تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

هذا صريح في أنه تعالى لم يخلق أحدا لغرض التعذيب. وفي أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وإلّا لصار التقدير ما يفعل الله بعذابكم إن خلق الشكر والإيمان فيكم ، ومعلوم أن هذا غير منتظم. والجواب مسلم أنه تعالى غير مستكمل بالتعذيب ولا بالإثابة لكن وقوع البعض في مظاهر اللطف والبعض في مظاهر القهر ضروري كما سبق. وأيضا انتهاء الكل إلى إرادته وخلقه وتكوينه ضروري بواسطة أو بغير واسطة ، فيؤل المعنى إلى أنه لا يعذبكم إن كنتم مظاهر اللطف وهذا كلام في غاية الصحة. قال في الكشاف : وإنما قدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر أولا إلى النعمة فيشكر شكرا مبهما ، ثم إذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به. وأقول : إن لم تكن الواو للترتيب فلا سؤال ، وإن كانت للترتيب فلعله إنما قدم الشكر في هذه الآية خلاف أكثر الآيات التي قدم الإيمان فيها على العمل الصالح وهو الأصل ، لأن الآية مسوقة في غرض المنافقين ، ولم يقع نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما يقع النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني ، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة (وَكانَ اللهُ شاكِراً) مثيبا على الشكر فسمى جزاء الشكر شكرا ، وفيه أنه يجزي على العمل القليل ثوابا كثيرا (عَلِيماً) بالكليات والجزئيات من غير غلط ونسيان فيوصل جزاء الشاكرين إليهم كما يليق بحالهم بل كما يليق بكرمه وسعة فضله ورحمته.

ثم إنه سبحانه لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر منافيا للكرم والرحمة ظاهرا ذكر ما يجري مجرى العذر من ذلك فقال : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ) الآية يعني أنه لا يحب إظهار الفضائح إلا في حق من ظلم وهم المسلمون الذين عظم ضرر المنافقين وكيدهم فيهم. وأيضا إن المنافق إذا تاب وأصلح لم يكد يسلم من تعيير المسلمين إياه على ما صدر عنه في الماضي فبيّن تعالى أن تعييرهم بعد التوبة أمر مذموم وأنه تعالى لا يرضى به إلا من ظلم نفسه وعاد إلى نفاقه. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته. وقالت الأشاعرة : المحبة عبارة عن إيصال الثواب على الفعل وحينئذ يصح أن يقال : إنه أراده وما أحبه. قال أهل العلم : إنه لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر ، ولكنه ذكر هذا الوصف لأن كيفية الواقعة أوجبت ذلك كقوله : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) [النساء : ٩٤] والتبين واجب في الطعن والإقامة. أما قوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فالاستثناء فيه متصل أو منقطع. وعلى الأول قال أبو عبيدة : تقديره إلّا جهر من ظلم فحذف المضاف. وقال الزجاج : الجهر بمعنى المجاهر أي

٥٢١

لا يحب الله المجاهر بالسوء إلّا من ظلم. وعلى الثاني المعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته. وماذا يفعل المظلوم؟ قال ابن عباس : له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه. وقال مجاهد : له أن يخبر بظلم ظالمه له. وقال الأصم : لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكنونة حذرا من الغيبة والريبة لكن له إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب. وقال الحسن : له أن ينتصر من ظالمه. وعن مجاهد أن ضيفا تضيف قوما فأساؤا قراه فاشتكاهم فنزلت الآية رخصة في أن يشكو. وقرأ الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل. وقيل : إنه كلام منقطع عما قبله أي لكن من ظلم فدعوه وخلوه. وقال الفراء والزجاج : معناه لكن من ظلم فإنه يجهر له بالسوء من القول (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستورا. ثم حث على العفو بقوله : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) وهو إشارة إلى إيصال النفع (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) وهذا إشارة إلى دفع الضرر ، وعلى هذين تدور المعاشرة مع الخلق. (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) قال الحسن : أي يعفو عن الجاني مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنّة الله. وقيل : عفو لمن عفا ، قدير على إيصال الثواب إليه. وقال الكلبي : معناه أن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك. وفي الخبر أن أبا بكر الصديق شتمه رجل فسكت مرارا ثم رد عليه فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبوبكر : شتمني وأنت جالس فلما رددت عليه قمت. قال : إن ملكا كان يجيب عنك ، فلما رددت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أجلس عند مجيء الشيطان. ثم إنه سبحانه تكلم بعد ذكر أحوال المنافقين في مذاهب اليهود والنصارى وأباطيلهم. وذلك أنواع : الأول إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض فسلكهم في سلك من لا يقر بالوحدانية ولا بالنبوّات وهم الذين يكفرون بالله ورسله ، وفي سلك من يقر بالوحدانية وينكر النبوّات وهم الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله في الإيمان بالله والكفر بالرسل ؛ وذلك أن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفرقان ، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا بالبعض وأرادوا أن يتخذوا بين ذلك أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلا أي واسطة (أُولئِكَ) أي الطوائف الثلاث (هُمُ الْكافِرُونَ) أما الطائفة الأولى فكفرهم ظاهر ، وأما الثانية فلأنّ تكذيب الأنبياء وإنكارهم يستلزم تكذيب الله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] وأما الطائفة الثالثة فلأنّ الدليل الدال على نبوة بعض الأنبياء هو المعجزة ويلزم منه حصول النبوة حيث حصل المعجز فالقدح في بعض من ظهر على يده المعجزة هو القدح في كل نبي. فقيل : هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء ولكن ليس إذا توجه بعض الإلزامات على إنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلا به ، فإلزام الكفر أمر والتزام الكفر غيره. فالجواب أن الإلزام إذا كان خفيا

