تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

نزاهة فراشه فقال : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي من لم يقدر أن يسخر عجوز الدنيا الصالحة بأسرها ويجعلها منكوحة له ويحصنها بتصرّف شرائع الإسلام بحيث لا يكون لها تصرف في قلبه بوجه ما ، فليتصرف في القدر الذي ملكت يمين قلبه من الدنيا ولم تملك قلبه لأنها مأمورة بخدمته وهي مؤمنة له بالخدمة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله تعالى : «يا دنيا اخدمي من خدمني واستخدمي من خدمك». (مُحْصَناتٍ) بالصدق والإخلاص (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) بالتبذير والإسراف (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) من النفس والهوى (فَإِذا أُحْصِنَ) بالإخلاص في العطاء والمنع والأخذ والدفع (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) هي غلبات شهواتها على القلب فليبذل نصف ما ملكت يمينه من الدنيا في الله جناية وغرامة فهو حدها كما أن حدّ عجوز الدنيا إذا أحصنها ذوو الطول من الرجال فأتت بفاحشة إهلاكها بالكلية بالبذل في الله كما كان حال سليمان عليه‌السلام إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد لما شغلته عن الصلاة وأتت بفاحشة حب الخيل فطفق مسبحا بالسوق والأعناق (ذلِكَ) التصرف في قدر من الدنيا (لِمَنْ خَشِيَ) ضعف النفس وقلة صبرها على ترك الدنيا وامتناعها عن قبول الأوامر والنواهي (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن التصرّف في الدنيا بالكلية (خَيْرٌ لَكُمْ) كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا طالب الدنيا لتبر فتركها خير وأبر». (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) فلكم المعونة ولغيركم المئونة. قال إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] وأخبر عن حال موسى بقوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣] وعن حال نبينا بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] وعن حال هذه الأمة بقوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) [فصلت : ٥٣] والمعونة هي الجذبة التي توازي عمل الثقلين ، فلا جرم كان لغير نبيّنا الوصول إلى السموات فقط ، وكان لنبيّنا الوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى ، ولأمته التقرّب : «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه» (١). والفرق بين النبي والولي ، أنّ النبي مستقل بنفسه والولي لا يمكنه السير إلّا في متابعة النبي وتسليكه. (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ولهذا أعين بالخدمة حتى يتصل بقوّة ذلك إلى مقام لا يصل إليه الثقلان بسعيهم إلى الأبد ، وضعفه بالنسبة إلى جلال الله وكماله وإلّا فهو أقوى في حمل الأمانة من سائر المخلوقات. وأيضا من ضعفه أنه لا يصبر عن الله لحظة فإنه يحبهم ويحبونه.

الصبر يحمد في المواطن كلها

إلّا عليك فإنه لا يحمد

وكان أبو الحسن الخرقاني يقول : لو لم ألق نفسا لم أبق. وغير الإنسان يصبر عن الله

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣٨. أحمد في مسنده (٦ / ٢٥٦).

٤٠١

لعدم المحبة. ومن ضعفه أنه لا يصبر مع الله عند غلبات سطوات التجلي كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يغان على قلبه وكان يقول حينئذ : كلميني يا حميراء. وكان الشبلي يقول : لا معك قرار ولا منك فرار ، المستغاث بك منك إليك. ضعف الإنسان سبب كماله وسعادته ، فساعة يتصف بصفات البهيمة ، وساعة يتسم بسمات الملك. وليس لغيره هذا الاستعداد فلهذا جاء في الحديث الرباني : «أنا ملك حي لا أموت أبدا فأطعني عبدي لعلك تكون ملكا حيا لا تموت أبدا». (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) أي تجارة تنجيكم من عذاب أليم. (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بصرف أموالكم في شهواتها فإن ذلك سمها القاتل (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) إذ بيّن لكم هذه الآفات ودلكم على هذه التجارات. (وَمَنْ يَفْعَلْ) صرف المال إلى الهوى تعديا عن أمر الله وظلما على نفسه.

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠))

٤٠٢

القراآت : يكفر ويدخلكم بياء الغيبة : المفضل. الباقون بالنون. (مُدْخَلاً) بفتح الميم وكذلك في الحج : أبو جعفر ونافع. الباقون بالضم. (وَسْئَلُوا) وبابه مما دخل عليه واو العطف أو فاؤه بغير همزة : ابن كثير وعلي وخلف وسهل وحمزة في الوقف. (عَقَدَتْ) من العقد : عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون عاقدت من المعاقدة. (بِما حَفِظَ اللهُ) بالنصب : يزيد. الباقون بالرفع. (وَالْجارِ) بالإمالة : إبراهيم بن حماد وقتيبة ونصير وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو والنجاري عن ورش (وَالْجارِ الْجُنُبِ) بفتح الجيم وسكون النون : المفضل. الباقون بضمتين. (بِالْبُخْلِ) بفتحتين حيث كان : حمزة وعلي وخلف والمفضل عباس مخير. الباقون : بضم الباء وسكون الخاء. (حَسَنَةً) بالرفع : ابن كثير وأبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب. (يُضاعِفْها) بالتشديد : ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب. الباقون (يُضاعِفْها) بالألف.

الوقوف : (كَرِيماً) ه (عَلى بَعْضٍ) ط (مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ط (مِنْ فَضْلِهِ) ط (عَلِيماً) ه (وَالْأَقْرَبُونَ) ط بناء على أن ما بعده مبتدأ (نَصِيبَهُمْ) ط (شَهِيداً) ه (مِنْ أَمْوالِهِمْ) ج لأن ما يتلو مبتدأ (بِما حَفِظَ اللهُ) ط (وَاضْرِبُوهُنَ) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب (سَبِيلاً) ط (كَبِيراً) ه (مِنْ أَهْلِها) ج لأن «أن» للشرط مع اتحاد الكلام (بَيْنِهِما) ط (خَبِيراً) ه (وَابْنِ السَّبِيلِ) ط للعطف (أَيْمانُكُمْ) ط (فَخُوراً) ه لا بناء على أن الذين بدل (مِنْ فَضْلِهِ) ط (مُهِيناً) ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والعطف (بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ط وإن جعل «الذين» مبتدأ لأن خبره محذوف أي فأولئك قرينهم الشيطان (قَرِيناً) ه (رَزَقَهُمُ اللهُ) ط (عَلِيماً) ه (ذَرَّةٍ) ط لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى أي لا يظلم بنقص الثواب ومع ذلك يضاعفه (عَظِيماً) ه.

