تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الموت : لا هدية أعز من روحي فاقبض روحي هدية لك. وسلم عليك من الأرواح الطاهرة : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٩١] وسلم عليك على لسان خزنة الجنة : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] وسلم عليك على لسان الملائكة في الجنة : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٤] وسلم عليك على لسان أهل الجنة : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وسلم عليك إلى الأبد : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] ولما أراد إكرام يحيى عليه‌السلام وعده بالسلام في مواطن ثلاثة هي أشد الأوقات حاجة إلى السلام فقال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ١٥] ولما ذكر تعظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] وعن عبد الله بن سلام قال : لما سمعت بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت عنه : «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (١) وكانت تحية النصارى وضع اليد على الفم ، وتحية اليهود الإشارة بالأصابع ، وتحية المجوس الانحناء ، وتحية الجاهلية «حياك الله» ، وتحيتهم للملوك «أنعم صباحا» فشتان ما بين تحياتهم وتحيتنا «السلام عليك ورحمة الله وبركاته» وفي هذا دليل على أن هذا الدين أشرف الأديان وأكملها. ومما يدل على فضيلة السلام عقلا أن الوعد بالنفع قد يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر ، وأما الوعد بترك الضرر فإنه يقدر عليه لا محالة والسلام يدل عليه فهو أفضل أنواع التحية. قال بعض العلماء : فمن دخل بيتا وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفشوا السلام» والأمر للوجوب ، ولأن السلام بشارة بالسلامة وإزالة الضرر وهو واجب لقوله : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (٢) ولأنه من شعائر الإسلام وإظهار شعائر الإسلام واجب. وعن ابن عباس والنخعي وأكثر العلماء أن السلام سنة. وأما الجواب فواجب بالإجماع لأن ترك الجواب إهانة والإهانة ضرر والضرر حرام ولقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) وظاهر الأمر الوجوب وعن ابن عباس : ما من

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٥٦. أحمد في مسنده (٥ / ٤٥١).

(٢) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ٤ ، ٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٦٤. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٢. الترمذي في كتاب القيامة باب ٥٢. النسائي في كتاب الإيمان باب ٨ ، ٩. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٤ ، ٨. أحمد في مسنده (٢ / ١٦٠ ، ١٦٢) ، (٦ / ٢١).

٤٦١

رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلّا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة. قال العلماء : الأحسن أن يزيد في جواب السلام الرحمة ، وإن ذكر في الابتداء السلام والرحمة زاد في جوابه البركة ، وإن ذكر المجموع أعادها فقط فإن منتهى الأمر في السلام أن يقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لأن هذا القدر هو الوارد في التشهد. وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : السلام عليك يا رسول الله. فقال : وعليك السلام ورحمة الله ، وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله. فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وجاء ثالث وقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال : وعليك فقال : نقصتني فأين قول الله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) فقال : إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله. فقوله تعالى : (أَوْ رُدُّوها) أي أجيبوها بمثلها ، ورد السلام كرّة ورجعة إما إشارة إلى هذه الصورة وإما إلى التخيير بين الزيادة وتركها ، ورد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به بعض سقط عن الباقين. والأولى أن يقوم به الكل إكثارا للإكرام ، والأحسن أن يدخل حرف العطف فيقول : وعليكم السلام. وهو واجب على الفور بقدر ما يعهد بين الإيجاب والقبول في العقود فإن أخر عن ذلك كان ابتداء سلام لا جوابا وإذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتابة أيضا واجب لقوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا) ومن قال لآخر أقرئ فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل. قال العلماء : المبتدئ يقول السلام عليكم والمجيب يقول : وعليكم السلام ليقع الابتداء والاختتام بذكر الله. فإن خالف المبتدئ فليكن الاختتام بحاله. ويجوز «سلام عليكم» بل قالوا إنه أولى من المعرف لأن المنكر في القرآن أكثر ، وإن المنكر ورد من الله والملائكة والمؤمنين ، والمعرف ورد في تسليم الإنسان على نفسه ، قال موسى : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧] وقال عيسى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) [مريم : ٣٣] وأيضا المعرف يدل على أصل الماهية والمنكر على الماهية مع وصف الكمال. ومن السنة أن يسلم الراكب لزيادة هيبته على الماشي ، وراكب الفرس على راكب الحمار ، والصغير على الكبير ، والأقل على الأكثر احتراما للجماعة ، والقائم على القاعد لأنه الواصل إليه لأن القائم أهيب ومن السنة الجهر بالسلام لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب. ومنها الابتداء به إظهارا للتواضع ، ومنها الإفشاء والتعميم لأن التخصيص إيحاش ، والمصافحة عند السلام عادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر» (١) ومن استقبله رجل واحد فليقل : سلام عليكم وليقصد الرجل والملكين لأنه إذا سلم عليهما ردا السلام عليه ، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ١٤٢.

٤٦٢

الله ، ومن دخل بيتا خاليا فليسلم ويكون كأنه سلام من الله على نفسه ، أو سلام على من فيه من مؤمني الجن ، أو طلب السلامة ببركة اسم السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات. ولو قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين كان حسنا. ومن السنة أن يكون المبتدئ بالسلام على الطهارة وكذا المجيب. روي أن واحدا سلم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد الجواب. وإذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاستماع ، فإن سلم ورد بعضهم فلا بأس ، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن. ومن دخل الحمام فرأى الناس متزرين سلم عليهم فإن لم يكونوا متزرين لم يسلم عليهم. والأولى ترك السلام على القارئ كيلا يقطع عليه القراءة باشتغاله بالجواب ، وكذا القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم أو بالأذان أو الإقامة. ولا يسلم على المشغول بالأكل هكذا أطلق وحمله بعضهم على ما إذا كانت اللقمة في فيه. ولا يسلم على قاضي الحاجة قال أبو يوسف : ولا على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وكل من كان مشتغلا بنوع معصية ، ولا مانع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة. وإذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فإن حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليها ، وإذا سلمت الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل. وحيث قلنا لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهي عنه فكان وجوده كعدمه. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يبتدأ اليهودي بالسلام» (١) وعن أبي حنيفة أنه قال : لا تبتدئه بسلام في كتاب ولا في غيره. وعن أبي يوسف : لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل : السلام على من اتبع الهدى. ولا بأس في الدعاء له بما يصلحه في دنياه ، ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة ، أما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن نقول : وعليك لما روي أن اليهود تقول للمسلمين : السام عليكم ، وعن الحسن : يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام ولا يقل : ورحمة الله. لأنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه عليك السلام ورحمة الله فقيل له في ذلك؟ فقال : أليس في رحمة الله يعيش؟ واعلم أن مذهب أبي حنيفة أن من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها ، فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها. وقال الشافعي : له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي. واحتج لأبي حنيفة بالآية وذلك أن التحية تشمل جميع أنواع الإكرام فتشمل الهبة ومقتضاها وجوب

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب السلام حديث ١٤. أبو داود في كتاب الأدب باب ١٣٨. الترمذي في كتاب الاستئذان باب ١٢. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٦٣ ، ٢٦٦).

