تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الأرض مسجدا وترابها طهورا» (١). أما مسح الوجه واليد فعن علي وابن عباس : اختصاص المسح بالجبهة وظاهر الكفين وقريب منه مذهب مالك لأن المسح مكتفى فيه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح. وقال الشافعي وأبو حنيفة : يستوعب الوجه واليدين إلى المرفقين كما في الوضوء. وعن الزهري إلى الآباط ، لأن اليد حقيقة لهذا العضو إلى الإبط ، ثم ختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته العفو عن المذنبين كان أولى بالترخيص للعاجزين. عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : حبست رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت : فعاتبني أبوبكر وقال ما شاء الله أن يقول ، فجعل يطعن بيده في خاصرتي ، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فخذي. فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء : ما هو بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت عائشة : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.

ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هاهنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم ، لأنّ الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد السامع هزة وجدة فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) أي ألم ينته علمك؟ أو ألم تنظر إلى من أوتوا حظا من علم التوراة وهم أحبار اليهود؟ وإنما أدخل «من» التبعيضية لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأما الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه فقد وصفهم بأن معهم علم الكتاب في قوله : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد : ٤٣] لأنهم عرفوا الأمرين جميعا (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) يختارونها لأن من اشترى شيئا فقد آثره واختاره قاله الزجاج. والمراد تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأغراضهم الفاسدة من أخذ الرشا وحب الرياسة. وقيل : المراد يستبدلون الضلالة ـ وهو البقاء على اليهودية ـ بالهدى ـ وهو الإسلام ـ بعد وضوح الآيات لهم على صحته. (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه ، ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين ، الضلال والإضلال. عن ابن عباس أن الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٢٢).

٤٢١

المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطانهم عن الإسلام. وقيل : المراد عوام اليهود كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم لينصروا اليهودية فكأنهم اشتروا بمالهم الشبهة والضلالة (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِأَعْدائِكُمْ) لأنه عالم بكنه ما في صدورهم من الحنق والغيظ ، فإذا أطلعكم على أحوالهم فلا تستنصحوهم في أموركم واحذروهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) متوليا لأمور العبد (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) فثقوا بولايته ونصرته دونهم. وكرر «كفى» ليكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة ، وزيدت الباء في الفاعل إيذانا بأن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره فكان الباء للسببية. وقال ابن السراج : التقدير كفى اكتفاؤك بالله. وقيل : فائدة الباء وهي للإلصاق أن يعلم أن هذه الكفاية صدرت من الله تعالى بغير واسطة.

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) إما بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ) إلى آخر الآية معترض بين البيان والمبين ، وإما بيان لأعدائكم والجملتان بينهما معترضتان ، وإما صلة (نَصِيراً) كقوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) [الأنبياء : ٧٧] وإما كلام مستأنف على أن (يُحَرِّفُونَ) صفة مبتدأ محذوف تقديره : من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه. قال الواحدي : الكلم جمع حروفه أقل من حروف واحده ، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ومعنى هذا التحريف استبدال لفظ مكان لفظ كوضعهم «آدم طوالا» مكان «أسمر ربعة» وجعلهم الحد بدل الرجم. واختير «عن» للدلالة على الإمالة والإزالة. وأما في المائدة فقيل : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) [المائدة : ٤١] نظرا إلى أن الكلم كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له. وقيل : المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة كما يفعله في زماننا أهل البدعة. وجعل بعض العلماء هذا القول أصح لاستبعاد تحريف المشهور المتواتر ، لكن دعوى التواتر بشروطه في التوراة ممنوعة. وقيل : كانوا يدخلون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسألونه عن أمر فيخبرهم به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. ومن جملة جهالاتهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وفي الباطن عصينا ، أو كانوا يقولون كلا اللفظين ظاهرا إظهارا للعناد والمرود والكفر والجحود ، ومنها قولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) وهو كلام ذو وجهين : أما احتماله المدح فلقول العرب : أسمع فلان فلانا إذا سبه. وإذا كان المراد : اسمع غير مسمع مكروها كان مدحا وتوقيرا ونصحا. وأما احتمال الذم فبأن يكون معناه اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت ، لأن من كان أصم فإنه لا يسمع فلا يسمع ، أو بأن يراد اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أي غير مسمع جوابا يوافقك ، أو بأن يراد اسمع غير مسمع كلاما ما ترتضيه ، وعلى هذا يجوز أن يكون (غَيْرَ

٤٢٢

مُسْمَعٍ) مفعول (اسْمَعْ) لا حالا من ضميره أي اسمع كلاما غير مسمع إياك لنبوّ سمعك عنه. ومنها قولهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (راعِنا) وقد عرفت احتمالاته في البقرة. وإنما جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد تصريحهم بالعصيان على وجه لأن المواجهة بالعصيان أهون خطبا في العرف من المواجهة بالسب ودعاء السوء ولهذا كانت الكفرة يواجهونه بالأول دون الثاني. (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) مفعول لأجله ، أو مصدر لمحذوف ، أو ل (يَقُولُونَ) لأنه في معنى اللي أيضا وعينه «واو» بدليل لويت فقلبت وأدغمت. والمعنى : يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون (راعِنا) موضع (انْظُرْنا) و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) موضع لا سمعت مكروها ، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا ، أو لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام سخرية وطعنا على عادة المستهزئين ، فبين الله تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء طعنا في الدين ونبه بذلك على ما كانوا يقولونه فيما بينهم إنا نشتمه ولا يعرفه ولو كان نبيا لعرف بإظهار ذلك عليه فانقلب ما جعلوه طعنا في الدين دلالة قاطعة على صحته لأن الإخبار عن الغيب معجز. (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) بدل قولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) إذ وضح لهم الآيات وثبت لهم البينات كرات بعد مرات و (اسْمَعْ) دون أن يقال معه (غَيْرَ مُسْمَعٍ وَانْظُرْنا) مكان (راعِنا لَكانَ) قولهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أعدل لا أشد من قولهم : «رمح قويم» أي مستقيم (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي بسببه (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا) إيمانا (قَلِيلاً) وهو إيمانهم بالله وبالتوراة وببعض الأنبياء دون سائر رسله. أو إلّا قليلا منهم آمنوا لأن «فعيلا» قد يراد به الجمع كقوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩] أو أراد بالقلة العدم.