التفسير : هذا كالتفصيل للوعيد المتقدم. ومن الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فإنّ الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلّا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو منكرا لقدر. وضعف بأن الذنوب لو كانت كلها كبائر لم يبق فرق بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر وبقوله تعالى : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٣] (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] وبأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، وبقوله تعالى : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧] ولا بد من فرق بين الفسوق والعصيان. فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر العصيان. حجة المانع ما روي عن ابن عباس : أنّ الذنب إنما يكبر لوجهين : لكثرة نعم من

٤٠٣

عصى فيه ولجلالته ، ولا شك أن نعمه تعالى غير متناهية وأنه أجل الموجودات فيكون عصيانه كبيرا. وعورض بأنه أرحم الراحمين وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين ، وكل ذلك يوجب خفة الذنب وإن سلم أن الذنوب كلها كبائر من حيث إنها ذنوب ولكن بعضها أكبر من بعض وذلك يوجب التفاوت. وإذ قد عرفت أن الذنوب بعضها صغائر وبعضها كبائر فالكبيرة تتميز عن الصغيرة بذاتها أو باعتبار فاعلها. ذهب إلى كل واحد طائفة. فمن الأولين من قال : ويروى عن ابن عباس كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة كالقتل المحرم والزنا وأكل مال اليتيم وغيرها. وزيف بأنه لا ذنب إلّا وهو متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا فيكون كل ذنب كبيرا وهو خلاف المفروض. وعن ابن مسعود أن الكبائر هي ما نهى الله تعالى في الآيات المتقدمة ، وضعف بأنه تعالى ذكر الكبائر في سائر السور أيضا فلا وجه للتخصيص. وقيل : كل عمد فهو كبير. وردّ بأنه إن أراد بالعمد أنه ليس بساه فما هذا حاله فهو الذي نهى الله عنه فيكون كل ذنب كبيرا وقد أبطلناه ، وإن أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية فلا يكون كفر اليهود والنصارى كبيرا وهو باطل بالاتفاق. وأما الذين يقولون الكبائر تمتاز عن الصغائر باعتبار فاعلها ، فوجهه أنّ لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل معصية قدرا من العقاب. فإذا وجد للإنسان طاعة ومعصية فالتعادل بين الاستحقاقين وإن كان ممكنا بحسب العقل إلّا أنه غير ممكن بحسب السمع وإلّا لم يكن مثل ذلك المكلف لا في الجنة ولا في النار وقد قال تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] فلا بد من ترجيح أحدهما ، ويلزم حينئذ الإحباط والتكفير. والحق في هذه المسألة وعليه الأكثرون بعد ما مرّ من إثبات قسمة الذنب إلى الكبير والصغير أنه تعالى لم يميّز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر. فلو عرف المكلف جميع الكبائر اجتنبها فقط واجترأ على الإقدام على الصغائر ، أما إذا عرف أنه لا ذنب إلّا ويجوز كونه كبيرا صار هذا المعنى زاجرا له عن الذنوب كلها ، ونظير هذا في الشرع إخفاء ليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جملة الأوقات. هذا ولا مانع من أن يبيّن الشارع في بعض الذنوب أنه كبيرة كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلّا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (١). وذكر عند ابن عباس أنها سبعة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب ٢٣. مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٤٤. أبو داود في كتاب الوصايا باب ١٠. النسائي في كتاب الوصايا باب ١٢.

٤٠٤

فقال : هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى السبعمائة. وعن ابن عمر أنه عدّ منها : استحلال آمّين البيت الحرام وشرب الخمر. وعن ابن مسعود : زيادة القنوط من رحمة الله والأمن من مكره. وفي بعض الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة قول الزور وعقوق الوالدين والسرقة. وأما قول العلماء في الكبيرة فمنهم من قال : هي التي توجب الحد. وقيل : هي التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص أو كتاب أو سنة. وقيل : كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث صاحبها بالدين. وقيل : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. ويراد بالإصرار المداومة على نوع واحد من الصغائر ، أو الإكثار منها وإن لم تكن من نوع واحد. احتج أبو القاسم الكعبي بالآية على القطع بوعيد أهل الكبائر لأنها تدل على أنه إذا لم يجتنب الكبائر فلا تكفر عنه. والجواب عنه أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج ويؤيده قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) [البقرة : ٢٨٣] وأداء الأمانة واجب أمنه أو لم يأمنه. سلمنا أنّ الآية رجعت إلى قوله من لم يجتنب الكبائر لم يكفر عنه سيّئاته ، فغايته أنه يكون عاما في باب الوعيد. والجواب عنه هو الجواب عن سائر العمومات ، وهو أنه مشروط بعدم العفو عندنا كما أنه مشروط عندكم بعدم التوبة. ثم قالت المعتزلة : إنّ عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا لا يجب على الله شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان. ويدخل في الاجتناب عن الكبائر الإتيان بالطاعات لأن ترك الواجب أيضا كبيرة. (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً) فمن فتح الميم أراد مكان الدخول ، ومن ضمها أراد الإدخال. ووصفه بالكرم إشعار بأنه على وجه التعظيم خلاف إدخال أهل النار الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، أو هو وصف باعتبار صاحبه.

ثم إنه سبحانه لما أمرهم بتهذيب أعمال الجوارح وهو أن لا يقدموا على أكل الأموال بالباطل وعلى قتل الأنفس ، حثهم على تهذيب الأخلاق في الباطن. أو نقول : لما نهاهم عن الأكل والقتل ولن يتم ذلك إلّا بالرضا بالقضاء وتطييب القلب بالمقسوم المقدّر ، فلا جرم قال : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) قالت المعتزلة : التمني قول القائل : «ليته كذا». وقال أهل السنة : هو عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ولهذا قالوا : إنه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن كان متمنيا. ثم مراتب السعادات إما نفسانية نظرية كالذكاء والحدس وحصول المعارف والحقائق ، أو عملية كالأخلاق الفاضلة ، وإما بدنية كالصحة والجمال والعمر ، وإما خارجية كحصول الأولاد النجباء وكثرة العشائر والأصدقاء والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر مطاع الأمر ، فهذه مجامع السعادات. وبعضها محض عطاء الله تعالى ، وبعضها مما

٤٠٥

يظن أنها كسبية. وبالحقيقة كلها عطاء منه تعالى فإنه لو لا ترجيح الدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات وتوفيق الأسباب فلأي سبب يكون السعي والجد مشتركا فيه ، والفوز بالبغية والظفر بالمطلوب غير مشترك فيه؟ وإذا كان كذلك فما الفائدة في الحسد غير الاعتراض على مدبر الأمور وكافل مصالح الجمهور؟ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علما بأن ما قسم له هو خير له ، ولو كان خلافه لكان وبالا عليه كما قال : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧]. وفي الكلمات القدسية : «من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين. ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليخرج من أرضي وسمائي وليطلب ربا سوائي». قال المحققون : لا يجوز للإنسان أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ، وزوجة مثل زوجة فلان ، وإن كان هذا غبطة لا حسدا ، بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي. وعن الحسن : لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال.

