تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الحرة. فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية واصطفوا للقتال فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) الآيات فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته ، فلما سمعوا صوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنصتوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعلوا يستمعون ، فما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجثوا يبكون. وفي رواية زيد بن أسلم : خرج إليهم رسول الله فيمن معه من المهاجرين فقال : يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ الله الله. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عزوجل الآيات. قال جابر بن عبد الله : ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأومى إلينا بيده وكففنا وأصلح الله ما بيننا ، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فما رأيت يوما قط أقبح ولا أوحش أوّلا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) استفهام بطريق الإنكار والعجب. والمعنى من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل واقعة وبين أظهركم رسول الله يبين لكم كل شبهة ويزيح عنكم كل علة؟ ومع هذين النورين لا يبقى لظلمة الضلال عين ولا أثر ، فعليكم أن لا تلتفتوا إلى قول المخالف وترجعوا فيما يعنّ لكم إلى الكتاب والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر ، وأما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر ، ولكن نور سره باق بين المؤمنين ، فكأنه باق على أن عترته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضا. ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي» (١) وقال : «إن العلماء ورثة الأنبياء» (٢) اللهم اجعلنا من زمرتهم بعصمتك وهدايتك. وفي هذا بشارة لهذه الأمة أنهم لا يضلون أبدا إلى يوم القيامة. ثم بين أن الكل بعصمة الله وتوفيقه فقال : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في دفع شرور الكفار (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والاعتصام الاستمساك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة. أما المعتزلة فحيث لم يجعلوا الاعتصام بخلق الله وهدايته بل قالوا : إنه بفعل

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٣٦ ، ٣٧. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ١. أحمد في مسنده (٣ / ١٤ ، ١٧ ، ٣٦٧).

(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥ / ١٩٦).

٢٢١

العبد ، تأوّلوا الآية بأن المراد بالهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات ، أو المراد الهداية إلى الجنة. قال في الكشاف : (فَقَدْ هُدِيَ) أي فقد حصل له الهداية لا محالة كما تقول : إذا جئت فلانا فقد أفلحت كأن الهدى قد حصل له ، فهو يخبر عنه حاصلا. ومعنى التوقع في «قد» ظاهر لأن المعتصم بالله. متوقع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.

التأويل : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) وهو صفة الله (حَتَّى تُنْفِقُوا) أحب الأشياء إليكم وهو أنفسكم. إن الفراش لم ينل من بر الشمع وهو شعلته حتى أنفق مما أحبه وهو نفسه (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا) الخلق ثلاثة أصناف : الملك النوراني العلوي وغذاؤه الذكر وخلق للعبادة ، والحيوان الظلماني السفلي وغذاؤه الطعام وخلق للخدمة ، والإنسان المركب من القبيلين وغذاؤه لروحانيته الذكر ولجسمانيته الطعام وخلق للمعرفة والخلافة. وهذا الصنف على ثلاثة أقسام : منهم ظالم لنفسه وهو الذي بالغ في غذاء جسمانيته وقصر في غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت نفسه (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] ومنهم مقتصد وهو الذي تساوى طرفاه (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ١٠٢] (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢] وهو الذي بالغ في غذاء روحانيته وهو المذكور ، وفرط في غذاء جسمانيته حتى ماتت نفسه وقوي روحه (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البينة : ٧] فكان كل الطعام حلالا للإنسان كما للحيوان إلا ما حرم الإنسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح من قبل أن ينزل الوحي والإلهام كما قيل : المجاهدات تورث المشاهدات (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] فمن افترى على الله الكذب بأن يريد أن يهتدي إلى الحق من غير جهاد النفس (قُلْ صَدَقَ اللهُ) في قوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) وكان من ملته إنفاق المال على الضيفان ، وبذل الروح عند الامتحان ، وتسليم الولد للقربان (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يتخذون مع الله إلها آخر. (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) لا لله لأنه غني عن العالمين. وإن أنموذج بيت الله في الإنسان وهو العالم الصغير القلب الذي وضع ببكة صدر الإنسان مباركا عليه وهدى يهتدي به جميع أجزاء وجوده إلى الله بجوده. فإن النور الإلهي إذا وقع في القلب انفسح له واتسع ، فبه يسمع وبه يبصر وبه يعقل وبه ينطق وبه يبطش وبه يمشي وبه يتحرك وبه يسكن (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) يصل بها الطالب إلى مطلوبه والقاصد إلى مقصوده ، ومنها مقام إبراهيم وهو الخلة التي توصل الخليل إلى خليله (وَمَنْ دَخَلَهُ) يعني مقام إبراهيم ببذل المال والنفس والولد وإرضاء خليله (كانَ آمِناً) من نار القطيعة ومن

٢٢٢

عذاب الحجاب. ثم أخبر عن وجوب زيارة بيت الخليل على الخليل إن استطاع إليه السبيل وذلك بأن وجد شرائط السلوك وإمكانه وآداب السير وأركانه. ومنها الإحرام بالخروج عن الرسوم والعادات ، والتجرد عن الطيبات والمألوفات ، والتطهر عن الأخلاق المذمومات ، والتوجه إلى حضرة فاطر الأرض والسموات بخلوص النيات وصفاء الطويات. ومنها الوقوف بعرفات المعرفة ، والعكوف على عتبة جبل الرحمة بصدق الالتجاء ، وحسن العهد والوفاء. ومنها الطواف بالخروج عن الأطوار البشرية السبعية بالأطواف السبعة حول الكعبة الربوبية. ومنها السعي بين صفا الصفات ومروة الذات. ومنها الحلق بمحو آثار العبودية بموسى الأنوار الإلهية. وقس سائر المناسك على هذا. (وَمَنْ كَفَرَ) بوجدان الحق ولا يتعرض لنفحات الألطاف ، ولا يترقب لجذبات الأعطاف التي توازي عمل الثقلين وهي الاستطاعة في الحقيقة (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). لا يستكمل هو منهم وإنما يستكملون هم منه. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) ظاهر الخطاب معهم وباطنه مع علماء السوء الذين يبيعون دينهم بدنياهم ولا يعملون بما يعلمون فيضلون ويضلون ، وما العصمة عن اتباع الهوى إلا منه تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١))

القراآت : (حَقَّ تُقاتِهِ) بالإمالة : علي. (وَلا تَفَرَّقُوا) بتشديد الراء : البزي وابن فليح.

