تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

تغير كل ذي طعم ولون

وقل بشاشة الوجه المليح.

قال في الكشاف : إنه كذب بحت وقد صح أن الأنبياء معصومون عن الشعر وصدّقه في التفسير الكبير وقال : إنّ ذلك من غاية الركاكة بحيث لا يليق بالآحاد فضلا عن الأفراد وخصوصا من علمه حجة على الملائكة. وأقول : أما أن جميع الأنبياء معصومون عن الشعر فلعل دعوى العموم لا تمكن فيه وكأنه من خصائص نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا أثنى الله تعالى عليه بقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] وأما أنه من الركاكة بالحيثية المذكورة فمكابرة مع أن مقام البث والشكوى لا يحتمل الشعر المصنوع والله أعلم بحقيقة الحال. قال المفسرون : إنه لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغيّر فبعث الله غرابا. روى الأكثرون أنه بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم من الغراب. وقال : الأصم : لما قتله وتركه بعث الله غرابا يحثى على المقتول فلما رأى القاتل أنّ الله تعالى كيف يكرمه بعد موته ندم. وقال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه (لِيُرِيَهُ) أي الله أو الغراب أي ليعلمه وذلك أنه كان سبب تعليمه (كَيْفَ يُوارِي) محله نصب على الحال من ضمير (يُوارِي) والجملة منصوبة بيرى مفعولا ثانيا أي ليريه كيفية مواراة سوأة أخيه أي عورته وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده. وقيل : أي جيفة أخيه. والسوأة السوء الخلة القبيحة (يا وَيْلَتى) كلمة عذاب. يقال : ويل له وويله ومعناه الدعاء بالإهلاك وقد يقال في معرض الترحم. وإنما طلب إقبال الويل هاهنا على سبيل التعجب والندبة أي احضر حتى يتعجب منك ومن فظاعتك أو احضر فهذا أوان حضورك. والألف بدل من ياء المتكلم. (أَعَجَزْتُ) استفهام بطريق الإنكار (أَنْ أَكُونَ) أي عن أن أكون (مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) أي في الفعلة المذكورة ولهذا قال : (فَأُوارِيَ) بالنصب على جواب الاستفهام (مِنَ النَّادِمِينَ) الندم وضع للزوم ومنه النديم لملازمته المجلس. وإنما لم يكن ندمه توبة لأنه لما تعلم الدفن من الغراب صار من النادمين على أنّ حمله على ظهره سنة ، أو ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله بل سخط عليه أبواه وإخوته ، أو ندم لأنه تركه بالعراء استخفافا وتهاونا وكان دون الغراب في الشفقة على مقتوله حتى صار الغراب دليلا وقد قيل :

إذا كان الغراب دليل قوم

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) القتل قيل : هو من أجل شرا يأجله أجلا إذا جناه (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) إن كان القاتل والمقتول من بني إسرائيل فالمناسبة بين الواقعة وبين وجوب القصاص عليهم ظاهرة ، وإن كانا ابني آدم من صلبه فالوجه أن يكون

٥٨١

ذلك إشارة إلى ما في القصة من أنواع المفاسد كخسران الدارين وكالندم على الأمور المذكورة ، أي من أجل ما ذكرنا في أثناء القصة من المفاسد الناشئة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص في حق القاتل ، ثم وجوب القصاص وإن كان عاما في جميع الأديان والملل إلّا أنّ التشديد المذكور في الآية ـ وهو أن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس ـ غير ثابت إلّا على بني إسرائيل. والغرض بيان قساوة قلوبهم فإنهم مع علمهم بهذا الحكم أقدموا على قتل الأنبياء والرسل فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الواقعة التي عزموا فيها على قتله. ثم القائلون بالقياس استدلوا بالآية على أنّ أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل لأنه صرّح بأن الكتبة معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) والمعتزلة أيضا قالوا : إنها دلّت على أنّ الأحكام معللة بمصالح العباد. ويعلم منه امتناع كونه تعالى خالقا للكفر والقبائح لأنّ ذلك ينافي مصلحة العبد. والأشاعرة شنعوا عليهم بلزوم الاستكمال. والتحقيق أنّ استتباع الفعل الغاية الصحيحة لا ينافي الكمال الذاتي وقد سبق مرارا. (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس وهو أن يقع لا على وجه الاقتصاص. (أَوْ فَسادٍ) قال الزجاج : إنه معطوف على (نَفْسٍ) بمعنى أو بغير فساد (فِي الْأَرْضِ) كالكفر بعد الإيمان وكقطع الطريق وغيره من المهدّدات (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) وهاهنا نكتة وهي أنّ التشبيه لا يستدعي التسوية بين المشبه والمشبه به من كل الوجوه ، فلا يكون قتل النفس الواحدة قتل جميع الناس فإنّ الجزء لا يعقل أنه مساو للكل. فالغرض استعظام أمر القتل العمد العدوان واشتراك القتلين في استحقاق الإثم كما قال مجاهد : قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله والعذاب العظيم ولو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك. والتحقيق فيه أنه إذا أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة ، وإذا ثبت الترجيح بالنسبة إلى واحد ثبت بالنسبة إلى كل واحد بل بالإضافة إلى الكل لأنّ كل إنسان يدلي من الكرامة والحرمة بما يدلي به الآخر. وفيه أن جد الناس واجتهادهم في دفع قاتل شخص واحد يجب أن يكون مثل جدّهم في دفعه لو علموا أنه يقصد قتلهم بأسرهم (وَمَنْ أَحْياها) استنقذها من مهلكة كحرق أو غرق أو جوع مفرط ونحو ذلك ، والكلام في تشبيه إحياء البعض بإحياء الكل كما تقرر في القتل (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (بَعْدَ ذلِكَ) بعد مجيء الرسل (لَمُسْرِفُونَ) في القتل لا يبالون بهتك حرمة. ومعنى «ثم» تراخي الرتبة.