ثم زجرهم عن كفر الجحود والعناد بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية. والطمس المحو. يقال : طريق طامس ومطموس ، ومفازة طامسة الأعلام ، وطمست الكتاب محوته. وهو في الآية حقيقة أو مجاز قولان. والمعنى على الأول محو تخطيط صورها وأشكالها من عين وحاجب وأنف وفم. والفاء في (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) إما للتسبيب أي فنجعل الوجوه بسبب هذا الطمس على هيئة أقفائها مطموسة مثلها ، لأن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس والتخاطيط ، فإذا أزيلت ومحيت لم يبق فرق بينها وبين القفا. وإما للتعقيب على أن العقوبة شيئان : إحداهما عقيب الأخرى الطمس ، ثم نكس الوجه إلى خلف والأقفاء إلى قدام. وإنما يكون هذا عقوبة لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة كما قال في حق أهل النار (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) [الانشقاق : ١٠] على أن وجوههم مردودة إلى أقفائهم فتدرك الكتابة وتقرأ من هناك. وأما المعنى على القول

٤٢٣

الثاني فعن الحسن : نطمسها عن الهدى ونردها بالخذلان على أدبارها أي على ضلالاتها وشبهاتها. وذلك أن المتوجه إلى عالم الحس معرض عن عالم العقل ، وبقدر الإقبال على ذاك يحصل الإدبار عن هذا. وقال عبد الرحمن بن زيد : نردهم إلى حيث جاؤوا منه وهي أذرعات الشام. يريد إجلاء بني قريظة والنضير. والطمس على هذا إما تقبيح الوجوه وإما إزالة آثارهم عن ديار العرب. وقيل : الطمس القلب والتغيير. والمراد بالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وأدبارهم. والضمير في قوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) إما للوجوه إن أريد بها الوجهاء ، وإما لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. فإن قيل : فأين وقوع الوعيد؟ فالجواب أنه مشروط بعدم إيمان جميعهم ولكنه قد آمن ناس من علمائهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. حكي أنه لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال : يا رسول الله ، ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وأيضا إنه ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل إياه أو اللعن. فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام فقد كان أحد الأمرين ، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. واللعن الموعود ظاهره اللعن المتعارف لا المسخ. وقيل : هو منتظر ولهذا قيل : (وُجُوهاً) منكرة دون «وجوهكم» ليشمل وجوها غير المخاطبين من أبناء جنسهم ، ولا بد من مسخ وطمس لليهود قبل يوم القيامة. وقيل : إنّ قوله : (آمِنُوا) تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) واقعا في الآخرة. فالتقدير : آمنوا من قبل أن يجيء الوقت الذي نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) لأنه لا راد لحكمه ولا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله ، وهذا كما يقال في الشيء الذي لا يشك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد ، فإذا حكم بإنزال العذاب على قوم فعل ذلك البتة. والمراد بالأمر الشأن والفعل الذي تعلق إرادته به لا الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام ، فلا يصح استدلال الجبائي بالآية على أن كلامه تعالى مفعول أي مخلوق.

ثم بين أن مثل هذا التهديد من خواص الشرك والكفر فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ) الآية. وفي الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع لاتصالها بقصتهم ، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع. ومن هنا قال الشافعي : المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك ، والمشرك المباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله ، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في النهي فيبقى

٤٢٤

معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله. واستدلت الأشاعرة بالآية على غفران صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن ما دون الشرك يشمله. والمعتزلة خصصوا الثاني بمن تاب كما أن الأول مخصص بالإجماع بمن لم يتب. قالوا : ونظيره قولك : «إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء». المعنى لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ، ويبذل القنطار لمن يستأهله. والمشيئة تكون قصدا في الفعلين : المنفي والمثبت جميعا ، لأنه إن شاء لم يتب المشرك فلا يترتب عليه الغفران ، وإن شاء تاب صاحب الكبيرة فيستوجب الغفران. وروى الواحدي في البسيط بإسناده عن ابن عمر قال : كنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادة. وقال ابن عباس بمحضر عمر : إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر. وعن ابن عباس : لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه الإعتاق إن هو فعل ذلك. ثم إنهم ما وفوا بذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ندمهم ، وأنه لا يمنعهم من الدخول في الإسلام إلّا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨] فقالوا : قد ارتكبنا كل ما في الآية فنزل قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠] فقالوا : هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فقالوا : نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٢] فدخلوا عند ذلك في الإسلام. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى) اختلق وافتعل (إِثْماً عَظِيماً) لأنه ادعى ما لا يصح كونه. عن ابن عباس في رواية الكلبي أن قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال : لا. فقالوا : والله ما نحن إلّا كهيئتهم. ما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار ، وما عملنا بالنهار يكفر عنا بالليل. وكانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] فنزل فيهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) ويدخل فيه كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل أو قبول الطاعة والزلفى عند الله (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) وإن تزكيته هي التي يعتد بها كما أخبر عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض» وكفى بإظهار المعجزات على يده تزكية له وتصديقا لقوله : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) هو ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ «فعيل» بمعنى «مفعول». ابن السكيت : هو ما كان في شق النواة. والضمير للذين يزكون أي يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم ، أو لمن يشاء أي يثابون على زكاتهم من غير نقص شيء من ثوابهم. ثم عجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فريتهم وادعاء زكاتهم ومكانتهم عند الله فقال : (انْظُرْ كَيْفَ