أما سبب النزول فعن مجاهد قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ، ولهم من الميراث ضعف ما لنا فنزلت. وعن قتادة والسدي : لما نزل قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] قال الرجال : نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث. وقال النساء : نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال. وفي رواية قلن : نحن أحوج لأن ضعفاءهم أقدر على طلب المعاش فنزلت. وقيل : أتت وافدة النساء إلى الرسول وقالت : رب الرجال والنساء واحد ، وأنت الرسول إلينا وإليهم ، وأبونا آدم وأمنا حواء فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا؟ فنزلت الآية. فقالت : وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن للحامل منكم أجر الصائم القائم ، وإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر ، فإن أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس. (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) من نعيم الدنيا وثواب الآخرة فينبغي أن يرضوا بما قسم لهم ، وكذا للنساء ، أو لكل فريق جزاء ما اكتسب من الطاعات فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم. وتلخيصه لا تضيع ما لك بتمني ما لغيرك. أو (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) بسبب قيامهم بالنفقة على النساء (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) بحفظ فروجهن وطاعة أزواجهن والقيام بمصالح البيت (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) فعنده من ذخائر الإنعام ما لا ينفده مطالب الأنام. و «من» للتبعيض أي شيئا من خزائن كرمه وطوله (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ

٤٠٦

عَلِيماً) فهو العالم بما يكون صلاحا للسائلين ، فليقتصر السائل على المجمل وليفوّض التفصيل إليه فإن ذلك أقرب إلى الأدب وأوفق للطلب.

قوله سبحانه وتعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) يمكن تفسيره. بحيث يكون الوالدان والأقربون وارثين وبحيث يكونان موروثا منهما. والمعنى على الأول : لكل أحد جعلنا ورثة في تركته. ثم إنه كأنه قيل : ومن هؤلاء الورثة؟ فقيل : هم الوالدان والأقربون فيحسن الوقف على قوله : (مِمَّا تَرَكَ) وفيه ضمير كل. وأما على الثاني ، فإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي ورثة ، وإما أن يكون (جَعَلْنا مَوالِيَ) صفة (لِكُلٍ) بل محذوف والعائد محذوف وكذا المبتدأ والتقدير : ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون كما تقول : لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله. أي حظ من رزق الله ، والمولى لفظ مشترك بين معان : منها المعتق لأنه ولي نعمته في عتقه ، ومنها العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه ، وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ، ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له. ومنها الحليف لأن الحالف يلي أمره بعقد اليمين ، ومنها ابن العم لأنه يليه بالنصرة ومنه المولى للناصر قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [محمد : ١١] ومنها العصبة وهو المراد في الآية إذ هو الأليق بها كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ، ومن ترك كلا فأنا وليّه» (١). وأما قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) فإما أن يكون مبتدأ ضمن معنى الشرط ، فوقع قوله : (فَآتُوهُمْ) خبره. وإما أن يكون منصوبا على قولك : «زيدا فاضربه» مما توسط الفاء بين الفعل ومفعول مفسره إيذانا بتلازمهما وإما أن يكون معطوفا على (الْوالِدانِ) والإيمان جمع اليمين اليد أو الحلف. من الناس من قال : الآية منسوخة. وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك وهدمي هدمك أي ما يهدر ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال : ٧٥] وبقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ) [النساء : ١١] وأيضا : إن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له وهم الأدعياء ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤاخي بين كل رجلين منهم ، فكانوا يرثون بالتبني والمؤاخاة فنسخ. ومن المفسرين من زعم أنها غير منسوخة. وقوله : (وَالَّذِينَ) معطوف على ما

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الفرائض باب ١٥. مسلم في كتاب الفرائض حديث ١٦. أحمد في مسنده (٢ / ٣٥٦).

٤٠٧

قبله. والمعنى : أن ما ترك الذين عقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به فلا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى الوارث ، فيكون الضمير في (فَآتُوهُمْ) للموالي قاله أبو علي الجبائي. أو المراد بالذين عاقدت الزوج والزوجة ، والنكاح يسمى عقدا بين ميراث الزوج والزوجة بعد ميراث الولد والوالدين كما في قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ) [النساء : ١١] قاله أبو مسلم. وقيل : المراد الميراث الحاصل بسبب الولاء. وقيل : هم الحلفاء. والمراد بإيتاء نصيبهم النصرة والنصيحة والمصافاة. وقال الأصم : المراد التحفة بالشيء القليل كقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨] وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يرث المولى الأسفل من الأعلى. وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال : يرث ، لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلّا العتيق فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميراثه للغلام. والحديث عند الجمهور محمول على أن المال صار لبيت المال ثم دفعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغلام لفقره. وقال أبو حنيفة : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث بحق الموالاة ، وخالفه الشافعي فيه. وحكى الأقطع أن هذه الموالاة لا تصح عند أبي حنيفة أيضا إلا بين العرب دون العجم لرخاوة عقدهم في أمورهم. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لأنه عالم بجميع الجزئيات والكليات فشهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه ، وفيه وعيد للعاصين ، ووعد للمطيعين.

