تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الأنباء إلى النبي بواسطة جبريل بحيث تخفى على غيره سماه وحيا (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم ، وترك نفي استماع الأنباء حفظتها وهو موهوم لأنه كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة الممتنعة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، ومثله في القرآن غير عزيز (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) [القصص : ٤٦] (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) ينظرون أو ليعلموا أو يقولون (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) حذف متعلق الاستفهام لدلالة الإلقاء عليه. وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون الأقلام في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب ، وليس فيها دلالة على كيفية ذلك الإلقاء إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له. ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا فصار أولى بكفالتها. وقيل : عرف برسوب الأقلام وارتفاعها كما مر. وعن الربيع أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري فجرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم. وقال أبو مسلم : المراد بإلقاء الأقلام ما كانت تفعله الأمم من المساهمة عند التنازع ، فيطرحون سهاما يكتبون عليها أسماءهم. فمن خرج له السهم سلم له الأمر. قال تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١] وهو شبيه بالقداح التي يتقاسم بها العرب لحم الجزور. وإنما سميت تلك السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى. قال القاضي : وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحا نظرا إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف الظاهر يوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل اللفظ عليه. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يتنازعون على التكفل. قيل : هم خزنة البيت. وقيل : بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي. ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في طريق الخير. ثم المراد بهذا الاختصام يحتمل أن يكون ما كان قبل الاقتراع وأن يكون اختصاما آخر حصل بعد الاقتراع. وبالجملة فالمقصود شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهامها ، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا قضاء حقوقه ، وإما لأجل الدين حيث كانت محررة لخدمة بيت العبادة وإما لأنهم وجدوا في الكتب الإلهية أن لها ولابنها شأنا.

القصة الرابعة حكاية ولادة عيسى وذكر طرف من معجزاته (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) يعني جبريل كما مر. ومتعلق «إذ» هو متعلق و (إِذْ قالَتِ) لأن هذا بدل من ذاك ، ويجوز أن يكون بدلا من قوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ). قال في الكشاف : هذا على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول : لقيته سنة كذا يعني وإنما لقيته في ساعة منها. فيكون الزمان الواسع

١٦١

زمانا لكل منهما ، فيكون الثاني بدل الكل من الأول. ويجوز أن يتعلق ب (يَخْتَصِمُونَ) ولا يحتاج إلى زمان واسع بناء على ما روي عن الحسن أنها كانت عاقلة في حال الصغر ، وأن ذلك كان من كراماتها ، فجاز أن ترد عليها البشرى في حالة الصغر ولا يفتقر إلى أن يؤخر إلى حين العقل. واعلم أن حدوث الشخص من غير نطفة الأب أمر ممكن في نفسه ، وكيف لا وقد يشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر ، والحيات عن الشعر العفن ، والعقارب عن الباذروج غايته الاستبعاد عرفا وعادة وهذا لا يوجب عند الحكماء ظنا قويا فضلا عن العلم. ثم إن الصادق أخبر عن وجود ذلك الممكن فيجب القطع بصحته. ومما يزيده في العقل بيانا أن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث. كتصور حضور المنافي للغضب ، وكتصور السقوط لحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلاف ما لو كان على قرار من الأرض. وقد جعلت الفلاسفة هذا كأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات. فما المانع أن يقال إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها ، فإن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد ، فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد. قوله : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) لفظة «من» هاهنا ليست للتبعيض كما توهمت النصارى والحلولية لأنه تعالى غير متبعض بوجه من الوجوه ، ولكنها لابتداء الغاية أي بكلمة حاصلة من الله. وذلك أن عيسى لما خلق من غير واسطة أب صار تأثير كلمة «كن» في حقه أظهر وأكمل فكان كأنه نفس الكلمة ، كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال إنه محض الجود ونفس الكرم وصريح الإقبال. والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق. وأصله «مشيحا» بالعبرانية ومعناه المبارك (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [مريم : ٣١] وكذلك عيسى معرب «إيشوع». أما احتمال اشتقاق عيسى من العيس البياض الذي تعلوه حمرة فبعيد ، وأما احتمال المسيح من المسح فقريب وعليه الأكثرون. عن ابن عباس : سمي بذلك لأنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا يبرأ. وقال أحمد بن يحيى : لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها. وعلى هذا فيجوز أن يقال له مسيح بالتشديد كشريب. وقيل : لأنه مسح من الأوزار والآثام. وقيل : لأنه لم يكن في قدمه خمص وكان ممسوح القدمين. وقيل : لأنه ممسوح بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم. قالوا : ويجوز أن يكون هذا الدهن جعله الله علامة للملائكة يعرفون بها الأنبياء حين يولدون. وقيل : لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت ولادته صيانة له عن مس الشيطان. وقيل : لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وأما المسيح الدجال فسمي بذلك لأنه مسح إحدى عينيه ، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة. قالوا : ومثله الدجال دجل في الأرض أي قطعها. وقيل : الدجال من دجل الرجل إذا موّه ولبس.