٤٦٣

الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن ، فإذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز ، وقال الشافعي : هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالإجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يثاب بالأحسن. ثم احتج الشافعي على قوله بما روي عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلّا الوالد فيما يعطي ولده» (١) (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيحاسبكم على محافظة حقوق التحية وغيرها ، فكونوا على حذر من مخالفته. ثم أكد الوعيد بقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ) فالأول توحيد والثاني عدل كأنه تعالى يقول : من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا اله إلّا هو ، وإنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة الذي يجمع فيه الأولون والآخرون للجزاء والحساب. وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إما خبر المبتدأ وإما اعتراض والخبر : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) والتقدير الله والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة أي ليضمنكم إليه ويجمعن بينكم وبينه بأن يبعثكم فيه ، والقيامة والقيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك أن الصدق من صفات الكمال والكمال للواجب أولى وأحق وأقدم وأتم من غيره ، والمعتزلة نفوا عنه الكذب بناء على أنه قبيح ، ومن كذب لم يكذب إلّا لأنه محتاج إلى أن يكذب لجر منفعة أو دفع مضرة ، أو هو غني عنه إلّا أنه يجهل غناه أو هو جاهل بقبحه ، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالي بأيهما نطق ، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق ، وكل هذه الأمور من الحكيم قبيح يجب تنزيهه عنها ، واعلم أن المسائل الأصولية قسمان منها ما العلم بصحة النبوة يحتاج إلى العلم بصحته كعلمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات ، فهذا القسم يمتنع إثباته بالقرآن والخبر وإلّا وقع الدور. ومنها غير ذلك كإثبات الحشر والنشر فإنه يمكن إثباته بالقرآن والحديث فاعلم.

ثم عاد إلى حكاية أحوال المنافقين فقال : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) وهو منصوب على الحال والعامل معنوي مثل : ما لك قائما أي ما تصنع؟ وقيل : نصب على أنه خبر «كان» أي ما لكم كنتم في شأن المنافقين فئتين؟ استفهام على سبيل الإنكار أي لا تختلفوا في كفرهم ولكن اقطعوا بنفاقهم فقد ظهرت دلائل ذلك وانكشفت جلية الحال.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الهبة باب ٣٠. النسائي في كتاب الهبة باب ١. ابن ماجه في كتاب الهبات باب ٢. أحمد في مسنده (٢ / ١٨٢).

٤٦٤

وذلك أنها نزلت في قوم من العرب أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابوا وباء المدينة وحماها فقالوا : يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فأذن لنا فيه فأذن لهم. فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين. فتكلم المؤمنون فيهم فقال بعضهم : نافقوا. وقال بعضهم : هم مسلمون. فبين الله نفاقهم. وقال مجاهد وقتادة : هم قوم هاجروا من مكة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا. وعن زيد بن ثابت : هم الذين تخلفوا يوم أحد وقالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وطعن بعضهم في هذا القول بأن نسق الكلام وهو قوله : (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يأباه إذ الهجرة تكون من مكة إلى المدينة. وعن عكرمة : هم قوم أخذوا أموال المشركين وانطلقوا بها إلى اليمامة. وقيل : هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يسارا مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن زيد : نزلت في أهل الإفك. قال الحسن : سماهم المنافقين وإن أظهروا الكفر باعتبار حالهم التي كانوا عليها. (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) الركس والإركاس رد الشيء مقلوبا. ويقال للرفث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة وهي حال النجاسة ويسمى رجيعا أيضا لذلك والمراد ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل (بِما كَسَبُوا) أي بما أظهروا من الارتداد بعد ما كانوا على النفاق (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) لأن المخلوق لا يقدر على تبديل خلق الخالق وعلى خلاف مقتضى إرادته ومشيئته. وهذا ظاهر في المقصود. والمعتزلة يقولون : قوله : (أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي بسبب كسبهم وفعلهم ينفي القول بأن ضلالهم حصل بخلق الله فإذن المراد من إضلال الله حكمه بضلالهم كما يقال : فلان يكفر فلانا أي ينسبه إلى الكفر ويحكم عليه بذلك. أو المراد إضلالهم عن طريق الجنة وهو مفسر بمنع الألطاف. ثم ذكر أنهم بالغوا في الكفر إلى أن تمنوا أن تصيروا كفارا فكيف تطمعون في إيمانهم وهو قوله : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) أي في الكفر. والمراد فتكونون أنتم وهم سواء إلّا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لتقدم ذكرهم. وقوله : (فَتَكُونُونَ) عطف على (تَكْفُرُونَ). (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا) أي حتى يضموا إلى إيمانهم المهاجرة الصحيحة المعتمدة وهي الهجرة في سبيل الله لا لغرض من الأغراض الفانية مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا بريء من كل مسلم قام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك» (١). وكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة. عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة «لا هجرة

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب ٩٥. النسائي في كتاب القسامة باب ٢٧.