ثم إنه سبحانه بين أن الفساد في الأرض الموجب للقتل ما هو فقال : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) استدل بالآية من جوز إرادة الحقيقة والمجاز معا من لفظ واحد

٥٨٢

لأنّ محاربة الله عبارة عن المخالفة فقط ولا يمكن حملها على حقيقة المحاربة. ويحتمل أن يقال : إنا نحمل هذه المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف. والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ، أو المراد إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله كما جاء في الخبر «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» (١). (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) نصب على الحال أي مفسدين ، أو على العلة أي للفساد ، أو على المصدر الخاص نحو : رجع القهقرى. لأنّ الفساد نوع من السعي. عن قتادة عن أنس أن الآية نزلت في العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستاقوا الذود ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثارهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا فكانت الآية ناسخة لتلك السنة. وعند الشافعي لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقا للسنة الناسخة. وقيل : نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي ـ وكان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ـ فمرّ بهم قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم. وقيل : إنها في بني إسرائيل الذين حكى الله عنهم أنهم مسرفون في القتل. وقيل : في قطّاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء. قالوا : ولا يجوز حمل الآية على المرتدين لأنّ قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة وإظهار الفساد في الأرض ، ولأنه لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد أو النفي ، ولأن حدّه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وبعدها ، ولأنّ الصلب غير مشروع في حقه ، ولأن اللفظ عام. وشرطوا في هذا المحارب بعد كونه مسلما مكلفا أن يكون معتمد القوة في المغالبة مع البعد عن الغوث فيخرج الكفار والمراهقون والمعتمد على الهرب ، وكذا المتعرض للقادر على الاستعانة بمن يغيثه. واتفقوا على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كان قاطع الطريق ، فأما في نفس البلد فكذلك عند الشافعي لعموم النص. وخالف أبو حنيفة ومحمد لأنه يلحقه الغوث في الغالب فحكمه حكم السارق. وللعلماء في لفظ «أو» في الآية خلاف. فعن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد أنها للتخيير إن شاء الإمام قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى. وعنه في رواية عطاء أنّ الأحكام تختلف بحسب الجنايات ، فمن اقتصر على القتل قتل ، ومن قتل وأخذ المال قدر نصاب السرقة قتل وصلب ، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفي من الأرض ، وإليه ذهب الشافعي والأكثرون. والذي يدل على

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٦.

٥٨٣

ضعف القول الأول أنه ليس للإمام الاقتصار على النفي بالإجماع ولأن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وهذا لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي. فتقدير الآية أن يقتلوا إن قتلوا ، أو يصلبوا إن جمعوا بين القتل والأخذ ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على الأخذ. والتشديد في هذه الأفعال للتكثير. (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إن أخافوا السبيل والقياس الجلي أيضا يؤيد هذا التفسير لأنّ القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق بالتحتم وعدم جواز العفو. وأخذ المال يتعلق به قطع اليد فغلظ في حقه بقطع الطرفين (مِنْ خِلافٍ) أي يده اليمنى ورجله اليسرى ، فإن عاد فالباقيتان. قيل : وإنما قطع هكذا لئلّا يفوت جنس المنفعة. قلت : هذا أيضا من باب التغليظ لأنّ اليد اليمنى أعون في العمل والرجل اليسرى أعون في الركوب. وإن جمعوا بين القتل والأخذ يجمع بين القتل والصلب ، لأنّ بقاءه مصلوبا في ممر الطريق أشهر وأزجر. وإن اقتصروا على مجرد الإخافة اقتصر الشرع على عقوبة خفيفة هي النفي. قال أبو حنيفة : إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين أن يقتل فقط أو يقطع ثم يقتل ويصلب. وعند الشافعي لا بد من الصلب لأجل النص. وكيفية الصلب أن يقتل ويصلّى عليه ثم يصلب مكفنا ثلاثة أيام. وقيل : يترك حتى يتهرى ويسيل صديده أي صليبه وهو الودك. وعند أبي حنيفة يصلب حيا ثم يمزق بطنه برمح حتى يموت أو يترك بلا طعام وشراب حتى يموت جوعا ، ثم إن أنزل غسل وكفن وصلّي عليه ودفن ، وإن ترك حتى يتهرى فلا غسل ولا صلاة. أما النفي فإنّ الشافعي حمله على معنيين : أحدهما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن ظفر بهم أقام عليهم الحد ، وإن لم يظفر بهم طلبهم أبدا. فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي. والثاني الذين يحضرون الواقعة ويعينونهم بتكثير السواد وإخافة المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال ، فالإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم ، فيكون المراد بنفيهم هو هذا الحبس. وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحق : النفي هو الحبس لأنّ الطرد عن جميع الأرض غير ممكن ، وإلى بلدة أخرى استضرار بالغير ، وإلى دار الكفر تعريض للمسلم بالردة ، فلم يبق إلّا أن يكون المراد الحبس لأنّ المحبوس لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا فكأنه خارج منها ولهذا قال صالح بن عبد القدوس حين حبسوه على تهمة الزندقة وطال لبثه :

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة

عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا.

(ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) ذل وفضيحة (فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) استدل

٥٨٤

المعتزلة بها على القطع بوعيد الفساق وعلى الإحباط. وقالت الأشاعرة : بل بشرط عدم العفو (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) قال الشافعي : إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه ما يختص بقطع الطريق من العقوبات لأنه متهم حينئذ بدفع العذاب عنه وفي سائر الحدود بعد القدرة عليه. قيل : يكفي في التوبة إظهارها كما يكفي إظهار الإسلام تحت ظلال السيوف. والأصح أنه لا بدّ مع التوبة من إصلاح العمل لقوله تعالى في الزنا (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) [النساء : ١٦] وفي السرقة (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) ولعل الفائدة في هذا الشرط أنه إن ظهر ما يخالف التوبة أقيم عليه الحد ، وإنما يسقط بتوبة قاطع الطريق قبل القدرة عليه تحتم القتل. فالولي يقتص أو يعفو بناء على أن عقوبة قاطع الطريق لا تتمحض حدا بل يتعلق بها القصاص وهو الأظهر ، أما إذا محضناه حدا فلا شيء عليه ، وإن كان قد أخذ المال وقتل سقط الصلب وتحتم القتل. وفي القصاص وضمان المال ما ذكرنا وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع الرجل. وفي قطع اليد وجهان : الأظهر السقوط أيضا بناء على أنه جزء من الحد الواجب فإذا لم يقم الكل لم يقم شيء من أجزائه بالاتفاق. والثاني أنه ليس من خواص قطع الطريق لأنه يجب بالسرقة ففي سقوطه الخلاف في سائر الحدود.