٥٢٢

يحتاج فيه إلى فكر وتأمل فالأمر كما ذكرتم ، أما إذا كان جليا واضحا لم يبق بين الإلزام والالتزام فرق. وانتصاب (حَقًّا) على أنه مصدر مؤكد لغيره كقوله : زيد قائم حقا أي أخبرتك بهذا المعنى إخبارا حقا أي ثابتا. وقيل : المراد هم الكافرون كفرا حقا وطعن الواحدي فيه بأن الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه. وأجيب بأن الحق هاهنا الكامل الراسخ الثابت. ثم ختم النوع بوعد المؤمنين. ومعنى : (بَيْنَ أَحَدٍ) بين اثنين منهم أو جماعة لأن أحدا في سياق النفي يفيد التعدد. ومعنى (سَوْفَ) توكيد الوعيد لا التأخر المجرد ولهذا قال سيبويه : لن أفعل نفى سوف أفعل. فالمعنى أن إيتاء الأجور كائن لا محالة وإن تأخر.

التأويل : إنّ المنافقين يخادعون الله في الدنيا لأن الله خادعهم في الأزل حيث رش نوره وشاهدوه ثم أخطأهم إن شكرتم نعم الله عليكم وآمنتم أنفسكم من عذابه (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) من العوام ولا من التحدث بالنفس من الخواص ولا من الخواطر من الأخص (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) إما بتقاضي دواعي البشرية من غير اختيار أو بابتلاء من اضطرار. وأيضا (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) بإفشاء سر الربوبية ، وإظهار مواهب الألوهية ، أو بكشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني : أنا الحق وسبحاني (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً) مما كوشفتم به من ألطاف الحق تنبيها للخلق وإفادة بالحق ، أو تخفوه صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب وفطامها عن المشارب (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) مما يدعو إليه هوى النفس الأمارة ، أو تتركوا إعلان ما جعل الله إظهاره سوءا (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) فتكون عفوا متخلقا بأخلاقه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) فيه إشارة إلى أن الإيمان لا يتبعض وإن كان يزيد وينقص مثاله شعاع الشمس ؛ إذا دخل كوّة البيت فيزيد وينقص بحسب سعة الكوة وضيقها ، ولكن لا يمكن تجزئتها بحيث يؤخذ جزء منه فيجعل في شيء آخر غير محاذ للشمس والله تعالى أعلم.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما

٥٢٣

قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))

القراآت : (لا تَعْدُوا) بتشديد الدال مع سكون العين : أبو جعفر ونافع غير ورش. وقرأ ورش مفتوحة العين مشددة. (بَلْ طَبَعَ) بالإدغام : علي وهشام وأبو عمر وعن حمزة (بَلْ رَفَعَهُ) مظهرا وبابه : الحلواني عن قالون سيؤتيهم حمزة وخلف وقتيبة. الباقون بالنون. (زَبُوراً) بضم الزاي حيث كان : حمزة وخلف والباقون بالفتح.

الوقوف : (بِظُلْمِهِمْ) ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع أن مراد الكلام متحد. (عَنْ ذلِكَ) ج لأن التقدير وقد آتينا. (مُبِيناً) ه (غَلِيظاً) ه (غُلْفٌ) ط (قَلِيلاً) ه ص للعطف. (عَظِيماً) ه لا لأنّ التقدير وفي قولهم. (رَسُولَ اللهِ) ج لأن ما بعده يحتمل ابتداء النفي والحال. (شُبِّهَ لَهُمْ) ط (مِنْهُ) ط (الظَّنِ) ج لاحتمال الاستئناف والحال (يَقِيناً) ج لتقرير نفي القتل بإثبات الرفع. (إِلَيْهِ) ط (حَكِيماً) ه (قَبْلَ مَوْتِهِ) ط لأن الواو للاستئناف مع اتحاد المقصود. (شَهِيداً) ه ج للآية ولأن قوله : (فَبِظُلْمٍ) راجع إلى

٥٢٤

قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ وَقَوْلِهِمْ) متعلق الكل (حَرَّمْنا). (كَثِيراً) لا (بِالْباطِلِ) ط (أَلِيماً) ه (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ط (عَظِيماً) ه (مِنْ بَعْدِهِ) ج للعطف مع تكرار الفعل. (وَسُلَيْمانَ) ج لأنّ التقدير وقد آتينا التخصيص داود بإيتاء الزبر. (زَبُوراً) ه ج لأنّ التقدير وقصصنا رسلا. (عَلَيْكَ) ط. (تَكْلِيماً) ه ج لاحتمال البدل والنصب على المدح. (الرُّسُلِ) ط ج (حَكِيماً) ه (بِعِلْمِهِ) ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال. (يَشْهَدُونَ) ط (شَهِيداً) ه (بَعِيداً) ه (طَرِيقاً) ه لا (أَبَداً) ط (يَسِيراً) ه.