٤٦٥

بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (١). وعن الحسن : إن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما. قال المحققون : الهجرة في سبيل الله تشمل الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان ، والانتقال من أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين بل هذا أقدم وأهم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه». (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم سائر المشركين (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في الحل أو في الحرم (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ) في هذه الحالة (وَلِيًّا) يتولى شيئا من مهماتكم (وَلا نَصِيراً) ينصركم على أعدائكم بل جانبوهم مجانبة كلية. ثم لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى عنه موضعين : الأول (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) أي ينتهون ويتصلون (إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم. قال القفال : وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلتجئوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل إليه. والقوم هم الأسلميون وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقال ابن عباس : هم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح. وقال مقاتل : هم خزاعة وخزيمة. وهاهنا نكتة وهي أنه تعالى رفع السيف عمن التجأ إلى الكفار المصالحين فلأن يدفع النار عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى. وعن أبي عبيدة : المراد بالوصلة الانتساب. يقال : وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتهيت إليه. واعترض عليه بأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة النسب مع أنه كان قد أباح دم الكفار منهم. الاستثناء الثاني قوله : (أَوْ جاؤُكُمْ) وفي العطف وجهان : أحدهما أن يكون معطوفا على صفة قوم والمعنى إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم جاؤوكم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم. وثانيهما العطف على صلة الذين كأنه قيل : الذين يتصلون بالمعاهد أو إلى الذين لا يقاتلونكم وهذا أنسب بقوله في صفتهم (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) إلى آخر الآية. إذ بين أن كفهم عن القتال سبب استحقاقهم لنفي التعرض لهم بالاستقلال لا بواسطة الاتصال. ومعنى (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) ضاقت. والحصر الضيق والانقباض وهو في موضع الحال بإضمار «قد» بدلالة قراءة من قرأ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصيد باب ١٠. مسلم في كتاب الإمارة حديث ٨٦. الترمذي في كتاب السير باب ٣٣. النسائي في كتاب البيعة باب ١٥. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب ١٢. الدارمي في كتاب السير باب ٦٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٢٦ ، ٣٥٥).

٤٦٦

(حصرة). وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف منصوب على الحال أي جاؤوكم قوما حصرت. وقيل : هو بيان لجاؤوكم. وقوله : (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) أي عن أن يقاتلوكم. ثم هؤلاء الجاؤون من الكفار أو من المؤمنين قال الجمهور : هم من الكفار بنو مدلج جاؤا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مقاتلين. وعلى هذا يلزم النسخ لأن الكافر وإن ترك القتال جاز قتله ، وقال أبو مسلم : إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر وهما طائفتان : إحداهما الذين قصدوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للهجرة والنصرة إلّا أنه كان في طريفهم كفار غالبون فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص. والثانية من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه لأنه يخاف الله فيه ، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه أو لأنه بقي أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه. فهذان الفريقان من المشركين لا يحل قتالهم وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ومقاتلة الكفار ، وعلى هذا فمعنى قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) أي لو شاء لقوّى قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم. وعلى الأول معناه أن ضيق صدورهم عن قتالكم لأن الله قذف الرعب في قلوبهم ، ولو قوّى قلوبهم لتسلطوا عليكم ولقاتلوكم وهو جواب «لو» على التكرير أو البدل. قال الكعبي : إنه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل وهذا ينبىء عن القدرة على الظلم وهو صحيح عندنا ولا يدل على أنه فعل الظلم وأراده والنزاع فيه (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) أي فإن لم يتعرضوا لكم (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي الانقياد والاستسلام (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين (أُرْكِسُوا فِيها) أي ردوا مقلوبين منكوسين فيها. وهذه استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين ، لأن من وقع في حفر منكوسا تعذر خروجه (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا) أي ولم يلقوا ولم يكفوا (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) حيث تمكنتم منهم. قال الأكثرون : وفيه دليل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم. ولا قتلهم. وهذا مبني على أن المعلق بكلمة «إن» على الشرط يعدم عند الشرط. أما قوله : (سُلْطاناً) فمعناه حجة واضحة لانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، أو تسلط ظاهر حيث أذنا لكم في قتلهم.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ

٤٦٧

رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١))

القراآت : فتثبتوا من التثبت وكذلك في الحجرات : حمزة وعلي وخلف. والباقون (فَتَبَيَّنُوا) من التبين السلم مقصورا : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة وخلف والمفضل وسهل. الباقون بالألف. (غَيْرُ) بالنصب : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي وخلف. الباقون (غَيْرُ) بالرفع (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) مشددة التاء : البزي وابن فليح.

الوقوف : (إِلَّا خَطَأً) ج (يَصَّدَّقُوا) ط لابتداء حكم آخر. (مُؤْمِنَةٍ) ط لذلك (مُؤْمِنَةٍ) ج (مُتَتابِعَيْنِ) ز لاحتمال كون (تَوْبَةً) مصدرا لفعل محذوف والأوجه كونه مفعولا له. (مِنَ اللهِ) ط (حَكِيماً) ه (عَظِيماً) ه (مُؤْمِناً) ج لأن ما بعده يصلح حالا واستفهاما (الدُّنْيا) ز لانقطاع النظم مع اتصال الفاء. (كَثِيرَةٌ) ط (فَتَبَيَّنُوا) ط (خَبِيراً) ه (وَأَنْفُسِهِمْ) الأول ط (دَرَجَةً) ط (الْحُسْنى) ط (عَظِيماً) ه لا لأن ما بعده بدل

٤٦٨

(وَرَحْمَةً) ط (رَحِيماً) ه (فِيمَ كُنْتُمْ) ط (فِي الْأَرْضِ) ط (فَتُهاجِرُوا فِيها) ط لتناهي الاستفهام بجوابه. (جَهَنَّمُ) ط (مَصِيراً) ه للاستثناء. (سَبِيلاً) ه لا (عَنْهُمْ) ط (غَفُوراً) ه (وَسَعَةً) ط (عَلَى اللهِ) ط (رَحِيماً) ه (مِنَ الصَّلاةِ) ق والأصح أن شرط تغليب في حال المسافر (كَفَرُوا) ط (مُبِيناً) ه.