هذا وقد مر أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث ونحوه ، فذكر في هذه الآية ما يشتمل على بعض أسباب التفضيل فقال : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ) يقال : هذا قيم المرأة وقوّامها بناء مبالغة للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها كما يقوم الوالي على الرعية ومنه سمي الرجال قوّاما. والضمير في بعضهم للرجال والنساء جميعا أي إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم ـ وهم الرجال ـ على بعض ـ وهم النساء. وقيل : وفيه دليل على أن الولاية إنما تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وذكروا في فضل الرجال العقل والحزم والعزم والقوة والكتابة في الغالب والفروسية والرمي ، وأن منهم الأنبياء والعلماء والحكماء ، وفيهم الإمامة الكبرى وهي الخلافة ، والصغرى وهو الاقتداء بهم في الصلاة ، وأنهم أهل الجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق وفي الأنكحة عند الشافعي ، وزيادة السهم في الميراث والتعصيب فيه ، والحمالة تحمل الدية في القتل الخطأ ، والقسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب ، وكل ذلك يدل على فضلهم ، وحاصلها يرجع إلى العلم والقدرة. ومنها سبب خارجيّ وذلك أنهم فضلوا عليهن بما أنفقوا أي أخرجوا في نكاحهن من أموالهم مهرا

٤٠٨

ونفقة. عن مقاتل أن سعد بن الربيع ، وكان من نقباء الأنصار ، نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، فلطمها. فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أفرشته كريمتي فلطمها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لتقتص منه ، وكانت قد نزلت آية القصاص ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله هذه الآية. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص. فلهذا قال العلماء : لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها ولكن يجب العقل ، وقيل : لا قصاص إلّا في الجرح والقتل ، وأما في اللطمة ونحوها فلا. ثم قسم النساء قسمين ، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات مطيعات لله وللزوج حافظات للغيب قائمات بحقوق الزوج في غيبته ، والغيب خلاف الشهادة. ومواجب حفظ غيبة الزوج أن تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها ، ولئلّا يلحق به الولد الحاصل من نطفة غيره ، وأن تحفظ أسراره عن الإفشاء وماله عن الضياع ومنزلها عما لا ينبغي شرعا وعرفا. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها وتلا الآية» (١). و «ما» في قوله : (بِما حَفِظَ اللهُ) موصولة والعائد محذوف أي بالذي حفظه الله لهن أي عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل فيهن في قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] فقوله : (بِما حَفِظَ اللهُ) يجري مجرى قولهم «هذا بذاك» أي هذا في مقابلة ذاك ، أو مصدرية والمعنى : أنهن حافظات للغيب بحفظ الله إياهن فإنهن لا يتيسر لهن حفظ الغيب إلّا بتوفيق الله ، أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على الأمانة ، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. ومن قرأ (بِما حَفِظَ اللهُ) بالنصب ف «ما» أيضا موصولة أي بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانته وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم ، أو مصدرية أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره فإن المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكليف الله وتجتهد في حفظ أوامره وإلا لما أطاعت زوجها. ثم ذكر غير الصالحات منهن فقال : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ) تعرفون بالقرائن والأمارات (نُشُوزَهُنَ) عصيانهن والترفع عليكم بالخلاف من نشز الشيء ارتفع ، ومنه نشز للأرض المرتفعة (فَعِظُوهُنَ) وهو أن يقول : اتقي الله فإن لي عليك حقا ، وارجعي عما أنت عليه ، واعلمي أن طاعتي عليك فرض ونحو ذلك. (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) أي في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف. وقيل : هو أن يوليها ظهره في المضجع. وقيل : في المضاجع أي ببيوتهن التي يبتن فيها أي لا

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب ٣٢. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥.

٤٠٩

تبايتوهن. وفي ضمن الهجران الامتناع من كلامها. ولكن ينبغي أن لا يزيد في هجره الكلام على ثلاث ، فإذا هجرها في المضجع فإن كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتركت النشوز ، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها فيباح الضرب وذلك قوله : (وَاضْرِبُوهُنَ) والأولى ترك الضرب لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تضربوا إماء الله» (١) فجاء عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ذئرت النساء على أزواجهن أي اجترأن فرخص في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم». ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا. وإذا ضربها وجب أن لا يكون مفضيا إلى الهلاك البتة ، وأن يكون مفرقا على بدنها لا يوالي به في موضع واحد ، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن ، وأن يكون دون الأربعين. وقيل : دون عشرين لأنه حد كامل في شرب العبد ، ومنهم من لا يرى الضرب بالسياط ولا بالعصا. وبالجملة فالتخفيف مرعي في هذا الباب ولهذا قال علي بن أبي طالب : يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها ، فإن أبت هجر مضجعها ، فإن أبت ضربها ، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين. وقال آخرون : هذا الترتيب مرعي عند خوف النشوز ، فأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «علق سوطك حيث يراه أهلك». (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بالأذى والتوبيخ ، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا) لا بالجهة (كَبِيراً) لا بالجثة (فَاحْذَرُوا) واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على أزواجكم وأرقائكم. روي أن أبا مسعود الأنصاري رفع سوطه ليضرب غلاما له فبصر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصاح به : أبا مسعود ، الله أقدر منك عليه. فرمى بالسوط وأعتق الغلام. وفيه أنه مع علوه وكبرياء سلطانه تعصونه فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو إذا رجع الجاني عليكم ، أو أنه مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن محبتكم فلعلهن لا يقدرن على ذلك ، أو أنه مع علو شأنه وكبريائه يكتفي من العبيد بالظواهر ولا يهتك السرائر فأنتم أجدر بأن لا تفتشوا عما في قلبها من الحب والبغض إذا صلح حالها في الظاهر ، أو أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم فالله تعالى قادر قاهر ينتصف لهن منكم.

ثم بيّن أنه ليس بعد الضرب إلا المحاكمة فقال : (وَإِنْ خِفْتُمْ) قال ابن عباس : أي علمتم وذلك لإصرارها على النشوز حيث لم يؤثر فيها الوعظ والهجران والضرب. واعترض

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥١. الدارمي في كتاب النكاح باب ٣٤