٢٢٣

الوقوف : (مُسْلِمُونَ) ه (وَلا تَفَرَّقُوا) ص لعطف المتفقتين (إِخْواناً) ج لاحتمال الواو وللحال والاستئناف (مِنْها) ط (تَهْتَدُونَ) ه (الْمُنْكَرِ) ط للعدول (الْمُفْلِحُونَ) ه (الْبَيِّناتُ) ط (عَظِيمٌ) ه (لا) لتعلق الظرف بلهم على الأصح. وقيل : منصوب بإضمار «اذكر». (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ج (اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) (لا) لأن التقدير : فيقال لهم : أكفرتم؟ (تَكْفُرُونَ) ه (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) ط (خالِدُونَ) ه (بِالْحَقِ) ط (لِلْعالَمِينَ) ه (ما فِي الْأَرْضِ) ط (الْأُمُورُ) ه (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ط (خَيْراً لَهُمْ) ط (الْفاسِقُونَ) ه قيل : لا وقف عليه وعليه وقف لأن المعرف لا يتصف بالجملة (إِلَّا أَذىً) ط و (الْأَدْبارَ) وقفة لأن «ثم» لترتيب الإخبار أي ثم هم لا ينصرون ، ولو كان عطفا لكان ثم لا ينصروا. (لا يُنْصَرُونَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما حذر المؤمنين إضلال الكفار أمرهم في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات ، فأولها لزوم سيرة التقوى. عن ابن عباس : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وهو أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى. أو هو القيام بالمواجب كلها والاجتناب عن المحارم بأسرها ، وأن لا يأخذه في الله لومة لائم ، ويقول بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين ، شق ذلك على المسلمين فنزلت (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] والجمهور على أنها منسوخة لأن معنى (حَقَّ تُقاتِهِ) واجب تقواه وكما يحق أن يتقي وهو أن يجتنب جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ وإلا كان إباحة لبعض المعاصي. ولا يجوز أن يراد بقوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) ما لا يستطاع من التكاليف كالصادر على سبيل الخطأ والسهو والنسيان لقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] فعلى هذا لم يبق فرق بين الآيتين. ولناصر القول الأول أن يقول : إن كنه الإلهية غير معلوم للخلق ، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوما فلا يحصل الخوف اللائق بذلك فلا يحصل حق الاتقاء ، وإذا كان كذلك فيجوز أن يؤمر بالاتقاء الأغلظ والأخف ، ثم ينسخ الأغلظ ويبقى الأخف ، ونزول هذه الآية بعد قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ممنوع (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ليس نهيا عن الموت وإنما هو نهي عن أن يدركهم الموت على خلاف حال الإسلام وقد مر في البقرة مثله. ثم إنه تعالى أمرهم بما هو كالأصل لجميع الخيرات وإصلاح المعاش والمعاد وهو الاجتماع على التمسك بدين الله واتفاق الآراء على إعلاء كلمته فقال : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) حال كونهم مجموعين. وقولهم : اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بعنايته باستمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه ،

٢٢٤

لأن وجه الشبه وصف غير حقيقي ومنتزع من عدة أمور. ويجوز أن يكون الحبل استعارة للعهد والاعتصام لوثوقه بالعهد بناء على أن في الكلام تشبيهين ، ويجوز أن تفرض الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام ترشيحا لها. والحاصل أن طريق الحق دقيق والسائر عليه غير مأمون أن تزل قدمه عن الجادة ، فيراد بالحبل هاهنا ما يتوصل به إلى الثبات على الحق وإن كانت عبارات المفسرين متخالفة. فعن ابن عباس : هو العهد كما يجيء (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] وقيل : إنه القرآن كما روي عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أما إنها ستكون فتنة. قيل : فما المخرج منها؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين» (١) وروى ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذا القرآن حبل الله» وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله حبل متين ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي» (٢) وقيل : إنه دين الله. وقيل : إنه طاعة الله. وقيل : إخلاص التوبة. وقيل : الجماعة لقوله تعالى عقيب ذلك : (وَلا تَفَرَّقُوا) لأن الحق لا يكون إلا واحدا ، وما بعد الحق إلا الضلال. ويد الله مع الجماعة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد فقيل : ومن هم يا رسول الله؟ قال : الجماعة»وروي «السواد الأعظم» وروي «ما أنا عليه وأصحابي» (٣) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تجتمع أمتي على الضلالة» (٤) وقد يتمسك بالآية نفاة القياس قالوا : الأحكام الشرعية إن احتيج فيها إلى الدلائل اليقينية امتنع الاكتفاء فيها بالقياس ، وإن اقتصر فيها على الدلائل الظنية فالقول بجواز القياس لكل أحد يوجب التفرق والاختلاف وهو منهي عنه. وأجيب بأن الدلائل الدالة على وجوب العمل بالقياس مخصصة لعموم قوله : (وَلا تَفَرَّقُوا). ثم إنه تعالى ذكرهم نعمته عليهم وذلك أنهم كانوا في الجاهلية بينهم إلا حن والبغضاء والحروب المتطاولة ، فألف الله بين قلوبهم ببركة الإسلام فصاروا إخوانا في الله متراحمين متناصحين ، وذلك أن من كان وجهه إلى الدنيا فقلما يخلو من معاداة ومناقشة بسبب الأغراض الدنيوية ، أما العارف الناظر من الحق إلى الخلق فإنه يرى الكل أسيرا في قبضة القضاء فلا يعادي أحدا البتة لأنه مستبصر بسر الله في القدر. فإذا أمر أمر برفق ناصح لا بعنف معير وكان حبه لحزب الله ونظرائه في الدين ورفقائه في طلب

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٤.