١٦٢

وتقديم المسيح ـ وهو اللقب ـ على الاسم ـ وهو عيسى ـ للتشريف والتنبيه على علو درجته. وإنما نسب إلى مريم والخطاب لمريم تنبيها على أنه لا أب له حتى ينسب إليه كما في سائر الأبناء فلا ينسب إلا إلى أمه. وذلك من جملة ما اصطفيت به. وإنما ذكر ضمير الكلمة في اسمه لأنه المسمى بها مذكر. وإنما قيل : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) والاسم من المجموع عيسى والمسيح لقب والابن صفة ، لأن المراد التعريف والتمييز والذي يتميز به عن غيره هو مجموع الثلاثة. (وَجِيهاً) ذا الجاه والشرف والقدر. وقيل : الكريم لأن أشرف أعضاء الإنسان هو الوجه (فِي الدُّنْيا) بالنبوة والمعجزات الباهرة وبالبراءة عن العيوب (وَالْآخِرَةِ) بشفاعة الأمة المحقين وعلو الدرجة في الجنة. ونصبه على الحال من النكرة الموصوفة وهي كلمة. وكذا انتصاب ما بعده كما مر في الوقوف أي يبشرك به موصوفا بهذه الصفات. وكونه من المقربين هو رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة. و (الْمَهْدِ) قيل : حجر أمه. وقيل : الآلة المعروفة لإضجاع الصبي. وكيف كان فالمراد أنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد (وَكَهْلاً) عطف على الظرف أي يكلم الناس في الصغر وفي الكهولة. والكهل في اللغة الذي اجتمع قوته وكمل شبابه من قولهم : «اكتهل النبات» أي قوي. روي أن عمره بلغ ثلاثا وثلاثين ثم رفع إلى السماء. ولا ريب أن أكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين والأربعين ، فيكون عيسى قد بلغ سن الكهولة. وعن الحسين بن الفضل : المراد أن يكون كهلا بعد نزوله من السماء وأنه حينئذ يكلم الناس ويقتل الدجال. فإن قيل : إن تكلمه في المهد من المعجزات ، ولكن تكلمه في حالة الكهولة ليس من المعجزات ، فما الفائدة في ذكره؟ فالجواب من وجوه. قال أبو مسلم : معناه أنه يتكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة ، ولا شك أنه غاية في الإعجاز. وقيل : المراد الرد على نصارى نجران وبيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة ؛ فإن التغير على الإله محال. وقيل : المراد أنه يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة. وقال الأصم : المراد أنه يبلغ حال الكهولة. ويخرج من قول الحسين بن الفضل جواب آخر. وهاهنا بحث للنصارى قالوا : إن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن مثل هذه الواقعة يكون بمحضر جمع عظيم وتتوفر الدواعي على نقلها فيبلغ حد التواتر. فلو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى لأنهم أفرطوا في محبته حتى ادّعوا إلهيته ، لكنهم أطبقوا على إنكاره فعلمنا أنها لم توجد أصلا. والجواب أن إطباق النصارى على إنكاره ممنوع. ولو سلم فإن كلام عيسى في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم مما

١٦٣

نسب إليها من السوء وكان الحاضرون حينئذ جمعا قليلا ولا يبعد في مثلهم التواطؤ على الإخفاء. وبتقدير أن يذكروا ذلك فإن غيرهم كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت. فهم أيضا قد سكتوا لهذه العلة. فلهذه الأسباب بقي الأمر مكتوما إلى أن نطق القرآن بذلك. ثم ختم أوصاف عيسى بقوله : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) كما ختم بذلك أوصاف يحيى. وفيه أن الدخول في زمرة الصالحين والانتظام في سلكهم هو المقصد الأسنى والأمر الأقصى. (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) لم تقل ذلك استبعادا وتشككا وإنما أرادت تعيين الجهة كما مر في قصة زكريا فأجيبت بقوله : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وقد سبق نظيره إلا أنه عبر عن الفعل هاهنا بالخلق لأن القدرة هاهنا أتم وهو تخليق المولود بغير أب ولهذا أكده بقوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقد تقدم تفسيره في السورة التي تذكر فيها البقرة (وَيُعَلِّمُهُ) بالياء عطف على (يُبَشِّرُكِ) أو على (وَجِيهاً) أو على (يَخْلُقُ) لأن قوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وهو عام يتضمن قوله : «يخلقه» ، ويحتمل أن يكون كلاما مبتدأ. وكذا من قرأ بالنون لأن المذكورات في قوة (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) ونحن نخلقه. ثم الذي علمه أمور أربعة : أولها الكتاب وكان المراد به الخط. وثانيها الحكمة وهو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به. وثالثها التوراة لأن البحث عن أسرار الكتب الإلهية لا يمكن إلا بعد الاطلاع على العلوم الخمسة. ورابعها الإنجيل وفيه العلوم التي خصه الله تعالى بها وشرفه بإنزالها عليه. وهذه هي الغاية القصوى والرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالحقائق والاطلاع على الدقائق. ثم قال : (وَرَسُولاً) عطفا على (وَجِيهاً) وما بعده. (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي إلى كلهم لأنه جمع مضاف. وفيه رد على اليهود القائلين بأنه مبعوث إلى قوم مخصوصين منهم (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) يتعلق بمحذوف يدل عليه لفظ الرسول أي ناطقا بأني قد جئتكم. وإنما وجب هذا الإضمار للعدول عن الغيبة إلى التكلم. وأما قوله : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) فمعطوف على قوله : (بِآيَةٍ) أي مع آية والتقدير : جئتكم مصاحبا لآية من ربكم ومصدقا لما بين يديّ ، وجئتكم (لِأُحِلَّ لَكُمْ) وفي الكشاف تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ومصدقا لما بين يدي. أو الرسول والمصدق فيهما معنى النطق فكأنه قيل : وناطقا بأني قد جئتكم ، وناطقا بأني أصدق ما بين يديّ. وعن الزجاج : إن التقدير ويكلم الناس رسولا بأني قد جئتكم بآية من ربكم. والمراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه عدد أنواعا من الآيات ، ثم أبدل على الآية قوله : (أَنِّي أَخْلُقُ) فيمن قرأ بفتح (أَنِّي) ويحتمل أن يكون «أن» مع ما بعده مرفوعا أي هي أني أخلق. ومن قرأ (أَنِّي أَخْلُقُ) فللاستئناف أو للبيان كقوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل

١٦٤

عمران : ٥٩] ثم فسر المثل بقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] وهذا أحسن ليوافق قراءة الفتح. والمعنى أقدّر لكم شيئا مثل صورة الطير من هيئات الشيء أصلحته. (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في ذلك الطير المصور أو الشيء المماثل لهيئة الطير (فَيَكُونُ طَيْراً) وهو اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع. يروى أنه خلق أنواعا من الطير. وقيل : لم يخلق غير الخفاش وعليه قراءة من قرأ طائرا وذلك أنه لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتفننون عليه وطالبوه بخلق خفاش ، فأخذ طينا وصوّره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض. قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن عيونهم سقط ميتا بإذن الله. وبتكوينه وتخليقه قال بعض المتكلمين : دلت الآية على أن الروح جسم رقيق كالريح ولذلك وصفها بالنفح. وهاهنا بحث وهو أنه هل يجوز أن يقال إنه تعالى أودع في نفس عيسى خاصية بحيث إنه متى نفخ في شيء كان نفخه موجبا لصيرورة ذلك الشيء حيا ، وذلك أنه تولد من نفخ جبريل في مريم روح محض ، فكانت نفخة عيسى سببا لحصول الأرواح في الأجساد؟ أو يقال : ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه‌السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات؟ وهذا هو الحق لقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] ولقوله حكاية عن إبراهيم في المناظرة (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فلو حصل لغيره هذه الصفة بطل ذلك الاستدلال (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي يولد أعمى. وقيل : هو الممسوح العين. ويقال : لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وقيل : الأكمه من عمي بعد أن كان بصيرا ، رواه الخليل. وعن مجاهد أنه الذي لا يبصر بالليل. وأما البرص فإنه بياض يظهر في ظاهر البدن ، وقد لا يعم البدن. وسببه سوء مزاج العضو إلى البرودة وغلبة البلغم على الدم الذي يغذوه ، فتضعف القوة المغيرة عن تمام التشبيه. وقد يغلب البرد والرطوبة حتى يصير لحمه كلحم الأصداف فيحيل الدم الصائر إليه إلى مزاجه ولونه. وإن كان ذلك الدم جيدا في جوهره نقيا من البلغم حارا هو داء عياء عسر البرء لا يكاد يبرأ ـ وخاصة المزمن ـ منه. والآخذ في الازدياد والذي يرجى برؤه من البرص ما إذا دلك احمرّ بالدلك ويكون معه خشونة ما. والشعر الذي ينبت عليه لا يكون شديد البياض ، وإذا أخذ جلده بالإبهام والسبابة وأشيل عن اللحم وغرزت فيه الإبرة خرج منه دم أو رطوبة مورّدة ، ولا شك إن إبراءه مثل هذه المرض من قبيل الإعجاز. يروى : ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتا عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده (وَأُحْيِ الْمَوْتى) أحيا عاذرا وكان صديقا له ، ودعا