٤٢٥

يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ) أي بزعمهم هذا (إِثْماً مُبِيناً) من بين سائر آثامهم. قال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فنزل كعب على أبي سفيان والآخرون في دور قريش. فقال لهم أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما فذلك قوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) ثم قال كعب لأهل مكة : ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعلوا ذلك ، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق ، أنحن أم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال كعب : اعرضوا علي دينكم. فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقهم الماء ونقري الضعيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديث. فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) يعني كعبا وأصحابه. فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما : إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا وكذا. قالا : صدق والله ما حملنا على ذلك إلا بغضه وحسده. وقد مر معنى الطاغوت في تفسير آية الكرسي. وأما الجبت ففي الصحاح أنه كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك وليس من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقي. وحكى القفال عن بعضهم أن أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الرديء. وقال الكلبي : الجبت في الآية هو حيي بن أخطب ، والطاغوت كعب بن الأشرف. وكانت اليهود يرجعون إليهما فسميا بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم فلا جرم جزاهم الله بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) وبالحري إذ جعلوا من هو أضل من النعام وأقل من الأنعام حيث رضوا بمعبودية الأصنام أهدى سبيلا وأفضل حالا من الذين هم أشرف الأنام باختيارهم دين الإسلام الذي هو عبادة ذي الجلال والإكرام. (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) وعيد لهم بلزوم الإبعاد والطرد ولصوق العار والصغار ، ووعد لنبيه والمؤمنين بالاستيلاء والاستعلاء عليهم إلى يوم القيامة. والخطاب في (فَلَنْ تَجِدَ) للنبي أو لكل طالب يفرض : ثم لما وصفهم بالضلال والإضلال وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر الخصال ، لأن البخيل يمنع ما أوتي من النعمة ، والحاسد يتمنى أن يزول عن الغير ما أوتي من الفضيلة. و «أم»

٤٢٦

قيل : إنها متصلة وقد سبقها استفهام في المعنى كأنه لما حكى قولهم للمشركين أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين قال : أمن ذلك يتعجب أم من قولهم لهم نصيب من الملك مع أنهم لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل؟ وقيل : الميم زائدة والتقدير ألهم نصيب؟ والأصح أنها منقطعة كأنه لما تم الكلام الأول قال : بل ألهم نصيب من الملك؟ ومعنى الآية أنهم كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله عليهم قولهم. وقيل : كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان ويخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودينهم فكذبهم الله. وقيل : المراد بالملك التمليك يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم ، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير فكيف يقدرون على النفي والإثبات؟ وقال أبوبكر الأصم : كانوا أصحاب بساتين وأموال وكانوا في عزة ومنعة كما تكون أحوال الملوك ، ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل فنزلت الآية فيهم. وعلى هذا فإنما يتوجه الإنكار على أنهم لا يؤتون أحدا مما يملكون شيئا. وعلى الأقوال المتقدمة يتوجه الإنكار على أن لهم نصيبا من الملك فكأنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم فإن البخل والملك لا يجتمعان كما قيل : بالبر يستعبد الحر والإنسان عبد الإحسان. والبخيل تنفر الطباع عن الانقياد له فلا يتيسر له أسباب المملكة ، وإن اجتمعت بالندرة فسوف تضمحل. وإنما لم يعمل «إذن» لدخول الفاء عليه. وذلك أن ما بعد العاطف من تمام ما قبله بسبب ربط العاطف بعض الكلام ببعض فينخرم تصدره فكأنه معتمد فترجح إلغاؤه وارتفاع الفعل بعده. وجاء في قراءة ابن مسعود فإذن لا يؤتوا بالأعمال وليس بقوي. والنقير نقرة في ظهر النواة «فعيل» بمعنى «مفعول» ومنها «نبتت النخلة» وهو مثل في القلة كالفتيل. فإن قيل : كيف يعقل أنهم لا يبذلون نقيرا وكثيرا ما يشاهد منهم بذل الأموال؟ قلنا : المدعى عدم إيتاء النقير على تقدير حصول الملك ويراد به الملك الظاهر كما لملوك الدنيا ، أو الباطن كما للعلماء الربانيين ، أو كلاهما كما للأنبياء. وحصول شيء من هذه الأقسام لهم ممنوع لما ضربت عليهم الذلة والمسكنة. ولئن فرض حصول شيء منها فما يدريك لعل الشح يغلب عليهم حتى لا يشاهد منهم بذل نقير كما أخبر عنه علام الغيوب. وأما على تفسير الأصم فلعل المراد لأنهم لا يبذلون شيئا نسبته إلى ما يملكونه كنسبة النقير إلى النواة ، أو أنهم لا يطيبون بذلك نفسا لغلبة الشح عليهم والله تعالى أعلم بمراده. هذا بيان بخلهم ، أما بيان حسدهم فذلك قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ) وهي منقطعة والتقدير : بل أيحسدون الناس يعني النبي والمؤمنين. فإن كان اللام للعهد فظاهر وإن كان للجنس فلأنهم هم الناس والباقون هم النسناس. ومعنى الهمزة إنكار الحسد واستقباحه.

٤٢٧

والمراد بالفضل ما آتاهم الله من أشرف المناصب وهو النبوة والخاتمية وما كان ينضم إليها كل يوم من النصرة والعزة والاستيلاء والاستعلاء ، والفاضل محسود بكل أوان ، والحاسد مذموم بكل لسان. ثم نبّه على ما يزيل التعجب من شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) الذين هم أسلاف محمد (الْكِتابَ) الذي هو بيان الشرائع (وَالْحِكْمَةَ) التي هي الوقوف على الأسرار والحقائق والعمل بما يتضمن صلاح الدارين (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) عن ابن عباس : الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان ، فليس ببدع أن يؤتى إنسان ما أوتي أسلافه. وقيل : من جملة حسدهم أنهم استكثروا نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل لهم : كيف استكثرتم له التسع وكان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ (فَمِنْهُمْ) أي من اليهود (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) وأنكره مع علمه بصحته ، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنهم من أنكر نبوته ، أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر. والمعنى أن أولئك الأنبياء جرت عادة أممهم فيهم أن بعضهم آمن بهم وبعضهم بقوا على كفرهم ، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء والغرض تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته (وَكَفى بِجَهَنَّمَ) لعذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين (سَعِيراً).