٤١٠

عليه الزجاج بأنه إذا علم الشقاق قطعا فلا حاجة إلى الحكمين. وأجيب بأن الشقاق معلوم إلّا أنا لا نعلم أن سبب الشقاق منه أو منها ، فالحاجة إلى الحكمين لهذا المعنى. أو نقول : المراد إزالة الشقاق في الاستقبال. ومعنى (شِقاقَ بَيْنِهِما) شقاقا بينهما ، فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع وهو إجراء الظرف مجرى المفعول به ، أو على جعل البين مشاقا مثل «نهاره صائم» والضمير للزوجين يدل عليهما مساق الكلام ، أو ذكر الرجال والنساء (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ) رجلا مقنعا رضا يصلح لحكومة الإصلاح بينهما ويهتدي إلى المقصود من البعث. ولا بد فيه من العقل والبلوغ والحرية والإسلام ، ويستحب أن يكون الحكمان من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن أحوالهما وتسكن إليهما نفوس الزوجين ، فيبرزان لهما ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة ، وموجبات كل من الأمرين. وينبغي أن يخلو حكم الرجل بالرجل وحكم المرأة بالمرأة فيعرفان ما عندهما وما فيه رغبتهما ، وإذا اجتمعا لم يخف أحدهما عن الآخر ما علم. ثم المبعوثان وكيلان من جهة الزوجين أو موليان من جهة الحكام المخاطبين بقوله : (فَابْعَثُوا) فيه للشافعي قولان : ـ أصحهما وبه قال أبو حنيفة وأحمد ـ أنهما وكيلان لأن البضع حق الزوج والمال حق الزوجة وهما رشيدان. والخطاب في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ) وفي (فَابْعَثُوا) لصالحي الأمة لأنه يجري مجرى دفع الضرر ، فلكل أحد أن يقوم به. وثانيهما ـ وبه قال مالك ـ أنهما موليان لأنه تعالى سماهما الحكمين. ولما روي أن عليا عليه‌السلام بعث حكمين من زوجين فقال : أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرّقا ففرقا. وعلى الأول يوكل الرجل الذي هو من أهله بالطلاق وبقبول العوض في الخلع ، والمرأة الآخر ببذل العوض وقبول الطلاق. ولا يجوز بعثهما إلا برضاهما فإن لم يرضيا ولم يتفقا على شيء أدب القاضي الظالم واستوفى حق المظلوم. وعلى الثاني لا يشترط رضا الزوجين في بعث الحكمين. (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) فيه أربعة أوجه : الأول : إن يرد الحكمان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير. الثاني : إن يرد الزوجان إصلاحا أبدل الله الزوجين بالشقاق وفاقا. الثالث : إن يرد الحكمان إصلاحا يؤلف الله بين الزوجين. الرابع : إن يرد الزوجان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى تتفق كلمتاهما ويحصل الغرض ، والتوفيق جعل الأسباب موافقة للغرض ولا يستعمل إلا في الخير والطاعة. وفيه أنه لا يتم شيء من الأغراض إلّا بتوفيق الله تعالى وتيسيره (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) فيوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين بمقتضى علمه وإرادته. وفيه وعيد للزوجين والحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق ووعد على الجد في حسم مادة الخصومة والخشونة.

٤١١

ثم أرشد إلى مجامع الأخلاق الحسنة بقوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فإن من عبد الله وأشرك به شيئا آخر فقد حبط عمله وضل سعيه (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) تقديره وأحسنوا بهما إحسانا. يقال : أحسن بفلان وإلى فلان. (وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) وقد مر تفاسيرها في البقرة. قال أبوبكر الرازي : إن اضطر إلى قتل أبيه بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله جاز له أن يقتله (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) الذي قرب جواره (وَالْجارِ الْجُنُبِ) الذي بعد جواره. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ، ألا وإن الجوار أربعون دارا» (١). وعن الزهري أنه أراد أربعين من كل جانب. وقيل : الجار ذي القربى الجار القريب النسب ، والجار الجنب الأجنبي. والتركيب يدل على البعد ، ومنه الجانبان للناحيتين ، والجنبان لبعد كل منهما عن الآخر ، ومنه الجنابة لبعده عن الطهارة وعن حضور الجماعة والمسجد ما لم يغتسل. ومن قرأ (الْجُنُبِ) فمعناه المجنوب مثل «خلق» بمعنى مخلوق ، أو المراد ذي الجنب فحذف المضاف (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) وهو الذي حصل بجنبك إما رفيقا في سفر ، وإما جارا ملاصقا ، وإما شريكا في تعلم أو حرفة ، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس ، أو في مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة اتفقت بينك وبينه ، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل : الصاحب بالجنب المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر الذي انقطع عن بلده ، أو الضيف (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عن علي بن أبي طالب أنه كان آخر كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وذكر اليمين تأكيد كما يقال : مشيت برجلي. والإحسان إليهم أن لا يكلفهم فوق طاقتهم ولا يؤذيهم بالكلام الخشن ، بل يعاشرهم معاشرة جميلة ويعطيهم من الطعام والكسوة ما يليق بحالهم في كل وقت. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء وهو الكسب بفروجهن ، ويضعون على العبيد الخراج الثقيل. وقيل : كل حيوان فهو مملوك. والإحسان إلى كل نوع بما يليق بحاله طاعة عظيمة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) تياها جهولا يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه وممالكيه ، وعن الالتفات إلى حالهم والتفقد لهم والتحفي بهم ، ويأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء. وأصله من الخيلاء الكبر ، والفخور المتطاول الذي يعد مناقبه. وعن ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله تعالى بما أعطاه من أنواع نعمه ، ولعل هذا يجوز على سبيل التحدث بالنعم فقط. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) البخل في اللغة منع الإحسان ، وفي الشرع منع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٢٩. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٧٣. الترمذي في كتاب القيامة باب ٦٠. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٧). بدون لفظ «ألا وإن الجوار أربعون دارا».