ثم إنه سبحانه لما بيّن كمال جسارة اليهود على المعاصي وغاية بعدهم عن الوسائل إلى الله وآل الكلام إلى ما آل عاد إلى إرشاد المؤمنين ليكونوا بالضدّ منهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) وأيضا فإنهم قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن أبناء الأنبياء وكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقيل للمؤمنين : لتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بأسلافكم فقوله : (اتَّقُوا اللهَ) إشارة إلى ترك المنهيات وقوله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) عبارة عن فعل المأمورات وإن كان ترك المناهي أيضا من جملة الوسائل إلّا أن هذا التقرير مناسب ، والفعل والترك أيضا يعتبران في الأخلاق الفاضلة والذميمة وفي الأفكار الصائبة والخاطئة ، وأهل التحقيق يسمون الترك والفعل بالتخلية والتحلية أو بالمحو والحضور أو بالنفي والإثبات أو بالفناء والبقاء ، والأول مقدّم على الثاني ، فما لم يفن عما سوى الله لم يرزق البقاء بالله. والوسيلة «فعيلة» وهي كل ما يتوسل به إلى المقصود ولهذا قد تسمى السرقة توسلا والواسل الراغب إلى الله قال لبيد :

ألا كل ذي لب إلى الله واسل

والتوسيل والتوسل واحد يقال : وسل إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه

٥٨٥

بعمل قالت التعليمية : إنه تعالى أمر بابتغاء الوسيلة إليه فلا بد من معلم يعلمنا معرفته. وأجيب بأن الأمر بالابتغاء مؤخر عن الإيمان لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فعلمنا أن المراد بالوسائل هي العبادات والطاعات. ثم إن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي لما كان شاقا على النفس ثقيلا على الطبع لأن العقل يدعو إلى خدمة الله والنفس تدعو إلى اللذات الحسيات والجمع بينهما كالجمع بين الضرتين والضدّين أردف التكليف المذكور بقوله : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) والمراد بهذا القيد أن تكون العبادة لأجله لا لغرض سواه وهذه مرتبة السابقين. ثم قال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه والفوز بالمحبوب وهذه دون الأولى لأن غرضه الرغبة في الجنة أو الرهبة من النار وكلتا المرتبتين مرضية. ثم أشار إلى مرتبة الناقصين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وخبر «إن» مجموع الجملة الشرطية وهي قوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) أي بالمذكور أو الواو بمعنى «مع» والعامل في المفعول معه وهو المثل ما في «إن» من معنى الفعل أي لو ثبت : (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) والغرض التمثيل وأن العذاب لازم لهم وقد مر مثله في سورة آل عمران. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم. فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك» (١). (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا) أي يتمنون الخروج من النار أو يقصدون ذلك. قيل : إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج. وقيل : يكادون يخرجون منها لقوتها ورفعها إياهم. عمم المعتزلة هذا الوعيد في الكفار وفي الفساق ، وخصصه الأشاعرة بالكفار لدلالة الآية المتقدمة. ثم إنه تعالى عاد إلى تتميم حكم أخذ المال من غير استحقاق وهو المأخوذ على سبيل الخفية لا المحاربة فقال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وهما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه والأخفش والتقدير فيما فرض أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمها. وعند الفراء ـ وهو اختيار الزجاج ـ أن الألف واللام فيهما بمعنى الذي والتي وخبرهما : (فَاقْطَعُوا) ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط كأنه قيل : الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما. وقراءة عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على القراءة المشهورة لأن الإنشاء لا يحسن أن يقع خبرا إلّا بتأويل وأما إذا نصبت فإنه يكون من باب الإضمار على شريطة التفسير والفاء يكون مؤذنا بتلازم ما قبلها وما بعدها مثل : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣] وضعف قول سيبويه بأنه طعن في قراءة واظب عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترجيح للقراءة الشاذة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٤٩. أحمد في مسنده (٣ / ٢١٨). مسلم في كتاب المنافقين حديث ٥٢.

٥٨٦

وفيه ما فيه على أن الإضمار الذي ذهب إليه هو خلاف الأصل. والذي مال إليه الفراء أدل على العموم وأوفق لقوله سبحانه : (جَزاءً بِما كَسَبا) فإنه تصريح بأن المراد من الكلام الأول هو الشرط والجزاء. أما البحث المعنوي في الآية فإن كثيرا من الأصوليين زعموا أنها مجملة لأنه لم يبين نصاب السرقة وذكر الأيدي وبالإجماع لا يجب قطع اليدين ، ولأن اليد تقع على الأصابع بدليل أن من حلف لا يلمس فلانا بيده فلمسه بأصابعه فإنه يحنث ، وتقع على الأصابع مع الكف وعلى الأصابع والكف والساعدين إلى المرفقين وعلى كل ذلك إلى المنكبين. وأيضا الخطاب في : (فَاقْطَعُوا) إما لإمام الزمان كما هو مذهب الأكثرين أو لمجموع الأمة أو لطائفة مخصوصة فثبت بهذه الوجوه أن الآية مجملة. وقال المحققون : مقتضى الآية ولا سيما في تقدير الفراء عموم القطع بعموم السرقة إلّا أن السنة خصصته بالنصاب. أو نقول : إن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة بر إنه سارق. والمراد بالأيدي اليدان مثل : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب قطعهما معا ولا الابتداء باليسرى. واليد اسم موضوع لهذا العضو إلى المنكب ولهذا قيد في قوله : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] وقد ذهب الخوارج إلى وجوب قطع اليدين إلى المنكبين لظاهر الآية إلّا أن السنة خصصته بالكوع. والحاصل أن الآية عامة لكنها خصصت بدلائل منفصلة فتبقى حجة في الباقي ، وهذا أولى من جعلها مجملة غير مفيدة أصلا. ثم إن جمهور الصحابة والفقهاء ذهبوا إلى أن القطع لا يجب إلّا عند شروط كالنصاب والحرز ، وخالف ابن عباس وابن الزبير والحسن وداود الأصفهاني والخوارج تمسكا بعموم الآية ، ولأن مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة ، فالذي يستقله الملك يستكثره الفقير. وقد قال الشافعي : لو قال لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بالحبة يقبل لاحتمال أن يريد أنه عظيم في الحل أو عظيم عنده لشدة فقره. ولما طعنت الملحدة في الشريعة بأن اليد كيف ينبغي أن تقطع في قليل مع أن قيمتها خمسمائة دينار من الذهب ، أجيب عنه بأن ذلك عقوبة من الشارع له على دناءته. وإذا كان هذا الجواب مقبولا من الكل فليكن مقبولا منا في إيجاب القطع على القليل والكثير. وأيضا اختلاف المجتهدين في قدر النصاب كما يجيء يدل على أن الأخبار المخصصة عندهم متعارضة فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن. ودعوى الإجماع على أن القطع مخصوص بمقدار معين غير مسموعة لخلاف بعض الصحابة والتابعين كما قلنا. واعلم أن الكلام في السرقة يتعلق بأطراف المسروق ونفس السرقة والسارق. وأما المسروق فمن شروطه عند الأكثرين أن يكون نصابا. ثم قال الشافعي : إنه ربع دينار من الذهب الخالص وما سواه يقوم به وهو مذهب الإمامية لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا

٥٨٧

قطع إلّا في ربع دينار» (١) وقال أبو حنيفة : النصاب عشرة دراهم لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا قطع إلا في ثمن المجن» (٢) والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم ، وقال مالك : ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وعن أحمد روايتان كالشافعي وكمالك. وقال ابن أبي ليلى : خمسة دراهم. وعن الحسن : درهم. وفي مواعظه : «احذر من قطع يدك في درهم». ومنها أن يكون المسروق ملك غير السارق لدى الإخراج من الحرز. فلو سرق مال نفسه من يد غيره كيد المرتهن والمستأجر أو طرأ ملكه في المسروق قل إخراجه من الحرز بأن ورثه السارق أو اتهبه وهو فيه سقط القطع. ومنها أن يكون محترما لا كخمر وخنزير. ومنها أن يكون الملك تاما قويا. والمراد بالتمام أن لا يكون السارق فيه شركة أو حق كمال بيت المال ، وبالقوّة أن لا يكون ضعيفا كالمستولدة والوقف. ومنها كون المال خارجا عن شبهة استحقاق السارق ، فلو سرق رب الدين من مال المديون فإن أخذه لا على قصد استيفاء الحق أو على قصده والمديون غير جاحد ولا مماطل قطع ، وإن أخذه على قصد استيفاء الحق وهو جاحد أو مماطل فلا يقطع سواء أخذ من جنس حقه أو لا من جنسه. وإذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر وكان المال محرزا عنه فعند أبي حنيفة لا يجب القطع. وعند الشافعي ومالك وأحمد يجب. ومنها كون المال محرزا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» (٣) وحرز كل شيء على حسب حاله. فالإصطبل حرز الدواب وإن كانت نفيسة وليس حرزا للثياب والنقود. والصفة في الدار وعرصتها حرزان للأواني وثياب البذلة دون الحلي والنقود فإن العادة فيها الإحراز في الصناديق والمخازن. وعن أبي حنيفة أن ما هو حرز لمال فهو حرز لكل مال. وأما السرقة فهي إخراج المال عن أن يكون محرزا ولا بد من شرط الخفية فلا قطع على المختلس والمنتهب والمعتمد على القوة ، ولا على المودع إذا جحد خلافا لأحمد. وأما السارق فيشترط فيه التكليف والتزام الأحكام والاختيار ؛ فيقطع الذمي والمعاهد ولا يقطع المكره. وإنما تثبت السرقة بثلاث حجج : باليمين المردودة أو بالإقرار أو بشهادة رجلين. ويتعلق بها حكمان : الضمان والقطع. وقال أبو حنيفة : القطع والغرم لا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الحدود الحديث ١ ـ ٥. النسائي في كتاب السارق باب ١٠. ابن ماجه في كتاب الحدود باب ٢٢. أحمد في مسنده (٦ / ١٠٤ ، ٢٤٩).

(٢) رواه النسائي في كتاب السارق باب ٩ ، ١٠.

(٣) رواه النسائي في كتاب السارق باب ١١.

٥٨٨

يجتمعان. حجة الشافعي أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (١) يوجب الضمان. وقد اجتمع في هذه السرقة أمران ، وحق الله لا يمنع حق العباد ولهذا يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك ، ولو كان المسروق باقيا وجب رده بالاتفاق. حجة أبي حنيفة قوله تعالى : (جَزاءً بِما كَسَبا) والجزاء هو الكافي ، فهذا القطع كاف في جناية السرقة. ورد بلزوم رد المسروق عند كونه قائما. أما كيفية القطع فقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بسارق فقطع يمينه. قال الشافعي : فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى ، فإن سرق ثالثا فيده اليسرى ، فإن سرق رابعا فرجله اليمنى ، وبه قال مالك. وروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقطع في الثانية وما بعدها لما روي عن ابن مسعود أنه قرأ فاقطعوا أيمانهما ، وضعفه الشافعي بأن القراءة الشاذة لا تعارض ظاهر القرآن المقتضي لتكرر القطع بتكرر السرقة. واتفقوا على أنه يقطع اليد من الكوع ، والرجل من المفصل بين الساق والقدم. والسيد يملك إقامة الحد على مماليكه لعموم قوله : (فَاقْطَعُوا) ولم يجوّزه أبو حنيفة. واحتج المتكلمون بالآية في أنه يجب على الأمة نصب الإمام لأن هذا التكليف لا يتم إلّا به وما لا يتم الواجب إلّا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب. وانتصاب (جَزاءً) و (نَكالاً) على أنه مفعول لهما ، والعامل (فَاقْطَعُوا) وإن شئت فعلى المصدر من الفعل الذي دل عليه : (فَاقْطَعُوا) أي جازوهم ونكلوا بهم (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ). (فَمَنْ تابَ) من السراق (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي سرقته (وَأَصْلَحَ) أي يتوب بنية صالحة وعزيمة صحيحة خالية عن الأغراض الفاسدة (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) وعند بعض الأئمة تسقط العقوبة أيضا. وعند الجمهور لا تسقط. وباقي الآيات قد مر تفسيره. وإنما قدم التعذيب على المغفرة طباقا لتقدم السرقة على التوبة.