١٦٥

سام بن نوح من قبره وهم ينظرون فخرج حيا ، ومر على ابن ميت لعجوز فدعا الله عيسى فنزل عن سريره حيا ورجع إلى أهله وبقي وولد له. قال الكلبي : كان عيسى عليه‌السلام يحيي الموتى ب «يا حي يا قيوم» وكرر قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) رفعا لوهم من توهم فيه الألوهية (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) قيل : إنه كان من أول أمره يخبر بالغيوب. روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم كان عليه‌السلام يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم. كان عليه‌السلام يخبرهم بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء. فقالوا لصبيانهم : لا تلعبوا مع الساحر وجمعوهم في بيت. فجاء عيسى عليه‌السلام يطلبهم فقالوا : ليسوا في البيت. فقال عليه‌السلام : فمن في هذا البيت؟ فقالوا : خنازير. فقال عيسى عليه‌السلام : كذلك يكونون فإذا هم خنازير. وقيل : إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر من وقت نزول المائدة. وذلك أن القوم نهوا عن الادّخار فكانوا يخونون ويدخرون وكان عيسى يخبرهم بذلك. والادخار افتعال من اذتخر قلت كل من التاء والذال «دالا» ثم أدغم. واعلم أن الإخبار عما غاب معجز دال على أن ذلك الخبر صار معلوما بالوحي ما لم يستعن فيه بآلة ولا تقديم مسألة بخلاف ما يقوله المنجمون والكهان فإن ذلك استعانة من أحوال الكواكب أو الجن ، ولهذا يتفق لهم الغلط كثيرا. ثم إنه لما قرر المعجزات الباهرة وبين بها كونه رسولا من عند الله ذكر أنه لما ذا أرسل فقال : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) وذلك أنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقا لمن تقدمه من الأنبياء لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجز ، فكل من حصل على يده المعجز وجب الاعتراف بنبوته. ولعل من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه‌السلام تقرير أحكام التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات المعاندين الجاهلين. ثم ذكر غرضا آخر في بعثته فقال : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وهذا لا يناقض تصديقه لما في التوراة إذ المعنى بالتصديق هو اعتقاد أن كل ما فيه حكمة وصواب ، وإذا لم يكن التأبيد مذكورا فالناسخ والمنسوخ كلاهما حق في وقته ، وإذا كانت البشارة بعيسى موجودة في التوراة فمجيء عيسى يكون تصديقا لما في التوراة. وعن وهب بن منبه أن عيسى ما غير شيئا من أحكام التوراة وأنه ما وضع الأحد بل كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس. ثم فسر الإحلال بأمرين : أحدهما أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى فجاء عيسى ورفعها وأعاد الأمر إلى ما كان. والثاني أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم كما قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] واستمر ذلك التحريم فجاء عيسى ورفع تلك

١٦٦

التشديدات عنهم. كانوا قد حرم عليهم الشحوم والثروب ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر ، فأحل لهم عيسى من السمك والطير ما لا صيصية له. (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) لأن جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه. وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) اعتراض وإنما جعل القول آية من ربه لأن الله تعالى جعله له علامة يعرف بها أنه رسول كسائر الرسل. ويجوز أن يكون تكريرا لقوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من المعجزات ومن ولادتي بغير أب. (فَاتَّقُوا اللهَ) لما جئتكم به من الآيات (وَأَطِيعُونِ) فإن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله. ثم ختم كلامه بقوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) إظهارا للخضوع واعترافا بالعبودية وردا لما يدعيه عليه الجهلة من النصارى الضالين المنحرفين عن الصراط المستقيم.

القصة الخامسة ذكر عاقبة أمر عيسى ثم شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات فهم بماذا عاملوه فقال : (فَلَمَّا أَحَسَ) أي علم (عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ، أو أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك بأذنه. قال السدي : لما بعثه الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم ، وكان أمر عيسى في قومه كأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وكان مستضعفا فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه نزل على رجل في قرية فأحسن ذلك الرجل ضيافته. وكان في تلك المدينة رجل جبار فجاء ذلك الرجل يوما نطعمه ونسقيه مع جنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر عليّ. فلما سمعت مريم ذلك قالت : يا ولدي ادع الله ليكفي ذلك. فقال عليه‌السلام : يا أمي إني إن فعلت ذلك كان فيه شر. فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه. فقال عيسى عليه‌السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ثم أعلمني. فلما فعل دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخا ، وما في الخوابي خمرا. فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذه الخمر؟ فتوقف الرجل في الجواب وتعلل ، فلم يزل يطالبه حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الله حتى جعل الماء خمرا إذا دعاه حتى يحيي ولدي أجابه ـ وكان ابنه قد مات في تلك الأيام ـ فدعا عيسى عليه‌السلام وطلب منه ذلك فقال له عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش كان شرا عليه ـ فقال : ما أبالي ما كان فدعا الله فعاش الغلام لكلام عيسى عليه‌السلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه‌السلام مشهورا وقصد اليهود قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأظهروا الطعن فيه.