التفسير : لما لم يكن بد في مجاهدة الكفار من أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله ثم يتبين أنه كان مسلما ، ذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة وأمثالها في هذه الآيات. أما سبب النزول فقد روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول : إنه أبي فلم يفهموا قوله إلّا بعد أن قتلوه. فقال حذيفة : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فلما سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك زاد وقع حذيفة عنده ونزلت الآية. وقيل : نزلت في أبي الدرداء ؛ وذلك أنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف ، فقال الرجل : لا إله إلّا الله فقتله وساق غنمه. ثم وجد في نفسه شيئا فذكر الواقعة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هلا شققت عن قلبه؟ وندم أبو الدرداء. والذي عليه أكثر المفسرين ما ذكره الكلبي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أسلم وخاف أن يظهر إسلامه فخرج هاربا إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدمها ، ثم أتى أطما من آطامها فتحصن فيه فجزعت أمه جزعا شديدا وأقسمت لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة وكان أبو جهل أخا عياش لأمه ، فأتياه وهو في الأطم فقالا : انزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك ، وحلفت لا تأكل طعاما ولا شرابا حتى ترجع إليها ، ولم يزل يفتل منه أبو جهل في الذروة والغارب ويقول : أليس محمد يحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ بأمك وأنت على دينك حتى نزل فذهب معهما. فلما أخرجاه من المدينة أو ثقاه بنسعة وجلده كل منهما مائة جلدة ثم قدما به على أمه فقالت : والله ما أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به. ثم تركوه موثقا في الشمس فأعطاهم بعض الذي أرادوا ، فأتاه الحرث بن زيد وقال : يا عياش ، والله لئن كان الذي كنت عليه هدى لقد تركت الهدى ، وإن كان ضلالة فقد دخلت الآن فيه. فغضب عياش من مقالته وقال له : هذا أخي ـ يعني أبا جهل ـ فمن أنت يا حارث؟ لله عليّ ، إن وجدتك خاليا أن أقتلك. ثم إن عياشا أسلم بعد هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهاجر إلى المدينة وأسلم الحرث بعده وهاجر وليس عياش يومئذ حاضرا ولم يشعر بإسلامه ، فبينما هو يسير بظهر قباء إذ لقي الحرث بن زيد ، فلما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس : أي شيء صنعت؟ إنه قد أسلم. فرجع عياش إلى

٤٦٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كان من أمري وأمر الحرث ما علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) أي ما صح له ولا استقام ، أو ما كان له فيما أتاه من ربه وعهد إليه ، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك. والغرض بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف (إِلَّا خَطَأً) إلّا لهذا العذر وبهذا السبب فيكون مفعولا له ، أو إلّا في حال الخطأ أو إلّا قتلا خطأ. قال أبو هاشم ـ وهو أحد رؤساء المعتزلة ـ : التقدير ، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا إلا أن يقتله خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا. (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ) فعليه إعتاق (رَقَبَةٍ) أي نسمة مؤمنة. والحر العتيق الكريم لأنّ الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد ومنه غتاق الخيل والطير لكرامها ، وحر الوجه أكرم موضع منه. وعبر عن النسمة بالرقبة كما عبر عنها بالرأس في قولهم : «فلان يملك كذا رأسا من الرقيق». (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) الدية من الودي كالشية من الوشي. والأصل ودية وهي مخصوصة ببدل النفس دون سائر المتلفات ، وقد تستعمل في بدل الأطراف والأعضاء والمراد بالأهل الورثة (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد. والتصدق الإعطاء والمراد هاهنا العفو ومحله النصب على الظرف أو الحال والعامل. (مُسَلَّمَةٌ) أو عليه كأنه قيل : يجب عليه الدية أو يسلمها إلّا زمان التصدق أو إلّا متصدقين. وهاهنا مسائل : الأولى القتل على ثلاثة أقسام : عمد وخطأ وشبه عمد. أما العمد فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان جارحا أو لم يكن. وأما الخطأ فضربان : أحدهما أن يقصد رمي مشرك أو طائر فأصاب مسلما ، والثاني أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار. فالأول خطأ في الفعل ، والثاني خطأ في القصد. وأما شبه العمد فهو أن يضربه مثلا بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه فهذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب. الثانية قال أبو حنيفة : القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطأ أو شبه عمد فيكون داخلا تحت الآية فيجب في الآية والكفارة ولا يجب فيه القصاص. وقال الشافعي : إنه عمد محض يجب فيه القصاص حجة الشافعي أنه قتل عمد عدوان أما إنه قتل فبقوله تعالى لموسى : (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) [طه : ٤٠] يعني القبطي إذ وكزه موسى فقضى عليه. وأما أنه عمد عدوان فظاهر لأن من ضرب رأس الإنسان بحجر الرحى أو صلبه أو غرقه أو خنقه ثم قال ما قصدت قتله عد ما جنا ، وإذا ثبت أنه قتل عمد عدوان فهو يوجب القصاص لقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] وأن المقصود أن شرع القصاص صون الأرواح عن الإهدار والإهدار في المثقل كهو في المحدد ، والعلم الضروري حاصل بأن التفاوت في آلة الإهدار غير معتبر. حجة أبي حنيفة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا ان قتيل العمد

٤٧٠

والخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل» (١) هذا عام سواء كان السوط أو العصا صغيرا أو كبيرا ، وأجيب بأن العصا والسوط يجب حملهما على الخفيف ليتحقق معنى الخطأ ، فإن من ضرب رأس إنسان بقطعة جبل ثم قال : ما كنت أقصد قتله لم يعبأ بقوله. الثالثة قال أبو حنيفة : القتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه شرط في الآية أن يكون القتل خطأ ، وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط. وقال الشافعي : يوجبها لما روي أن واثلة بن الأسقع قال : أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل فقال : أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار. وأيضا نص الله تعالى على الكفارة في قتل الصيد عمدا في الحرم وفي الإحرام فأوجبها على الخاطئ بالاتفاق ، فههنا نص على الخاطئ فبأن نوجبه على العامد كان أولى لأنه لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الإحياء عمدا لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار لأن إطلاقها من قبل الرق كاحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار كما أن الميت ممنوع من التصرف مطلقا ، ولتحقيق هذا المعنى أوجب أن تكون الرقبة كاملة الرق ، وأن تكون سليمة عن عيب مخل بالعمل كهرم وعمى وجنون. الرابعة قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي : لا تجزىء الرقبة إلّا إذا صام وصلى لأنه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة. والإيمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي. وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي : يجزىء الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما لأن حكمه حكم المؤمن. الخامسة أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفيتها وإنما عرفت من السنة. عن عمرو بن حزم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل. وهذه المائة إذا كان القتل خطأ مخمسة عشرون منها بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة. وبه قال مالك لما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في دية الخطأ بمائة من الإبل وفصلها كما ذكرنا. وأبدل أبو حنيفة وأحمد أبناء اللبون بأبناء المخاض ، لأن هذا الأقل متفق عليه والزائد منفي بالبراءة الأصلية. وقال غيرهما : أبناء المخاض غير معتبرة في باب الزكاة فيجب أن لا تعتبر في الدية التي سببها أقوى من السبب الموجب للزكاة. واتفقوا على أن الدية في العمد المحض مغلظة من ذلك التثليث في الإبل ، وهو أن يكون ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها. ومنه الحلول على قياس أبدال سائر المتلفات خلاف دية الخطأ فإنها مؤجلة الثلث في السنة الأولى ، والثلث الآخر في السنة

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب القسامة باب ٣٢ ، ٣٣. ابن ماجه في كتاب الديات باب ٥. أحمد في مسنده (٢ / ٦٤ ، ١٦٦).