(٢) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ٣١. أحمد في مسنده (٣ / ١٤ ، ١٧).

(٣) رواه الدارمي في كتاب السير باب ٧٥.

(٤) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٨.

٢٢٥

اليقين أشد من حب الوالد لولده ، فكانوا كالأقربين والإخوان بل كجسد واحد وكنفس واحدة. وقيل : يريد الإخوان في النسب. وذلك أن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم ، وكان بينهما العداوة والحروب ، وبقيا على ذلك مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسول الله ، فذكر الله تعالى تلك النعمة. وفيه دليل على أن المعاملات الحسنة الجارية فيما بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله تعالى حيث خلق فيهم تلك الداعية المستلزمة لحصول الفعل. قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعونة والألطاف لا بخلق الفعل. وأجيب بأن كل هذا كان حاصلا قبل ذلك. فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم. هذا شرح النعم الدنيوية عليهم ، ثم ذكرهم النعم الأخروية بقوله : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) وشفا الحفرة وشفتها حرفها بالتذكير والتأنيث ، ومنه يقال : أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وطرفه. وأنقذه واستنقذه خلصه ونجاه. والضمير في (مِنْها) للحفرة أو النار أو للشفاء إما لأنه في معنى الشفة وإما لإضافته إلى الحفرة وهو بعضها وهو كقوله :

كما شرقت صدر القناة من الدم

قال بعضهم : الشفة أصغر من الشفا وكذلك الضلالة والضلال ولذلك قال نوح عليه‌السلام : (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) [الأعراف : ٦١] حين قال له قومه (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأعراف : ٦٠] أي ليس بي صغير من الضلال فكيف الكبير منه؟ ومعنى الآية إنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم تشبيها لها بالحفر التي فيها النار وتمثيلا لحياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها. وفيه تنبيه على تحقير مدة الحياة وإن طالت كأنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء. قالت المعتزلة : معنى الإنقاذ أنه تعالى لطف بهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبسائر ألطافه حتى آمنوا. وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشتركة بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، لكن الآية دلت على أن الله تعالى هو المنقذ فعلم أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى. (كَذلِكَ) مثل ذلك البيان البليغ (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إرادة أن تزدادوا هدى أو لتكونوا على رجاء هداية. فالأول قول المعتزلة والثاني لأهل السنة ، وقد مر في أوائل سورة البقرة. ثم رغب المؤمنين الكاملين في تكميل غيرهم فقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) وهو جنس تحته نوعان : الترغيب في فعل ما

٢٢٦

ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته ، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان فقال : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) واختلفوا في أن كلمة «من» في قوله : (مِنْكُمْ) للتبيين أو للتبعيض. فذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ، وكيف لا وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فهذا كقولك : لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر. وتريد جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم. ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات. وقال آخرون : إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى والعاجزين ، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما ، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما ، وكيف يباشر. فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا. وأيضا قد أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية ، فكان هذا بالحقيقة إيجابا على البعض الذي يقوم به. ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية وهو المحتسب.

واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب : أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان : أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الأفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها ، فإن كانوا عددا يرون انعقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوّزه ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم ويأمرهم بصلاة العيد. والثاني ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت. فإن قال : نسيتها. حثه على المراقبة. ولا يعترض على من أخرها والوقت باق. وثانيها ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم. فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك ، وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها والي خاص كمطل المديون الموسر بالدين. فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه رب الدين وليس له الحبس. وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء ، وإلزام النساء أحكام العدد ، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء ، وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق ، ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس ، أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه ،

٢٢٧

ومن تصدى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف ، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره لئلا يغتر به. وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه ، وإن كان في طريق خال فهو موضع ريبة فينكر ويقول : إن كانت ذات محرم فصنها عن مواضع الريب ، وإن كانت أجنبية فخف الله معها في الخلوة. ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار الجار إلا باستعداء صاحب الحق ، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة ، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر في الخصومات. والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانة منع من معاملتهن. وبالجملة «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (١) فلينظر الداعي الى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان ، ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا ويدعوه إلى ما يليق به متدرجا من الأسهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار كل ذلك إيمانا واحتسابا لا سمعة ورياء ، ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسمانية. وذلك أنّ هذه الدعوة منصب النبي وخلفائه الراشدين بعده ، ومن هاهنا ذهب الضحاك إلى أن المراد من المذكورين في هذه الآية أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين يتعلمون من الرسول ويعلمون الناس. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله وخليفة كتابه» وعن علي : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وكفى بقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الأخصاء بالفلاح مدحا لهم. وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح. وأجيب بأن هذا ورد على سبيل الغالب ، فإن الظاهر أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يشرع فيه إلا بعد إصلاح أحوال نفسه ، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير وقلما يتفق ممن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت عن وجهها. قال بعض العلماء : إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي واجبان على الفاسق ، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر. وعن بعض السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل فقال : وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهي عن منكر. والحق في هذه القضية ما قيل :

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب ١٤. النسائي في كتاب الإيمان باب ١٦. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٩.