١٦٧

وقيل : إن اليهود كانوا عارفين أنه هو المسيح المبشر به في التوراة أنه ينسخ دينهم فكانوا طاعنين فيه من أول الأمر طالبين قتله (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) قيل : إنه لما دعا عليه‌السلام بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه عليه‌السلام فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بطائفة صيادي السمك ـ منهم شمعون ويعقوب من جملة الحواريين الاثني عشر ـ فقال عيسى عليه‌السلام : إنكم تصيدون السمك فهل لكم أن تسيروا بحيث تصيدون الناس لحياة الأبد؟ فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئا فأمره عيسى عليه‌السلام بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى. وقيل : إن اليهود لما طلبوه في آخر أمره للقتل وكان هو في الهرب منهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم. ومما يذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى ، سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه فقال له عيسى : حسبك ثم أدنى عليه‌السلام أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت. والحاصل أن المراد بطلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه عليه‌السلام. وقيل : إنه دعاهم إلى القتال مع القوم كما قال في موضع آخر (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤] ومعنى (إِلَى اللهِ) قيل : من يضيف نصرته إياي إلى نصر الله عزوجل إياي؟ وقيل : من أنصاري إلى أن أظهر دين الله. فالجار على القولين من صلة (أَنْصارِي) مضمنا معنى الإضافة. وقيل : من أنصاري حال ذهابي إلى الله؟ أو حال التجائي إليه؟ وقيل : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إلى رحمته؟ وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا ضحى : اللهم منك وإليك أي تقربا إليك. فالجار على هذين القولين يتعلق بالمحذوف. وقيل : «إلى» بمعنى اللام. وقيل : بمعنى «في» أي في سبيل الله. وهذا قول الحسن. (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أعوان دينه ورسوله. وحواري الرجل صفيه وخالصته ومنه يقال للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونقاء بشرتهن. والحور نقاء بياض العين ، وحوّرت الثياب بيضتها ، والحواريّ واحد ونظيره الحوالي وهو الكثير الحيلة.

عن سعيد بن جبير : سموا بذلك لبياض ثيابهم. وعن مقاتل بن سليمان لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب. وقيل : لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم ومنه قولهم «فلان نقيّ الجيب طاهر الذيل» للكريم و «دنس الثياب» للئيم. وعن الضحاك : الذي يغسل الثياب

١٦٨

يسمى بلغة النبط هواري فعرّب. وأما أن الحواريين من هم فقيل : هم الذين يصطادون السمك فاتبعوا عيسى وآمنوا كما حكينا. وقيل : إن أمه دفعته إلى صبّاغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا كان هو أعلم به منه فغاب الصبّاغ يوما لبعض مهماته فقال : هاهنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان. فطبخ عيسى عليه‌السلام حبا واحدا وجعل الجميع فيه. وقال : كوني بإذن الله كما أريد. فرجع الصباغ وسأله فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت عليّ الثياب قال : قم فانظر. فكان يخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر كما يريد. فتعجب الحاضرون منه وآمنوا فهم الحواريون. وقيل : كانوا اثني عشر اتبعوا عيسى وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا سقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. قال : فصاروا يغسلون الثياب فسموا حواريين. وقيل : إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه‌السلام على قصعة. فكانت القصعة لا تنقص. فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال : تعرفونه؟ قالوا : نعم. فذهبوا إليه بعيسى فقال : من أنت؟ قال : عيسى ابن مريم. قال : فإني أترك ملكي فأتبعك. فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هو الحواريون. قال القفال : يجوز أن يكون بعضهم من الملوك وبعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين ، وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى والمخلصين في محبته وطاعته. (آمَنَّا بِاللهِ) يجري مجرى السبب لقولهم : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه. أو هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء عليهم‌السلام ، وإنما طلبوا شهادته لأن الرسل يشهدون للأمم يوم القيامة. ثم تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين. فقال ابن عباس : أي مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته لأنهم مخصوصون بأداء الشهادة (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] وعنه أيضا اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] وقيل : اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق فقرنت ذكرهم بذكرك في قولك : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨] وقيل : اجعلنا ممن هو مستغرق في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من

١٦٩

نصرة رسولك ، أو اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] (وَمَكَرُوا) يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر (وَمَكَرَ اللهُ) المكر في اللغة السعي في خفية ومداجاة. قال الزجاج : يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم. وقيل : أصله من إجماع الأمر وإحكامه ، ومنه امرأة ممكورة مجتمعة الخلق. فلما كان المكرر رأيا محكما قويا مصونا عن جهات النقض والفتور لا جرم سمي مكرا. أما مكرهم بعيسى عليه‌السلام فهو أنهم هموا بقتله ، وأما مكر الله بهم فهو أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال السوء إليه. روي أن ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه‌السلام وكان جبريل لا يفارقه ساعة ، فأمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة. فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره ممن وكل به ليقتله غيلة فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق : فرقة قالت : كان الله فينا فذهب. وأخرى قالت : كان ابن الله. وأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله. وقيل : إن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحد منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى عليه‌السلام. وذكر محمد بن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى فشمسوهم ولقوا منهم الجهد. فسمع بذلك ملك الروم. وكان ملك اليهود من رعيته فقيل : إنه قتل رجلا من بني إسرائيل ممن يحب أمرك ، وكان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل ما فعل فقال : لو علمت ذلك ما خليت بينه وبينهم. ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه‌السلام فأخبروه ، فتابعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم. وكان اسم هذا الملك «طباريس» ، وهو صار نصرانيا إلا أنه ما أظهر ذلك. ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له «ملطيس» وغزا بيت المقدس حجرا على حجر ، فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله. وقيل : إنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه ، ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل أعداءه وهم اليهود (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أقواهم مكرا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.