٤٧١

الثانية ، والباقي في السنة الثالثة ، استفاض ذلك عن الخلفاء الراشدين ولم ينكره أحد فكان إجماعا. ومنه ثبوتها في ذمة الجاني لا تحملها العاقلة خلاف دية الخطأ فانها تكون على العاقلة لما روي أن امرأتين من هذيل اقتتلنا فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، ويروى بعمود فسطاط. فقتلتها فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدية على عاقلة القاتلة. وهذه صورة شبه العمد ، والتحمل في الخطأ أولى. وجهات التحمل ثلاث : القرابة والولاء وبيت المال ، والقرابة يعني بها العصبة الذين هم على حاشية النسب وهم الإخوة وبنوهم. وقال أبو حنيفة ومالك : يتحمل الآباء والبنون كغيرهم ويراعى الترتيب في العصبات فيقدم الأقرب فالأقرب ، فإن كان فيهم وفاء إذا وزع عليهم لكثرتهم أو لقلة المال وإلّا شاركهم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقال أبوبكر الأصم وجمهور الخوارج : الدية في الخطأ أيضا تجب على القاتل كما أن تحرير الرقبة أيضا عليه ويؤيده عطف الدية في الآية على التحرير. وأيضا الجناية صدرت عنه فلا يعقل تضمين غيره كما في سائر الاتلافات. وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز ، وأجيب بإجماع الصحابة على ذلك. السادسة مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل بإجماع المعتبرين من الصحابة ، ولأن المرأة في الميراث وفي الشهادة نصف الرجل فكذلك في الدية. وقال الأصم وابن علية : ديتها مثل دية الرجل لعموم قوله : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً). السابعة إذا لم توجد الإبل فالواجب عند الشافعي في الجديد الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت وإنما تقوم بغالب نقد البلد لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوّم الإبل على أهل القرى ، فإذا غلت رفع قيمتها. وإذا هانت نقص من قيمتها ، وقال أبو حنيفة : الواجب حينئذ ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وعند مالك الدراهم اثنا عشر ألفا. الثامنة لا فرق بين هذه الدية وبين سائر الأموال في أنه يقضي منها الدين وينفذ منها الوصية ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله لما روي أن امرأة جاءت في أيام عمر تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر : لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فشهد بعض الصحابة بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن تورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك. وعن ابن مسعود : يرث كل وارث من الدية غير القاتل. وعن شريك : لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة : الغرة لأم الجنين وحدها وهذا خلاف الجماعة.

واعلم أنّ الله تعالى ذكر في هذه الآية أن من قتل مؤمنا خطأ فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية ثم قال : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وسكت عن الدية. فالسكوت عن إيجاب الدية في هذه الصورة مع ذكرها فيما قبلها وفيما بعدها وهو قوله : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)

٤٧٢

يدل على عدم وجوب الدية هاهنا. ثم المعنيّ بقوله : (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) إما أن يكون أن هذا المقتول من سكان دار الحرب أو أنه ذو نسب منهم مع أنه في دار الإسلام ، والثاني باطل بالإجماع لأن قتل هذا المسلم يوجب الدية البتة فتعين الأول. وإنما سقطت الدية لأن إيجاب الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب محوج إلى أن يبحث الغازي عن كل شخص من أشخاص قطان دار الحرب هل هو من المسلمين أم لا ، وذلك يوجب المشقة والنفرة عن الجهاد على أنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختيار السكنى فيهم. وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى لأنه أهلك إنسانا مواظبا على طاعته فيلزمه إقامة آخر مقامه يمكنه المواظبة عليها. أما قوله : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) ففيه قولان : أحدهما أنّ المراد الذمي ؛ فعن ابن عباس هم أهل الذمة من أهل الكتاب. وعن الحسن هم المعاهدون منه الذمي ؛ فعن ابن عباس هم أهل الذمة من أهل الكتاب. وعن الحسن هم المعاهدون وثانيهما أن المراد منه المسلم لأنه عطف على قوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) والضمير فيه عائد إلى ما تقدم وهو المؤمن فكذا هاهنا. واعترض عليه بلزوم عطف الشيء على نفسه لأنّ المؤمن المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو من أهل الذمة داخل تحت قوله : (مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) إلّا أنه أفرد المؤمن الساكن في دار الحرب لأن من حكمه سقوط ديته وهاهنا لا غرض في الإفراد فيكون تكرارا محضا. وأيضا لو كان المراد ذلك لما كانت الدية مسلمة إلى أهله كفار لا يرثونه ولكان كونه منهم مبهما مجملا لأنه لا يدري أنه منهم في أي أمر من الأمور بخلاف ما لو حمل كونه منهم على الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما. وأجيب بأنه لما أفرد حكم المؤمن المقتول في دار الحرب للغرض الذي ذكر ، ثم أعاد ذكر المؤمن المقتول فيما بين المعاهدين تنصيصا على الفرق بينه وبين ما قبله وتنبيها على التسوية بينه وبين المسلم المقتول في دار الإسلام. وأما أهله فهم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم ، وأما الإبهام فيزول إذا جعل «من» بمعني «في» كما في الآية المتقدمة عليه. وهاهنا مسألة خلافية شرعية هي أن أبا حنيفة قال : دية الذمي مثل دية المسلم لقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ) أي المقتول (مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ) وقال الشافعي : دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ، ودية المجوسي ثلث خمسها هكذا روي من قضاء الصحابة. ولا يخفى أن استدلال أبي حنيفة لا يتم على الثاني من قول المفسرين في الآية ، وعلى القول الأول أيضا يجوز أن يكون المراد بالدية الثانية مقدارا مغايرا للأول. وهاهنا سؤال وهو أنه لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وفي الأخيرة عكس الترتيب؟ ويمكن أن يقال : الفائدة فيه أن يعلم أنه لا ترتيب

