تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

لكن الرسول قد نهى عنها فيجب أن يحصل الرضا في تركها ويلزم الرضا بالفعل والترك معا وهو محال. وأجيب بأن المراد من قضاء الله التكوين والإيجاد. فالرضا بقضائه أن يعتقد كون الكل بإيجاده ، والمراد من الرضا بقضاء الرسول أن يلتزم ما حكم به ويتلقى بالبشر والقبول فأين ذاك من هذا.

قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) روي أن حاطبا لما أحفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستوعب للزبير حقه في صريح الحكم خرجا فمرا على المقداد فقال : لمن كان القضاء؟ فقال حاطب : قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلتها ، وكذا قال ابن مسعود وعمار بن ياسر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : والله لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك ونزلت الآية. فالضمير في قوله : (عَلَيْهِمْ) يعود إلى الناس والمراد بالقليل المؤمنون منهم. عن ابن عباس ومجاهد أنه يعود إلى المنافقين والمراد أنا لو كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله إلّا قليل منهم رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم ، فإن لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من الانقياد والطاعة لله ولرسوله. وسمى التكليف وعظا لاقترانه بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي أنفع وأفضل من غيره أو خير الدنيا والآخرة لأن (خَيْراً) يستعمل بالوجهين جميعا. (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أقرب إلى ثباتهم على الإيمان والطاعة لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها وتجر إلى المواظبة عليها ، ولأنه حق والحق ثابت والباطل زائل. وأيضا الإنسان يطلب الخير أولا فإذا حصل يطلب ثباته ودوامه. ثم بين أن ما يوعظون به كما هو خير في نفسه فهو أيضا مستعقب للخير فقال : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) وثوابا جزيلا. «وإذا» جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما يكون لهم بعد الخير والتثبيت؟ فقيل : هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما. وفي إيراد صيغة التعظيم في (لَآتَيْناهُمْ) و (لَدُنَّا) وفي قوله : (مِنْ لَدُنَّا) وفي وصف الأجر بالعظم وفي تنكير الأجر من المبالغة ما لا يخفى. والصراط المستقيم الدين الحق أو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة وهذا أولى لأنه مذكور بعد استحقاق الأجر. ثم أكد أمر

٤٤١

الطاعة بقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) ولا شك أن الآية عامة في جميع المكلفين إلّا أن المفسرين ذكروا في سبب نزولها وجوها. قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن. فقال له : يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة فذاك حريّ أن لا أراك أبدا. وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك فما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك ، ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية. فلما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى الأنصاري ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده فعمي مكانه. وقال السدي : إن ناسا من الأنصار قالوا : يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق إليك فكيف نصنع فنزلت. وليس المراد من كون المطيعين مع المذكورين في الآية أن كلهم في درجة واحدة فإن ذلك يقتضي التسوية بين الفاضل والمفضول وإنه محال ، ولكن المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا ، أو إذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا على ذلك. والتحقيق فيه أن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع بل ينعكس بعضها على بعض ويتقوى بعضها ببعض كالمرايا المجلوة المتقابلة. (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧]. ثم إنه تعالى ذكر أصنافا أربعة : النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا شك في تغايرها متداخلة كانت أو متباينة. والمراد بالتداخل أن لا يمتنع كون كل متقدم موصوفا بما يتلوه كأن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صديقا وشهيدا وصالحا ، أو الصديق شهيدا وصالحا ، وقد مر تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوائل البقرة. وأما الصديق فمبالغة الصادق وهو من غلب على أقواله الصدق وإنه لخصلة مرضية في جميع الأديان ومحققة للنطق الذي هو من مقومات الإنسان ، وكفى به منقبة أن الإيمان ليس إلا التصديق ، وكفى بنقيضه مذمة أن الكفر ليس سوى التكذيب. وذكر المفسرون أكثرهم أن الصديقين في الآية كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩] وقال قوم : هم أفاضل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخصصه بعضهم بمن سبق إلى تصديق الرسول فصار في ذلك قدوة الناس كأبي بكر وعلي وأمثالهما ، ولا واسطة بين الصديق والنبي ولذلك قال في هذه الآية : (مِنَ النَّبِيِّينَ

٤٤٢

وَالصِّدِّيقِينَ). وفي صفة إبراهيم (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) [مريم : ٤١] يعني أنك إن ترقيت من الصديقين وصلت إلى النبوة وإن نزلت من النبوة وصلت إليهم. وأما الشهداء فالمراد بهم هاهنا أعم من المقتولين بسيف الكفار من المسلمين. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا : يا رسول من قتل في سبيل الله. قال : إن شهداء أمتي إذا لقليل. «من قتل في سبيل الله فهو شهيد ، ومن مات في الطاعون فهو شهيد ، ومن مات بالبطن فهو شهيد.» وفي رواية «ومن مات بجمع فهو شهيد» (١). وقيل : هو الذي يشهد لصحة دين الله تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان. وأقول : لا يبعد أيضا أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣]. وأما الصالحون فالصالح هو الذي صلح في اعتقاده وفي عمله وهذه مرتبة لا ينبغي أن تنحط عنها مرتبة المؤمن. ثم قال في معرض التعجب (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) كأنه قيل : وما أحسن أولئك. والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه وانتصابه على الحال ، ويجوز أن يكون مفردا بيّن به الجنس في باب التمييز. وقيل : معناه حسن كل واحد منهم رفيقا كما قال (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحج : ٥] والرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل فسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك به وتصحيبه ، ومن الرفقة في السفر لارتفاق بعضهم ببعض. وقد يكون الإنسان مع غيره ولا يكون رفيقا له فبيّن الله تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء للمطيع من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته. (ذلِكَ) مبتدأ و (الْفَضْلُ) صفته و (مِنَ اللهِ) خبره ، أو (ذلِكَ) مبتدأ و (الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) خبره. قالت المعتزلة : ذلك إشارة إلى الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الأنبياء وهذا شيء تفضل الله به عليهم تبعا لثوابهم الواجب على الله. أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ولولا أنه أعطى العقل والقدرة وأزاح الأحذار والموانع لم يتمكن المكلف من فعل الطاعة فصار ذلك بمنزلة من وهب غيره ثوبا لينتفع به فإذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب. وقال أهل السنة : ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم ولا يجب على الله شيء البتة بل الثواب كله فضل من الله ، وكيف يجب عليه شيء وإنه هو الذي خلق القدرة والداعية؟ وأيضا الوجوب عبارة عن استحقاق الذم عند الترك وأنه ينافي الإلهية. وأيضا كل ما فرض من الطاعات فإنه في مقابلة النعم السالفة التي لا تعدّ ولا تحصى فيمتنع كونها موجبة الثواب في المستقبل. معنى الآية أن ذلك الثواب بكمال درجته كأنه هو الفضل وما عداه غير معتمد

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٦٥.