ثم أكد وعيد الكفار بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) ويدخل فيها كل ما يدل على ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وملائكته والكتب والرسل. وكفرهم بها أن ينكروا كونها آيات أو يغفلوا عنها ولا ينظروا فيها ، أو يلقوا الشكوك والشبهات فيها ، أو ينكروها مع العلم بها عنادا وحسدا وبغيا ولددا. وهاهنا سؤال وهو أنه تعالى قادر على إبقائهم في النار أحياء معذبين من غير أن تحترق جلودهم ، فما الحكمة في إنضاج جلودهم؟ والجواب لا يسأل عما يفعل كما أنه قادر على إيصال الآلام إليهم من غير إدخالهم النار مع أنه لا يمكن أن يقال لم عذبهم بإدخالهم النار. وسؤال آخر وهو أنه كيف يعذب مكان الجلود العاصية جلودا لم تعص؟ والجواب يجعل النضيج غير نضيج ، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة ويؤيده قول أهل اللغة : تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدله ، وأبدلت الشيء غيرته ، فالتبديل تغيير الصفة أو الذات. والإبدال تغيير الذات. وصاحب الكشاف جزم بأن المراد من هذا التبديل هو تغيير الذات فلهذا فسر التبديل بالإبدال ، ولعله إنما حمله على ذلك وصف الجلود بقوله : (غَيْرَها) ولقائل أن يقول : المغايرة أعم من أن تكون في الذات أو في الصفات ، فما أدراك أنها في الآية مغايرة الذات لا الصفات اللهم إلا أن يعضده نقل صحيح فيكون الجواب عن السؤال أن المعذب هو الإنسان ، والجلد ليس حزءا من ماهيته

٤٢٨

وإنما هو سبب لوصول العذاب إليه. أو يقال : المراد الدوام وعدم الانقطاع ، ولا نضج ولا احتراق أي كلما ظنوا أنهم احترقوا وأشرفوا على الهلاك أعطيناهم قوة جديدة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا. وقال السدي : يخرج من لحم الكافر جلد آخر وفي هذا التأويل بعد لأن لحمه متناه فعند نفاده لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد فيعود أول السؤال. وقيل : المراد بالجلود السرابيل (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠] وضعف بأنه ترك للظاهر وأن السرابيل لا توصف بالنضج (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز : أعزك الله أي أدامك على عزك وزادك فيه ، أو ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب. والمراد بالذوق أن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق بالمذوق (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين (حَكِيماً) لا يفعل إلّا الصواب ثم قرن الوعد بالوعيد على عادته فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية. قال الواحدي : الظليل ليس بمبني على الفعيل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول ، بل هو مبالغة في نعت الظل مشتق من لفظه كقولهم : «ليل أليل». قيل : إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل؟ وأيضا المواضع التي لا يصل نور الشمس إليها في الدنيا يكون هواؤها عفنا فاسدا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك؟ والجواب المنع من أنه لا شمس هنالك حتى يوجد ضوء ثان هو الظل ، والمراد بالظل الظليل ما كان فينانا ، أي منبسطا لا جوب فيه أي لا فرج لالتفاف الأغصان ، ودائما لا تنسخه الشمس ، وسجساجا لا حر فيه ولا برد. وعند الحكماء : المراد بالظل الراحة لأنه من أسبابها ولا سيما في البلاد الحارة كبلاد العرب. فلما كان هذا مطلوبا عندهم صار موعودا لهم.

التأويل : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي يتمنون أن يخلوا في عالم الطبيعة ولم ينكشف لهم عالم الحقيقة كيلا يروا ما يرون من عذاب القطيعة ، كما أن السكران ممنوع من الصلاة. فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) من غلبات الأحوال فإن التكاليف حينئذ زائلة (وَلا جُنُباً) بالالتفات إلى غير الله فإن الصلاة إذ ذاك باطلة. وتستثنى من الحالة الأولى حالة الشعور ، ومن الثانية حالة العبور «كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل» (١) فهذا القدر من الالتفات من المحظورات التي أباحها الضرورات. (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) بحب الدنيا (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في متابعة الهوى (أَوْ جاءَ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣. الترمذي في كتاب الزهد باب ٢٥. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤ ، ٤١).

٤٢٩

أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) في قضاء شهوة من الشهوات (أَوْ لامَسْتُمُ) عجوز الدنيا في تحصيل لذة من اللذات (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) التوبة والاستغفار (فَتَيَمَّمُوا) فتمعكوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور الذنوب العظام. (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) يعني دأب علماء السوء قريب من دأب الذين هادوا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) يؤولونها على حسب إرادتهم (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا) ما في القرآن بالمقال (وَعَصَيْنا) بالفعال وينكرون على أرباب المقامات والأحوال ويقولون اسمع (غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا) يخاطبونهم بكلام ذي وجهين (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً) في أهل الدين. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ظاهرا ولم يؤتوا علم باطن الكتاب (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) على الأولياء من علم باطن القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من العلم الظاهر لأن أهل العلم اللدني يصدقون أهل العلم الظاهر ، ولكن أهل العلم الظاهر يصعب عليهم تصديق علوم الأولياء لأنه لا يناسب عقولهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) وجوه القلوب بالعمى والصمم (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) ناظرين إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانوا ناظرين في الميثاق إلى يومها (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) نمسخ صفاتهم الإنسانية بالسبعية والشيطانية كما مسخنا أصحاب السبت بالصورة ، ومسخ المعنى أصعب من مسخ الصورة لأن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) للشرك ثلاث مراتب وكذا للمغفرة. فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام من عبدة الكواكب والأصنام فلا يغفر إلا بالتوحيد وهو إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية. وشرك خفي بالأوصاف للخواص وهو شوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية ، فلا يغفر إلّا بالوحدانية وهو إفراد الواحد للواحد. وشرك أخفى للأخص وهو رؤية الأغيار والأنانية فلا يغفر إلا بالوحدة وهو فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) من أهل العلوم الظاهرة تعلموا العلم ليباهوا به العلماء أو ليماروا به السفهاء فحصل له صفات ذميمة أخرى مثل المباهاة والمماراة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وغلبة الأقران والأنداد (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) بتسليم نفوسهم إلى أرباب التزكية من العلماء الراسخين والمشايخ المحققين كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجعله أديما ، فإذا سلموا أنفسهم إليهم وصبروا على تصرفاتهم رأوا أثر الزكاة فيهم ولن يضيع سعيهم (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ) بجبت النفس الأمّارة وطاغوت الهوى (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل الأهواء والمبتدعة والمتفلسفة (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) بكل ما أمر الله به ورسوله. ثم وصفهم بالبخل والحسد ثم قال : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) يعني أهل الخلة والمحبة (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) العلم الظاهر والعلم الباطن (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) هو معرفة الله تعالى (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) لأن من