واعلم أن المكر إن كان عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر فهو في حق الله تعالى محال ، فاللفظ إذن من المتشابهات فيجب أن يؤول بأن جزاء المكر يسمى مكرا كقوله :

١٧٠

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] أو بأنه تعالى عاملهم معاملة من يمكر وهو عذابهم على سبيل الاستدراج. وإن كان المكر عبارة عن التدبير المحكم الكامل لم يكن اللفظ متشابها لأنه غير ممتنع في حق الله إلا أنه قد اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير. (إِذْ قالَ اللهُ) ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو مفعول اذكر (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي متمم عمرك وعاصمك من أن يقتلك الكفار الآن بل أرفعك إلى سمائي وأصونك من أن يتمكنوا من قتلك. وقيل : متوفيك أي مميتك كيلا يصل أعداؤك من اليهود إلى قتلك ثم رافعك إليّ. وهذا القول مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحق. ثم قال وهب : توفي ثلاث ساعات ثم رفع وأحيي. وقال محمد بن إسحق. توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه. وقال الربيع بن أنس : إنه نومه ورفعه إلى السماء نائما حتى لا يلحقه خوف ورعب. أخذه من قوله (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢]. وقيل : التوفي أخذ الشيء وافيا أي آخذك بروحك وبجسدك جميعا فرافعك إلي دفعا لوهم من يتوهم أنه أخذ بروحه دون جسده. وقيل : متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان أي استوفيته. وقيل : أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء انقطع خبره وأثره عن الأرض فيكون من باب إطلاق الشيء على ما يشابه في أكثر خواصه وصفاته. وقيل : المضاف محذوف أي متوفى عملك ورافع طاعتك فكأنه بشره بقبول طاعته وأن ما وصل إليه من المتاعب في تمشية دينه وإظهار شريعته فهو لا يضيع أجره ، فهذا كقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] وقيل : في نسق الكلام تقديم وتأخير. فإن الواو لا تقتضي الترتيب. والمعنى إني رافعك إلي ومتوفيك بعد إنزالك إلى الدنيا. ويؤيده ما ورد في الخبر أنه سينزل ويقتل الدجال ، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك. أما قوله (وَرافِعُكَ إِلَيَ) فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء ، لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأن المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومثله قول إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] وإنما ذهب من العراق إلى الشام ، وقد سمي الحجاج زوّار الله ، والمجاورون جيران الله. والمراد التفخيم والتعظيم ، أو المراد إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله فإن في الأرض ملوكا مجازية. ولئن سلم أنه تعالى يمكن أن يكون في مكان فليس رفع عيسى عليه‌السلام إلى ذلك المكان سببا لبشارته ما لم يتيقن الثواب والكرامة والروح والراحة ، فلا بد من صرف اللفظ عن ظاهره وهو أن يقال : المراد رفعه إلى محل كرامته ، وإذا لم يكن بد من الإضمار فلم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان له تعالى. ثم إنه كما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه ، عبر لذلك عن معنى التخليص بلفظ التطهير

١٧١

فقال : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من خبث جوارهم وسوء عشرتهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وليس هذا فوقية المكان بالاتفاق. فالمراد إما الفوقية بالحجة والدليل ، وإما الفوقية بالقهر والاستيلاء. وفيه إخبار عن ذل اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة. ولعمري إنه كذلك فلا يرى ملك يهودي في الدنيا ولا بلد لهم مستقل بخلاف النصارى. على أنا نقول : المراد بمتبعي المسيح هم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله ثم آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده فصدقوه في قوله : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] أو المتبعون هم المسلمون الذين اتبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى.

واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره قال : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء : ١٥٧] فأورد بعض الملحدة عليه إشكالات : الأول أنه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانيا فحينئذ أجوز أن هذا الذي رأيته ثانيا ليس ولدي بل هو إنسان آخر ألقى شبهه عليه ، وكذا الصحابة الذين رأوا محمدا يأمرهم وينهاهم احتمل أن يكون محمد إنسانا آخر ألقى شبهه عليه وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وكذا إلى إبطال التواتر ، لأن مدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس وأنتم جوزتم وقوع الغلط في المبصرات ، ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات. الثاني أن جبريل كان معه حيث سار. ثم إن طرف جناح واحد منه يكفي لأهل الأرض. فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود؟ وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وإلقاء الفلج والزمانة عليهم حتى لا يتعرضوا له؟ الثالث أنه تعالى كان قادرا على تخليصه من الأعداء بأن يرفعه إلى السماء ، فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وهل فيه إلا إيقاع مسكين في القتل من غير فائدة مع أن ذلك يوجب تلبيس الأمر عليهم حتى اعتقدوا أن المصلوب هو عيسى وأنه لم يكن عيسى ، والتمويه والتخليط لا يليق بحكمة الله تعالى؟ الرابع أن النصارى على كثرتهم في المشارق والمغارب وإفراطهم في محبة عيسى أخبروا أنهم شاهدوه مصلوبا ، فإنكار ذلك إنكار المتواتر ، والطعن في المتواتر يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء. الخامس ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيا زمانا طويلا. فلو كان هو غير عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ، ولو فعل ذلك اشتهر وتواتر. والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على خلق مثل زيد. وهذا التجويز لا يوجب الشك في وجود زيد فكذا فيما ذكرتم. وعن الثاني والثالث أن ذلك يفضي إلى