التفسير : هذا نوع ثان من جهالات اليهود فإنهم قالوا : إن كنت رسولا من عند الله فأتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح. وقيل : اقترحوا أن ينزل عليهم كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان بأنك رسول الله. وقيل : كتابا نعاينه حين ينزل. فإن استكبرت ما سألوه (فَقَدْ سَأَلُوا) بمعنى سأل آباؤهم ومن هؤلاء على مذهبهم (مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وإنما كان سؤال الرؤية أكبر من سؤال تنزيل الكتاب لأن التنزيل أمر ممكن في ذاته بخلاف رؤية الله عيانا فإنها ممتنعة لذاتها عند المعتزلة ، أو ممتنعة في الدنيا عند غيرهم. وفي قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) وجوه : أحدها أن البينات الصاعقة لأنها تدل على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه وعلى كونه مخالفا للأجسام والأعراض ، وعلى صدق موسى عليه‌السلام في دعوى النبوة. وثانيها أنها إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد إماتتهم. وثالثها أنها الآيات التسع من العصا واليد وفلق البحر وغيرها. وفحوى الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فاعلم أنهم لا يطلبونه منك إلّا عنادا ولجاجا فإن موسى عليه‌السلام قد أنزل عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات الباهرة ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل ، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) حيث لم نستأصل عبدة العجل (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) تسلطا ظاهرا وهو أن أمرهم بقتل أنفسهم ، أو المراد قوّة أمره وكمال حاله وانكسار خصومه ففيه بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم. ثم حكى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم منها أنه تعالى رفع الطور بميثاقهم أي بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه ، ومنها قصة دخولهم الباب باب بيت المقدس ، ومنها قصة اعتدائهم في السبت باصطياد السمك وقد مر جميع هذه القصص في سورة البقرة. وقيل : إن العدو هاهنا ليس بمعنى الاعتداء وإنما هو بمعنى الحضر والمراد به النهي عن العمل والكسب يوم السبت كأنه قيل لهم : اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا

٥٢٥

الرزاق. ثم قال : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي العهد المؤكد غاية التوكيد على أن يتمسكوا بالتوراة ويعملوا بما فيها. (فَبِما نَقْضِهِمْ) «ما» مزيدة للتوكيد أي فبنقضهم وبسبب كذا وكذا ثم قال : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) ردّا لقولهم قلوبنا أوعية للعلم وتنبيها على أنه تعالى ختم عليها فلهذا لا يصل أثر الدعوة والبيان إليها ، أو تكذيبا لادعائهم إن قلوبنا في أكنة وذلك بحسب تفسيري الغلف كما مر في سورة البقرة (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا) إيمانا (قَلِيلاً) وهو إيمانهم بموسى والتوراة على زعمهم وإلا فالكافر بنبي واحد كافر بجميع الأنبياء فالقلة في الحقيقة بمعنى العدم (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) فإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب وكذا إنكارهم نبوة عيسى كفر ونسبتهم الزنا لمريم بهتان عظيم لأنه ظهر لهم عند ولادة عيسى من الكرامات والمعجزات ما دلهم على براءتها من كل سوء (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧] أو أنه تعالى جعل الذكر الحسن مكان القبيح الذي كانوا يطلقونه عليه من الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة. (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ) أي المقتول (لَهُمْ) لدلالة ذكر قتلنا على المقتول ، أو يكون شبه مسندا إلى الجار والمجرور وهولهم أي وقع لهم التشبيه ، ولا يجوز أن يكون في شبه ضمير المسيح لأنه المشبه به وليس بمشبه. قال أكثر المتكلمين : إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله إلى السماء فخاف رؤساء اليهود وقوع الفتنة فيما بين عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس أنه هو المسيح ، والناس ما كانوا يعرفون المسيح ، إلّا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة مع الناس. وقيل : إنّ اليهود لما علموا أنه في البيت الفلاني مع أصحابه ، أمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه ـ يقال له طيطايوس ـ أن يدخل على عيسى ويخرجه ليقتله ، فلما دخل عليه أخرج الله تعالى عيسى من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فخرج فظنوا أنه هو المسيح فصلبوه وقتلوه. وقيل : وكلوا بعيسى عليه‌السلام رجلا يحرسه وصعد عيسى في الجبل ورفع إلى السماء وألقى الله الشبه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست عيسى. وقيل : إن رهطا من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم : اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي. فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير ، فأجمعت اليهود على قتله فلما هموا بأخذه وكان معه عشرة من أصحابه قال لهم : من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم : أنا. فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل ورفع الله عيسى. وقيل : كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى وكان منافقا ، فذهب إلى اليهود ودلهم عليه فلما دخل مع اليهود لأخذه

٥٢٦

ألقى الله شبهه عليه فقتل وصلب. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) قيل : إن المختلفين هم اليهود لما قتلوا الشخص المشبه ونظروا إلى بدنه قالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره. وقال السبكي : لما قتلوا اليهودي المشبه مكانه قالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقيل : إن المختلفين هم النصارى وذلك أنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة : النسطورية والملكانية واليعقوبية. فالنسطورية زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وهو قريب من قول الحكماء إنّ القتل والموت يرد على الهيكل لا على النفس المجردة ، وعلى هذا فالفرق بين عيسى وبين سائر المصلوبين أن نفسه كانت قدسية علوية مشرقة قريبة من عالم الأرواح فلم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن. وقالت الملكانية : القتل والصلب وصل إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة. وقالت اليعقوبية : القتل والصلب وقع للمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين ، والشك في الأحكام استواء طرفي نقيضه عند الذاكر وقد يطلق عليه الظن ولهذا ذم في قوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) وأما العمل بالقياس فليس من اتباع الظن في شيء لأنه عمل بالطرف الراجح ، ولأن العلم بوجوب العمل قطعي. ثم قال : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) وإنه يحتمل عدم يقين القتل أي قتلا يقينا أو متيقنين. واليقين عقد جازم مطابق ثابت لدليل ويحتمل يقين عدم القتل على أن (يَقِيناً) تأكيد لقوله : (وَما قَتَلُوهُ) أي حق انتفاء قتله حقا وهذا أولى لقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) وقيل : هو من قولهم قتلت الشيء علما إذا تبالغ فيه علمه فيكون تهكما بهم لأنه نفى عنهم العلم أولا نفيا كليا ثم نبه بقوله : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) على أن رفع عيسى إلى السماء بالنسبة إلى قدرته سهل وأن فيه من الحكم والفوائد ما لا يحصيها إلّا هو.