٢٢٨

وغير تقيّ يأمر الناس بالتقى

طبيب يداوي الناس وهو مريض

والقرآن ينعي عليه بقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢ ، ٣] (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤] وقد سلف تقريره في البقرة. وعن داود الطائي أنه سمع صوتا من قبر : ألم أزك ألم أصل ألم أصم ألم أفعل كذا وكذا؟ أجيب بلى يا عدو الله ولكن إنك إذا خلوت بارزته بالمعاصي ولم تراقبه.

قوله سبحانه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) في النظم وجهان : أحدهما أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام ، ثم إن أهل الكتاب حسدوا محمدا فاحتالوا لإلقاء الشكوك في تلك النصوص ، ثم انجر الكلام إلى أنه أمر المؤمنين بالدعاء إلى الخير ، فختم الكلام بتحذير المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب من إلقاء الشبهات في النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة ، فعلى هذا تكون الآية من تتمة الآيات المتقدمة. وثانيهما أنه لما أمر الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن ضده وكان ذلك مما لا يتم إلا بالقدرة على تنفيذه ، كيف وفي الناس ظلمة ومتغلبون ، فلا جرم حذر أهل الحق أن يتفرقوا ويختلفوا كيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف ، وعلى هذا تكون الآية من تتمة الآية السابقة فقط. قال بعضهم : تفرقوا واختلفوا مؤداهما واحد والتكرير للتأكيد. وقيل : معناهما مختلف. تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين. أو تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة للنصوص ، واختلفوا بأن حاول كل منهم نصرة قوله. أو تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل من الأحبار رئيسا في بلد ، واختلفوا بأن صار كل منهم يدعي أنه على الحق وصاحبه على الباطل. ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة فنسأل الله العصمة والسداد. (وَأُولئِكَ) اليهود والنصارى الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم الدلالات الواضحة والنصوص الظاهرة ، أو أولئك الذين اقتفوا آثارهم من مبتدعة هذه الأمة (لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) وفي تعليق الظرف بقوله (لَهُمْ) فائدتان : إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم ، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن يبيض بعض الوجوه ويسود بعضها ونظير ذلك في القرآن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٤١] وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان : أحدهما ـ وإليه ميل أبي مسلم ـ : أن البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) [النحل : ٥٨] ولما سلم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية قال له رجل : يا مسوّد وجوه المؤمنين. وتمام الخبر سوف يجيء إن شاء الله في تفسير سورة القدر. ولبعض الشعراء في الشيب :

٢٢٩

يا بياض القرون سودت وجهي

عند بيض الوجوه سود القرون

وثانيهما : أن السواد والبياض محمولان على ظاهرهما وهما النور والظلمة ، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة. فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وسعى النور بين يديه وبيمينه ، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكمده واسودت صحيفته وأحاطت به الظلمة من كل جانب. قالوا : والحكمة في ذلك أن يعرف أهل الموقف كل صنف فيعظمونهم أو يصغرون بحسب ذلك ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور أو ويل وثبور. وأيضا إذا عرف المكلف في الدنيا أنه يحصل له في الآخرة إحدى الحالتين ازدادت رغبته في الطاعات وترك المحرمات. قلت : والتحقيق فيه أن والهيئات والأخلاق الحميدة أنوار ، والملكات والعادات الذميمة ظلمات ، وكل منهما لا يظهر آثارهما كما هي إلا بعد المفارقة إلى الآخرة (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) [الحديد : ١٣] واحتج أهل السنة بالآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وإنه ليس هاهنا منزلة بين المنزلتين ، لأنه قسم أهل القيامة إلى قسمين : مبيض الوجوه وهم المؤمنون ، ومسودها وهم الكافرون لقوله تعالى في آخر الآية (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) واعترض القاضي عليه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه ، وأيضا لفظ وجوه نكرة فلا يفيد العموم. وأيضا المذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ، ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق. والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم ، فيكون الخطاب لجميع الكفار؟ وأنه أيضا جعل موجب العذاب في آخر الآية هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث إنه بعد الإيمان. فإن قيل : لم قدم البياض على السواد أوّلا وعكس آخرا؟ فالجواب بعد تسليم إفادة الواو الترتيب ، أنه بدأ بذكر أهل الثواب وختم بهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال : «سبقت رحمتي غضبي» ولما في ذلك من رعاية حسن المطلع والمقطع وأنه فن بديع في الفصاحة. ومن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟ قال أبي بن كعب : هم جميع الكفار لأنهم آمنوا وقت الميثاق ، ورواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : المراد أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو ما نصبه الله من دلائل التوحيد والنبوة؟ وقال عكرمة والأصم والزجاج : إنهم أهل الكتاب آمنوا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفروا به بعد بعثه. وقال قتادة : إنهم المرتدون. وقال الحسن : هم المنافقون. وقيل : هم الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من