٤٤٣

عليه وذلك الثواب المذكور هو من الله لا من غيره. (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بالطاعة وكيفية الثواب عليها ، وفيه ترغيب للمكلف على إكمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه.

التأويل : الوجود المجازي أمانة من الله تعالى كما أنّ وجود الظل أمانة من الشمس فلا جرم إذا تجلت شمس الربوبية لظلال وجود النفس والقلب والروح يقول بلسان العزة : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) فتلاشت الظلال واضمحلّت الأغيار وانمحت الآثار وبقي الواحد القهار ، وهذا أحد أسرار قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥]. (وَإِذا حَكَمْتُمْ) بعد فناء الوجود المجازي وبقاء الوجود الحقيقي بين الروح والقلب والنفس أن تحكموا بآداب الطريقة فيراقب القلب شواهد اللقاء ويلازم الروح عقبة الفناء والسر وارد سلطان البقاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب مع القلب والروح والسر فإنهم آمنوا على الحقيقة ، وطاعة القلب لله أن يحب الله وحده ، وطاعة الروح أن لا يلتفت إلى غيره ، وطاعة السر أن لا يرى غيره في الوجود. أما الرسول فهو الرسول الوارد من الحق في الباطن كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوابصة بن معبد : استفت قلبك يا وابصة ولو أفتاك المفتون. (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني مشايخكم ومن بيده أمر تربيتكم. (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) يعني منازعة النفس القلب والروح والسر فردوه إلى الكتاب والسنة أو يريد منازعة القلب فيما يحكم به الكتاب والسنّة نزاعا من قصور الفهم والدراية (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) لمراقبة القلوب بشواهد الغيوب (وَإِلَى الرَّسُولِ) وارد الحق بصدق النية وصفاء الطوية ذلك الإيمان الإيقاني بشهود النور الرباني خير من تعلم الكتاب والسنة بالتقليد دون التحقيق. ثم يخبر عن حال أهل القال المتحاكمين إلى طاغوت الهوى والخبال من أهل البدع والضلال بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية. أصابتهم مصيبة ملامة من الخلق أو سياسة من السلطان. (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) فيه أن الإيمان الحقيقي ليس بمجرد التصديق والإقرار ولكنه سيضرب على محك الاعتبار وهو تحكيم الشرع لا الطبع والنبوة لا البنوة والمولى لا الهوى ووارد الحق لا موارد الخلق فيما اختلفت آراؤهم وتحيّرت عقولهم (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي) مرآة (أَنْفُسِهِمْ) صورة كراهة من القضاء الأزلي والأحكام الإلهية. والصديقين الذين لهم قدم صدق عند ربهم ، والشهداء أهل الجهاد الأكبر ، والصالحين الذين لهم صلوح الولاية (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) في سلوك طريق الحق والله المستعان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)

٤٤٤

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١))

القراآت : (لَيُبَطِّئَنَ) ونحوه مثل (فَلَنُنَبِّئَنَ) و (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) بالياء الخالصة : يزيد والشموني وحمزة في الوقف. (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ) بالتاء الفوقانية : ابن كثير وحفص والمفضل وسهل ويعقوب. الباقون بياء الغيبة (يَغْلِبْ فَسَوْفَ) وبابه نحو (إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ) [الرعد : ٥] (اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ) [الإسراء : ٦٣] مدغما : أبوبكر وحمزة غير خلف وعلي وهشام. ولا يظلمون بالياء التحتانية : ابن كثير ، وعلي وحمزة وخلف وهشام ويزيد وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون بتاء الخطاب (بَيَّتَ طائِفَةٌ) مدغما : أبوبكر وحمزة.

الوقوف : (جَمِيعاً) ه (لَيُبَطِّئَنَ) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب (شَهِيداً) ه (عَظِيماً) ه (بِالْآخِرَةِ) ط (عَظِيماً) ه (أَهْلُها) ج (وَلِيًّا) كذلك للتفصيل بين الدعوات (نَصِيراً) ه (فِي سَبِيلِ اللهِ) ج للفصل بين القصتين المتضادتين. (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) ج لاحتمال الابتداء وتقدير الفاء واللام. (ضَعِيفاً) ه (الزَّكاةَ) ط لأنّ جواب «فلما» منتظر ولكن التعجب في قوله : (أَلَمْ تَرَ) واقع على قوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ). (خَشْيَةً) ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. (الْقِتالُ) ج لأنّ «لولا» أي «هلا» استفهام

٤٤٥

آخر مع اتحاد المعمول. (قَرِيبٍ) ط (قَلِيلٌ) ج للفصل بين وصف الدارين. (فَتِيلاً) ه (مُشَيَّدَةٍ) ط للعدول لفظا ومعنى. (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ط للفصل بين النقيضين. (مِنْ عِنْدِكَ) ج. (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ط. (حَدِيثاً) ه. (فَمِنَ اللهِ) ز فصلا بين النقيضين (فَمِنْ نَفْسِكَ) ط. (رَسُولاً) ه. (شَهِيداً) ه (أَطاعَ اللهَ) ج لحق العطف مع ابتداء بشرط آخر (حَفِيظاً) ط لاستئناف الفعل بعدها. (طاعَةٌ) ز لابتداء بشرط مع أن المقصود من بيان نفاقهم لا يتم بعد. (تَقُولُ) ط (يُبَيِّتُونَ) ج لاختلاف الجملتين مع الاتصال أي إذا كتب الله ما يبيتون فأعرض ولا تهتم. (عَلَى اللهِ) ط (وَكِيلاً) ه.