ثم قال : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) فقوله : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف «وإن» هي النافية. التقدير : وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] والضمير في (بِهِ) عائد إلى عيسى ، وفي (مَوْتِهِ) إلى أحد. عن شهر بن حوشب قال لي الحجاج : آية ما قرأتها إلّا تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية وقال : إني أوتي بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك. فقلت : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا : يا عدوّ الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به فيقول : آمنت أنه عبد نبي. وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله فيؤمن به ويقول : إنه

٥٢٧

عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال : وكان متكئا فاستوى جالسا فنظر إليّ وقال : ممن قلت؟ قلت : حدثني محمد بن علي ابن الحنفية فأخد ينكت الأرض بقضيبه ثم قال : لقد أخذتها من عين صافية أو من معدنها. وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال : لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال : وإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع؟ قال : يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به. وفائدة هذا الإخبار الوعيد وإلزام الحجة والبعث على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع ، لأنه إذا لم يكن بد من الإيمان به فلأن يؤمنوا به حال التكليف ليقع معتدا به أولى. وقيل : الضميران في (بِهِ) وفي (مَوْتِهِ) لعيسى والمراد بأهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود والنمور مع الإبل والبقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات ، ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. قال بعض المتكلمين : ينبغي أن يكون هذا عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف إذ لو نزل مع بقاء التكليف على وجه يعرف أنه عيسى. فأما أن يكون نبيا ـ ولا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو غير نبي وعزل الأنبياء لا يجوز. وأجيب بأنه كان نبيا إلى مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد ذلك انتهت مدة نبوته فلا يلزم عزله فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال في الكشاف : ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به على أن الله تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما أنزل له ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم. وقيل : الضمير في (بِهِ) يرجع إلى الله تعالى وقيل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله وكذلك كل نبي شاهد على أمته. قوله : (فَبِظُلْمٍ) التنوين للتعظيم يعني فبأي ظلم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) والذنوب نوعان : الظلم على الخلق وهو قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) الآية والإعراض عن الدين الحق وهو قوله : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أي ناسا كثيرا أو صدا كثيرا. ومن هذا القبيل أخذ الربا بعد النهي عنه وأكل أموال الناس بالباطل أي بالرشا على التحريف ؛ فهذه الذنوب هي الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فتحريم بعض المطاعم الطيبة كما يجيء في سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦] الآية وأما في الآخرة فقوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) واعلم أن في متعلق قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) وما عطف عليه قولين : الأوّل أنه محذوف والتقدير : فبنقضهم وبكذا وكذا لعناهم أو سخطنا عليهم أو نحو ذلك ثم استأنف قوله :

٥٢٨

(فَبِظُلْمٍ) ومتعلقه (حَرَّمْنا) وكذا متعلق المعطوفات بعده. الثاني أن متعلق الكل (حَرَّمْنا) وقوله : (فَبِظُلْمٍ) بدل من قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ) قاله الزجاج. ويرجح الأوّل بأن حذف المتعلق أفخم ليذهب الوهم كل مذهب ، ولأنّ تحريم الطيبات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقها بتلك الجنايات العظائم. قلت : لو جعل قوله : (وَأَعْتَدْنا) معطوفا على (حَرَّمْنا) زال هذا الإشكال ، أما تكرار الكفر في الآيات ثلاث مرات ويلزم من عطف الثالث على الأوّل أو على الثاني عطف الشيء على نفسه فقد أجاب عنه في الكشاف بأنه قد تكرر منهم الكفر لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعطف بعض كفرهم على بعض ، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه كأنهم قيل : فبجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء عليهم‌السلام ، وقولهم قلوبنا غلف ، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم وافتخارهم بقتل عيسى ، عاقبناهم أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. ثم وصف طريقة المؤمنين المحقين منهم فقال : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) يعني عبد الله بن سلام وأضرابه ممن نبت في العلم وثبت وأتقن واستبصر حتى حصلت له المعارف بالاستدلال واليقين دون التقليد والتخمين ، لأن المقلد يكون بحيث إذا شكك تشكك ، أما المستدل فإنه لا يتشكك البتة (وَالْمُؤْمِنُونَ) يريد المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار. والراسخون مبتدأ و (يُؤْمِنُونَ) خبره. أما قوله : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ففيه أقوال : الأوّل روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا : إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، ولا يخفى ركاكة هذا القول لأن هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟ الثاني قول البصريين إنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) رفع على المدح لبيان فضل الزكاة كقولك : جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد. فتقدير الآية أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وطعن الكسائي في هذا القول بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وهاهنا الخبر وهو قوله : (أُولئِكَ) إلخ منتظر. والجواب أن الخبر (يُؤْمِنُونَ) ولم سلم فما الدليل على أنه لا يجوز الاعتراض بالمدح بين المبتدأ وخبره؟ الثالث وهو اختيار الكسائي أن المقيمين خفض للعطف على ما في قوله : (أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) والمراد بهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع واحد منهم من الصلاة. قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ) [الأنبياء : ٧٣] أو الملائكة لقوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات : ١٦٥] واعلم أن العلماء ثلاثة أقسام : العلماء بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه ، والعلماء بذات الله وصفاته الواجبة والممتنعة وأحوال