٤٧٣

بين التحرير والدية ، وأيضا ليقع الافتتاح والاختتام بحق الله تعالى. ويترتب على التحرير قوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي رقبة بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين. ومتى يعتبر الإعسار ليجوز له العدول إلى الصوم؟ الأصح عند الشافعي وقت الأداء ، وعند بعضهم وقت الوجوب. وأما الشهران فهما هلاليان البتة. نعم لو ابتدأ في خلال الشهر تمم المنكسر ثلاثين. والمراد بالتتابع أن لا يفطر يوما منهما ، فلو أفطر ولو بالمرض وجب الاستئناف إلّا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس. وعن مسروق أن الصوم بدل من مجموع الرقبة والدية. (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) أي شرع لكم ما شرع قبولا من الله ورحمة منه من تاب الله عليه إذا قبل توبته. ومعنى التوبة عن الخطأ أنه لا يخلو من ترك احتياط ومن ندم وأسف على ما فرط منه. ويجوز أن يكون المعنى نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه أي تخفيفا منه لأن التخفيف من لوازم التوبة. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأنه لم يقصد ولم يتعمد (حَكِيماً) محكم الفعل لا يؤاخذ الإنسان بما لا يختار ولا يتعمد. وعند المعتزلة معنى الحكيم أن أفعاله واقعة على قانون الحكمة وقضية العدالة. ثم لما ذكر حكم القتل الخطأ أردفه ببيان حكم القتل العمد وله أحكام وجوب الدية والكفارة عند غير أبي حنيفة ومالك والقصاص كما مر في البقرة ، فلا جرم اقتصر هاهنا على بيان ما فيه من الإثم والوعيد ، ولا يخفى ما في الآية من التخويف والتهديد فلا جرم تمسكت الوعيدية بها في القطع بخلود الفاسق في النار. وأجيب بوجهين : الأول إجماع المفسرين على أنها نزلت في كافر قتل مؤمنا. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلا في بني النجار وكان مسلما ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه رسولا من بني فهر وقال له : ائت بني النجار فاقرأهم السلام وقل لهم : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة أن تدفعوه إلى أخيه فيقتص منه ، وإن لم تعلموا له قاتلا أن تدفعوا إليه ديته. فأبلغهم الفهري ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب ، فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال : أي شيء صنعت تقبل دية أخيك فيكون عليك مسبة؟ اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية. فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرا منها وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وجعل يقول في شعره :

قتلت به فهرا وحملت عقله

سراة بني النجار أرباب فارع

وأدركت ثأري واضطجعت موسدا

وكنت إلى الأوثان أول راجع

٤٧٤

فنزلت الآية فيه (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) ثم أهدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دمه يوم فتح مكة فأدركه الناس بالسوق فقتلوه. الوجه الثاني أنه يجوز عندنا أن يخلف الله وعيد المؤمنين فإن خلف الوعيد كرم. وضعف الوجه الأول بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبأن ما قبل الآية وما بعدها في نهي المؤمن عن قتل المؤمن فكذا هذه الآية ، وبأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فيجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو مجرد القتل العمد ، وبأن الكفر بالاستقلال موجب لهذا الوعيد فأي فائدة في ضم القتل إليه؟ وإذا لا أثر للقتل في هذه الصورة فيكون الكلام جاريا مجرى قول القائل «إنّ من تنفس لجزاؤه جهنم» وزيف الوجه الثاني بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر. وإذا جاز الكذب فيه لغرض إظهار الكرم فلم لا يجوز في القصص والأخبار وغير ذلك لغرض المصلحة؟ وفتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع. قال القفال : الآية تدل على أنّ جزاء القتل العمد هو ما ذكر. وقد يقول الرجل لغيره : جزاؤك أني أفعل بك كذا إلّا أني لا أفعله. ولا يخفى ضعف هذا الجواب أيضا لدلالة سائر الآيات كقوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٨] على أنه يوصل الجزاء إلى المستحقين ، ولأن قوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) صريح في أنه تعالى سيفعل به ذلك لا سيما وقد أخبر عنه بلفظ الماضي ليعلم أنه كالواقع. ولتأكد هذه المعاني نقل عن ابن عباس أن توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سألوا قالوا : لا توبة له. وحمله الجمهور على التغليظ والتشديد وإلّا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة حتى الشرك. هذا عند المعتزلة ، وعند الأشاعرة كل الذنوب يحتمل العفو إلّا الشرك لقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨].

ثم بالغ في تحريم قتل المؤمن فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) لتفعل هاهنا بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوّكوا فيه عن غير روية (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) وهو والسلم بمعنى الاستسلام ، وقيل الإسلام ، وقيل التحية يعني سلام أهل الإسلام. قال السدي : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة بن زيد على سرية ، فلقي مرداس بن نهيك رجلا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان يقول لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يهرب ثقة بإسلامه ، فقتله أسامة واستاق غنما كانت معه. فلما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبره فقال : قتلت رجلا يقول لا إله إلّا الله. فقال : يا رسول الله إنما تعوذ من القتل. فقال : كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلّا الله؟ قال : فما زال يردّدها عليّ أقتلت رجلا وهو يقول لا إله إلّا الله حتى تمنيت لو أنّ إسلامي