٤٣٠

العلماء مقبلين ومنهم مدبرين (وَكَفى بِجَهَنَّمَ) نفسهم الحاسدة (سَعِيراً) تحرق حسناتهم فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) بأوليائنا الذين هم مظاهر آيات الحق وحجج الله على الخلق (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ) نار الحسد والغضب والكبر والعجب (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) أي انقطعت بعض أماني نفوسهم الأمّارة ومقتضيات هواها. ولا يخفى حسن استعارة الجلود لآثار الشيء من حيث الظهور والاشتمال (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) فإن دواعي الحرص والغضب والشهوة لا تتناهى البتة ما دامت النفس على صفة الأمرية ، فلن تزال أسيرة في يد الشهوات ذائقة لعذاب التعلقات (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ) أي نجذبهم بجذبات العناية إلى (جَنَّاتٍ) من الوصلة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشوف (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) من تجلي صفات الجمال والجلال (مُطَهَّرَةٌ) من لوث الوهم والخيال (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) هو ظل شمس عالم الوجود يوم لا ظل إلّا ظله.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ

٤٣١

أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

القراآت : (أَنِ اقْتُلُوا) بكسر النون لالتقاء الساكنين : أبو عمرو وعاصم وحمزة وسهل ويعقوب. الباقون : بالضم نقلا لحركة همزة الوصل إلى ما قبلها (أَوِ اخْرُجُوا) بكسر الواو للساكنين : عاصم وسهل وحمزة. الباقون : بالضم. إلا قليلا بالنصب : ابن عامر على أصل الاستثناء أو بمعنى إلّا فعلا أو أبوا إلّا قليلا. الباقون : بالرفع على البدل وهو أكثر.

الوقوف : (إِلى أَهْلِها) لا لأن التقدير يأمركم أن تؤدوا وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس. (بِالْعَدْلِ) ط (يَعِظُكُمْ بِهِ) ط (بَصِيراً) ه (مِنْكُمْ) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ط (تَأْوِيلاً) ه (أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ج (بَعِيداً) ه (صُدُوداً) ه ج للآية مع فاء التعقيب (يَحْلِفُونَ) قد قيل على أن ما بعده ابتداء القسم والأولى تعليق الباء بيحلفون. (وَتَوْفِيقاً) ه (بَلِيغاً) ه (بِإِذْنِ اللهِ) ط (رَحِيماً) ه (تَسْلِيماً) ه (قَلِيلٌ مِنْهُمْ) ط (تَثْبِيتاً) ه لا (عَظِيماً) ه لا لأن ما بعده من تتمة جواب «لو». (مُسْتَقِيماً) ه (وَالصَّالِحِينَ) ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. (رَفِيقاً) ه (مِنَ اللهِ) ط (عَلِيماً) ه.

التفسير : لما شرح بعض أحوال الكفار عاد إلى ذكر التكاليف. وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق وقالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور ، سواء كانت من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات. وأيضا قد وعد في الآية السابقة الثواب العظيم على الأعمال الصالحات وكان من أجلها الأمانة فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) روي أن عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار كان سادن الكعبة ، فلما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح ، فطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المفتاح فقيل له : إنه مع عثمان. فطلب منه فأبى فقال : لو علمت أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم أمنعه. فلوى علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيت وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له مع السقاية السدانة ، فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدفعه إلى العباس ثم قال : يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس معك نصيبا فأنزل الله هذه الآية. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا رضي‌الله‌عنه أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ، ففعل ذلك علي رضي‌الله‌عنه فقال له عثمان : يا علي أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال : لقد أنزل الله في شأنك فقرأ عليه هذه الآية. فقال عثمان : أشهد

٤٣٢

أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وأسلم. فجاء جبريل عليه‌السلام وقال : ما دام هذا البيت كان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وقال : خذوها يا بني طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلّا ظالم. ثم إنّ عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة وهو اليوم في أيديهم. ثم نزول الآية عند هذه القصة لا يوجب خصوصها بها ولكنها تعم جميع أنواع الأمانات. فأولها الأمانة مع الرب تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه. قال ابن مسعود : الأمانة في الكل لازمة ، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم. وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلّا بحقها وهذا باب واسع. فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها ، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام ، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب ، وكذا القول في سائر الأعضاء. ثم الأمانة مع سائر الخلق ويدخل فيه رد الودائع وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم ، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم ويمنعوهم عن العقائد الباطلة والأخلاق غير الفاضلة ، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها ، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها ، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس ، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب ، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا ، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية ، في التبعات الدائمة. وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) [الأحزاب : ٧٢] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) [المؤمنون : ٨] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له» والأمانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع. ثم لما أمر بأداء ما وجب لغيرك عليك أمر باستيفاء حقوق الناس بعضهم من بعض إذا كنت بصدد الحكم فقال : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وفي قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ) تصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم والقضاء. وقد عدّ العلماء من شروط النيابة العامة : الإسلام والعقل والبلوغ والذكورة والحرية والعدالة والكفاية وأهلية الاجتهاد بأن يعرف ما يتعلق بالأحكام من كتاب الله وسنة رسوله. ويعرف منهما العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ ، ومن السنة المتواتر والآحاد والمسند والمرسل وحال الرواة ، ويعرف أقاويل الصحابة ومن بعدهم إجماعا وخلافا ، وجلي القياس وخفيه وصحيحه وفاسده ، ويعرف لسان العرب لغة وإعرابا خصوصا وعموما إلى غير ذلك مما له مدخل في استنباط الأحكام الشرعية من مداركها ومظانها. وكفى بما في هذا المنصب من الخطر أنه منصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدين

٤٣٣

من بعده ، فعلى المتصدي لذلك أن يتأدب بآدابهم ويتخلق بأخلاقهم وإلا فالويل له. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجاء بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين قط» وإذا كان حال العادل هكذا فما ظنك بالجائر؟ وعنه «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة؟ فيجتمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة ، فيجمعون ويلقون في النار». (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) المخصوص بالمدح محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة موصوفة والتقدير : نعم الذي أو نعم شيئا يعظكم به ذلك المأمور من أداء الأمانات والحكم بالعدل (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) يسمع كيف تحكمون ويبصر كيف تؤدون ، وفيه أعظم أسباب الوعد للمطيع وأشد أصناف الوعيد للعاصي.