٥٢٩

المبدإ والمعاد ، والعلماء الجامعون بين العلمين المذكورين مع العمل بما يجب العمل به وهم الراسخون في العلم وأنهم أكابر العلماء ، وإلى الأقسام الثلاثة أشار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء» اللهم اجعلنا من زمرتهم بفضلك يا مستعان. ثم إنه سبحانه عاد إلى الجواب عن سؤال اليهود وهو اقتراح نزول الكتاب جملة فقال : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الآية. فبدأ بذكر نوح عليه‌السلام لأنه أول من شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام ، ثم قال : (وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم ، ولم يذكر فيهم موسى لأن المقصود من تعداد هؤلاء الأنبياء أنهم كانوا رسلا مع أن واحدا منهم ما أوتي كتابا مثل التوراة دفعة واحدة. ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) يعني أنكم اعترفتم ، أن الزبور من عند الله ، ثم إنه ما نزل على داود جملة واحدة وهذا إلزام حسن قوي والزبور كتاب داود عليه‌السلام. من قرأ بضم الزاي فعلى أنه جمع زبر وهو الكتاب كقدر وقدور. ثم قال : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل. (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) هذا أيضا من تتمة الجواب. والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه‌السلام بشرف التكليم معه ، ولم يلزم منه الطعن في سائر الأنبياء فكيف يلزم الطعن بإنزال التوراة عليه دفعة وإنزال غيرها على غيره منجما (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) يعني أن المقصود من بعثة الأنبياء إلزام التكاليف بالإنذار والتبشير ، وقد يتوقف هذا المطلوب على إنزال الكتب وقد يكون إنزال الكتاب منجما مفرقا أقرب إلى المصلحة لأنه إذا نزل جملة كثرت التكاليف فيثقل القبول كما ثقل على قوم موسى فعصوا. ثم ختم الآية بقوله : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) والمعنى أن عزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه وإن كان أمرا هينا في القدرة وكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع ، لأنه لو فعل ذلك لأصروا على اللجاج في كل قضية. واحتج الأشاعرة بالآية على أن معرفة الله لا تثبت إلّا بالسمع لقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فيكون قبل البعثة لهم حجة في ترك الطاعات والمعارف. وأجابت المعتزلة بأن الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر وكان إرسالهم إزاحة للغفلة وتتميما لإلزام الحجة مع إفادة تفصيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع. والمعتزلة قالوا : في الآية دلالة على امتناع تكليف ما لا يطاق لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذرا فبأن يكون عدم القدرة والمكنة صالحا للعذر أولى وعورض. وأيضا قالوا : الآية تدل على أن العبد قد يحتج على الرب فيبطل قول أهل السنة إنه لا

٥٣٠

اعتراض عليه لأحد. وأجيب بأنه يشبه الحجة وليس حجة في الحقيقة. قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) لا بد له من مستدرك لأن (لكِنِ) لا يبتدأ به. وفي ذلك المستدرك وجهان : أحدهما أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قول اليهود لو كان نبيا لنزل عليه الكتاب جملة ، وهذا الكلام يتضمن أنه هذا القرآن ليس كتابا نازلا عليه من السماء فلا جرم قيل : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) بأنه نازل عليه من السماء. الثاني أنه تعالى لما قال : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال القوم : نحن لا نشهد لك بذلك فنزل (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) ومعنى شهادة الله إنزال القرآن بحيث عجز عن معارضته الأولون والآخرون أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك. ثم فسر ذلك وأوضح بقوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي متلبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، أو بسبب علمه الكامل مثل : كتبت بالقلم وهذا كما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره إنما صنف هذا بكمال علمه يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف ذلك الكتاب ، أو أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه ، أو أنزله بما علم من مصالح العباد فيه ، أو أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من شياطين الجن والإنس. (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) لأنهم لا يسبقونه بالقول فشهادته تستتبع شهادتهم ومن صدقه رب العالمين وملائكة السموات والأرضين لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس إياه (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وإن لم يشهد غيره (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (وَصَدُّوا) غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بإلقاء الشبهات كقولهم : لو كان رسولا لأنزل عليه القرآن دفعة كما نزلت التوراة على موسى ، وكقولهم إن شريعة موسى لا تنسخ وإن الأنبياء لا يكونون إلّا من ولد هارون وداود (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) لأن غاية الضلال أن ينضم معه الإضلال. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتمان بعثته أو عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم. ومعنى قوله : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) أنهم لا يسلكون إلّا الطريق الموصل إلى جهنم أو لا يهديهم يوم القيامة إلّا طريقها. والعامل في (خالِدِينَ) معنى لا ليهديهم أي يعاقبهم أو يدخلهم النار خالدين. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لأنه لا صارف له عن ذلك ولا يتعذر عليه إيصال الألم إليه شيئا بعد شيء إلى غير النهاية. واللام في (الَّذِينَ) إما لقوم معهودين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ، وإما للاستغراق فيجب أن يضمر شرط عدم التوبة. وحمل المعتزلة قوله : (وَظَلَمُوا) على أصحاب الكبائر بناء على أنه لا فرق عندهم بين الكافر وصاحب الكبيرة في أنه لا يغفر لهما إلّا بالتوبة.

التأويل : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) لعل خرة موسى بلن تراني كانت بشؤم القوم وما كان في أنفسهم من سوء أدب هذا السؤال لئلا يطمعوا في مطلوب لم يعطه نبيهم ، فما اتعظوا بحالة نبيهم لأنهم كانوا أشقياء والسعيد من وعظ بغيره. فكما زاد عنادهم زاد بلاؤهم وابتلاؤهم

٥٣١

كرفع الطور فوقهم وغير ذلك. قال أهل الإشارة : ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات والطيبات التي أحلت لهم ولأزواجهم الطيبين قبل التلوث بقذر المخالفات والإسراف في المباحات يستتبع حرمان المناجاة والقربات (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) هم الذين رسخوا بقدمي الصدق والعمل في العلم إلى أن بلغوا معادن العلوم فاتصلت علومهم الكسبية بالعلوم العطائية واللدنية (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) أي كل ما أوحينا إليهم أوحينا إليك من سر (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي ليلة المعراج (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤] الآن في القرآن مفصلة (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) تجلى له بصفة العالمية حتى علم بعلمه ما كان وما سيكون (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) على تلك الخلوة وإن لم يكونوا معك في الخلوة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما جرى.