٤٧٥

كان يومئذ فنزلت الآية. وقد روى الكلبي وقتادة مثل ذلك. وقال الحسن : إنّ أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا يتطرّفون فلقوا المشركين فهزموهم فشذ منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين وأراد متاعه ، فلما غشيه بالسنان قال : إني مسلم فكذبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه وكان قليلا ، فرفع ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قتلته بعد ما زعم أنه مسلم. قال : يا رسول الله إنما قالها متعوّذا. قال : فهلّا شققت عن قلبه؟ قال : لم؟ قال : لتنظر أصادق هو أم كاذب. قال : وكنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال : ويلك إنك لم تكن لتعلم ذلك إنما يبين عنه لسانه. قال : فما لبث القاتل أن مات فدفن فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره. قال : ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثا. فلما رأوا أنّ الأرض لا تقبله ألقوا عليه الحجارة. قال الحسن : إنّ الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ القوم أن لا يعودوا. وعن سعيد بن جبير قال : خرج المقداد بن الأسود في سرية فإذا هم برجل في غنيمة له فأرادوا قتله فقال : لا إله إلّا الله. فقتله المقداد. فقيل له : أقتلته وقد قال لا إله إلّا الله؟ فقال : ودّ لو فرّ بأهله وماله. فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكروا ذلك له فنزلت. قال القفال : ولا منافاة بين هذه الروايات ، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته. وعن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلّا الله فليرفع عنه الرمح». قال الفقهاء : توبة الزنديق مقبولة لإطلاق هذه الآية. وقال أبو حنيفة : إسلام الصبي يصح لإطلاق الآية. وقال الشافعي : لا يصح وإلّا لوجب عليه لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنا في الكفر وهو غير جائز ، لكنه غير واجب عليه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ» (١). وقال أكثر الفقهاء : لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو مسلم لا يحكم بإسلامه لأنه يعتقد أن الإيمان والإسلام هو دينه. ولو قال لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يحصل الجزم بإسلامه لأنّ منهم من يقول إنه رسول العرب وحدهم ومنهم من يقول إنّ محمدا الذي هو الرسول الحق المنتظر بعد ، فلا بد أن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل ، وأن الدين الذي هو موجود فيما بين المسلمين حق. (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قال أبو عبيدة : جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء. يقال : إنّ الدنيا عرض حاضر

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب ١١. أبو داود في كتاب الحدود باب ١٧. الترمذي في كتاب الحدود باب ١. النسائي في كتاب الطلاق باب ٢١. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب ١٥. الدارمي في كتاب الحدود باب ١. أحمد في مسنده (١ / ١١٦).

٤٧٦

يأخذ منها البر والفاجر ، سمي عرضا لأنه عارض زائل غير باق ، ومنه العرض لمقابل الجوهر لقلة ثباته كما قيل : العرض لا يبقى زمانين (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام متعوّذا به لتأخذوا ماله. وقيل : يريد ما أعدّ لعباده من حسن الثواب في الآخرة (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) اختلفوا في وجه الشبه فقال الأكثرون : يريد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام سمعت منكم كلمة الشهادة فحقنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالاستقامة والاشتهار بالإيمان وأن صرتم أعلاما فيه ، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام ما فعل بكم. واعترض بأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا بالاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف ، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر؟ وعن سعيد بن جبير : المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى إيمانه هذا الراعي عن قومه (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم. وأورد عليه أن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم. وفي التفسير الكبير : المراد أنكم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام فمنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتزايد نور الإيمان ، فكذا هؤلاء قد حدث لهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم إيمانهم إلى أن تتكامل رغبتهم فيه. وقيل : إنّ قوله : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) منقطع عما تقدمه. وذلك أن القوم لما نهاهم عن قتل منّ تكلّم بلا إله إلّا الله ذكر أن الله من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر ، ثم أعاد الأمر بالتبين مبالغة في التحذير ، ثم حذر عن الإضمار خلاف الإظهار فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وفيه من الوعيد ما فيه.

ولما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم وبدر عنهم كان مظنة أن يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد فذكر من فضل الجهاد ما يزيح علّتهم ويزيد رغبتهم ، أو نقول : لما نهاهم عما نهاهم أتبعه فضيلة الجهاد ليبلغوا في الاحتراز عما يوجب خللا في هذا المنصب الجليل فقال : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) عن زيد بن ثابت قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزلت عليه : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ولم يذكر (أُولِي الضَّرَرِ) فقال ابن أم مكتوم : فكيف وأنا أعمى لا أبصر؟ قال زيد : فتغشّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلسه الوحي فاتكأ على فخذي ؛ فو الذي نفسي بيده لقد ثقل عليّ حتى خشيت أن يرضها ثم سري عنه فقال : اكتب : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) فكتبتها. رواه البخاري. والمراد بالضرر النقصان سواء كان في البنية كعمى وعرج ومرض أو بسبب عدم الأهبة. من قرأ (غَيْرُ) بالنصب فعلى الاستثناء من القاعدين أو

٤٧٧

على الحال عنهم ، ومن قرأ بالرفع فعلى أنه صفة للقاعدين ويجوز أن يكون غير صفة للمعرفة كما سبق في تفسير (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧]. وقرىء بالجر على أنه صفة المؤمنين. قال الزجاج : ويجوز أن يكون رفعا على جهة الاستثناء والمعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدون ، إلّا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند انصرافه من بعض غزواته «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر» (١) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مرض العبد قال الله تعالى : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ» (٢). ويعلم منه أن صحة النية وخلوص الطوية لها مدخل عظيم في قبول الأعمال. وذكروا في معنى قوله : «نية المؤمن أبلغ من عمله» أنّ ما ينويه المؤمن أبلغ من عمله إذ ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير من عمله الذي أدركه في مدة حياته. قيل : إنه قدّم ذكر النفس على المال في قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] وهاهنا أخر لأنّ النفس أشرف من المال. فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أنّ الرغبة فيها أشد ، والبائع أخر تنبيها على أنّ المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها ، إلّا في آخر الأمر. وفائدة نفي الاستواء ومعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان تبيين ما بينهما من التفاوت ليهتم القاعد للجهاد ويترفع بنفسه عن انحطاط مرتبته فيجاهد كقوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] تحريكا للجاهل لينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم. ثم إن عدم الاستواء يحتمل الزيادة والنقصان فأوضح الحال بقوله : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) كأنه قيل : مالهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك. وانتصب (دَرَجَةً) على المصدر لأنّ الدرجة بدل على التفضيل. وقيل : حال أي ذوي درجة. وقيل : بنزع الخافض أي بدرجة. وقيل : على الظرف أي في درجة (وَكُلًّا) وكل فريق من القاعدين والمجاهدين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي المثوبة الحسنى وهي الجنة. قال الفقهاء : فيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية إذ لو كان واجبا على التعيين لم يكن القاعد أهلا للوعد. وانتصب (أَجْراً) بفضل لأنّ التفضيل يدل على الأجر. وهاهنا سؤال وهو أنه لم ذكر أولا درجة وثانيا درجات؟ وأجيب بأن اللام في قوله أوّلا على القاعدين للعهد والمراد بهم أولو الضرر ، وقوله ثانيا على القاعدين للأصحاء الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأن الغزو

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٣٥. أبو داود في كتاب الجهاد باب ١٩. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ٦. أحمد في مسنده (٣ / ١٠٣ ، ١٦٠).