١٧٢

بلوغ الإعجاز حد الإلجاء ، وأنه ينافي التكليف. والتلبيس المذكور قد أزاله تلامذة عيسى الحاضرون منه العالمون بالواقعة. وعن الرابع أنه تواتر منقطع الأول لأنهم كانوا قليلين في ذلك الوقت فلا يفيد العلم. إذ شرط التواتر استواء الطرفين والوسط. وعن الخامس ما روي أن الذي ألقي عليه الشبه كان من خواص أصحابه ، فلهذا صبر. على أنا نقول : قد ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما أخبر عنه ، فهذه الاحتمالات تمتنع أن تصير معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية. قال : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وفيه بشارة لعيسى بأنه سيحكم بين المؤمنين وبين الجاحدين. وتفسيره قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي والذلة وأنواع المصائب والرزايا التي لا ثواب عليها (وَالْآخِرَةِ) بدخول النار خالدين فيها (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الواضعين الشيء في غير موضعه ، التكذيب في مقام التصديق ، والعمل السيء مكان العمل الصالح ، وذلك أن المحبة عبارة عن إيصال الخير إليه. وهو وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لم يوصل الثواب إليه. وقالت المعتزلة : المحبة والإرادة واحدة. فالمعنى أنه لا يريد ظلم الظالمين. (ذلِكَ) الذي سبق من نبأ عيسى عليه‌السلام وغيره وهو مبتدأ خبره (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) والتلاوة والقصص كلاهما يؤل إلى معنى واحد وهو ذكر الشيء بعضه على إثر بعض. جعل تلاوة الملك لما كانت بأمره كتلاوته. (مِنَ الْآياتِ) خبر بعد خبر أو خبر بعد مبتدأ محذوف والمراد بها آيات القرآن ، ويحتمل أن يراد أنه من العلامات الدالة على ثبوث رسالتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ من كتاب أو من يوحى إليه ، وظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن يكون من الوحي. ويجوز أن يكون ذلك بمعنى «الذي» و (نَتْلُوهُ) صلته و (مِنَ الْآياتِ) الخبر. ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر يفسره (نَتْلُوهُ). والذكر الحكيم القرآن. وصف بصفة من هو سببه ، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه ، أو هو بمعنى الحاكم كالعليم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه ، أو بمعنى المحكم أحكمت آياته أي عن تطرق وجوه الخلل إليه. وقيل : الذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء ، أخبر أنه تعالى أنزل هذه القصص مما كتب هناك. قال المفسرون : إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مالك تشتم صاحبنا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما أقول؟ قالوا : تقول إنه عبد. قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله عزوجل (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي حاله الغريبة كحاله. ووجه الشبه أن كلا منهما وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة ، بل الوجود من غير أب وأم أغرب ، فشبه الغريب بالأغرب. لأن المشبه به ينبغي

١٧٣

أن يكون أقوى حالا من المشبه في وجه الشبه. ثم فسر كيفية خلق آدم بقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي قدّره جسدا من طين. قيل : اشتقاق آدم من الأدمة. وقال ابن عباس : سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها ، فلذلك كان في ولده الأسود والأحمر والطيب والخبيث. وقيل : إنه اسم أعجمي كآزر ووزنه «فاعل» لا «أفعل». والضمير عائد إلى آدم الموجود كقولك : «هذا الكون أصله من الطين» (ثُمَّ قالَ لَهُ) أي لذلك المقدّر (كُنْ فَيَكُونُ) وهذا كقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] وإنما لم يقل «فكان» إما لأنه حكاية حال ماضية ، وإما تصوير لتلك الحالة العجيبة كقوله :