التأويل : إن آدم الروح بازدواجه مع حواء القالب ولد قابيل النفس وتوأمته إقليما الهوى ، ثم هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل ، فكان الهوى في غاية الحسن في نظر النفس فبه تميل إلى الدنيا ولذاتها. وكان في نظر القلب أيضا في غاية الحسن فبه يميل إلى طلب المولى ، وكان العقل في نظر النفس في غاية القبح لأنها به تنزجر عن طلب الدنيا ، وكذا في نظر القلب لأنه بالعقل يمتنع عن طلب الحق والفناء في الله ولهذا قيل : العقل عقيله الرجال ، فحرم الله تعالى الازدواج بين التوأمين لأن الهوى إذا كان قرين النفس أنزلها أسفل سافلين الطبيعة ، وإذا كان قرين القلب كان عشقا فيوصله إلى أعلى فراديس القرب ، وإذا

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب ٨٨. الترمذي في كتاب البيوع باب ٣٩. ابن ماجه في كتاب الصدقات باب ٥. الدارمي في كتاب البيوع باب ٥٦. أحمد في مسنده (٥ / ١ ، ١٣).

٥٨٩

كان العقل قرين القلب صار عقالا له ، وإذا كان قرين النفس حرضها على العبودية فرضي هابيل القلب وسخط قابيل النفس وكان صاحب زرع أي مدبر النفس النامية وهي القوّة النباتية ، فقرب طعاما من أردإ زرعه وهي القوّة الطبيعية ، وكان هابيل القلب راعيا لمواشي الأخلاق الإنسانية والصفات الحيوانية فقرب الصفة البهيمية وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه إليها لضرورة التغذي والبقاء ولسلامتها بالنسبة إلى الصفات السبعية والشيطانية. فوضعا قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فحملت الصفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس شيئا لأنها ليست من حطبها بل هي حطب نار الحيوانية (تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي إثم وجودي وإثم وجودك ، فإن الوجود حجاب بيني وبين محبوبي. فقتل قابيل النفس هابيل القلب والنفس أعدى عدو القلب (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أما في الدنيا فبالحرمان عن الواردات والكشوف ، وأما في الآخرة فبالبعد عن جنات الوصول (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً) هو الحرص في الدنيا ليشغل بذلك عن فعلتها. وفي تعليم الغراب إشارة إلى أنه تعالى قادر على تعليم العباد بأي طريق شاء فيزول تعجب الملائكة والرسل باختصاصهم بتعليم الخلق (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي في أرض البشرية (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ) أولياء الله (أَنْ يُقَتَّلُوا) بسكين الخذلان (أَوْ يُصَلَّبُوا) بحبل الهجران على جذع الحرمان (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ) عن أذيال الوصال (وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) عن الاختلاف (أَوْ يُنْفَوْا) من أرض القربة والائتلاف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) جعل الفلاح الحقيقي في أربعة أشياء : في الإيمان وهو إصابة رشاش النور في بدو الخلقة وبه يخلص العبد من ظلمة الكفر ، وفي التقوى وهو منشأ الأخلاق المرضية ومنبع الأعمال الشرعية وبه الخلاص عن ظلمة المعاصي ، وفي ابتغاء الوسيلة وهو إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وبه يخلص من ظلمه أوصاف الوجود ، وفي الجهاد في سبيله وهو محو الأنانية في إثبات الهوية وبه يخلص من ظلمة أوصاف الوجود ويظفر بنور الشهود (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) لأنهم خلقوا مظاهر القهر (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) كانا مقطوعي الأيدي عن قبول رشاش النور فكان تطاول أيديهما اليوم إلى أسباب الشقاوة من نتائج قصر أيديهما عن قبول تلك السعادة. (جَزاءً بِما كَسَبا) الآن في عالم الصورة (نَكالاً مِنَ اللهِ) تقديرا منه في الأزل.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا

٥٩٠

وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))

القراآت : (لِلسُّحْتِ) بضمتين : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعلي. الباقون بسكون العين. واخشوني بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل (وَالْعَيْنَ) وما بعده بالرفع علي وافق أبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويزيد في (وَالْجُرُوحَ) بالرفع. (وَالْأُذُنَ) وبابه بسكون العين : نافع. (وَلْيَحْكُمْ) بالنصب : حمزة. الباقون بالجزم.

الوقوف : (قُلُوبُهُمْ) ج أي ومن الذين هادوا قوم سماعون ، وإن شئت عطفت (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا) ووقفت على (هادُوا) واستأنفت بقوله (سَمَّاعُونَ) راجعا إلى الفئتين ، والأول أجود لأن التحريف محكي عنهم وهو مختص باليهود (آخَرِينَ) لا لأن ما بعده صفة لهم. (لَمْ يَأْتُوكَ) ط (مَواضِعِهِ) ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف. (فَاحْذَرُوا) ط (شَيْئاً) ط (قُلُوبُهُمْ) ط (عَظِيمٌ) ه (لِلسُّحْتِ) ط لأن المشروط غير مخصوص بما يليه (أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ج (شَيْئاً) ط (بِالْقِسْطِ) ط (الْمُقْسِطِينَ) ه (ذلِكَ) ط لتناهي الاستفهام (بِالْمُؤْمِنِينَ) ه (وَنُورٌ) ج لاحتمال ما بعده

٥٩١

الحال والاستئناف (شُهَداءَ) ط لاختلاف النظم مع فاء التعقيب (قَلِيلاً) ط (الْكافِرُونَ) ه (بِالنَّفْسِ) ط لمن قرأ (وَالْعَيْنَ) وما بعده بالرفع (بِالسِّنِ) ط لمن قرأ (وَالْجُرُوحَ) بالرفع (قِصاصٌ) ط لابتداء الشرط (كَفَّارَةٌ لَهُ) ط (الظَّالِمُونَ) ه (مِنَ التَّوْراةِ) الأولى ص لطول الكلام (وَنُورٌ) ط لأن الحال بعده معطوف على محل الجملة قبله الواقعة حالا. (لِلْمُتَّقِينَ) ط لمن قرأ (وَلْيَحْكُمْ) بالنصب (فِيهِ) ط (الْفاسِقُونَ) ه.