قد كان ما كان سرا لا أبوح به

ظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

٥٣٢

القراآت : فسنحشرهم بالنون : المفضل. الباقون بالياء.

الوقوف : (خَيْراً لَكُمْ) ط. (وَالْأَرْضِ) ط (حَكِيماً) ه (إِلَّا الْحَقَ) ط. (وَكَلِمَتُهُ) ج للاستئناف مع اتحاد المقصود. (وَرُوحٌ مِنْهُ) ز لعطف المختلفين ولكن فاء التعقيب توجب تعجيل الإيمان مع تمام البيان. (وَرُسُلِهِ) ط. (ثَلاثَةٌ) ط (خَيْراً لَكُمْ) ط (إِلهٌ واحِدٌ) ط. (وَلَدٌ) ج لأن المنفي منه مطلق الولد ولو وصل أوهم أن المنفي ولد موصوف بأن له ما في السموات وما في الأرض. (وَكِيلاً) ه (الْمُقَرَّبُونَ) ط (جَمِيعاً) ه. (مِنْ فَضْلِهِ) ج (أَلِيماً) ه (وَلا نَصِيراً) ه (مُبِيناً) ه (وَفَضْلٍ) لا للعطف. (مُسْتَقِيماً) ه (يَسْتَفْتُونَكَ) ط. (الْكَلالَةِ) ط (ما تَرَكَ) ج لأن ما بعده مبتدأ ولكن الكلام متحد البيان. (لَها وَلَدٌ) ط لأن جملة الشرط تعود إلى قوله : (فَلَها نِصْفُ) وبينهما عارض (مِمَّا تَرَكَ) ط لابتداء حكم جامع للصنفين. (الْأُنْثَيَيْنِ) ط (أَنْ تَضِلُّوا) ط (عَلِيمٌ) ه.

التفسير : لما بيّن فساد طريقة اليهود وأجاب عن شبههم عمم الخطاب فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِ) أي بالقرآن والقرآن معجز فيكون حقا أو بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره وهو الحق الذي تشهد له العقول السليمة. (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) انتصابه بمضمر وكذا في (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) لأنه لما بعثهم على الإيمان والانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر. فالمعنى : اقصدوا وأتوا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان والتوحيد ، فإن الإيمان لا شك أنه أحمد عاقبة من الكفر بل العاقبة كلها له. وقيل : إنه منصوب على خبرية «كان» أي يكن الإيمان خيرا لكم والأول أصح لئلا يلزم الحذف من غير قرينة (وَإِنْ تَكْفُرُوا) فإن الله غني عنكم لأنه مالك الكل ، أو هو قادر على إنزال العذاب لأن الكل تحت قهره وتسخيره ، أو له عبيد أخر يعبدونه غيركم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأحوال العباد (حَكِيماً) لا يضيع أجر المحسن ولا يهمل جزاء المسيء. ثم لما أجاب عن شبه اليهود خاطب النصارى ومنعهم عن الغلو في الدين وهو الإفراط في شأن المسيح إلى أن اعتقدوه إلها لا نبيا ، وحثهم على أن لا يقولوا على الله إلّا الحق الذي يحق ويجب وصفه به وهو تنزيهه عن الحلول في بدن إنسان والاتحاد بروحه واتخاذه لصاحبة وولد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) وجد بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة (أَلْقاها) أي الكلمة (إِلى مَرْيَمَ) أي أوصلها إليها وحصلها فيها (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي إنه طاهر نظيف بمنزلة الروح كما يقال : هذه نعمة من الله ، أو سمي بذلك لأنه سبب حياة الأرواح أو كمالها كما سمي القرآن روحا في قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وقيل : أي رحمة منه كقوله : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢]

٥٣٣

ولا شك أن وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للأمة قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا رحمة مهداة» وقيل : الروح هو الريح يعني أن النفخ من جبريل كان بأمر الله تعالى فهو منه والتنكير للتعظيم أي روح من الأرواح الشريفة القدسية العالية. وقوله : (مِنْهُ) إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي آمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) هي خبر مبتدأ محذوف أي الله ثلاثة إن كان معتقدهم أن الذات جوهر واحد وأنه ثلاثة بالصفات ويسمونها الأقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس ، وربما يقولون أقنوم الذات وأقنوم العلم وأقنوم الحياة ، أو الآلهة ثلاثة إن كان في اعتقادهم أنها ذوات قائمة بأنفسها الأب والأم والابن. ولعل القولين مرجعهما إلى واحد لأنهم إذا جوزوا على الصفات الانتقال والحلول في عيسى وفي مريم فقد جعلوها مستقلة بأنفسها ولهذا لزم الكفر والشرك ، وإلا فمجرد إثبات الصفات لله تعالى لا يوجب الشرك. فالأشاعرة أثبتوا لله تعالى ثمان صفات قدماء. (انْتَهُوا) عن التثليث واقصدوا (خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) لا تركيب فيه بوجه من الوجوه (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها من أن يكون له ولد فلا يتصل به عيسى اتصال الأبناء بالآباء ولكن من حيث إنه عبده ورسوله موجود بأمره جسدا حيا من غير أب (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه على أن الجزء إنما يصح في المنقسم عقلا أو حسا ، وإنه لا ينقسم بجهة من الجهات لا العقلية ولا الحسية. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) وإذا كان كافيا في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر مستقل أو مشارك. قال الكلبي : إن وفد نجران قالوا : يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى. قال : وأي شيء أقول فيه؟ قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله. فقال لهم : إنه ليس بعار لعيسى أن يكون عبد الله. قالوا : بلى. فنزل (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) والتحقيق أن الشبهة التي عليها يعوّلون في دعوى أنه ابن الله هي أنه كان يخبر عن المغيبات ويأتي بخوارق العادات كإحياء الأموات فقيل لهم : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبودية الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ ، وقد حمل العرش مع عظمته ثمانية منهم ثم إنهم لم يستنكفوا عن كونهم عبادا لله تعالى فكيف يستنكف المسيح عن ذلك أي يمتنع ويأنف؟ والتركيب يدور على التنحية والإزالة من ذلك نكفت الدمع أنكفه إذا نحيته عن خدك بأصبعك ، ونكفت عن الشيء أي عدلت. والقائلون بأفضلية الملائكة استدلوا بهذه الآية وقد تقدم الاستدلال بها والجواب عنها والبحث عليها في سورة البقرة في تفسير قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) [البقرة : ٣٤]