٤١٢

الواجب. وفيه أربع لغات : البخل مثل الفقر ، والبخل بضم الباء وسكون الخاء ، وبضمهما ، وبفتحهما. وسبب النظم أن الإحسان إلى الأصناف المذكورين إنما يكون في الأغلب بالمال فذم المعرضين عن ذلك الإحسان لحب المال ، ويحتمل أن يشمل البخل بالعلم أيضا ، أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم مقتا للسخاء وهذه نهاية البخل. وفي أمثالهم «أبخل من الضنين بنائل غيره» وقد عابهم بكتمان نعمة الله وما آتاهم من فضل الغنى حتى أوهموا الفقر مع الغنى ، والإعسار مع اليسار ، والعجز مع الإمكان فخالفوا سنة نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى يحب أن يرى على عبده أثر نعمته» (١) وبنى عامل للرشيد قصرا حذاء قصره فنم به عنده. فقال الرجل : يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه. ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية من الله تعالى ولا يرضى بقضائه فلذلك قال : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) ويحتمل أن يراد كافر النعمة لا كافر الإيمان. وقال ابن عباس : إنّ الآية في اليهود ، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينتصحون لهم يقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وأيضا إنهم كتموا صفة محمد ولم يبينوها للناس. ثم لما ذمّ الذين لا ينفقون أموالهم عطف عليهم الذين ينفقون أموالهم ولكن رياء وفخارا وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا ابتغاء وجه الله ، ومثل هذا الإنفاق دليل على أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر وإلّا أنفق لله أو للآخرة (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً) في الدنيا آمرا بالبخل والفحشاء (فَساءَ قَرِيناً) في الآخرة يقرن به في النار. ثم استفهم على سبيل الإنكار فقال : (وَما ذا عَلَيْهِمْ) أي أيّ تبعة ووبال عليهم؟ أو ما الذي عليهم في باب الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد التوبيخ وإلّا فكل منفعة في ذلك كما يقال للمنتقم : ما ضرك لو عفوت؟ وللعاق : ما كان يرزؤك لو كنت بارا؟. (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) بعث على إصلاح أفعال القلوب التي يطلع عليها علام الغيوب ، وردع عن دواعي النفاق والرياء والسمعة والفخار. احتج القائلون بأن الإيمان يصح على سبيل التقليد بأن قوله : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة والاستدلال في غاية الصعوبة. وأجيب بأن الصعوبة في الإيمان الاستدلالي التفصيلي لا الإجمالي. وقال جمهور المعتزلة : لو كانوا غير قادرين لم يقل : (وَما ذا عَلَيْهِمْ) كما لا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا ، وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا. وأجيب بعدم التحسين والتقبيح العقليين وأنه لا يسأل عما يفعل.

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب ٥٤. أحمد في مسنده (٢ / ٣١١).

٤١٣

ثم رغب في الإيمان والطاعة قائلا : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) والمثقال مفعال من الثقل كالميزان من الوزن. والذرة النملة الصغيرة. وعن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ثم قال : كل واحد من هذه الأشياء ذرة. وقيل : كل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ذرة. وانتصاب (مِثْقالَ) على أنه مفعول ثان أي لا ينقص الناس مثقال ذرة ، أو على المصدر أي ظلما قدر مقدارها ، وأراد نفي الظلم رأسا إلا أنه أخرج الكلام على أصغر المتعارف. وهذه الآية مما يتمسك به المعتزلة في أنه تعالى غير خالق لأعمال العباد وإلا كان ظلمهم منسوبا إليه ، وفي أن العبد يستحق الثواب على طاعته وإلا كان منعه عنه ظلما. وأجيب بأنه إذا كان متصرفا في ملكه كيف شاء فلا يتصور منه ظلم أصلا. وقد يحتج الأصحاب هاهنا على صحة مذهبهم في عدم الإحباط بأن عقاب شرب قطرة من الخمر لو كان مزيلا لطاعات سبعين سنة كان ظلما ، وفي عدم وعيد الفساق بأن عقاب شرب جرعة من الخمر لو كان دائما مخلدا لزوم إبطال ثواب إيمان سبعين سنة وهو ظلم. ثم قال : (وَإِنْ تَكُ) حذفت النون من هذه الكلمة بعد سقوط الواو بالتقاء الساكنين لأجل التخفيف وكثرة الاستعمال. من قرأ (حَسَنَةً) بالرفع فعلى «كان» التامة ، ومن قرأ بالنصب فالتأنيث في ضمير المثقال لكونه مضافا إلى مؤنث. والمراد بالمضاعفة ليس هو المضاعفة بالمدة لأن مدة الثواب غير متناهية وتضعيف غير المتناهي محال ، بل المراد المضاعفة بحسب المقدار ، كأن يستحق عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين أو ثلاثين. عن ابن مسعود أنه قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين : هذا فلان ابن فلان ، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ، ثم يقال له : أعط هؤلاء حقوقهم ، فيقول : يا رب ومن أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها ، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضل رحمته ومصداق ذلك في كتاب الله (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها). قال الحسن : الوعد بالمضاعفة أحب عند العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة ، لأن هذا يكون مقداره معلوما ، أما على هذه العبارة فلا يعلم كميته إلّا الله تعالى. وعن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فبطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» (١) أما قوله : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) فإن (لَدُنْهُ) بمعنى عند إلا أن لدن أكثر تمكنا. يقول الرجل : عندي مال وإن كان المال ببلد آخر. ولا يقول : لديّ مال إلّا إذا كان بحضرته. والمعتزلة حملوا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث ٥٦. أحمد في مسنده (٣ / ١٢٣).

٤١٤

المضاعفة على القدر المستحق وهذا الثاني على الفضل التابع للأجر. ويمكن أن يقال : الأول إشارة إلى السعادات الجسمانية ، والثاني إشارة إلى اللذات الروحانية والله أعلم.

التأويل : جملة الكبائر مندرجة تحت ثلاث : إحداها اتباع الهوى وينشأ منه البدع والضلالات وطلب الشهوات وحظوظ النفس بترك الطاعات ، وثانيتها حب الدنيا وينشعب منه القتل والظلم وأكل الحرام ، وثالثتها رؤية غير الله وهو الشرك والرياء والنفاق وغيرها. ثم أخبر أن الذين ليس بالتمني فقال : (وَلا تَتَمَنَّوْا) فإنه لا يحصل بالتمني ولكن (لِلرِّجالِ) المجتهدين في الله (نَصِيبٌ) مما جدّوا في طلبه (وَلِلنِّساءِ) وهم الذين يطلبون من الله غير الله (نَصِيبٌ) على قدر همتهم في الطلب (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) فيه معنيان : سلوه من فضله الخاص وهو العلم اللدني (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ، [النساء : ١١٣] أو سلوه منه ولا تسألوه من غيره (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) لكل طالب صادق جعلنا استعدادا في الأزل للوراثة مما ترك والداه وأقرباؤه ، طلبه لعدم الاستعداد والمشيئة. والذين جرى بينكم وبينهم عقد الأخوة في الله (فَآتُوهُمْ) بالنصح وحسن التربية والتسليك (نَصِيبَهُمْ) الذي قدّر لهم (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) بمصالح دينهن ودنياهن بتفضيل الله وهو استعداد الخلافة والوراثة (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي تجريدهم عن الدنيا وتفريدهم للمولى. (فَالصَّالِحاتُ) اللاتي يصلحن للكمال (قانِتاتٌ) مطيعات لله لهن قلوب (حافِظاتٌ) لواردات الغيب (بِما حَفِظَ اللهُ) عليهن حقائق الغيب وأسراره. (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) إذا دارت عليهن كؤوس الواردات كما قيل :