التفسير : خاطب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) في مواضع ولم يخاطبه بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) إلا هاهنا وفي قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة : ٦٧] ولا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم شرف به في هذه السورة التي هي آخر السور نزولا حيث تحققت رسالته في الواقع. أما وجه النظم فهو أنه سبحانه لما بين بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم مسارعة بعض الناس إلى الكفر فلا جرم صبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تحمل ذلك ووعده أن ينصره عليهم ويكفيه شرهم. والمراد بمسارعتهم في الكفر تهافتهم فيه وحرصهم عليه حتى إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها. (آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) فيه تقديم وتأخير أي قالوا بأفواههم آمنا (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قابلون لما يفتعله أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه والطعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قولك : الملك يسمع كلام فلان أي يقبله (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي قابلون من الأحبار ومن الذين لم يصلوا إلى مجلسك من شدة البغضاء وإفراط العداوة ، ويحتمل أن يراد نفس السماع. واللام في (لِلْكَذِبِ) لام التعليل أي يسمعون كلامك لكي يكذبوا عليك (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) مبدلين ومغيرين سماعون لأجل قوم آخرين وجوههم عيونا وجواسيس (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي التي وضعها الله فيها من أمكنة الحل والحظر والفرض والندب وغير ذلك ، أو من وجوه الترتيب والنظم فيهملوها بغير مواضع بعد أن كانت ذات موضع (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) المحرّف المزال عن موضعه (فَخُذُوهُ) واعلموا أنه الحق واعملوا به (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) وأفتاكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلافه (فَاحْذَرُوا) فهو الباطل. عن البراء بن عازب قال : مرّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيهودي محمم مجلود فقال : هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا : نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال : لا ، ولو لا أنك نشدتني لم أخبرك. نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد فقلنا : تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه به فرجم فأنزل الله الآية إلى قوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا)

٥٩٢

يقولون ائتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فحذوا به ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. وفي رواية أخرى أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك وقالوا : إن أمركم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا ، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل عليه‌السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال : هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا. نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكما. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنشدك الله الذي لا إله إلّا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه ، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال : نعم. فوثب عليه سفلة اليهود فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون. وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده. قال العلماء القائلون برجم الثيب الذمي ومنهم الشافعي : إن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو المقصود ، وإن كان مما ثبت في شريعة موسى عليه‌السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخه ، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) حكمه باق في شرعنا. (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) ظاهر الآية أن المراد بالفتنة أنواع الكفر التي حكاها عن اليهود وغيرهم. والمعنى ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك. ثم أكد هذا بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل لآمن. والمعتزلة فسروا الفتنة بالعذاب كقوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] أو بالفضيحة أو بالإضلال أي تسميته ضالا ، أو المراد ومن يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ) ثوابا ولا نفعا. ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم ، أو يطهر قلوبهم من الحرج والغم والوحشة الدالة على كفره ، أو هو استعارة عن سقوط وقعه عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله. ثم وصف اليهود بقوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وهو الحرام وكل ما لا يحل كسبه من سحته وأسحته أي استأصله لأنه مسحوت البركة ، ومال مسحوت أي مذهب. قال

٥٩٣

الليث : السحت حرام يحصل منه العار وذلك أنه يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها. ورجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يلفى إلّا جائعا أبدا كأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام. والسحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستكساب في المعصية روي ذلك عن علي رضي‌الله‌عنه وعمر وعثمان وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد ، وزاد بعضهم ونقص بعضهم وكل ذلك يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون فيه عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة. قال الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت. وقيل : كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فكانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت. وقيل : سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة ، أكالون للربا لقوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) [النساء : ١٦١]. (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) خيره الله تعالى بين الحكم والإعراض. فقيل : إن هذا الخبر مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم. وقيل : إنه في أمر خاص وهو رجم المحصن قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري. وقيل : في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم كاملة وفي قريظة نصف دية ، فتحاكموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل الدية سواء. وعن النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم أن الآية عامة في كل ما جاء من الكفار ، وأن الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ. وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وهو مذهب الشافعي أن هذا التخيير منسوخ في حق غير المعاهدين بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩] فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم. وأهل الحجاز بعضهم لا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ويقولون : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية ، ثم إنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلّا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم وأبي الحكومة بينهم شق عليهم وعادوا فآمنه الله بقوله : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل والاحتياط كما حكمت في الرجم. (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) تعجيب من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحكيمهم لوجوه منها : عدولهم عن حكم كتابهم ، ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا ، ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد. والواو

٥٩٤

في قوله : (وَعِنْدَهُمُ) للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب. أما قوله : (فِيها حُكْمُ اللهِ) فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ خبره (عِنْدَهُمُ) وإما أن يرتفع خبرا عنها والتقدير وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله فيكون (عِنْدَهُمُ) متعلق بالخبر ، وإما أن لا يكون له محل ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كقولك : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره. وأنثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث. (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) عطف على (يُحَكِّمُونَكَ) و «ثم» لتراخي الرتبة أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم. (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا ، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون ، أو المراد أنهم غير كاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم.

ثم رغب اليهود في أن يكونوا كمتقدميهم من أنبيائهم ومسلمي أحبارهم فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) ونور العطف يقتضي التغاير فقيل : الهدى بيان الأحكام والشرائع والنور بيان التوحيد والنبوة والمعاد. وقال الزجاج : الهدى بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه ، والنور بيان أن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق. وقيل : فيها هدى يهدي للحق والعدل ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام ، فهما عبارتان عن معبر واحد ، وقد يستدل بالآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا لأن الهدى والنور لا بد أن يكون أحدهما يتعلق بالفروع والآخر بالأصول وإلا كان تكرارا. وأيضا إنها نزلت في الرجم ومورد الآية لا بد أن يكون داخلا فيها سواء قلنا إن غيره داخل أو خارج. ويمكن أن يجاب بأن التكرار بعبارتين غير محذور أو بأن في الكلام تقديما وتأخيرا والمراد فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. أما قوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) فأورد عليه أن كل نبي مسلم فما الفائدة في هذا الوصف؟ وأجيب بأنها صفة جارية على سبيل المدح لا التوضيح والكشف ، وفيه تعريض باليهود أنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء قديما وحديثا لأن غرض الأنبياء الانقياد لتكاليف الله وغرضكم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشا من العوام ، فالفريقان متباينان ولهذا أردفه بقوله : (لِلَّذِينَ هادُوا) أي يحكمون لأجلهم. قال في الكشاف : قوله تعالى : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام. قلت : هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين. ولقائل أن يقول : بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص؟ وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : المراد بالنبيين هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] لأنه اجتمع فيه من الخصال ما كانت مفرقة في الأنبياء : وقيل : أسلموا أي انقادوا لحكم التوراة. فمن الأنبياء من لم تكن