٥٣٤

الآية. أما قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ) فإنه معطوف على (الْمَسِيحُ) وهو الأظهر ، وجوز بعضهم عطفه على الضمير في (يَكُونَ) أو في (عَبْداً) لمعنى الوصفية فيه فيكون المعنى : أنّ المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا الملائكة موصوفين بالعبودية ، أو لا يأنف أن يعبد الله هو والملائكة. وفي المعنيين انحراف عن الغرض فالأول أولى. والمراد بالملائكة كل واحد منهم حتى يكون خبره أيضا (عَبْداً) أو يكون الخبر (عِباداً) وحذف لدلالة (عَبْداً) عليه (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ) أي يجمعهم يوم القيامة إليه حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا.

ثم إنه تعالى لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين فسئل إن التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد فأجاب في الكشاف بأن هذا كقولك : جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به. فحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه ، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أو قدم ثواب المؤمنين توطئة كأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وسيعاقب مع ذلك بما يصيبهم من العذاب. أقول : لو جعل الضمير في قول : (فَسَيَحْشُرُهُمْ) راجعا إلى الناس جميعا لم يحتج إلى هذه التكلفات ويحصل الربط بسبب العموم ومثله غير عزيز في القرآن كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] ثم عاد إلى تعميم الخطاب بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ) الآية. فيحتمل أن يراد بالبرهان والنور كليهما القرآن ، ويحتمل أن يراد بالبرهان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه يقيم البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل وبالنور المبين القرآن لأن سبب لوقوع نور الإيمان في القلب. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) تمسكوا بدينه أو لجؤا إليه في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) قال ابن عباس : الرحمة الجنة ، والفضل ما يتفضل عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) أي إلى عبادته (صِراطاً مُسْتَقِيماً) هو الدين الحنيفي والتقدير صراطا مستقيما إليه ، ويحتمل أن يراد بالرحمة والفضل اللذات الحسية الباقية ، وبالهداية اللذات الروحانية الدائمة.

ثم إنه سبحانه ختم السورة بنحو مما بدأها به وهو أحكام المواريث فقال : (يَسْتَفْتُونَكَ) الآية. قال أهل العلم : إنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة ، والأخرى في الصيف وهي هذه ولهذا تسمى آية الصيف.

٥٣٥

عن جابر قال : اشتكيت فدخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندي سبع أخوات فنفخ في وجهي فأفقت فقلت : يا رسول الله أوصي لأخواتي بالثلث. قال : أحسن. فقلت : الشطر؟ قال : أحسن. ثم خرج وتركني قال : ثم دخل فقال : يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبيّن الذي لأخواتك وجعل لأخواتك الثلثين. وروي أنه آخر ما نزل من الأحكام كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع فأتاه جابر بن عبد الله فقال : إن لي أختا فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ فنزلت. هذا وقد تقدم أن الكلالة اسم يقع على الوارث وهو من عدا الوالد والولد وعلى المورث وهو الذي لا ولد له ولا والدين. (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ارتفع (امْرُؤٌ) بمضمر يفسره هذا الظاهر ، ومحل (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ وغير ذي ولد. اعلم أن ظاهر الآية مطلق ولا بد فيه من تقييدات ثلاثة : الأول أن الولد مطلق والمراد به الابن لأنه هو الذي يسقط الأخت ، وأما البنت فلا تسقطها ولكنها تعصبها لما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس والباقي للأخت. فعلى هذا فلو خلف بنتا وأختا فللبنت النصف والباقي للأخت بالعصوبة. الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك على الإطلاق ، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع. الثالث قوله : (وَلَهُ أُخْتٌ) المراد الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم ذكر حكمهما في أول السورة بالإجماع. ثم قال : (وَهُوَ يَرِثُها) أي وأخوها يرثها ويستغرق مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي ابن كما قلنا لأن الابن يسقط الأخ دون البنت. وأيضا إن هذا في الأخ من الأبوين أو من الأب ، أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث. وأيضا المراد إن لم يكن لها ولد ولا والد لأن الأب أيضا مسقط للأخ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» والأب أولى من الأخ. ثم قال : (فَإِنْ كانَتَا) يعني من يرث بالإخوة (اثْنَتَيْنِ) فأنث وثنى باعتبار الخبر كقولهم من كانت أمك وكذا الكلام في قوله : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً) وأراد بالإخوة الإخوة والأخوات لكنه غلب جانب الذكورة. روي أن الصديق قال في خطبة : ألا إنّ الآيات التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض أولاها في الوالد والولد ، وثانيتها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والتي ختم بها السورة في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والتي ختم بها الأنفال في أولي الأرحام (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قال البصريون : المضاف محذوف أي كراهة أن تضلوا. وقال الكوفيون : لئلا تضلوا. وقال الجرجاني صاحب النظم : يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتتجنبوها (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا. ختم

٥٣٦

السورة ببيان كمال العلم كما أنه ابتدأها بكمال القدرة فبهما تتم الإلهية ويحصل الترهيب والترغيب للعاصي والمطيع والله المستعان.