٢٣٠

الرمية». ولما رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عيناه ثم قال : كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء ، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : بل سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو لم أسمعه ، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال : فما شأنك دمعت عيناك؟ قال : رحمة لهم. كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية. ثم أخذ بيده فقال : إن بأرضك منهم كثيرا فأعاذك الله منهم. هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعه. ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر البتة ، والاستفهام في قوله تعالى : (أَكَفَرْتُمْ) بمعنى الإنكار. قال القاضي : وفيه وكذا في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) دليل على أن الكفر منهم لا من الله. وقالت المرجئة : فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكافر. أما قوله : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) فالمراد بها الجنة التي هي محل الرحمة. وموقع قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) موقع الاستئناف كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فأجيب بذلك أي لا يظعنون عنها ولا يموتون. وفي إقامة الرحمة مقام الجنة دليل على أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته. وفي إضافة الرحمة إلى نفسه وتعليل العذاب بكفرهم والنص على خلود أهل الثواب دون أهل النار وإن كانوا مخلدين أيضا دلائل وإشارات إلى أن جانب العفو والمغفرة والرحمة مغلب. وكيف لا وقد أردفه بقوله : (تِلْكَ) الأحكام التي وردت في حيز الوعيد والوعد وانقضى ذكرها (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) متلبسة (بِالْحَقِ) العدل من جزاء المحسن بإحسانه وجزاء المسيء بإساءته ، أو متلبسة بالمعنى الحق لأن معنى المتلو حق (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) ولكن مصالح الخلق لا تنتظم إلا بتهديد المذنبين ، وإذا حصل التهديد فلا بد من التحقيق دفعا للكذب عمن هو أصدق القائلين. قال الجبائي : قوله : (ظُلْماً) نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئا مما يكون ظلما سواء فرض منه أو من العبد على نفسه أو على غيره ، وإذا لم يرد لم يفعل إذ لو كان فاعلا لشيء من الأقسام الثلاثة كان مريدا له هذا خلف ، فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد ، إذ من جملتها القبائح ، وقد بينا أنه لا يريدها. ثم إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك ، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدا له ، فدلت الآية على أنه قادر على الظلم وعلى أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر فلهذا قال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وأيضا لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح للجهل أو العجز أو الحاجة ، وكل ذلك على

٢٣١

الله تعالى محال لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض بل لكل ما في الوجود. وربما يقال : معنى الآية إما أن يكون أنه لا يريد أن يظلمهم ، أو أنه لا يريد أن يظلم بعضهم بعضا. والأول لا يستقيم على مذهبكم لأن من مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء من الذنب أشد العذاب لم يكن ظالما بل كان عادلا لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه ، فتصور الظلم منه محال عندكم ، فلا يلزم منه مدح. والثاني أيضا محال على قولكم لأن كلا بإرادة الله وبتكوينه عندكم ، فثبت أنه لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح في مذهبكم. أجاب أهل السنة من وجهين : الأول أنه يتوقف التمدح بنفي صفة على إمكان تصور ذلك الشيء منه بدليل قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] ولا يتوقف التمدح بذلك على صحة النوم والأكل عليه. الثاني أنه تعالى إن عذب من ليس بمستحق للظلم لم يكن ظالما لكنه في صورة الظلم. وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] والحق في هذا المقام أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وإذا كان اللطف والقهر من ضرورات صفات الكمال ، فوضع كل منهما في مظهره يكون وضع الشيء في موضعه فلا يكون ظلما. واحتجت الأشاعرة بقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها من جملة ما في السموات وما في الأرض. أجابت المعتزلة بأن قوله : (لِلَّهِ) إضافة ملك لا إضافة فعل كما يقال : هذا البناء لفلان. يراد أنه مملوكه لا أنه مفعوله. وأيضا الآية مسوقة في معرض المدح ولا مدح في نسبة الفواحش والقبائح إلى نفسه. وأيضا قوله : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يتناول ما كان مظروفا لهما وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض ، وعورض بأن الإضافة إضافة فعل ، لأن المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية المنتهية إلى تخليق الله دفعا للتسلسل أو الترجيح من غير مرجح. قالت الحكماء : تقديم السموات في الذكر على الأرض دليل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأسباب السماوية ، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلقه وتكوينه تعالى فيكون الجبر أيضا لازما من هذا الوجه. (وَإِلَى اللهِ) أي إلى حيث لا مالك سواه (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فالأول إشارة إلى أنه تعالى مبدأ المخلوقات كلها ، وهذا إشارة إلى أن معاد الكل إليه.

قوله عز من قائل : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) في النظم وجهان : أحدهما أنه لما أمر المؤمنين بما أمر ونهاهم عما نهى ، عدل الى طريق آخر يقتضي حملهم على الانقياد والطاعة لأن كونهم خير الأمم مما يقوّي داعيتهم في أن لا يبطلوا على أنفسهم هذه المزية ، وذلك إنما

٢٣٢

يكون بالتزام التكاليف الشرعية. وثانيهما أنه لما ذكر حال الأشقياء وحال السعداء نبه أوّلا على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) بمعنى أنهم استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة. ثم نبه على سبب وعد السعداء بقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) أي تلك الكرامات والسعادات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خير أمة ، وأقول : لما انجر الكلام في مخاطبة المؤمنين الى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعا واختراعا وأن منتهى الكل إليه ، أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطاف ، وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه. عن عكرمة ومقاتل أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوديا اليهوديين قالا لابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة : إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله هذه الآية. قال بعض المفسرين : «كان» هاهنا تامة ، وانتصاب (خَيْرَ أُمَّةٍ) على الحال أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والأكثرون على أنها ناقصة ، فجاء إيهام أنهم كانوا موصوفين بالخيرية في الزمان الماضي دون ما يستقبل. فأجيب بأن «كان» لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ بدليل قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٦٩] وقيل : المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ خير أمة ، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) [الفتح : ٢٩] وقال أبو مسلم : هذا تابع لقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) وما بينهما اعتراض والتقدير : أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة : كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا نلتم من الرحمة وبياض الوجه ما نلتم. وقال بعضهم : لو شاء الله لقال : أنتم. فكان هذا التشريف حاصلا لكلنا ، ولكنه مخصوص بقوم معينين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل صنيعهم. وقيل : إنها زائدة والمعنى : أنتم خير أمة. وزيفه ابن الأنباري بأن الزائدة لا تقع في أول الكلام ولا تعمل كقول العرب «عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان» ولا يقولون : «كان عبد الله قائم» على أن «كان» زائدة. لأن البداءة بها دليل شدة العناية ، والملغى لا يكون في محل العناية. وقيل : إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة. وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد ، وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته. وإذا أطلقت الأمة في نحو قول العلماء «اجتمعت الأمة» وقعت عليهم. وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد. قال الزجاج : ظاهر الخطاب في (كُنْتُمْ) مع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنه عام في حق كل الأمة. ونظيره (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] وقوله : (لِلنَّاسِ) إما أن يتعلق ب (أُخْرِجَتْ)