٥٩٥

شريعتهم شريعة موسى. والربانيون قد مر تفسيره في آل عمران. والأحبار عن ابن عباس هم الفقهاء ، الواحد حبر بالفتح من قولهم : فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلا حسن الهيئة ، أو حبر بالكسر من ذلك أيضا لقولهم : حسن الحبر بالكسر أيضا. وفي الحديث : «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره» أي جماله وبهاؤه. وتحبير الخط والشعر تحسينه أو من هذا الحبر الذي يكتب به لكون العالم صاحب كتب. قاله الفراء والكسائي وأبو عبيدة. ثم إن ذكر الربانيين بعد النبيين يدل على أنهم أعلى حالا من الأحبار فيشبه أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء. وقوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) إما أن يكون من صلة (يَحْكُمُ) أي يحكم بها الربانيون والأحبار بسبب ما استحفظوا ، أو يكون من صلة الأحبار أي العلماء بما استحفظوا بما سألهم أنبياؤهم حفظه. و «من» في (مِنْ كِتابِ اللهِ) للتبيين. وقد أخذ الله تعالى على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين : أحدهما أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم ، والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. وكانوا أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار عليه على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله شهداء رقباء لئلا يبدل ، ويحتمل أن يعود ضمير (اسْتُحْفِظُوا) إلى النبيين وغيرهم جميعا. والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء. ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) وعن التغيير لرغبة فقال : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) وهو الرشوة وابتغاء الجاه. ثم عمم الحكم فقال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) احتجت الخوارج بالآية على أن كل من عصى الله فهو كافر. وللمفسرين في جوابهم وجوه : الأول أنها مختصة باليهود وردّ بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولا ريب أن لفظ «من» في معرض الشرط للعموم فلا وجه لتقدير ومن لم يحكم من هؤلاء المذكورين الذين هم اليهود لأنه زيادة في النص. وقال عطاء : هو كفر دون كفر. وقال طاوس : ليس بكفر الملة ولا كمن يكفر بالله واليوم الآخر. فلعلهما أرادا كفران النعمة ، وضعف بأن الكافر إذا أطلق يراد به الكافر في الدين. وقال ابن الأنباري : المراد أنه يضاهي الكافر لأنه فعل فعلا مثل فعل الكافر وزيف بأنه عدول عن الظاهر. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل فيخرج الفاسق لأنه في الاعتقاد والإقرار موافق وإن كان في العمل مخالفا. واعترض بأن سبب النزول يخرج حينئذ لأنه نزل في مخالفة اليهود في الرجم فقط ، ويمكن أن يقال : المحرّف داخل في الكل. وقال عكرمة : إنما تتناول الآية من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما العارف المقر إذا أخل بالعمل فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك فلا تتناوله الآية.

ثم إنه سبحانه لما بيّن أن حكم الزاني المحصن في التوراة هو الرجم واليهود غيروه

٥٩٦

أراد أن يبين أن نص التوراة هو قتل النفس بالنفس وأنهم بدّلوه حيث فضلوا بني النضير على بني قريظة فقال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) من قرأ المعطوفات كلها بالنصب فظاهر ، ومن قرأ ما سوى الأوّل بالرفع فللعطف على محل النفس إذ المعنى وكتبنا عليهم في التوراة النفس بالنفس إما لإجراء (كَتَبْنا) مجرى «قلنا» وإما بطريق الحكاية كقولك : كتبت الحمد لله وقرأت سورة «إن أنزلناه». وإما على سبيل الاستئناف والمعنى على جميع التقادير. فرضنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس إذا قتلتها بغير حق ، والعين مفقوأة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، والجروح ذات قصاص أي مقاصة. وهذا تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل والمراد منه كل ما يمكن المساواة فيه من الأطراف كالذكر والأنثيين والإليتين والقدمين واليدين ، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلا وهي التي توضح العظم وتبدي وضحه وهو الضوء والبياض ، وكذا منافع الأعضاء والأطراف كالسمع والبصر والبطش. فأما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم أو كسر في عظم أو خدش وإدماء في جلد ففي ذلك أرش أو حكومة وتفاصيلها في كتب الفقه. (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) الضمير في (بِهِ) يعود إلى القصاص وفي (فَهُوَ) إلى التصدق الدال عليه الفعل. وفي (لَهُ) وجهان : أحدهما أنه يعود إلى العافي المتصدق لما روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه» (١) وعن عبد الله بن عمرو «يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به» والثاني أنه يعود إلى الجاني المعفو عنه أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو ، وأما العافي فأجره على الله تعالى (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي على آثار النبيين (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي عقبناهم به ، فتعديته إلى المفعول الثاني بالباء. وقوله : (عَلى آثارِهِمْ) يسدّ مسد الأول لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مقرا بأن التوراة كتاب منزل من عند الله تعالى وأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود ناسخه وهو الإنجيل المصدق أيضا لكونه مبشرا بمبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالتوراة. وأما النور فبيان الأحكام الشرعية وتفاصيل التكاليف ، والهدى الأول أصول الديانات كالتوحيد والنبوات والمعاد ، والهدى الثاني اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ذلك سبب اهتداء الناس إلى نبوته ، واشتمال الإنجيل على المواعظ والنصائح والزواجر ظاهر وخص الجميع بالمتقين لأنهم هم المنتفعون بذلك. ومن قرأ (وَلْيَحْكُمْ) بالجزم فإما إخبار عما قيل لهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل أي قلنا لهم ليحكموا بما فيه ، وإما أمر مستأنف للنصارى بالحكم

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٥ / ٢٣٠).

٥٩٧

بما فيه كتابهم من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو مما لم يصر منسوخا بالقرآن. ومن قرأ بالنصب فلأنه علة فعل محذوف يدل عليه ما تقدمه أي ولأجل حكمهم بما فيه آتيناهم كتابهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون هدى وموعظة أيضا غرضين معطوفين للحكم والله أعلم. أما قوله : (الْكافِرُونَ الظَّالِمُونَ الْفاسِقُونَ) فللمفسرين فيه خلاف. قال القفال : هو كقولك من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو المتقي ، لأن كل ذلك أوصاف مختلفة حاصلة لموصوف واحد ، فهذه كلها نزلت في الكفار. وقال آخرون : الأول في الجاحد ، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود ، والثالث في النصارى.