التفسير : إنه سبحانه عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد لأنه أشق الطاعات ولأنه أعظم الأمور التي بها تناط تقوية الدين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) والحذر والحذر بمعنى كالأثر والإثر والمثل والمثل. يقال : أخذ حذره إذا تيقظ واحترز عن المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم. وقيل : المراد بالحذر السلاح لأنه مما يتقي به ويحذر. فإن قيل : أي فائدة في هذا الأمر والحذر لا يغني عن القدر والمقدور كائن والهم فضل؟ قلت : هذا من عالم الأسباب والوسائط المرتبطة ولا ريب أن الكل يقع على نحو ما قدّر ، فمن امتثل وترتب عليه الأثر كان بقدر ، ومن أهمل حتى فاتته السلامة كان أيضا بقدر ، وهكذا شأن جميع التكاليف إذا اعتبر. (فَانْفِرُوا) إلى قتال عدوّكم انهضوا لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإذا استنفرتم فانفروا» (١). (ثُباتٍ) جماعات متفرقة سرية بعد سرية واحدها ثبة محذوفة اللام وأصلها ثبى فعوضت الهاء عن الياء المحذوفة. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه الثبة لوسط الحوض الذي يجتمع عنده الماء وصبيت الشيء جمعته. (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) مجتمعين كركبة واحدة وهذا قريب مما قاله الشاعر : طاروا إليه زرافات ووحدانا. والغرض النهي عن التخاذل وإلقاء النفس إلى التهلكة. (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) اللام الأولى هي الداخلة في خبر «إنّ» والثانية هي الداخلة في جواب القسم ، وتقدير الكلام : لمن حلف بالله ليبطئن وهو إما متعد بسبب التشديد فيكون المفعول محذوفا أي ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو كما هو ديدن المنافق عبد الله بن أبي ثبّط الناس يوم أحد ، وإما لازم فقد جاء بطأ بالتشديد بمعنى أبطأكعتم بمعنى أعتم أي ليتثاقلن وليختلفن عن الجهاد ، وهذا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصيد باب ١٠. مسلم في كتاب الحج حديث ٤٤٥. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٢. الترمذي في كتاب السير باب ٣٢. النسائي في كتاب البيعة باب ١٥. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ٩. الدارمي في كتاب السير باب ٦٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٢٦ ، ٣١٦).

٤٤٦

المعنى أوفق بقوله : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) من قتل أو هزيمة (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) فتح أو غنيمة ليقولن (قوله) (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل الذي هو (لَيَقُولَنَّ) وبين مفعوله وهو (يا لَيْتَنِي) والمنادى محذوف أي يا قوم ليتني. وجوّز أبو علي إدخال حرف النداء في الفعل والحرف من غير إضمار المنادي. (كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) منصوب بإضمار أن أي ليت لي كونا معهم فافوز. والخطاب في قوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ) للمذكورين في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والأظهر أن هذا المبطئ سواء جعل لازما أو متعديا كان منافقا فلعله جعله من المؤمنين من حيث الجنس أو النسب أو الاختلاط أو لأنه كان حكمه حكم المؤمنين لظاهر الإيمان. والمراد يا أيها المؤمنون في زعمكم ودعواكم كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦] ومعنى الاعتراض في البين أن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. وقال جمع من المفسرين : إنّ هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المسلمين. وعلى هذا فالتبطئة بمعنى الإبطاء البتة لأنّ المؤمن لا يثبط غيره ولكنه قد يتثاقل وهم المراد بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) [التوبة : ٣٨] ثم لما ذم المبطئين رغب في الجهاد بقوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ) ومعناه يشترون أو يبيعون. وعلى الأول فهم المنافقون المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويجاهدوا حق الجهاد ولا يختاروا الدنيا على المعاد. وعلى الثاني فهم المؤمنون الذين تركوا الدنيا لأجل الآخرة. والمراد إن أبطأ أهل النفاق وضعفة الإيمان عن القتال فليقاتل التائبون المخلصون. وقيل : يحتمل أن يراد المؤمنون على التقدير الأول أيضا لأن الإنسان إذا أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله ، أو لعله أريد اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي ، أو المراد أنهم كانوا يرجحون الحياة على الموت لاستيفاء السعادات البدنية فقيل لهم : قاتلوا فإنكم تستولون على الأعداء وتفوزون بالأموال. (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) وعد الأجر العظيم على تقديري المغلوبية والغالبية ليعلم أنه لا عمل أشرف من الجهاد ، وليكون المجاهد على بصيرة من حاله على أي تقدير كان فيقدم ولا يحجم ، ثم زاد في تحريضهم فقال : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ الحال إلى ما بلغ. وقوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) إما مجرور أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين ، وإما منصوب على الاختصاص أي وأخص من سبيل الله الذي هو عام في كل خير خلاص المستضعفين وهم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون والإعسار والضعف

٤٤٧

عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم أذلاء يلقون منهم أذى شديدا ، فكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح. والولدان جمع ولد كخربان في خرب. وقيل : الرجال والنساء الأحرار والحرائر ، والولدان العبيد والإماء لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة وجمعهما الولدان والولائد إلّا أنه خص الولدان بالذكر تغليبا كالآباء والإخوة مع إرادة الأمهات والأخوات أيضا. وعن ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين من الولدان والنساء. والظالم صفة للقرية إلّا أنه مسند إلى أهلها فتبع القرية في الإعراب ، وهو مذكر لإسناده إلى الأهل. والأهل يذكر ويؤنث ، ولو أنّث لا لتأنيث الموصوف بل لجواز تأنيث الأهل جاز. وإنما اشترك الولدان في الدعاء وإن كانوا غير مكلفين لأن المشركين كانوا يؤذونهم إرغاما لآبائهم ، أو لأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغائرهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس ، ووردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء. (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي كن أنت لنا وليا وناصرا وولّ علينا رجلا يوالينا ويقوم بمصالحنا. فاستجاب الله دعاءهم لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميرا لهم فكان الولي هو الرسول ، وكان النصير عتاب بن أسيد كما أرادوا. قال ابن عباس : كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعزّ بها من الظلمة. ثم شجع المؤمنين تشجيعا بأن أخبرهم أنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليّهم وناصرهم وأعداؤهم يقاتلون في سبيل غير الله وهو الطاغوت والشيطان فلا ولي لهم إلّا الشيطان وإن كيده أوهن شيء وأضعفه. والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال. وفائدة إدخال «كان» أن يعلم أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة. ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا مدة حياتهم في غاية الخمول والفقر ، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم؟

قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) فيه قولان : الأول أنها نزلت في المؤمنين نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص ؛ كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا ويقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائذن لنا في قتال هؤلاء. فيقول لهم : كفوا أيديكم عنهم فإني لم أؤمر بقتالهم. فلما هاجر إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين كرهه بعضهم وشق عليهم. الثاني قال ابن عباس في رواية أبي صالح : لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد : لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما

٤٤٨

قتلوا فنزلت. وقد يحتج للقول الأول بأن رغبتهم في القتال أوّلا دليل الإيمان ، ويمكن أن يجاب بأن المنافقين أيضا كانوا يظهرون الرغبة في الجهاد إلى أن أمروا بالقتال فأحجموا. واحتج أصحاب القول الثاني بأنهم كانوا يخشون الناس كخشية الله أو أشد ، وكانوا يعترضون على الله تعالى بقولهم : (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) وكانوا يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلهذا قيل لهم (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) وكل هذه الأمور من نعوت المنافقين وأجيب بأن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع وهو المعنى بالخشية والاعتراض محمول على تمني تخفيف التكليف لا على الإنكار وقوله : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) إنما ذكر ليهون على قلبهم أمر هذه الحياة. والأقوى حمل الآية على المنافقين لأن ما بعدها وهو قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) في شأنهم بلا اختلاف. وفي الآية دلالة على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على الجهاد وهو أيضا ترتيب مطابق لما في المعقول ، لأنّ التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله مقدمان على الترهيب والقتل في سبيل الله. وإذا في (إِذا فَرِيقٌ) للمفاجأة وهو مجرد عن الظرفية والعامل في لما معنى المفاجأة أي فاجأ وقت خشية فريق زمان كتبة القتال عليهم. وقوله : (كَخَشْيَةِ اللهِ) من إضافة المصدر إلى المفعول. ومحل الكاف النصب على الحال لما عطف عليه من قوله : (أَوْ أَشَدَّ) ثم نصب (خَشْيَةً) على التمييز فالتقدير : يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله أو أشد خشية من خشية أهل الله. نعم لو قيل : أشد خشية بالإضافة انتصب خشية الله على المصدر ولا يمكن أن يقال أشد خشية بالنصب على إرادة المصدر ، اللهم إلّا أن تجعل الخشية خاشية أو ذات خشية مثل جد جده فيكون المعنى : خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله. وعلى هذا يجوز أن يكون محل (أَشَدَّ) مجرورا عطفا على خشية الله أي كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها. وكلمة «أو» ليست للشك هاهنا فإن ذلك على علام الغيوب محال ولكنها بمعنى الواو ، أو المراد أن كل خوفين فإن أحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد ، فبيّن في الآية أن خوفهم من الناس ليس بأنقص من خوفهم من الله فيبقى إما أن يكون مساويا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه ولكنه يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطبين. أو هذا نظر قوله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١١٧] يعني أن من يراهم يقول هذا الكلام. (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [النساء : ٧٧] إن كانت الآية في المؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله ولكن جزعا من الموت وحبا للحياة واستزادة في مدة الكف واستمهالا إلى وقت آخر كقوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى

٤٤٩

أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) [المنافقون : ١٠] وإن كان من كلام المنافقين فلا شك أنهم كانوا منكرين لكتبة القتال عليهم ، فهم قالوا ذلك بناء على زعم الرسول ودعواه. ومعنى (لَوْ لا أَخَّرْتَنا) هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ) لا لكل الناس بل (لِمَنِ اتَّقى) فإن للكافر والفاسق هنالك نيرانا وأهوالا ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (١). وأما ترجيح الآخرة فلأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة ، ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبّدة ، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار ونعم الآخرة صافية عن الأكدار ، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها. ثم بكت الفريق الخائنين بأنهم يدركهم الموت أينما كانوا ولو كانوا في حصون مرتفعة. والبروج في كلام العرب القصور والحصون وأصلها من الظهور ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها. والغرض أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب للسعادة الأبدية ، وإذا كان لا بد من الموت فوقوعه على هذا الوجه أولى. قال المفسرون : كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله تعالى عنهم بعض الإمساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [الأعراف : ٩٤] فعند هذا قالت اليهود والمنافقون : ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل ؛ نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم. فقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) يعني الخصب والرخص وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله ، وإن تصبهم سيئة يعني الجدب وانقطاع الأمطار قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١]. وقال قوم : الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة ، والسيئة القتل والهزيمة. وقال أهل التحقيق : خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وكل ما ينتفع به فهو حسنة. فإن كان منتفعا به في الدنيا فهو الخصب والغنيمة وأمثالهما ، وإن كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة. فالحسنة تعم الحسنات ، والسيئة تعم السيئات فلا جرم أجابهم الله تعالى بقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وكيف لا وجميع الممكنات من الأفعال والذوات والصفات لا بد من استنادها إلى الواجب بالذات؟ ولهذا تعجب من حالهم وقال : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فنفى عنهم مقاربة الفقه والفهم فضلا عن الفقه والفهم. قالت المعتزلة : بل هذه الآية حجة لنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث ١. الترمذي في كتاب الزهد باب ١٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣. أحمد في مسنده (٢ / ١٩٧).

٤٥٠

الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى البتة لأنه تعالى ما خلقها. والجواب : أنه تعالى لا يسأل عما يفعل. وأيضا المعارضة بالعلم والداعي. وقالت المعتزلة أيضا : الحديث «فعيل» بمعنى «مفعول» والمراد به الآيات المذكورة في هذه المواضع فيلزم منه كون القرآن محدثا. والجواب بعد تسليم ما ذكروا أنه لا نزاع في حدوث العبارات إنما النزاع في الكلام النفسي.