فأسكر القوم دور كاس

وكان سكري من المدير

(فَعِظُوهُنَ) باللسان وخوّفوهن بالهجران ليتأدب السكران (وَاضْرِبُوهُنَ) بسوط الانفصال وفراق الإخوان كما كان حال الخضر مع موسى حيث قال : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] هذا قانون أرباب الكمال إذا رأوا من أهل الإرادة أمارات الملال أو عربدة من غلبات الأحوال. (وَإِنْ خِفْتُمْ) شقاقا بين الشيخ الواصل والمريد المتكامل (فَابْعَثُوا) متوسطين من المشايخ الكاملين ومن السالكين المعتبرين (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) بينهما بما رأيا فيه صلاحهما (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) بالإرادة وحسن التربية (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) من الدنيا والعقبى لتتخلقوا بأخلاق الله وتحسنوا إلى الوالدين وغيرهما (إِحْساناً) بلا شرك ورياء وفخر وخيلاء والله ولي والتوفيق.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

٤١٥

تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

القراآت : (تُسَوَّى) بإدغام تاء التفعل في السين : أبو جعفر ونافع وابن عامر (تُسَوَّى) بالإمالة وحذف التاء الأولى : حمزة وعلي وخلف. الباقون (تُسَوَّى) مبنيا للمفعول من التسوية لمستم من اللمس وكذلك في المائدة : حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون : (لامَسْتُمُ) من الملامسة (فَتِيلاً انْظُرْ) بكسر التنوين : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن ذكوان. الباقون : بالضم. وفرق بعضهم بين موضع الخفض فلم يجوز الضم كراهة الانتقال من الكسرة إلى الضمة نحو (مُتَشابِهٍ انْظُرُوا) [الأنعام : ٩٩] و (بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا) [الأعراف : ٤٩] و (خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) [إبراهيم : ٢٦] و (عَذابٍ

٤١٦

ارْكُضْ) [ص : ٤١] وأشباه ذلك. (نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) وبابه مدغما : حمزة وعلي وخلف وهشام وأبو عمرو.

الوقوف : (شَهِيداً) ط (الْأَرْضُ) ط (حَدِيثاً) ه (تَغْتَسِلُوا) ط (وَأَيْدِيكُمْ) ط (غَفُوراً) ه (السَّبِيلَ) ه ط (بِأَعْدائِكُمْ) ط (نَصِيراً) ه (فِي الدِّينِ) ط (وَأَقْوَمَ) لا لاتصال لكن (قَلِيلاً) ه (السَّبْتِ) ط (مَفْعُولاً) ه (لِمَنْ يَشاءُ) ج (عَظِيماً) ه (يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) ط (فَتِيلاً) ه (الْكَذِبَ) ط (مُبِيناً) ه ط (سَبِيلاً) ه (لَعَنَهُمُ اللهُ) ط (نَصِيراً) ه ط لأن «أم» بمعنى همزة الاستفهام للإنكار (نَقِيراً) ه لا للعطف (مِنْ فَضْلِهِ) ج لتناهي الاستفهام مع تعقب الفاء (عَظِيماً) ه (صَدَّ عَنْهُ) ط (سَعِيراً) ه (ناراً) ط (الْعَذابَ) ط (حَكِيماً) ه (أَبَداً) ط (مُطَهَّرَةٌ) ز لاستئناف الفعل على أنه من تمام المقصود (ظَلِيلاً) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما أوعد الظالمين بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] ووعد المطيعين بقوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠] أراد أن يبين أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله حجة على الخلق ليكون الإلزام أتم والتبكيت أعظم. روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لابن مسعود : اقرأ القرآن عليّ. قال : فقلت : يا رسول الله أنت الذي علّمتنيه! فقال : أحب أن أسمعه من غيري. قال ابن مسعود : فافتتحت سورة النساء ، فلما انتهيت إلى هذه الآية قال : حسبك الآن ، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. قال العلماء : إنه بكاء فرح لما شرفه الله تعالى بكرامة قبول الشهادة على الخلائق. والمعنى كيف يصنع هؤلاء الذين شاهدتهم وعرفت أحوالهم من مردة الكفرة كاليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم ، وجئنا بك على هؤلاء المكذبين شهيدا؟ ثم وصف ذلك اليوم فقال : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ) قيل : هذه الجملة معترضة والمراد وقد عصوا. والظاهر أن الواو للعطف وحينئذ تقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر لأنّ عطف الشيء على نفسه غير جائز. فإما أن يخص الكفر بنوع منه وهو الكفر بالله ، أو يقال : إنه عام وأفرد ذكر قسم منه إظهارا لشرف الرسول وتفظيعا لشأن الجحود به ، أو يحمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر فيكون في الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. ومعنى (لَوْ تُسَوَّى) لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، أو يودون أنهم لم يبعثوا أو أنهم كانوا والأرض سواء ، أو تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] أما قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فإما أن يتصل بما قبله والواو للعطف أي يودون لو انطبقت عليهم

٤١٧

الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد ولا كفروا به ولا نافقوا ، أو للحال والمراد أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام دون أهل الشرك قالوا تعالوا فلنجحد فيقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] رجاء أن يغفر الله لهم ، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، هناك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا. وإما أن يكون كلاما مستأنفا فإن ما عملوه ظاهر عند الله فكيف يقدرون على كتمانه وإن قصدوه أو توهموه؟ ثم أتبع وصف اليوم كيفية الصلاة التي هي سنام الطاعات وأعظم المنجيات فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) وقد مر سبب نزوله في البقرة. وفي لفظ الصلاة هاهنا قولان : أحدهما أن المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه يذهب الشافعي ، وليس فيه إلا حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة. وثانيهما وعليه الأكثرون أن المراد نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى. ومعنى الآية على القول الأولى لا تقربوا المسجد في حالتين : إحداهما حالة السكر ، وذلك أن جمعا من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهوا عن ذلك لأن الظاهر أن الإنسان إذا أتى المسجد فإنما يأتيه للصلاة ، ولا شك أن الصلاة فيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها. وثانيهما حالة الجنابة ، واستثنى من هذه الحالة حالة العبور أي الاجتياز في المسجد بأن كان الطريق إلى الماء فيه ، أو كان الماء فيه ووقع الاحتلام فيه. والمعنى على القول الثاني النهي عن الصلاة في حالتين : الأولى حالة السكر أيضا إلّا إذا علموا ما يقولون ، ومعنى قربان الصلاة غشيانها والقيام إليها. والثانية حالة الجنابة ويستثنى منها حالة عبور السبيل ويراد به في هذا القول السفر. أي لا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة ، إلّا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر. ويجوز أن يكون (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) صفة لقوله : (جُنُباً) أي لا تقربوها جنبا غير عابري سبيل أي جنبا مقيمين. وإنما استثنى حالة المسافر لما يجيء من تفصيل فيها ، وهو أن المسافر إذا أجنب ثم لم يجد الماء تيمم وصلى مع الجنابة. ويرد عليه بعد أن الجنب المقيم أيضا إذا عجز عن استعمال الماء لمرض أو برد يجوز له التيمم والصلاة على الجنابة ، اللهم إلّا أن يقال : إن عذر السفر أعم وأغلب فلهذا تخصص بالذكر أولا. وسكارى جمع سكران. وقوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) في محل النصب على الحال ولهذا عطف عليه قوله : (وَلا جُنُباً) والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجتناب ، وخالف الضحاك جمهور الصحابة والتابعين فقال : إن السكر هاهنا يراد به غلبة النوم ويوافقه الاشتقاق ، فإن السكر عبارة عن سد الطريق ، ومنه سكر السبيل سد