٢٣٣

والمعنى : كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار. ومعنى إخراجها أنها أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها. وإما أن يتعلق ب (كُنْتُمْ) أي كنتم للناس خير أمة. ثم بين سبب الخيرية على سبيل الاستئناف بقوله : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. وقد يستدل بالآية على أن إجماع هذه الأمة حجة لأنها لو لم تحكم بالحق لم تكن خيرا من المبطل ، ولأن اللام في (بِالْمَعْرُوفِ) وفي (الْمُنْكَرِ) للاستغراق فيقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر فيكون إجماعهم حقا. وأما أنه من أي وجه يقتضي ذلك كون هذه الأمة خير الأمم مع أن الصفات الثلاثة كانت حاصلة لسائر الأمم فذلك أن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد ، وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل. وأعرف والمعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات الكفر بالله ، فكان الجهاد في الدين تحملا لأعظم المضارّ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار ، فكان من أعظم العبادات. ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (١) فلا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويقروا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب أنكر المنكر. وفائدة القتل على الدين لا ينكره منصف فإن أكثر الناس يحبون ما ألفوه من الأديان الباطلة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم ، فإذا خوف بالقتل دخل في دين الحق مكرها إلى أن يألفه متدرجا. وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك ، ولا يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وإنما اقتصر في وصف الأمة على الإيمان بالله لأنه يستلزم الإيمان بالنبوة وبسائر ما عددنا وإلا لم يكن في الحقيقة إيمانا ، ولهذا نفى عن أهل الكتاب في قوله : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات ، لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٢ ـ ٣٦. البخاري في كتاب الإيمان باب ١٧ ، ٢٨. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٩٥. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٨٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٣. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١ ـ ٣. بدون لفظ «أنا نبي السيف».

٢٣٤

أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) فكانت العناية به أشد فكان تقديمه أهم. وليعلم أن التكميل أفضل من الكمال نفسه ولهذا استلزم الأول الثاني دون العكس ، ولأن التكميل يتضمن الكمال فكان في تأخير الإيمان بالله تكريرا له مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة على أن الواو لا تفيد الترتيب ، وأيضا أراد أن يبني عليه قوله : (وَلَوْ آمَنَ). وفي التفسير الكبير : إن أصل الإيمان مشترك فيه بين الأديان فلا تتبين فيه الخيرية ، لكن الآية سيقت لبيان الخيرية وليس ذلك إلا لأن هذه الأمة أقوى في باب الأمر بالمعروف فلهذا قدم ، ثم أتبع ذكر الإيمان بالله ليعلم أن شرط تأثير الأمر بالمعروف في الخيرية حاصل. ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وعلى أن إيمان أهل الكتاب معتد به وليس كذلك ، ولهذا قال تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) يعنى إيمانا معتبرا وهو الإيمان بالله وبسائر ما لا بد منه من الأمور المعدودة (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لحصلت لهم صفة الخيرية أيضا لانضمامهم في زمرة هذه الأمة ، أو لحصل لهم من الرياسة وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله ، لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إيتاء الأجر في الآخرة مرتين ، وعلى ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا ، وبعد ذلك خلود في النار. ثم فصل أهل الكتاب على سبيل الاستئناف فقال : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام ورهطه وكالنجاشي وأصحابه ، فاللام للمعهود السابق (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله تعالى وعن دينه فيقارب الكفر أو يرادفه ، أو المراد أنهم ليسوا بعدول في دينهم أيضا فهم مردودون باتفاق الطوائف كلهم ، فلا ينبغي أن يقتدى بهم البتة. ثم أخبر عن حالهم وكان كما قال وهو آية الإعجاز بجملة مستأنفة هي (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) الإضرار ألا يجاوز أذى بقول كطعن في الدين أو تهديد أو تحريف نص أو إلقاء شبهة أو إظهار كلمة الكفر بإشراكهم عزيرا والمسيح. والأذى مصدر كالأسى يقال : يفعلون أذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية. والأذى نوع من الضر فصح انتصابه به والتقدير : لن يضروكم شيئا من أنواع الضرر إلا ضررا يسيرا. ومن هذا تبين أن الاستثناء ليس بمنقطع على ما ظن (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) وإنما لم يجزم بالعطف على (يُوَلُّوكُمُ) لئلا يصير نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون نفي النصر وعدا مطلقا ، وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم وينهزموا ، ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتف عنهم رأسا فلن يستقيم لهم أمر البتة. ومعنى «ثم» إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أينما كانوا أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال. فإن قيل : هب أن اليهود كذلك ، لكن النصارى قد يوجحد لهم قوة وشوكة في ديارهم. قلنا : هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على

٢٣٥

ذلك ، فكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وأهل خيبر. أو لعل نفي النصرة عنهم بعد القتال ولم يوجد نصراني بهذه الحالة. وفي الآية تشجيع للمؤمنين وتثبيت لمن آمن من أهل الكتاب كيلا يلتفتوا إلى تضليلاتهم وتحريفاتهم.