قوله عز من قائل : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) قال أبو علي الجبائي : السيئة تارة تقع على البلية والمحنة وتارة تقع على الذنب والمعصية. ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله : (وَما أَصابَكَ) أي يا إنسان خطابا عاما (مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فلابد من التوفيق وإزالة التناقض ، وما ذاك إلّا بأن يجعل هناك بمعنى البلية وهاهنا بمعنى المعصية. قال : وإنما فصل بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة مع أن كليهما من فعل العبد عندنا ، لأنّ الحسنة إنما تصل إلى العبد بتسهيل الله وألطافه فصحت إضافتها إليه ، وأما السيئة فلا يصح إضافتها إلى الله تعالى لا بأنه فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها. وقال في الكشاف : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) أي من نعمة وإحسان (فَمِنَ اللهِ) تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي من بلية ومصيبة (فَمِنْ عِنْدِكَ) لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك كما روي عن عائشة «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلّا بذنب وما يعفو الله أكثر منه» (١). وقالت الأشاعرة : كل من الحسنة والسيئة بأي معنى فرض فإنها من الله تعالى لوجوب انتهاء جميع الحوادث إليه. لكنه قد يظن بعض الظاهريين أن إضافة السيّئة إلى الله تعالى خروج عن قانون الأدب فبين في الآية أن كل ما يصيب الإنسان من سيّئة حتى الكفر الذي هو أقبح القبائح فإن ذلك بتخليق الله تعالى. والوجه فيه أن يقدر الكلام استفهاما على سبيل الإنكار ليفيد أن شيئا من السيّئات ليست مضافة إلى الإنسان بل كلها بقضائه ومشيئته ، ويؤيده ما يروى أنه قرىء (فَمِنْ نَفْسِكَ) بصريح الاستفهام. ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله بعد ذلك : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) أي ليس لك إلّا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على جدّك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي ، فأما

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المرضى باب ١. مسلم في كتاب البر حديث ٥٢. الترمذي في كتاب الجنائز باب ١. أحمد في مسنده (٢ / ٣٠٣) ، (٣ / ٤ ، ١٨).

٤٥١

تحصيل الهداية فليس إليك بل إلى الله. قال علماء المعاني : قوله (رَسُولاً) حال من الكاف أي حال كونك ذا رسالة و (لِلنَّاسِ) صفة (رَسُولاً) متعلق ب (أَرْسَلْناكَ) وإلّا لقيل إلى الناس. فأصل النظم وأرسلناك رسولا للناس فلابد للتقديم من خاصية هو التخصيص أعني ثبوت الحكم للمقدم ونفيه عما يقابله حقيقة أو عرفا لا عما عداه مطلقا. وبعد تقديم هذه المقدمة فاللام في قوله : (لِلنَّاسِ) إما أن يكون للعهد الخارجي أو للجنس أو للاستغراق. والأول باطل لأن المعهود الخارجي حصة معينة من الأفراد فيلزم اختصاص إرساله ببعض الإنس لوقوع بعض الناس في مقابلة كلهم عرفا فيكون مناقضا لما في الآيات الأخر كقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] ولقوله : «بعثت إلى الخلق كافة» والثاني وهو حمل اللام على تعريف الجنس أيضا باطل لأنه يلزم اختصاص إرساله بالإنس دون الجن ، لأنّ ثبوت الحكم لحقيقة الإنس بوساطة التقديم ينفي الحكم عما يقابلها عرفا وهو حقيقة الجن ، أو ينفي الحكم عما عداها من الحقائق فيشمل حقيقة الجن ضرورة. وعلى التقديرين يلزم الخلف لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى الثقلين لقوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) [الأحقاف : ٢٩] الآية. فتعين حمل اللام على الاستغراق ليثبت الحكم لكل فرد من أفراد الإنسان وتحصل موجبة كلية وينفي نقيض هذا الحكم وهو ما كان يزعمه الضالة من سالبة جزئية هي أنه ليس مبعوثا إلى بعض الناس كالعجم وأنه رسول العرب خاصة ، وعلى هذا يكون الجن مسكوتا عنهم بالنسبة إلى هذه الآية. فلدلالة دليل آخر على كونه مبعوثا إلى الثقلين لا تكون منافية لدلالة هذه الآية ، لأن التقديم قد استوفى حظه من الخاصية من غير تعرض للجن. ثم لما بين أنه لكل فرد من أفراد الناس رسول أوجب طاعته بقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لأنّ طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو رسول لا تكون إلّا طاعة لله. قال مقاتل في هذه الآية : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون : لقد قارف الرجل الشرك ، هو ينهي أن يعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية. وهي من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي تبليغه وفي أفعاله وإلّا لم تكن طاعته فيما أخطأ طاعة لله. (وَمَنْ تَوَلَّى) قيل : هو التولي بالقلب أي حكمك يا محمد على الظواهر ، وأما البواطن فلا تتعرّض لها. وقيل : هو التولي بالظاهر ومعناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولّي. (فَما أَرْسَلْناكَ) لتحفظ الناس عن المعاصي فإن من أضلّه الله لم يقدر أحد على إرشاده. والمعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عند ذلك التولي كقوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : ٢٥٦] ثم نسخ بآية الجهاد. ثم حكى سيرة المنافقين بقوله :

٤٥٢

(وَيَقُولُونَ) أي حين ما أمرتهم بشيء (طاعَةٌ) أي أمرنا وشأننا طاعة ، والنصب في مثل هذا جائز بمعنى أطعناك طاعة ، ولكن الرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فلهذا لم يقرأ بغيره (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي دبرت خلاف ما أمرت به وما ضمنت من الطاعة. قال الزجاج : كل أمر تفكروا فيه كثيرا وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيرا قيل هذا أمر مبيت. وفي اشتقاقه وجهان : الأول أن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس في بيته في الليل فهناك يكون الخاطر أصفى والشواغل أقل فلا جرم سمي الفكر المستقصى تبييتا .. الثاني قال الأخفش : إذا أراد العرب قرض الشعر بالقوافي بالغوا في التفكر فيه فسمي الفكر البليغ تبييتا ، فاشتقاقه من أبيات الشعر. ثم إنه تعالى خص طائفة من المنافقين بالتبييت ، وذكروا في التخصيص وجهين : أحدهما أنه ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه ، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فلم يذكرهم. وثانيهما أن هذه الطائفة كانوا قد سهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا. قلت : ووجه ثالث وهو أن هذا النوع من الكلام أجلب للقلوب وأدخل في عدم الإنكار. (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في شأنهم فإنّ الله ينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعزت أنصاره. قال بعضهم : الأمر بالإعراض منسوخ بآية الجهاد. والأكثرون على أن الصفح مطلق فلا حاجة إلى التزام النسخ والله تعالى أعلم.