٤١٨

طريقه. والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما عليه من المضار في حال الصحو ، فعند النوم تمتلىء مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا ينفذ الروح السامع والباصر إلى ظاهر البدن. والجواب أن لفظ السكر حقيقة في السكر من الخمر والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ومتى استعمل مجازا فإنما استعمل مقيدا كقوله تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) [ق : ١٩] (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) [الحج : ٢] وأيضا أجمع المفسرون على أنها نزلت في شرب الخمر ، وسبب النزول يمتنع أن لا يكون مرادا من الآية. ثم على قول الجمهور يمكن ادعاء النسخ في الآية بأنه إنما نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول ، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز الصلاة مع السكر إذا كان بحيث يعلم ما يقول. وجواز الصلاة مع هذا السكر توهم جواز هذا السكر ، لكنه تعالى حرم الخمر في آية سورة المائدة على الإطلاق فتكون ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. ومن قال : إن مدلول الكلام يرجع إلى النهي عن الشرب المخل بالفهم عند القرب من الصلاة ، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون منسوخا ، يكذبه أن الصحابة لم يفهموا منها التحريم المطلق فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلّا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون إلى أن نزلت آية المائدة فقالوا : انتهينا يا رب. والتحقيق فيه أن النهي عن مباح الأصل في وقت ما وبوجه ما وإن كان لا يدل على تحريمه ولا على إباحته في غير ذلك الوقت وبغير ذلك الوجه إلّا أن جانب الإباحة راجح بحكم الأصل فيغلب على الظن ذلك كما فهمه الصحابة. ثم إنه تعالى ذكر حكم المعذورين في حال الحدث فخص أولا من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة. والمعنى أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتمموا ، وكذلك الذين هم على حالة السفر إذا عدموه لبعده. ويحتمل أن يقال : قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ليس قيدا في حكم المرضى لأنهم في الرخصة وإن وجدوا ماء. ثم عمم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف سبع أو عدو أو عدم آلة استقاء أو انحصار في مكان لا ماء فيه أو غير ذلك من الأسباب التي لا تكثر كثرة المرض والسفر. ويراد بالمرض ما يخاف معه محذور كبطء برء وشين فاحش ظاهر بقول طبيب مقبول الرواية لا أن يتألم ولا يخاف. روي أن بعض الصحابة أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة ، فسأل بعضهم فلم يفته بالتيمم ، فاغتسل فمات. فسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قتلوه قتلهم الله. وقال مالك وداود : يجوز

٤١٩

له التيمم بجميع أنواع المرض. وفي معنى المرض البرد المؤدي إلى المرض لو استعمل الماء كما مر من حديث عمرو بن العاص في تفسير قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] والسفر يعم الطويل والقصير أعني مسافة القصر وما دونها لإطلاق قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان. كان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس ، فكنى به عن ذلك. وأكثر العلماء ألحقوا بالغائط كل ما يخرج من السبيلين من معتاد أو نادر. أما اللمس أو الملامسة ففيه قولان : أحدهما أن المراد به التقاء البشرتين بجماع أو بغيره كما هو مقتضى اللغة وهو قول ابن مسعود وابن عمرو الشعبي والنخعي وإليه ذهب الشافعي. وثانيهما المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ومذهب أبي حنيفة والشيعة لما ورد في القرآن بطريق الكناية : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧] (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). [المجادلة : ٣] عن ابن عباس : إنّ الله حيّ كريم يعف ويكني ، فعبر عن المباشرة بالملامسة. وأيضا لتشمل الآية الحدثين الأصغر والأكبر. ثم على مذهب الشافعي قال بعض أهل الظاهر : إنما ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لقوله : (أَوْ لامَسْتُمُ) والصحيح أنه ينتقض وضوأهما معا لاشتراك اللامس والملموس في ابتغاء اللذة. قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) قال الشافعي : إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده فتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى ، لأن عدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب. وقال أبو حنيفة : لا يجب بدليل قوله : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] وسبق الطلب في حقه تعالى محال. وأجيب بأنه بنى الكلام على المجاز للمبالغة كأنه طلب شيئا ثم لم يجد. وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه احتاج إليه لعطشه أو لعطش حيوان محترم معه جاز له التيمم ، ولو وجد من الماء ما لا يكفيه فالأصح عند الأئمة أنه يستعمله أو يصبه ثم يتيمم ليكون عاملا بظاهر الآية. والتيمم في اللغة القصد. والصعيد التراب ، «فعيل» بمعنى «فاعل». وقال ثعلب والزجاج : إنه وجه الأرض ترابا كان أو غيره. ومن هنا قال أبو حنيفة : إذا كان صخر لا تراب عليه وضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيا. وقال الشافعي : لا بد من تراب لتحقق مفهوم التصاعد فيه وليلتصق بيده فيمكنه المسح ببعضه كما جاء في المائدة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة : ٦] ولا يفهم من قول القائل : مسحت برأسي من الدهن إلّا معنى التبعيض ، ولأن الصعيد وصف بالطيب والطيب هو الذي يحتمل الإثبات لقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف : ٥٨] ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصص التراب بهذا المعنى فقال : «جعلت لي

٤٢٠