(٢) رواه أحمد في مسنده (٢ / ١٨٩ ، ١٩٤ ، ١٩٨).

٤٧٨

فرض كفاية. وقيل : المراد بالدرجة جنسها الذي يشمل الكثير بالنوع وهي الدرجات الرفيعة والمنازل الشريفة والمغفرة والرحمة. وقيل : المراد بالدرجة الغنيمة في الدنيا ، وبالدرجات مراتب الجنة. وقيل : المراد بالمجاهد الأول صاحب الجهاد الأصغر وهو الجهاد بالنفس والمال ، وبالمجاهد الثاني صاحب الجهاد الأكبر وهو المجاهد بالرياضة والأعمال. واستدلت الشيعة هاهنا بأنّ عليا رضي‌الله‌عنه أفضل من أبي بكر وغيره من الصحابة لأنه بالنسبة إليهم مجاهد وهم بالإضافة إليه قاعدون بما اشتهر من وقائعه وأيامه وشجاعته وحماسته. أجاب أهل السنة بأنّ جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجهاد الأكبر وحين كان الإسلام ضعيفا والاحتياج إلى المدد شديدا ، وأما جهاد علي فإنما ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قويا. والحق أنه لا تدل الآية إلّا على تفضيل المجاهدين على القاعدين ، أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا. قالت المعتزلة : هاهنا قد ظهر من الآية أنّ التفاوت في الفضل بحسب التفاوت في العمل ، فعلة الثواب هو العمل ولهذا سمي أجرا. وأجيب بأنّ العمل علة الثواب لكن لا لذاته بل يجعل الشارع ذلك العمل موجبا له. قالت الشافعية : الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنّ قوله : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) عام يشمل الجهاد الواجب والمندوب وهو الزائد على قدر الكفاية ، والمشتغل بالنكاح قاعد ، فالاشتغال بالجهاد المندوب أفضل منه بالنكاح.

ثم لما ذكر ثواب المجاهدين أتبعه وعيد القاعدين الراضين بالسكون في دار الكفر فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) وأنه يحتمل أن يكون ماضيا فيكون إخبارا عن حال قوم انقرضوا ومضوا. عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانوا قوما من المسلمين بمكة فخرجوا في قوم من المشركين في قتال فقتلوا معهم فنزلت الآية. ويحتمل أن يكون مستقبلا بحذف إحدى التاءين فيكون الوعيد عاما في كل من كان بهذه الصفة. قال الجمهور : معنى تتوفاهم تقبض أرواحهم عند الموت. ولا منافاة بينه وبين قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) [الزمر : ٤٢] (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] لأنه تعالى هو المتوفى والفاعل لكل الأشياء بالحقيقة إلّا أن الرئيس المفوّض إليه هذا العمل ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه. وعن الحسن : (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي يحشرونهم إلى النار. أما قوله : (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فمنصوب على الحال عن مفعول توفي والإضافة فيه لفظية ولذا لم تفد تعريفا فصح وقوعه حالا. والظلم قد يراد به الشرك (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] فالمراد أنهم ظالمون أنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة. وقد يراد به المعصية (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [فاطر : ٣٢] فالمراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك غير مهاجرين إلى دار

٤٧٩

الإسلام حين كانت الهجرة فريضة. وفي خبر «إنّ» وجوه : الأول (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) والعائد محذوف للدلالة أي قالوا لهم. الثاني (فَأُولئِكَ) فيكون (قالُوا) حالا من الملائكة بتقدير «قد». الثالث إنّ الخبر محذوف وهو هلكوا. ثم فسر الهلاك بقوله : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والمراد التوبيخ على ترك الجهاد والرضا بالسكنى في دار الكفر وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم ليسوا من الدين في شيء ، ولهذا لم يجيبوا بقولهم كنا في كذا أو لم نكن في شيء بل أجابوا بقولهم : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة من أرض مكة حتى يكونوا في شيء. ثم إنّ الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر فبكتوهم قائلين : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمتنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين من الرجال والنساء والولدان. فسئل لم عدّ الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد ، ومن حق الاستثناء أن يدخل فيه المستثنى لو لم يخرج وليس الولدان من أصحاب الوعيد لأنهم ليسوا من أهل التكليف؟ وأجيب بأنّ المراد بالولدان العبيد والإماء البالغون ، أو المراد المراهقون الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء حتى يتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله. سلمنا أن المراد بهم الأطفال لكن السبب في سقوط الوعيد هو العجز وإنه حاصل في الولدان فحسن استثناؤهم بهذا الوجه. وقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ) قيل في موضع الحال ، والأصح أنه صفة للمستضعفين. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأنّ المعرف تعريف الجنس قريب من المنكر. والمعنى أنّ العاجزين هم الذين لا يقدرون على حيلة ولا نفقة ، أو يكون بهم مرض ، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم عن المهاجرة. ومعنى (لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلّهم على الطريق. وإنما قال سبحانه : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بكلمة الإطماع تنبيها على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى إن المضطر من حقه أن يعفو الله عنه بل يكون من العفو على ظن وحسبان لا على جزم وإيقان ، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز ولا يكون في الواقع كذلك لأنّ الفطام عن المألوف شديد والفراق عن الأوطان شاق ، فلعل حب الوطن يحمله على تأويل غير سديد. ومع قيام هذا الاحتمال أنى يحصل الجزم بالعفو هذا من جانب العبد. وأما من الرب فعسى إطماع وإطماع الكريم إيجاب. فالجزم بالعفو حاصل إلا أنّه يرد على لفظ العفو أنه لا يتقرر إلّا مع الذنب ولا ذنب مع العجز وجوابه أيضا يخرج مما قلنا : (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) قال الزجاج : أي كان في الأزل موصوفا بهذه الصفة ، أو أنه مع جميع العباد بهذه الصفة أي أنه عادة أجراها في حق غيره. وأيضا لو قال إنه عفو غفور كان

٤٨٠