التأويل : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) لأهل العزائم وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] لأهل الرخص. والمعنى : اتقوا عن وجودكم بالله وبوجوده (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) لا ينتف وجودكم المجازي إلا وقد سلمتم لتصرفات الأحكام الإلهية والجذبات الربانية ، واستفدتم الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله. (وَاعْتَصِمُوا) أهل الاعتصام طائفتان : أهل الصورة وهم المتعلقون بالأسباب لأن مشربهم الأعمال فقيل لهم اعتصموا بحبل الله وهو كل سبب يتوصل به إلى الله من أعمال البر ، وأهل المعنى وهم المنقطعون عن الأسباب إذ مشربهم الأحوال فقيل لهم : واعتصموا بالله هو مولاكم مقصودكم أو ناصركم ، ولا تفرقوا في الظاهر وهو مفارقة الجماعة ، وفي الباطن وهو الميل الى البدع والأهواء. (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ) وهي عداوة بعضكم لبعض وعداوتكم لله ولأنفسكم (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالهداية والإيمان وتأليف القلوب (كَذلِكَ) مثل ما بين آياته للأوس والخزرج حتى صاروا إخوانا (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) أيها الطلاب (آياتِهِ) وهي الجذبة الإلهية وتجلي صفات الربوبية (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) بالأفعال دون الأقوال (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) لأن الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] أي يجعل ما في الضمائر على الظواهر (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) هم أرباب الطلب السائرون إلى الله انقطعوا في بادية النفس واتبعوا غول الهوى وارتدوا على أعقابهم القهقرى. (فَذُوقُوا الْعَذابَ) لأن الناس نيام لا يذوقون ألم جراحات الانقطاع والإعراض عن الله ، فإذا ماتوا انتبهوا وذاقوا. (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) في الدنيا بالجمعية والوفاق مع أهل الله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) في الآخرة ، ولأنه يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه (تِلْكَ) الأحوال (آياتُ اللهِ) مع خواصه (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) نظهرها على قلبك بالتحقيق (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) بأن يضع السواد والبياض في غير موضعهما. (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) من العدم إلى الوجود مستعدة لقبول كمالية الإنسان. من جملة الخيرية تخفيف التكليف وضمان التضعيف ، ومنها عاقب مطيعهم بشؤم عصيانهم ، وغفر لعصاة هذه الأمة ببركة مطيعهم ، ومنها زلاتهم لعنة وزلاتنا رحمة ، ومنها شكا منهم إلينا وشكر منا إليهم قبل وجودنا (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) يعني علماء السوء (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) أيها المحققون (إِلَّا أَذىً) من طريق الإنكار والحسد (وَإِنْ

٢٣٦

يُقاتِلُوكُمْ) ينازعوكم ويخاصموكم (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) من صدق نياتكم. (لا يُنْصَرُونَ) لأنكم أهل الحق وحزب الله وإن حزب الله هم الغالبون.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))

القراآت : (وَيُسارِعُونَ) وبابه ك (سارِعُوا) [آل عمران : ١٣٣] و (نُسارِعُ) [المؤمنون : ٥٦] ممالة : قتيبة وأبو عمرو طريق بن عبدوس. (ما يَفْعَلُوا فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وحفص أبو عمرو مخير. الباقون : بتاء الخطاب. (تَسُؤْهُمْ) وبابه من كل همزة مجزومة بغير همزة : الأعشى وأوقية. والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف (لا يَضُرُّكُمْ) من الضير : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع. وقرأ المفضل (لا يَضُرُّكُمْ) بالفتح الباقون : (لا يَضُرُّكُمْ) بالضم كلاهما من الضر مجزوما ثم محركا للساكنين فالفتح للخفة والضم للإتباع. (تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) بتاء الخطاب : سهل. الباقون : بياء الغيبة.

الوقوف : (الْمَسْكَنَةُ) ط (بِغَيْرِ حَقٍ) ط (يَعْتَدُونَ) ه قيل : لا وقف عليه لأن ضمير (لَيْسُوا) يعود إلى ما يعود إليه ضمير (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) لبيان الفضل بين الفريقين ، والذين

٢٣٧

عصوا واعتدوا أحد الفريقين. (سَواءً) ط (يَسْجُدُونَ) ه قيل : لا وقف على جعل (يُؤْمِنُونَ) حالا لضمير (يَسْجُدُونَ) ولا يصح بل الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوصاف لهم مطلقة غير مختصة بحال السجود (الْخَيْراتِ) ط (الصَّالِحِينَ) ه (يُكْفَرُوهُ) ط (بِالْمُتَّقِينَ) ه (شَيْئاً) ط (النَّارِ) ج (خالِدُونَ) ه (فَأَهْلَكَتْهُ) ط (يَظْلِمُونَ) ج (خَبالاً) ط (ما عَنِتُّمْ) ج لاحتمال كون قد بدت حالا (أَكْبَرُ) ط (تَعْقِلُونَ) ه (كُلِّهِ) ج للعطف مع الحذف أي وهم لا يؤمنون بكتابكم (آمَنَّا) ق قد قيل : والوصل أولى لأن المقصود بيان تناقض حاليهم في النفاق (مِنَ الْغَيْظِ) ط يغيظكم ط (الصُّدُورِ) ه (تَسُؤْهُمْ) ز للابتداء بشرط آخر والوصل أجوز إذ الغرض تقرير تضاد الحالين منهم. (يَفْرَحُوا بِها) ط لتناهي وصف الذم لهم وابتداء شرط على المؤمنين (شَيْئاً) ط (مُحِيطٌ) ه.

