفعة مرتبته قال : الأشياء كما هي ، فإن فيه مع رعاية الأدب إخفاء المقصود. فكان قول الخليل بالنسبة إلى هذا تصريحا وإن كان بالنسبة إلى قول الكليم تعريضا. وفيه أيضا طلب كمال الرؤية يجميع الصفات فإن جميعها داخلة في الأشياء ، ولكمال معرفته طلب رؤية الماهية فقال «كما هي» وهذا هو الملك الحقيقي الذي لا يكتنه كنهه. ثم قيل للخليل (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أعز من أن يعرف كنه صفاته (حَكِيمٌ) لا يطلع على أسراره إلا من يليق بذلك من مخلوقاته.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

القراآت : (أَنْبَتَتْ سَبْعَ) وبابه بالإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل. (يُضاعِفُ) وبابه : ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب. الباقون (يُضاعِفُ رِئاءَ النَّاسِ) غير مهموز حيث كان يزيد والشموني والخزاعي عن ابن فليح وحمزة في الوقف. الباقون بالهمزة. (الْكافِرِينَ) بالإمالة : أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه ورويس عن يعقوب ، وكذلك ما كان محله النصب من الإعراب كل القرآن (بِرَبْوَةٍ) بفتح الراء حيث كان ابن عامر وعاصم. الباقون بضمها (أُكُلَها) وبابه ساكنة الكاف : ابن كثير ونافع وافق أبو عمرو فيما اتصلت بالهاء والألف (بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) بالياء التحتانية : أبو

٣٥

عون عن قنبل. الباقون بالتاء للخطاب.

الوقوف : (مِائَةُ حَبَّةٍ) ط ، (لِمَنْ يَشاءُ) ط ، (عَلِيمٌ) ه ، (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ج لعطف المختلفتين ، (يَحْزَنُونَ) ه ، (أَذىً) ط (حَلِيمٌ) ه ، (وَالْأَذى) (لا) لتعلق كاف التشبيه أي إبطالا مثل إبطال الذي ، (الْآخِرِ) ط ، (صَلْداً) ط ، (كَسَبُوا) ط ، (الْكافِرِينَ) ه ، (ضِعْفَيْنِ) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب واتحاد الكلام ، (فَطَلٌ) ط ، (بَصِيرٌ) ه ، (الْأَنْهارُ) (لا) لأن ما بعده صفة لجنة أيضا ، (الثَّمَراتِ) (لا) لأن الواو وللحال ، (ضُعَفاءُ) ص والوصل أولى والوقف على (فَاحْتَرَقَتْ) ط لتناهي مقصود الاستفهام والمعنى : أيحب أحدكم احتراق جنة صفتها كذا في حال كذا؟ (تَتَفَكَّرُونَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من أصول المبدأ والمعاد ما اقتضاه المقام أتبعه ببيان التكاليف والأحكام. قال القاضي في كيفية النظم : إنه تعالى لما أجمل فى قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] ، فصلّ بعد ذلك بهذه الآية تلك الأضعاف. وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته على الإحياء والإماتة لأنه لو لا وجود الإله المثيب المعاقب بعد الحشر لكان التكليف بالإنفاق وسائر الطاعات عبثا كأنه قال : قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمي عليك بالإحياء والإقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة ، فليكن علمك بهذه الأصول داعيا إلى إنفاق الأموال فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثم ضرب لذلك الكثير مثلا وهو من الواحد إلى سبعمائة. وعن الأصم أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد ما احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته. وقيل : إنه تعالى لما بين أنه وليّ المؤمنين ، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت ، بيّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت. قلت : لما بين صحة المعاد ولا بد له من زاد ولا يمكن التزود من الأموال التي يمتلكها العباد إلا بالإنفاق ، أتبعه أحكامه فقال (مَثَلُ الَّذِينَ) ولا بد من إضمار ليصح التشبيه أي مثل صدقاتهم كمثل حبة أو مثلهم باذر حبة. وسبيل الله دينه. فقيل الجهاد ، وقيل جميع أبواب الخير. والمنبت هو الله ، ولكن الحبة لما كنت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقا يتشعب منها سبع شعب لكل واحد سنبلة. وهذا التمثيل تصوير للأضعاف سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم توجد ، على أنه قد يوجد في الجاورس والذرة غيرهما مثل ذلك. وسبع سنابل مثل ثلاثة قروء في إقامة جمع الكثرة مقام القلة. (وَاللهُ يُضاعِفُ) أي تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين في الإخلاص ، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافها

٣٦

لمن يستحق ذلك في مشيئته. (وَاللهُ واسِعٌ) كامل القدرة على المجازاة لأن فيضه غير متناه (عَلِيمٌ) بمقادير الإنفاقات وبمواقعها ومصارفها بإخلاص صاحبها ، وإذا كان الأمر كذلك فلن يضيع عمل عامل له عنده. ثم لما عظم أمر الإنفاق أردف ببيان الأمور التي يجب رعايتها حتى يبقى ذلك الثواب منها : ترك المن والأذى ، والمنّ قد يراد به الإنعام قال تعالى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] وقد يراد به إظهار الاصطناع وهو مذموم ولهذا قيل : صنوان من منح سائله ومنّ ومنع نائله وضنّ. وذلك لما فيه من انكسار قلب الفقير ، ومن تنفير ذوي الحاجة عن صدقته ، ومن عدم الاعتراف بأن النعمة نعمة الله والعباد عباده ، وأن المعطي هو الله. وإذا كان العبد في هذه الدرجة كان محروما عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقية ، وكان في درجة البهائم التي لا يترقى نظرهن من المحسوس إلى المعقول ، ومن الآثار إلى المؤثرات. وأما الأذى فمنهم من حمله على أذى المؤمنين على الإطلاق ، والمحققون خصصوه بما تقدم ذكره وهو أن يتطاول على الفقير بما أدلى إليه ويقول له : الست إلا مبرما وما أنت إلا ثقيل ، وباعد الله ما بيني وبينك. ومعنى «ثم» تراخي الرتبة وإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق بل ترك كل منهما لأنهما نكرتان في سياق النفي (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) وقال فيما يجيء (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) [البقرة : ٢٧٤] لأن الموصول هاهنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة ، وفرق معنوي وهو إن الفاء دلالة على أن الإنفاق سبب استحقاق الأجر وطرحها عار عن تلك الدلالة. ثم إنه ذكر هنالك الإنفاق منهم على سبيل المواظبة والاستمرار فكان التأكيد بما يوجب الربط بينهما ما هنالك أنسب. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يخافون فوات ثواب الإنفاق. ولا يحزنون بالفوات كقوله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه : ١١٢] والمراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ولا يحزنهم الفزع الأكبر. ويعلم من قوله (فِي سَبِيلِ اللهِ) أن قوله (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) مشروط بأن لا يوجد منهم الكفر ، ويعلم من قوله (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ) أن المن والأذى من قبيل الكبائر حيث يخرجان هذه الطاعة العظيمة عن الاعتداد بها. احتجت المعتزلة بالآية من وجهين : الأول أن العمل يوجب الأجر لقوله (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) وأجيب بأن ذلك بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل. الثاني أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وإلا لم يكن المن والأذى مبطلين ثواب الإنفاق ، وأجيب بأن الإنفاق على تقدير المن والأذى لا ثواب له أصلا ، فكيف يتصور رفع ما لم يوجد؟ (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) تقبله القلوب ولا تنكره وذلك أن يرد السائل بطريق أحسن وعدة حسنة (وَمَغْفِرَةٌ) عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسئول لأنه إذا رد بغير مقصوده فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل أو عفو من