التأويل : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) وهو ذكر الله (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) جاهدوا بالرياضات من عالم التفرقة وهو عالم الحيوانية (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) من عالم الجمعية وهو عالم الروحانية إلى عالم الوحدة (وَإِنَّ مِنْكُمْ) أيها الصدّيقون (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) من المدعين المتكاسلين في السير ، القانعين بالاسم ، النازلين على الرسم مصيبة شدة ومجاهدة فضل من الله مواهب غيبية وعلوم لدنية ومرتبة عند الخواص وقبول عند العوام يشترون الحياة الدنيا يشترون حظوظ النفس بحقوق الرب فيقتل نفسه بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر فتسلم على مدة. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ) أي الأرواح الضعيفة استضعفتها النفوس باستيلائها عليها (وَالنِّساءِ) أي القلوب فإنّ القلب للروح كالزوجة للزوج لتصرف الروح في القلب كتصرف الزوج في الزوجة. (وَالْوِلْدانِ) الصفات الحميدة المتولّدة بين الروح والقلب (مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية البدن (الظَّالِمِ أَهْلُها) وهي النفس الأمارة بالسوء (نَصِيراً) شيخا مربيا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) من أهل السلامة (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) من الاعتصام بحبل أهل الملامة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فإنكم لستم أهل الغرام فاقنعوا بدار السلام والسلام لأرباب

٤٥٣

الغرام من أهل الملام (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) ويخافون لومة الناس ولو كان من شرطهم أن لا يخافوا لومة لائم ولا يناموا نومة نائم فنفروا عن فريقهم كالبهائم ، وضلوا عن طريقهم كالهائم. (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) فنموت بالآجال فإن لنا كل لحظة موتة في ترك حظوة. فيا أيها البطلة في زي الطلبة الذين غلب عليكم حب الدنيا فأقعدكم عن طلب المولى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) اضطرارا إن لم تموتوا قبل أن تموتوا اختيارا (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أجسام قوية مجسمة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) يعني أهل البطالة (حَسَنَةٌ) من فتوحات غيبية (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا يرون للشيخ فيما عليهم حقا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) من الرياضات والمجاهدات (يَقُولُوا) للشيخ (هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي بسببك وسعيك (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) القبض والبسط والفرح والترح (ما أَصابَكَ) من فتح وموهبة (فَمِنَ اللهِ) فضلا وكرما (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) بلاء وعناء (فَمِنَ) شؤم صفات (نَفْسِكَ) الأمارة. والتحقيق فيه أن للأعمال أربع مراتب : التقدير والخلق وهاتان من الله تعالى ، والكسب والفعل وهاتان من العبد ، وإن كان العبد وكسبه وفعله كلها مخلوقة خلقها الله تعالى فافهم. (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) يهتدون بهداك ويتبعون خطاك ، ويقولون إذا كانوا حاضرين في صحبتك ، وتنعكس أشعة أنوار النبوة عليهم ، ويصغون بآذانهم الواعية إلى الحكم والمواعظ الوافية السمع والطاعة. (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) وهبت عليهم رياح الهوى عاد الطبع المشئوم إلى أصله وهكذا حال أكثر مريدي هذا الزمان من مشايخهم والله يكتب بغير عليهم (ما يُبَيِّتُونَ) لأنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) واصبر معهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فلعل الله يصلح بالهم.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ

٤٥٤

سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

القراآت : (وَمَنْ أَصْدَقُ) وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الصاد الزاي : علي ورويس وحمزة غير العجلي. (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) وبابه مدغما : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل حصرة صدورهم بالنصب والتنوين.

الوقوف :(الْقُرْآنَ) ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط. (كَثِيراً) ه (أَذاعُوا بِهِ) ط (مِنْهُمْ) ط (قَلِيلاً) ه (فِي سَبِيلِ اللهِ) ج ط لأن قوله : (لا تُكَلَّفُ) يحتمل الاستئناف والحال أي قاتل غير مكلف. (إِلَّا نَفْسَكَ) ط لعطف قوله : (وَحَرِّضِ) على قوله : (فَقاتِلْ). (الْمُؤْمِنِينَ) ج لأنّ (عَسَى) مستأنف لفظا ومتصل معنى لأنه لترجية نجح ما أمر به. (كَفَرُوا) ط (تَنْكِيلاً) ه (نَصِيبٌ مِنْها) ط لابتداء شرط آخر مع واو العطف. (كِفْلٌ مِنْها) ط (مُقِيتاً) ه (رُدُّوها) ط (حَسِيباً) ه (إِلَّا هُوَ) ط (لا رَيْبَ فِيهِ) ط (حَدِيثاً) ه (بِما كَسَبُوا) ط (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط. (سَبِيلاً) ه (فِي سَبِيلِ اللهِ) ط (وَجَدْتُمُوهُمْ) ص (نَصِيراً) ه ط (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) ط (فَلَقاتَلُوكُمْ) ط (السَّلَمَ) لا لأن ما بعده جواب «فإن». (سَبِيلاً) ه (قَوْمَهُمْ) ط (أُرْكِسُوا فِيها) ج (ثَقِفْتُمُوهُمْ) ط (مُبِيناً) ه.

التفسير : لما حكي عن المنافقين ما حكى وكان السبب فيه اعتقادهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير محق في ادعاء الرسالة ، أمرهم بالتفكر والتدبر وهو النظر في عواقب الأمور وأدبارها ، ومنه قول أكثم : لا تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها. ويقال في فصيح الكلام : لو استقبلت من أمري ما استدبرت. أي لو عرفت في صدره ما عرفت من عاقبته. وظاهرا الآية يدل على أنه احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلا انقطع النظم. ودلالة القرآن على صدق النبي من ثلاثة أوجه : الفصاحة والاشتمال على الغيوب والسلامة من الاختلاف وهو المقصود من الآية. واختلف المفسرون في المراد من سلامته من الاختلاف. فقال أبو بكر الأصم : معناه