ثم إنه سبحانه أمر الرعاة بطاعة الولاة كما أمر الولاة في الآية المتقدمة بالشفقة على الرعاة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) الآية. عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا. قالت المعتزلة : الطاعة موافقة الإرادة. وقالت الأشاعرة : الطاعة موافقة الأمر. ولا نزاع أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع في أن المأمور به كإيمان أبي لهب هل يكون مرادا أم لا. فعند الأشاعرة الأمر قد يوجد بدون الإرادة لئلا يلزم الجمع بين الضدين في تكليف أبي لهب مثلا بالإيمان. وعند المعتزلة لا يأمر إلا بما يريد والخلاف بين الفريقين مشهور. قال في التفسير الكبير : هذه آية مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن أصول الشريعة أربعة : الكتاب والسنة وأشار إليهما بقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وليس العطف للمغايرة الكلية ، ولكن الكتاب يدل على أمر الله ، ثم يعلم منه أمر الرسول لا محالة. والسنة تدل على أمر الرسول ثم يعلم منه أمر الله. والإجماع والقياس. وأشير إلى الإجماع بقوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ) لأنه تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم. ووجب أن يكون معصوما لأن لو احتمل إقدامه على الخطا والخطأ منهي عنه لزم اعتبار اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد وإنه محال. ثم ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها على ما يقوله الشيعة من أن المراد بهم الأئمة المعصومون ، أو على ما زعم بعضهم أنهم الخلفاء الراشدون ، أو على ما روي عن سعيد بن جبير وابن عباس أنهم أمراء السرايا كعبد الله بن حذافة السهمي أو كخالد بن الوليد إذ بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية وكان معه عمار بن ياسر فوقع بينهما خلاف فنزلت الآية. أو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك أنهم العلماء الذين يفتون بالأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم لكنه لا سبيل إلى الثاني. أما ما زعمه الشيعة فلأنا نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام

٤٣٤

المعصوم والاستفادة منه ، فلو وجب علينا طاعته على الإطلاق لزم تكليف ما لا يطاق ولو وجب علينا طاعته إذا صرنا عارفين به وبمذهبه صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق على أن طاعة الله وطاعة رسوله مطلقة. فلو كانت هذه الطاعة مشروطة لزم أن تكون اللفظة الواحدة مطلقة ومشروطة معا وهو باطل. وأيضا الإمام المعصوم عندهم في كل زمان واحد ، ولفظ أولي الأمر جمع. وأيضا إنه قال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) وعلى هذا ينبغي أن يقال : فردوه إلى الإمام. وأما سائر الأقوال فلا نزاع في وجوب طاعتهم ، لكنه إذا علم بالدليل أن طاعتهم حق وصواب. وذلك الدليل ليس الكتاب والسنة فلا يكون هذا قسما منفصلا كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول. أما إذا حملناه على إجماع أهل الحل والعقد لم يكن هذا داخلا فيما تقدم إذ الإجماع قد يدل على حكم لا يوجد في الكتاب والسنة. وأيضا قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) مشعر بإجماع تقدم يخالف حكمه حكم التنازع. وأيضا طاعة الأمراء والخلفاء مشروطة بما إذا كانوا على الحق ، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق. وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون ذلك المعصوم كل الأمة أي أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء. فالمراد بقوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ) ما اجتمعت الأمة عليه وهو المدعى. وأما القياس فذلك قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) إذ ليس المراد من رده إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة والإجماع وإلا كان تكرارا لما تقدم ، ولا تفويض علمه إلى الله ورسوله والسكوت عنه لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل الإهمال وتفتقر إلى قطع مادة الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات ، ولا الإحالة على البراءة الأصلية فإنها معلومة بحكم العقل ، فالرد إليها لا يكون ردا إلى الله والرسول فإذا المراد ردها إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة لها وهذا معنى القياس ، فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلفين بطاعة الله ، ثم لمن عدا الرسول بطاعة الرسول ، ثم لما سوى أهل الحل والعقد بطاعتهم ، ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها إن وقع اختلاف واشتباه بين الناس في حكم واقعة ما أن يستخرجوا لها وجها من نظائرها وأشباهها فما أحسن هذا الترتيب. ثم في إطلاق الآية دلالة على أن الكتاب والسنة متقدمان على القياس مطلقا سواء كان القياس جليا أو خفيا ، وأنه لا يجوز معارضة النص ولا تخصيصه بالقياس. وقد اعتبر هذا الترتيب أيضا في قصة معاذ واستحسنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيف لا والقرآن مقطوع في متنه والقياس مظنون والقرآن كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والقياس نتيجة عقل الإنسان الذي هو عرضة الخطأ والنسيان. وقد أجمع العلماء على أن إبليس خصص عموم الخطاب في قوله : (إِذْ قُلْنا