٣٧

جهة السائل بأن يعذر المسئول إذا رده ردا جميلا (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) لأنه إذا أتبع الإيذاء الإعطاء فقد جمع بين الإنفاع والإضرار ، وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر. وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إيصال السرور إلى قلب المؤمن ولا إضرار ، فكان الأولى (وَمِنَ النَّاسِ) الناس من خصص الآية بالتطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل فيه. ورد بأن الواجب قد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقة كل منفق ، فما وجه المن؟ (حَلِيمٌ) عن معاجلته بالعقوبة إذا منّ ، ولا يخفى ما فيه من الوعيد. ثم إنه تعالى ضرب لكل واحد من المؤذي وغير المؤذي مثلا فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) وعن ابن عباس : بالمن على الله والأذى للفقير ، (كَالَّذِي) أي كإبطال المنافق الذي (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) وهو أن يرائي بعمله غيره ولا يريد رضا الله وثواب الآخرة ، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين للذي ينفق ، فمثله الضمير إما أن يكون عائدا إلى المنافق على أنه تعالى شبه المانّ بالمرائي المنافق ، ثم شبه المنافق بالحجر. وإما أن يعود إلى المانّ المؤذى على أنه شبهه بالمنافق ثم شبهه بالحجر. والصفوان الحجر الأملس ، والوابل المطر العظيم القطر ، والصلد الأجرد النقي ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق. وهذا المثل ضربه الله لعمل المانّ المؤذي ولعمل المنافق ، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالا كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ولم يؤت بها على وجه يستحق الثواب كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب. وأما المعتزلة فقالوا : إن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ، ثم إن المنّ والأذى أزالا ذلك الأجر بناء على مذهبهم من الإحباط والتكفير. فعلى مذهبنا : العمل الظاهر كالتراب ، والمان المؤذي أو المنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل. وعلى قولهم : المن والأذى كالوابل. وعن القفال : ان عمل المانّ مشبه بما إذا طرح بذرا في صفوان صلد عليه غبار قليل ، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودع بذره خاليا لا شيء فيه. ألا ترى أنه ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ وعلى هذا فقوله (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) الضمير فيه عائد إلى معلوم غير مذكور ، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي فرض على الصفوان لأنه خرج عن الانتفاع به ، فكذا المانّ والمؤذي والمنافق لا ينتفع واحد منهم بعمله يوم القيامة ، وناهيك بكون المانّ والمنافق ملزوزين في قرن شناعة شأن المن والأذى ، وقيل : الضمير عائد إلى الذي إما لأن «من» و «الذي» متعاقبان فكأنه قيل : كمّن ينفق ، وإما لأن المراد المراد الفريق الذي ، وإما لأنه أشير

٣٨

بالذي إلى الجنس والجنس في حكم العام. وقيل : المعنى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فإنكم إن فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم ، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة كقوله (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢].

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) معناه ـ على قولنا ـ سلب الإيمان عنهم ، وعلى قول المعتزلة أنه يضلهم عن الثواب وطريق الجنة لسوء اختيارهم (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) طلبا لمرضاته (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قيل : أي يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها من المن والأذى. وقيل : تثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد وتبيينا من البيان. وقيل : إن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالرياضة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال. فإذا بذل ماله وروحه معا فقد ثبت نفسه كلها (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف : ١١] وإذا بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، فعلى هذا «من» للتبعيض ذكره في الكشاف. قال الزجاج : تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم جازمين بأن الله تعالى لا يضيع ثوابهم ف «من» على هذا للابتداء ، وجزمهم بالثواب هو المراد بالتثبيت. وعن الحسن ومجاهد وعطاء : المراد أنهم يثبتون أنفسهم تثبيتا في طلب المستحق وصرف المال في وجهه. قال الحسن : كان الرجل إذا همّ بصدقة يتثبت فإن كان لله أمضى وإن خالطه شك أمسك. وقيل : إنه إذا أنفق لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وحظ من حظوظها فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعة مع قلبه فذلك الاستقرار هو التثبيت. ويحتمل أن يكون المراد به حصول ملكة الإنفاق بحيث يحصل عنه بطريق الاطراد والاعتياد لا بطريق البخت والاتفاق ، فإن الأخلاق ما لم تصر ملكات لصاحبها لم تكد يظهر على جوهر النفس صفاؤها ونوريتها. والمعنى أن مثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله كمثل جنة وهي البستان. وقرىء كمثل حبة بربوة بمكان مرتفع من ربا الشيء يربو إذا زاد وارتفع ، ومنه الربو لزيادة التنفس ، والربا في المال. قيل : وإنما خص المكان المرتفع لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرا. واعترض عليه بأن المكان المرتفع لا يحسن ريعه لبعده عن الماء وربما تضربه الرياح كما أن الوهاد لكونها مصب المياه قلما يحسن ريعها ، فإذن البستان لا يصلح له إلا الأرض المستوية ، فالمراد بالربوة أرض طيبة حرة تنتفخ وتربو إذا نزل عليها المطر ، فإنها إذا كانت على هذه الصفة كثر دخلها وكمل شجرها كقوله تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج : ٥] ومما يؤكد ما ذكرنا أن هذا المثل ، في مقابلة المثل الأول ، فكما أن الصفوان لا