٤٥٥

أن المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكايد ، والرسول كان يخبرهم عنها حالا فحالا. فقيل لهم : إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لم يطرد صدقه ولظهر أنواع الاختلاف والتفاوت. وقال أكثر المتكلمين : المراد تجاوب معانيه وتلاؤم مقاصده مع أنه مشتمل على علوم كثيرة وفنون غزيرة ، ولو كان من عند غير الله لم يخل من تناقض واضطراب. والذي تظن به التناقض كقوله : (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] مع قوله : (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] أو كقوله : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الشعراء : ٣٢] مع قوله : (كَأَنَّها جَانٌ) [القصص : ٣١] ليس بذاك عند التدبر وملاحظة شروط التناقض من اتحاد الزمان والمكان وغيرهما وقال أبو مسلم : المراد صحة نظمه وكون كله بل كل جزء من أجزائه وأبعاضه بالغا حد الإعجاز. ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة فلا بد أن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا ، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه معجز من عند الله تعالى. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال أعني التدبر فيما إليه سبيل. وقال الجبائي : فيها دلالة على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله لأن فعل العبد لا ينفك عن التفاوت والاختلاف. والجواب أنه لا يلزم من كون كلامه غير متفاوت ولا مختلف أن لا تكون أفعاله مختلفة بحسب اختلاف المظاهر والقوابل. سلمنا لكن اختلافه وهو كونه غير مطابق للأغراض والمقاصد الإنسانية قد يكون بحسب نظرنا لا بحسب الأمر نفسه. ثم حكى عن المنافقين ـ وقيل عن ضعفة المسلمين ـ أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوا به وأفشوه. يقال : أذاع السر وأذاع به لغتان. ويجوز أن يكون معنى أذاع به فعل به الإذاعة وهو أبلغ. ولا يخفى ما في ذلك الإفشاء من الضرر من جهة أن الإرجاف لا ينفك عن الكذب ، ومن جهة أن تلك الزيادات إن كانت في جانب الأمن ولم تقع أورثت شبهة لضعفة المسلمين في صدق الرسول ، لأن المنافقين كانوا يروونها عن الرسول ، وإن كانت في جانب الخوف حصل اضطراب في الضعفة ووقعوا في الحيرة. وأيضا البحث عن الإرجاف موجب ظهور الأسرار وذلك لا يوافق مصلحة المدينة فربما وصل الخبر إلى الكفار فاستعدوا للقتال أو تحصنوا. وفي معنى الآية أقوال : الأول : ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أولي الأمر ـ وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم ـ (لَعَلِمَهُ) لعلم تدبير ما أخبروا به (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها ، وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو الماء يخرج من

٤٥٦

البئر أول ما تحفر فاستعير لاستخراج المعاني. والتدبير الثاني : كانوا يقفون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فتعود إذاعتهم مفسدة. فقيل لهم : لو فوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وكانوا كأن لم يسمعوا العلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. الثالث : كانوا يسمعون من أفواه بعض المنافقين شيئا من خبر السرايا غير معلوم الصحة فيذيعونه فقيل لهم : لو سكتوا حتى سمعوه من الرسول وأولي الأمر لعلموا صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع فالمستنبطون هم المذيعون. ومعنى يستنبطونه منهم يتلقونه من الرسول وأولي الأمر ويستخرجون علمه من جهنم. قالت العلماء : في الآية دلالة على أن القياس حجة لأنهم أمروا أن يرجعوا في معرفة الوقائع إلى أولي الأمر من المستنبطين. فرواية النص لا تكون استنباطا فهو إذن رد واقعة إلى نظيرها وهو القياس. واعترض بأنا لا نسلم أن المستنبطين هم العلماء وأولو الآراء بل هم المذيعون كما في القول الثالث. سلمنا لكن الآية نزلت في الحروب ، ولا يلزم من جواز الاستنباط في الوقائع المتعلقة بها جواز الاستنباط في الوقائع الشرعية. فإن قيس أحد البابين على الآخر كان إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي. سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد استخراج الأحكام الشرعية من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص أو بالبراءة الأصلية أو بحكم العقل كما يقول الأكثرون إن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة وكل هذه الأمور ليست من القياس الشرعي في شيء؟ سلمنا أن القياس الشرعي داخل في الآية. لكن بشرط كونه مفيدا «للعلم» بدليل قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) ولا نزاع في مثله إنما النزاع في أن القياس المفيد للظن هل هو حجة أم لا. وأجيب بأن صرف المستنبطين إلى المذيعين ليس بالقوي إذ لو كان المراد ذلك لكان الأليق بنظم الكلام أن يقال : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لعلموه من غير إقامة المظهر مقام المضمر. وعن الثاني بأن الأمن أو الخوف عام في كل ما يتعلق بباب التكليف. ولئن سلم أنه مخصوص بأمور الحرب فإذا عرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي لزم جواز التمسك به في سائر الوقائع إذ لا قائل بالفرق. ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه؟ وعن الثالث أن شيئا من ذلك لا يسمى استنباطا. وعن الرابع أن العلم قد يراد به الظن الغالب. سلمنا لكن القياس الشرعي عندنا يفيد العلم لأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع ، حصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الأصل ، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن وهذا معنى قولهم : «الظن واقع في طريق الحكم» والحكم مقطوع به كأنه تعالى قال : مهما

٤٥٧

غلب على ظنك كذا في الواقعة الفلانية فاعلم قطعا أن حكمي فيها كذا. أما قوله (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) فظاهره يقتضي إشكالا وهو أن قليلا من الناس لا يحتاج في عدم اتباع الشيطان إلى فضل الله ورحمته ، لكن الاحتياج بالنسبة إلى كل واحد من الناس ثابت بالاتفاق فهذا تناقض. فذكر المفسرون في إزالة التناقض وجوها الأول : أن الاستثناء راجع إلى قوله : (أَذاعُوا بِهِ) كأنه تعالى أخرج بعض المنافقين من هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله : (بَيَّتَ طائِفَةٌ) الثاني : أنه عائد إلى قوله : (لَعَلِمَهُ) يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلّا قليلا. قال الفراء والمبرد : القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله. وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك ، قال الزجاج : هذا غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إلّا البالغ في البلادة. والإنصاف أن الاستنباط لو حمل على مجرد تفرق الأخبار والأراجيف فكلام الزجاج الصحيح وإن كان محمولا على استخراج الأحكام الشرعية كما مر فالحق ما ذكره الفراء والمبرد. الثالث : أن الاستثناء مصروف إلى ما يليه كما هو حق النسق لأن الفضل والرحمة مفسران بشيء خاص وفيه وجهان : أحدهما قول جماعة من المفسرين أن المراد إنزال القرآن وبعثة محمد والتقدير : لو لا بعثة محمد وإنزال القرآن لا تبعتم الشيطان ولكفرتم بالله إلّا القليل منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ، كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وثانيهما قول أبي مسلم أن المراد بالفضل والرحمة هاهنا نصرته تعالى ومعونته اللذان تمناهما المنافقون بقولهم : (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء : ٧٣] والتقدير : لو لا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لتركتم الدين إلّا القليل منكم وهم أهل البصائر والعزائم ، ومن أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا ، فلا تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا ، ولا انقطاع النصر والغلبة يدل على كونه باطلا ، بل الأمر في كونه حقا وباطلا مبني على الدليل وهذا أحسن الوجوه. قوله : (فَقاتِلْ) قيل : إنه جواب لقوله : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) [النساء : ٧٤] كأنه تعالى قال : إن أردت الفوز فقاتل. وقيل : إنه متصل بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إليهم بل قاتل فإنك لا تؤاخذ إلّا بفعلك ، فإذا أديت فرضك لم تكلف فرض غيرك ، ويعلم من قوله : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أن الواجب على الرسول إنما هو الجهاد وتحريض الناس على الجهاد أي الحث والإحماء عليه ، فإذا أتى بالأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا شيء. واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات ، فما لم يغلب على الظن أنه مفيد لم يجب