التأويل : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني إن تؤمنوا يكن لكم ماله وإن تكفروا فالكل له (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) لا تميلوا إلى طرفي التفريط والإفراط. فاليهود فرطوا في شأنه فلم يقبلوه نبيا وهموا بقتله ، والنصارى أفرطوا في حبه فجعلوه ابن الله ، وكذلك كل ولي له سبحانه يشقى قوم بترك احترامه وطلب أذيته ، وقوم بالزيادة في إعظامه حتى يعتقد فيه ما ليس يرضى به كالخوارج والغلاة من الشيعة ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» (١). (وَرُوحٌ مِنْهُ) لأنه تكوّن بأمركن من غير واسطة أب كما أن الروح تكون كذلك (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] ولغلبة جانب الروحانية عليه كان يحيي الأجساد الميتة إذ ينفخ فيها وهذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان ؛ فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته في إنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله تعالى بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذانا صما وعيونا عميا فيكون في قومه كالنبي في أمته (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) يعني نفوسكم والرسول والله. بل انتهوا بنظر الوحدة عن رؤية الثلاثة فينكشف لكم (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) سبحانه أن يتولد من وحدانيته شيء له الوجود الحقيقي القائم الدائم أولا وآخرا وظاهرا وباطنا (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) لكل هالك. (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) لأن العبدية وهي حقيقة الإمكان الذاتي واجبة له ولهذا نطق في المهد بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) إنما ذكرهم لأن بعض الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله. (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ) جعل نفس النبي برهانا لأنه برهان بالكلية وبرهان غيره كان في أشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه. فمن ذلك برهان بصره (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] ومنه برهان أنفه «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» (٢) ومنه برهان لسانه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] وبرهان بصاقه بصق في العجين وفي البرمة فأكلوا من ذلك وهم ألف حتى تركوه والبرمة تفور كما هي والعجين يخبز. وبرهان تفله تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرأ بإذن الله وذلك يوم خيبر ، وبرهان يده (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٤٨. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦٨. أحمد في مسنده (١ / ٢٣ ، ٢٤ ، ٤٧).

(٢) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٤١).

٥٣٧

[الأنفال : ١٧] وسبح الحصى في يده ، وبرهان أصبعه أشار بها إلى القمر فانشق فلقتين ، وقد جرى الماء من بين أصابعه حتى شرب ورفع منه خلق كثير ، وبرهان صدره كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل. (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] وبرهان قلبه «تنام عيناي ولا ينام قلبي» (١) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣] وبرهان كله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] اللهم ارزقنا الاقتناص من هذا البرهان والاقتباس من أنوار القرآن إنك أنت الرؤوف المنان.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٧٩. أحمد في مسنده (٥ / ٤٠).

٥٣٨

سورة المائدة مائة وعشرون آية

وهي مدنية غير آية نزلت عشية

عرفة اليوم أكملت لكم دينكم

حروفها أحد عشر ألفا وسبعمائة

وثلاثة وثلاثون وكلماتها ألفان

وثمانمائة وأربع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ

٥٣٩

كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

القراآت : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بالنون الخفيفة : روي عن رويس. الباقون مثقلة. (شَنَآنُ) في الموضعين بسكون النون : ابن عامر وإسماعيل وأبوبكر وحماد ويزيد من طريق ابن وردان. الباقون بالفتح. (أَنْ صَدُّوكُمْ) بكسر الهمز : ابن كثير أبو عمرو. الباقون بالفتح. (وَلا تَعاوَنُوا) بتشديد التاء : البزي وابن فليح. (الْمَيْتَةُ) و (فَمَنِ اضْطُرَّ) كما مر في البقرة. (وَاخْشَوْنِي) بالياء في الوقف : سهل ويعقوب. (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب : ابن عامر ونافع وعلي والمفضل وحفص ويعقوب والأعشى في اختياره. الباقون بالجر.

الوقوف : (بِالْعُقُودِ) ط لاستئناف الفعل. (حُرُمٌ) ط (ما يُرِيدُ) ه (وَرِضْواناً) ط (فَاصْطادُوا) ط لابتداء نهي أن تعتدوا لئلّا يتوهم العطف وحذف التاء من تعاونوا. (وَالتَّقْوى) ص لعطف المتفقتين. (وَالْعُدْوانِ) ص كذلك (وَاتَّقُوا اللهَ) ط (شَدِيدُ الْعِقابِ) ه (بِالْأَزْلامِ) ط (فِسْقٌ) ط (وَاخْشَوْنِي) ط (دِيناً) ط لأنّ الشرط من تمام التحريم لا مما يليه. (لِإِثْمٍ) لا لأن ما بعده جزاء. (رَحِيمٌ) ه (أُحِلَّ لَهُمْ) ط فصلا بين السؤال والجواب. (الطَّيِّباتُ) ط للعطف أي وصيد ما علمتم. (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ز لفاء التعقيب مع عطف المختلفين. (عَلَيْهِ) ص (وَاتَّقُوا اللهَ) ط (الْحِسابِ) ه (الطَّيِّباتُ) ط لأن ما بعده مبتدأ. (لَكُمُ) ص لعطف المتفقتين. (لَهُمْ) ز لأن قوله : (وَالْمُحْصَناتُ) عطف على (وَطَعامُ الَّذِينَ) لا على ما يليه. (أَخْدانٍ) ط (عَمَلُهُ) ز لعطف المختلفين مع أن ما بعده من تمام جزاء الكفر معنى. (الْخاسِرِينَ) ه (الْكَعْبَيْنِ) ط لابتداء حكم.

٥٤٠