٣٩

يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فينبغي أن تكون هذه الأرض بحيث تربو وتنمو (فَآتَتْ أُكُلَها) أي ثمرتها وما يؤكل منها (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كان يعهد منها. وقيل : مثلي ما يكون في غيرها (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) مطر صغير القطر يصيبها ولا ينتقص شيء من ثمرها لكرم منبتها ، أو المراد أنها على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر قل أم كثر ، وكذلك من أخرج صدقة لوجه الله لا يضيع كسبه وفّر أم نزر. ويحتمل أن يمثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل ، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم تزيد في زلفاهم وحسن حالهم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من وجوه الإنفاق وكيفيتها والأمور الباعثة عليها (بَصِيرٌ) فيجازي بحسب النيات وخلوص الطويات. ثم إنه سبحانه رغب في الإنفاق المعتبر الجامع لشرائطه وحذر عن ضده بأن ضرب مثالا آخر فقال (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) والهمزة للإنكار البالغ أي لن يود. قرىء له جنات وقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف الأول : كونها من نخيل وأعناب كأن الجنة إنما تكوّنت منهما لكثرتهما فيها. الثاني : تجري من تحتها الأنهار ، ولا شك أن ذلك يزيد في رونقها وبهائها. والثالث : فيها من كل الثمرات. وإنما خص النخيل والأعناب أولا بالذكر لأنهما أكرم الشجر أو أكثرها منافع. قال في الكشاف : ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيهما كقوله (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) [الكهف : ٣٤] بعد قوله (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) [الكهف : ٣٢]. ثم شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي والحال أنه قد أصابه الكبر. وقال الفراء : إنه معطوف على (يَوَدُّ) واستقام نظر المعنى لأنه يقال : وددت أن يكون كذا ، ووددت لو كان كذا ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء. وقرىء ضعاف أي صبيان وأطفال (فَأَصابَها إِعْصارٌ) ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود (فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) أي الجنة ولا يخفى أن هذه المثل في المقصود أبلغ الأمثال ، فإن الإنسان إذا كان له جنة في غاية الكمال ، وكان هو في نهاية الاحتياج إلى المال ـ وذلك أوان الكبر مع وجود الأولاد الأطفال ـ فإذا أصبح وشاهد تلك الجنة محترقة بالصاعقة ، فكم يكون في قلبه من الحسرة وفي عينه من الحيرة؟ فكذا الإنفاق نظير الجنة المذكورة وزمان الاحتياج يوم القيامة ، فإذا أتبع الإنفاق النفاق أو المن والأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة ويورثه الخيبة والندامة.

التأويل : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فلهم الجنة ، والذين ينفقون أرواحهم وقلوبهم في سبيل الله فلهم الله ، ومن أعطى تمرة إلى فقير يأخذها الله بيمينه ويربيها كما

٤٠