التأويل : سماعون لكذبات الشيطان في وساوسه والنفس في هواجسها (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) يسنون السنة السيئة لغيرهم (يُحَرِّفُونَ) يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة وهذه حال مؤوّلي القرآن والأحاديث على وفق أهوائهم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) لأن الأخلاق الردية أورثتهم الأعمال الدنية. فالأخلاق نتائج الأعمال والأعمال نتائج الأخلاق وكلها من نتائج الاستعداد الفطري (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم أو أعرض عنهم إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) داوهم على ما يستحقون من دائهم (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) الفرق بين بني إسرائيل وبين هذه الأمة أنهم استحفظوا التوراة فضيعوها وحرفوها ، وقال في حقنا : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ) كما أن في إهلاك النفس هلاك نفس المهلك ففي إحياء نفس الطالب بحياة الدين حياة نفس محييها ، وفي معالجة عين قلبه وأنف قلبه وأذن قلبه وسن قلبه معالجة هذه الأعضاء بمزيد الإدراك. (فَمَنْ تَصَدَّقَ) بهذا الإحياء (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) فيما فرط من إحياء نفسه ومعالجة قلبه طرفة عين. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) على نفسه (بِما أَنْزَلَ اللهُ) في تزكيتها وتحليتها فأولئك الذين ظلموا أنفسهم بوضع الحظوظ مقام الحقوق والله أعلم.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً

٥٩٨

مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨))

القراآت : تبغون بتاء الخطاب : ابن عامر والخراز عن هبيرة. الباقون بالياء. (وَيَقُولُ) بالواو وبالرفع : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب بالنصب. عياش : مخير. الباقون (يَقُولُ) بدون واو العطف. (مَنْ يَرْتَدَّ) بالإظهار : أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالإدغام. (وَالْكُفَّارَ) بالجر : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي. الباقون بالنصب عطفا على محل. (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) وقرأ أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه وابن رستم الطبري عن نصير طريق ابن مهران بالإمالة.

الوقوف : (بِالْحَقِ) ط (وَمِنْهاجاً) ط (الْخَيْراتِ) ط (تَخْتَلِفُونَ) ه لا لعطف (وَأَنِ احْكُمْ) على ما قبله. ومن وقف فلأنه رأس آية. (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) ط (ذُنُوبِهِمْ) ط (لَفاسِقُونَ) ه (يَبْغُونَ) ط (يُوقِنُونَ) ه (أَوْلِياءَ) ه ليلزم النهي عن اتخاذ الأولياء مطلقا. (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ط (مِنْهُمْ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (دائِرَةٌ) ط لتمام المقول. (نادِمِينَ) ه لا لمن قرأ (وَيَقُولُ) بالنصب عطفا على (أَنْ يَأْتِيَ). (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) لا لأن قوله : (إِنَّهُمْ) جواب القسم. (لَمَعَكُمْ) ط (خاسِرِينَ) ه (وَيُحِبُّونَهُ) لا لأن ما بعده صفة قوم (الْكافِرِينَ) ه لشبه الآية. (لائِمٍ) ط (مَنْ يَشاءُ) ط (عَلِيمٌ) ه (راكِعُونَ) ه (الْغالِبُونَ) ه (أَوْلِياءَ) ج للعطف ولطول الكلام. (مُؤْمِنِينَ وَلَعِباً) ط (لا يَعْقِلُونَ) ه.

٥٩٩

التفسير : منّ الله تعالى على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال القرآن إليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب أي جنسه وهو كل كتاب سوى القرآن نازل من السماء. وفي المهيمن قولان : قال الخليل وأبو عبيدة : هيمن على الشيء يهيمن إذا كان رقيبا على الشيء وشاهدا ومصدقا. وقال الجوهري : أصله أأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء لكراهة اجتماع الهمزتين ، ثم الأولى هاء كما في هرقت وهياك. والمعنى إنه أمين على الكتب التي قبله لأنه لا ينسخ البتة ولا يحرف لقوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ومن هنا قرىء : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) فتح الميم أي هو من عليه بأن حوفظ من التغيير والتبديل ، والذي هيمن عليه عزوجل كما قلنا ، أو الحفاظ في كل بلد والقراء المشهود لهم بالإجادة (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) بين اليهود بالقرآن (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) منحرفا (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) أو ضمن لا تتبع معنى لا تحزن. قيل : لو لا جواز المعصية على الأنبياء لم يجز هذا النهي. والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي. أو الخطاب له والمراد غيره (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) أيها الناس أو الأمم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدم ذكر الثلاث (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) قال ابن السكيت : الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وملحته. وقيل : إنه من الشروع في الشيء الدخول فيه ، والشرعة مصدر للهيئة بمعنى الشريعة «فعلة» بمعنى «مفعولة» وهي الأمور التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها والمنهاج الطريق الواضح وهما عبارتان عن معبر واحد هو الدين والتكرير للتأكيد. ويحتمل أن يقال : الشريعة عامة والمنهاج مكارم الشريعة ، فالأولى أقدم وهذه تتلوها وهي الطريقة. وقال المبرد : الشريعة ابتداء الطريق والطريقة المنهاج المستمر. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا خلاف فيه. وفيه دليل على أن الكل بمشيئة الله تعالى. والمعتزلة حملوه على مشيئة الإلجاء (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) أي جعلكم مختلفين متخالفين ليعاملكم معاملة المختبر هل تعملون بالنواميس الإلهية وتذعنون للعقائد الحقة أم تقصرون في العمل وتتبعون الشبه ولذلك قال (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) سارعوا إليها وتسابقوا نحوها. ويعني بالخيرات هاهنا ما هو الحق من الاعتقادات والمحقق من التكاليف. ثم علّل الاستئناف بقوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ) فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعام والمقصر. والمراد أن الأمر سيؤل إلى ما يحصل معه اليقين من مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (وَأَنِ احْكُمْ) قيل معطوف على (الْكِتابَ) أي وأنزلنا إليك أن احكم على أن «أن» المصدرية وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال ، أو على قوله : (بِالْحَقِ) أي أنزلناه بالحق وبأن احكم. وأقول : يحتمل أن تكون «أن» مفسرة وفعل الأمر محذوف أي وأمرناك أن احكم. وتكرار الأمر بالحكم إما للتأكيد

٦٠٠