٤٣٥

لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) [البقرة : ٣٤] بقياس هو قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص : ٧٦] فاستحق اللعن إلى يوم الدين. والسر فيه أن تخصيص النص بالقياس يقدم القياس على النص وفيه ما فيه. ثم إن كان الأمر للوجوب فقوله : (أَطِيعُوا) يدل على وجوب الطاعة وإن كان للندب ، فههنا يدل على الوجوب ظاهرا لأنه ختم الأوامر بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو وعيد والظاهر أنه قيد في جميع الأوامر لا في قوله : (فَرُدُّوهُ) وحده. وأيضا مجرد الندبية وهو أولوية الفعل معلوم من تلك الأوامر فلا بد للآية من فائدة خاصة ، فيحمل على المنع من الترك ليحصل من المجموع معنى الوجوب. ثم هذا الوجوب يكون دائما إن كان الأمر للدوام والتكرار وكذا إن لم يكن غيره كذلك لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة. فلو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وإلا كانت مجملة ، والمبين أولى من المجمل. وأيضا تخصيص اسم الله بالذكر يدل على أن وجوب الطاعة إنما هو لكونه إلها والإلهية دائمة فالوجوب دائم. وإنما كرر لفظ (أَطِيعُوا) للفصل بين اسم الله تعالى وبين المخلوقين ، ونعلم من إطلاق وجوب طاعة أولي الأمر أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة وأنه لا يشترط انقراض العصر. ومن إطلاق قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ) أن القياس يجوز إجراؤه في الحدود والكفارات أيضا. والمراد بالتنازع قال الزجاج : هو الاختلاف وقول كل فريق القول قولي كأن كل واحد منهما ينزع الحق إلى جانبه (ذلِكَ) الرد أو المأمور به في الآية (خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي عاقبة من آل الشيء إذا رجع. وقيل : الرد إلى الكتاب والسنة خير مما تأولون أنتم.

ثم إنه تعالى لما أوجب على المكلفين طاعته وطاعة رسوله ، وذكر أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض لا يطيعون ولا يرضون بحكمه فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية. قال الليث : قولهم زعم فلان معناه لا نعرف أنه صدق أو كذب ومنه زعموا مطية الكذب. وقال ابن الأعرابي : الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية الكذب بالاتفاق. قال أبو مسلم : ظاهر الآية يدل على أن الزاعم كان منافقا من أهل الكتاب مثل أن يكون يهوديا أظهر الإسلام على سبيل النفاق ، لأن قوله تعالى : (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) إنما يليق بمثل هذا المنافق. أما سبب النزول ففيه وجوه. والذي عليه أكثر المفسرين ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رجلا من المنافقين يسمى بشرا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال المنافق : بيني وبينك كعب بن الأشرف. وذلك أن اليهودي كان محقا وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقضي إلا بالحق لجلالة منصبه عن قبول الرشوة ، وكان كعب يبطل الحقوق بالرشا ، فما زال اليهودي بالمنافق حتى

٤٣٦

ذهبا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى لليهودي. فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال : ننطلق إلى عمر بن الخطاب. فأقبلا إلى عمر فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه. فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم. فقال لهما : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله وهرب اليهودي فنزلت الآية. وقال جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت الفاروق. وعلى هذا الطاغوت كعب بن الأشرف. وقال السدي : كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم ، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضيريا قتل به وأخذ ديته مائة وسق من تمر ، وإذا كان بالعكس لم يقتل به وأعصى ديته ستين وسقا من تمر. وكانت النضير حلفاء الأوس وكانوا أكثر وأشرف من قريظة وهم حلفاء الخزرج. فقتل نضيري قرظيا واختصموا في ذلك. فقال بنو النضير : لا قصاص علينا إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه. وقالت الخزرج : هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا. فقال المنافقون : انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي. وقال المسلمون : لا بل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي برزه ليحكم بينهم فقال : أعظموا اللقمة ـ يعني الرشوة ـ فقالوا : لك عشرة أوسق. فقال : لا بل مائة وسق ديتي فإني أخاف إن نفرت النضيري قتلتني قريظة ، وإن نفرت القرظي قتلتني النضير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله هذه الآية. فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاهن أسلم إلى الإسلام فأبى وانصرف فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابنيه : أدركا أباكما فإنه إن جاز عقبة كذا لم يسلم أبدا فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناديا فنادى : ألا إن كاهن أسلم قد أسلم. وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن. وقال الحسن : إنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق ، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون إليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن ، فالطاغوت ذلك الرجل. وقيل : كانوا يتحاكمون إلى الوثن يضربون القداح بحضرته ، فما خرج على القداح عملوا به فالطاغوت هو الوثن. ثم إن الطاغوت أي شيء كان من الأشياء المذكورة فإنه تعالى جعل التحاكم إليه مقابلا للكفر به ، لكن الكفر به إيمان بالله وبرسوله فيكون نصا في تكفير من لم يرض بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشككا أو تمردا ويؤكده قوله بعد ذلك : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) الآية. ومن هنا ذهب كثير من الصحابة إلى الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم. ثم قال : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)

٤٣٧

فاحتجت المعتزلة به على أن كفر الكافر ليس بخلق الله وإلا لم يتوجه الذم على الشيطان ولم يحصل التعجب والتعجيب فإن لقائل أن يقول : إنما فعلوا لأجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى وقد عرفت الجواب مرارا. قوله : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فيه وجهان : أحدهما ـ وهو قول الحسن واختاره الواحدي ـ أنه جملة معترضة وأصل النظم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ثُمَّ جاؤُكَ) يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيؤنك ويحلفون كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الإحسان والتوفيق. ووجه الاعتراض أنه حكى عنهم التحاكم إلى الطاغوت وأنهم يصدون ، ثم أتبعها ما يدل على شدة أحوالهم بسبب أعمالهم القبيحة في الدنيا والآخرة. والثاني أنه متصل بما قبله لا على وجه الاعتراض والمعنى أنه إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف تكون نفرتهم إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك كراها يحلفون بالله على سبيل الكذب ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة؟ أما المصيبة فقيل : إنها قتل عمر صاحبهم فإنهم جاؤا وطلبوا بدمه وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا الصلاح وهو اختيار الزجاج. وقال الجبائي : هي ما أمر الله رسوله بها من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ويخصهم بمزيد الإذلال ، والمعنى ثم جاؤك في وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون ما أردنا بما كان منا من مواساة الكفار إلا إصلاح الحال. وقال أبو مسلم : إنه تعالى بشر رسوله أن المنافقين سيصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا الإيمان. ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا : كيف أنت إذا كان كذا. ومعنى الإحسان والتوفيق ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا بين الخصوم وائتلافا بينهم فإنهم لا يقدرون عند الرسول أن يرفعوا أصواتهم ويبينوا حججهم ، أو ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به ، وعلى هذا لا يبقى للحلف مناسبة ظاهرة. أو ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله إلا أنك لا تحكم إلا بالحق المرّ وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالإحسان إلى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى تحصل بينهم الموافقة.