التفسير : هذا خبر آخر من مستقبلات أحوال اليهود المعلومة بالوحي. والمعنى ضربت عليهم الذلة والهوان في عامة الأحوال بالقتل والسبي والنهب أينما وجدوا إلا معتصمين أو متلبسين أي إلا في حال اعتصامهم (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يعني ذمة الله وذمة المسلمين ، فهما في حكم واحد أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم الى الذمة بقبول الجزية ، فحينئذ يكون دمهم محقونا ومالهم مصونا وهو نوع من العزة وقيل : حبل الله الإسلام ، وحبل الناس الذمة. فعلى هذا يكون الواو بمعنى «أو». وقيل : ذمة الله الجزية المنصوص عليها ، وذمة الناس ما يزيد الإمام عليها أو ينقص بالاجتهاد. وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب نظرا إلى المعنى لأن ضرب الذلة عليهم معناه لا تنفك عنهم (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) قيل : إنه من قولك «تبوأ فلان منزل كذا» والمعنى مكثوا في غضب الله. وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا بالغضب. (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) عن الحسن أن المراد بها الجزية ، وإنما أفردت بالذكر بعد الاستثناء ليعلم أنها باقية غير زائلة بعد اعتصامهم بالذمة. وقال آخرون : المراد أنك لا ترى منهم ملكا قاهرا ولا رئيسا مطاعا لكنهم مستخفون في جميع النواحي والأكناف ، يظهرون من أنفسهم الفقر والمدقعة البتة. وباقي الآية قد مر تفسيره في البقرة إلا أنه سبحانه قال في هذا الموضع من هذه السورة وفي النساء (الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) لأن جمع التكسير يفيد التكثير فذكر في الموضعين أعني في البقرة وفي أول السورة ما ينبىء عن القلة مع أن ذلك موافق لما بعده من جموع السلامة كالذين والصابئين وغيرهما. ثم تدرج إلى ما هو نص في الكثرة في الموضعين الآخرين نعيا عليهم وتفظيعا لشأنهم ، ولمثل هذا عرّف الحق في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن

٢٣٨

تقتل النفس به وهو قوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الأنعام : ١٥١] ثم نكر في المواضع الباقية أي يغير ما حق أضلالا في نفس الأمر ولا بحسب معتقدهم وتدينهم. (لَيْسُوا سَواءً) كلام تام وما بعده كلام مستأنف للبيان. قال الفراء وابن الأنباري : تقديره من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة ، إلا أنه أضمر ذكر هذا القسم على مذهب العرب من الاكتفاء بأحد الضدين لخطورهما بالبال معا غالبا. قال أبو ذؤيب :

دعاني إليها القلب إني لآمرها

مطيع فما أدري أرشد طلابها؟

أراد أم غيّ فاكتفى بذكر الرشد عن ضده. وتقول : زيد وعبد الله لا يستويان ، زيد عاقل دين ذكي. فيغني هذا عن أن يقال : وعبد الله ليس كذلك. وقيل : وهو اختيار أبي عبيدة أن (أُمَّةٌ) مرفوعة ب (لَيْسُوا) على لغة من قال : أكلوني البراغيث. أو هو بدل من الضمير على نحو (أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣] والتقدير : ليسوا سواء أمة قائمة وأمة مذمومة. وفي تفسير أهل الكتاب قولان : الأول وعليه الجمهور أنهم اليهود والنصارى. قال ابن عباس ومقاتل : لما أسلم عبد الله بن سلام وأضرابه قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم وقالوا لهم : لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دنيا غيره فنزلت. وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الثاني أنهم كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان فعلى هذا يكون المسلمون منهم. عن ابن مسعود قال : أخر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم. وفي رواية : فبشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل الله هذه الآيات (لَيْسُوا سَواءً) إلى قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) قال القفال رحمه‌الله : لا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب. فقيل : ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقاموا صلاة العشاء في الساعة التي ينام فيها غيرهم مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا. ولا يبعد أيضا أن يقال : المراد كل من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة ، والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيدا لما تقدم من قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠] كقوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان : الأولى : أنها

٢٣٩

قائمة. قيل : أي في الصلاة. وقيل : ثابتة على التمسك بدين الحق ملازمة له غير مضطربة. وقيل : أي مستقيمة عادلة من قولك : «أقمت العود فقام» بمعنى استقام. وهاهنا نكتة وهي أن الآية دلت على أن المسلم قائم بحق العبودية. وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨] دل على أن المولى قام بحق الربوبية وهذه حقيقة قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠]. الصفة الثانية : (يَتْلُونَ) أي أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل. فالتلاوة القراءة. وأصل الكلمة الإتباع. فكأن التلاوة هي إتباع اللفظ ، وآيات الله القرآن. وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها. وآناء الليل ساعاته واحدها أنى مثل «معا» و «أني» و «أنو» مثل «نحى» و «تلو». الصفة الثالثة : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يحتمل أن يكون حالا من (يَتْلُونَ) كأنهم يقرأون في القرآن السجدة تخشعا إلا أن ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا» يأباه وأن يكون كلاما مستقلا أي يقومون تارة ويسجدون أخرى ويتغون الفضل والرحمة بكل ما يمكن كقوله : (يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) [الفرقان : ٦٤] قال الحسن : يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وذلك لإحداث النشاط والراحة ، وأن يكون المراد : وهم يصلون ويتهجدون. والصلاة تسمى سجدة وركعة وسبحة ، وأن يراد وهم يخضعون لله كقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٥] وعلى هذين الاحتمالين لا منع من كونه حالا. الصفة الرابعة : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية. وهذه إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية ، فإن حاصل المعارف معرفة المبدأ والمعاد. ولا يخفى أن غير مؤمني أهل الكتاب ليسوا من القبيلين في شيء بسبب تحريفاتهم واعتقاداتهم الفاسدة. الخامسة والسادسة : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي ومنعهم عما لا ينبغي. وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين. وعن سفيان الثوري : إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. الصفة السابعة (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات. وما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العجلة من الشيطان» (١) مخصوص بهذه الآية. على أنها لا تفيد كلية الحكم لأن القضية أهملت إهمالا ، كيف لا والأمور متفاوتة. منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما يحصل على مهل وتدريج فلو طلب منه خلاف وضعه

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب البر باب ٦٦.

٢٤٠