٤٥٨

بخلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وبدليل قوله هاهنا : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وعسى من الله جزم لأن الرجاء عليه محال فهو إطماع وإطماع الكريم إيجاب فلزمه الجهاد وإن كان وحده فلا جرم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في بدر الصغرى : «لأخرجن وحدي» فخرج وتبعه سبعون راكبا ، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده ، ثم إنه تعالى كف بأس المشركين وألقى الرعب في قلوب أبي سفيان وأصحابه حتى ندموا وترك الحرب في تلك السنة. وفي الآية دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أشجع الخلق لأنه تعالى لم يأمره بالقتال وحده إلّا أنه كذلك. وقيل : اقتدى به أبو بكر حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ومن عرف أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحدث شيء إلّا بقضاء الله سهل عليه الفوت وكان بمعزل عن تقية الموت. (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من قريش (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تعذيبا لأن عذاب الله دائم وعذاب غيره غير دائم ، وعذاب غير الله يخلصه الله عنه وعذاب الله لا يقدر أحد على تخليصه منه ، وعذاب غير الله يكون من وجه واحد وعذاب الله يصل إلى جميع الأبعاض والأجزاء ويشمل الروح والجسم فهذا طرف من الفرق والله أعلم بكنه عذابه ونعوذ بالله من عقابه.

قوله سبحانه : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) وجه نظمه يعرف من تفسيره وذلك أنه قيل : المراد منه تحريض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم على الجهاد ، لأنه إذا كان يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفيعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد. وأيضا التحريض وهو الحث على سبيل الرفق والتلطف والتهديد جار مجرى الشفاعة. وقيل : كان بعض المنافقين يشفع لمنافق آخر فى أن يأذن له الرسول في التخلف عن الجهاد ، وكان بعض المؤمنين يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث أن يحصل له عدّة الجهاد فنزلت. ونقل الواحدي عن ابن عباس أن الشفاعة الحسنة هاهنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار ، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالله بمحبة الكفار وترك إيذائهم. وقال مقاتل : الشفاعة إلى الله إنما هي دعوة الله المسلم لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك» (١) فذلك النصيب والدعوة على المسلم بضد ذلك. وقال الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد : هي مطلق الشفاعة والحسنة منها هي التي بها روعي حق مسلم ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله ولم يؤخذ عليها رشوة وكانت في أمر حائز لا في حد من حدود الله ولا في إبطال حق من الحقوق ، والسيئة ما كان بخلاف ذلك ، وعلى هذا فوجه النظم أن التحريض على الجهاد بعث على الفعل الحسن وأنه نوع شفاعة كما مر في القول

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب البر باب ٥٠. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٥.

٤٥٩

الأول. وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها. قال أهل اللغة : الكفل أيضا النصيب فهل لاختلاف اللفظين فائدة؟ فأجيب بأن الكفل اسم للنصيب الذي يكون عليه اعتماد الإنسان ومنه يقال «كفل البعير واكتفله» إذا أدار حول سنامه كساء وركب. والكفيل الضامن لأن الغريم اعتمد عليه. والتقدير من يشفع شفاعة سيئة يكن له منها نصيب يعتمد عليه ويكون له ذخيرة في معاشه ومعاده والغرض التهكم وحصول ضد ذلك مثل : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي مقتدرا وحفيظا. واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها. والغرض أنه قادر على كل المقدورات حفيظ لجميع المعلومات فيجازي كل شافع بما يليق بحاله ، ثم لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسالمة أو ألقوا في المبارزة بالسلم فقابلوهم بالإكرام وأيضا السلام دعاء بالسلامة والدعاء نوع من الشفاعة والتحية تفعلة من الحياة ويجيء الناقص من باب التفعيل على «تفعلة» مثل : تسلية وتعزية. لكنه أدغم هاهنا لاجتماع المثلين. وكانت العرب تقول عند التلاقي حياك الله. دعاء له بالحياة فأبدل الله ذلك بالسلام ، ولعمري إن هذا أحسن لأن الحياة إن لم تكن مقرونة بالسلامة لم يعتد بها بل لعل الموت خير منها ، ولأن السلام اسم من أسماء الله تعالى فالابتداء به أولى ، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع وقد سلم الله عليك يا مؤمن في اثني عشر موضعا في الأزل ولهذا سمى نفسه بالسلام ، وعلى لسان نوح : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨] والمراد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم عليك على لسان جبريل : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ) [القدر : ٥] قال المفسرون إنه خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى فقال الله تعالى : لا تهتم بذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا إلّا إني جعلت جبرائيل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني. وسلم عليك على لسان موسى : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧] وسلم عليك على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩] وأمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسلام عليك : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ٥٤] وأمر المؤمنين بالسلام عليك : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) وسلم عليك على لسان ملك الموت : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [النحل : ٣٢] قيل : إن ملك الموت يسلم في أذن المسلم : السلام يقرئك السلام ويقول : أجبني فإني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك ، فإذا سمع المؤمن البشارة يقول لملك

٤٦٠