ثم أخبر الله سبحانه بما في ضمائرهم من الدغل والنفاق فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) وذلك أن من أراد المبالغة في شيء قال هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني أنه لكثرته وعظم حاله لا يقدر أحد على معرفته إلا هو. ثم علّم نبيه كيف يعاملهم فأمره بثلاثة

٤٣٨

أشياء : الأول الإعراض عنهم والمراد به أنه لا يقبل منهم ذلك العذر ويستمر على السخط ، أو أنه لا يهتك سترهم ولا يظهر لهم أنه عالم بكنه ما في بواطنهم من النفاق لما فيه من حسن العشرة والحذر من آثار الفتنة. الثاني أن يعظهم فيزجرهم عن النفاق بالتخويف من عذاب الدارين. الثالث قوله : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) وفيه وجوه : أحدها أن في الآية تقديما وتأخيرا. والمعنى قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف. الثاني وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا هو أن الله يعلم ما في قلوبكم فلن يغني عنكم الإخفاء ، فطهروا قلوبكم عن دنس النفاق وإلا فسينزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شرا من ذلك وأغلظ. الثالث قل لهم في أنفسهم خاليا بهم مسارا لهم بالنصيحة فإن النصح بين الملأ تقريع وفي السر أنفع وأنجع ، قولا يؤثر فيهم. وقيل : القول البليغ يتعلق بالوعظ وهو أن يكون كلاما حسنا وجيز المباني غزير المعاني يدخل الأذن بلا إذن ، مشتملا على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار. ثم رغب مرة أخرى في طاعة الرسول فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) أكثر النحاة على أن «من» صلة تفيد تأكيد النفي والتقدير : وما أرسلنا رسولا. وقيل : المفعول محذوف والتقدير : وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا. قال الجبائي : هذه الآية من أقوى الدلائل على بطلان مذهب المجبرة لكونها صريحة في أن معصية الناس غير مرادة الله تعالى. والجواب أن إرسال الرسل لأجل الطاعة لا ينافي كون المعصية مرادة لله تعالى ، على أن قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) أي بتيسيره وتوفيقه وإعانته يدل على أن الكل بقضائه وقدره ، وكذا لو كان المراد بسبب إذن الله في طاعة الرسول. قيل : في الآية دلالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة فإنه لو دعا إلى شرع من قبله لكان المطاع هو ذلك المتقدم ، وفيها دلالة على أن الرسل معصومون عن المعاصي وإلا لم يجب اتباعهم في جميع أقوالهم وأفعالهم. (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالتحاكم إلى الطاغوت (جاؤُكَ) تائبين عن النفاق متنصلين عما ارتكبوا (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) من رد قضاء رسوله (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) انتصب شفيعا لهم إلى الله بعد اعتذارهم إليه من إيذائه برد قضائه (لَوَجَدُوا اللهَ) لعلموه (تَوَّاباً رَحِيماً) ولم يقل : «واستغفرت لهم» لما في الالتفات عن الخطاب إلى ذكر الرسول تنبيه على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان ، فالآية على هذا التفسير من تمام ما قبلها. وقال أبوبكر الأصم : نزلت في قوم من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخلوا عليه لذلك الغرض فأتاه جبريل فأخبره به فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه فليقوموا فليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا. فقال : ألا يقومون فلم يفعلوا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم يا فلان حتى عدّ اثني عشر رجلا منهم فقاموا وقالوا : كنا عزمنا على ما قلت

٤٣٩

ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا. فقال : الآن اخرجوا أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار وكان الله أقرب إلى الإجابة. اخرجوا عني. (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) عن عطاء ومجاهد والشعبي أنها من تمام قصة اليهودي والمنافق. وعن الزهري عن عروة بن الزبير أنها نزلت في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شراج من الحرة ، والشرج مسيل الماء كانا يسقيان بها النخل فقال : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب حاطب وقال : إن كان ابن عمتك؟ وذلك أن أم الزبير صفية بنت عبد المطلب. فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر يعني الجدار الذي يحيط بالمزرعة وهو أصغر من الجدار واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك. واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة ، فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمره به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسامحة لأجله أمره باستيفاء حقه وحمل خصمه على مر الحق. وفي قوله : (فَلا وَرَبِّكَ) قولان : أحدهما أن «لا» صلة لتأكيد معنى القسم والتقدير فو ربك. والثاني أنها مفيدة وعلى هذا ففيه وجهان : الأول أنه يفيد نفي أمر سبق والتقدير ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم بقوله : (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ). الثاني أنها لتوكيد النفي الذي جاء في الجواب ، وهذا الوجه لا يتمشى فيما إذا كان الجواب مثبتا. ومعنى شجر اختلف واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه ، والتشاجر التنازع لاختلاط كلام بعضهم ببعض ، والحرج الضيق أو الشك لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين (وَيُسَلِّمُوا) وينقادوا. يقال : سلم لأمر الله أي سلم نفسه له وجعلها خالصة لحكمه ومن التعليمية من تمسك بالآية في أنه لا يحصل الإيمان إلا بإرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهدايته والنزول على حكمه وقضائه في كل أمر ديني ، ومنع بأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الإله فلو توقفت معرفة الإله على معرفة النبوة لزم الدور فإذن الحكم غير كلي والتقليد في جميع الأحكام غير مرضي. واعلم أن الرضا بتحكيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد يكون رضا في الظاهر دون القلب فلهذا قال : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) وهو الجزم بأن ما حكم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحق والصدق ، ثم من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا فقد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول فعدم الحرج إشارة إلى الانقياد في الباطن والتسليم إشارة إلى الانقياد في الظاهر. وفي الآية دليل على عصمة الأنبياء عن الخطأ في الفتاوي والأحكام ، وعلى أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس وإلّا كان في النفس حرج. قالت المعتزلة : لو كانت المعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض لأن الرضا بقضائه واجب فالرضا بالمعاصي واجب ،

٤٤٠