فأصر بها بلا دهش فخرت

أو المراد اعلم يا محمد أن ما قال له ربك «كن» فإنه يكون لا محالة. وقيل : معنى «ثم» تراخي الخبر عن الخبر لا تراخي المخبر عن المخبر كقول القائل «أعطيت زيدا ألفا اليوم ثم أنا أعطيته أمس ألفين» أي ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي صيره بشرا سويا. ثم إنه يخبركم أنه إنما خلقه بأن قال له «كن». وقيل : إن معنى الخلق يرجع إلى علمه تعالى بكيفية وقوعه وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص. والمراد ب «كن» إدخاله في الوجود. قالت الحكماء : إنما خلق آدم من التراب لوجوه : ليكون متواضعا وليكون ستارا وليكون أشد التصاقا بالأرض فيصلح للخلافة فيها ، ولما فيه من إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام السفلية وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو أرق الأجرام وأعطاهم كمال القوة والقدرة ، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الفضاء ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام فآتاه النور والهداية ، وكل ذلك برهان باهر ودليل ظاهر على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج والخالق بلا مزاج. وعلاج خلق البشر من التراب لإطفاء نيران الشهوة والحرص والغضب ، وخلقه من الماء (خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) [الفرقان : ٥٤] ليكون صافيا تتجلى فيه صور الأشياء. ثم مزج بين التراب والماء لامتزاج اللطيف بالكثيف فصار طينا (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١] ثم إنه سل من ألطف أجزاء الطين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٣] ثم جعله طينا لازبا (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١] ثم سنه وغير رائحته (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦].

عن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى عليه‌السلام؟ قالوا :

١٧٤

لأنه لا أب له. قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له. قالوا : كان يحيي الموتى. قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص. قال : فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالما. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق يعني الذي أنبأتك من شأن عيسى لا الذي اعتقد النصارى فيه أنه إله ، ولا الذي يزعم اليهود من رميها بيوسف النجار ، أو (الْحَقُ) مبتدأ و (مِنْ رَبِّكَ) خبره كما يقال : الحق من الله والباطل من الشيطان. (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين. قال ابن الأنباري : أصله من مريت الناقة والشاة حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه شرا. وفي هذا النهي ترغيب له في زيادة الثبات والطمأنينة ولطف للأمة وقد مر نظائره في سورة البقرة.

التأويل : الاصطفاء ثلاثة أنواع : اصطفاء على غير الجنس (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) [آل عمران : ٣٣] ولم يكن له جنس حين خلقه وأسجد له ملائكته ، واصطفاء على الجنس وعلى غير الجنس كاصطفاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الكائنات كقوله : لولاك لما خلقت الأفلاك. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آدم فمن دونه تحت لوائي» ، واصطفاء على الجنس كقوله : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤] ولمريم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لاصطفائك إياه (وَطَهَّرَكِ) عن الالتفات لغيره (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) لنيل درجة الكمال وإن لم يكن ذلك من شأن النساء. (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) كل صنف من أصناف الخلق حرف من حروف كلمة معرفة الله تعالى. والعالم بما فيه كلمة المعرفة كقوله : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» والإنسان وإن كان صنفا من أصناف العالم وهو حرف من حروف كلمة المعرفة لكنه خلق نسخة العالم بما فيه فهو أيضا كلمة المعرفة كالعالم ، لكنه خص من العالم بما فيه بكرامة معرفة نفسه ومعرفة ربه ومعرفة العالم بما فيه ، وهذا مقام مخصوص بالإنسان الكامل المزكى بتزكية الشريعة المربى بتربية أرباب الطريقة. وإنما خص عيسى علية السلام بهذا الاسم ـ أعني الكلمة ـ من بين سائر الأنبياء والأولياء لأنه خلق مستعدا لهذا الكمال في بدء أمره. قد فهم من كلمة نفسه معرفة ربه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من عرف نفسه فقد عرف ربه» وكان من اختصاصه بالكلمة أنه قال في المهد : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) [مريم : ٣٠] روى مجاهد قال : قالت مريم بنت عمران : كنت إذا خلوت أنا وجنيني حدثته وحدثني ، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. وسمي المسيح لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم فاستخرج منه ذرّات ذرّياته لم يردّه إلى مقامه كما جاء في الخبر «إن الله تعالى أذن للذرّات بالرجوع إلى ظهر آدم وحفظ ذرة عيسى وروحه عنده حتى ألقاها إلى مريم» فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح. (وَكَهْلاً) أي حالة النبوة

١٧٥

لأن بلوغ الأنبياء عند كهولتهم (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) يعني صلاحية قبول الفيض بلا واسطة كما هو حال جميع الأنبياء عليهم‌السلام. (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الروح الإنساني الذي هو خليفة الله في أرضه قابل لجميع أنوار الصفات خلافة عنه حتى القدرة على الخلق والإحياء والإبراء والإنباء وغير ذلك من الآيات التي هي من نتائج القدرة ، لكنه لتعلقه بالجسد الكائن من العناصر ولاحتجابه بظلمات شهوات الأبوين امتنع عن قبول أنوار الصفات إلى أن يخرجه مدد العناية بطريق الهداية ، وقوة استعداد الروحية والجسمية من تلك الظلمات فيظهر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات المعجزات وعلى الولي أمارات الكرامات. ولما كان روح عيسى عليه‌السلام وذرّة طينته المستخرجة من ظهر آدم محتبسة عند الله حتى ألقاها إلى مريم من غير شائبة ظلمات شهوة الأبوين ولهذا سمي روح الله ، كان قابل أنوار الصفات في بدوّ أمره يكلم الناس في المهد ويكتب ويقرأ التوراة والإنجيل غير من تعلم ، ويحيي ويبرىء إلى غير ذلك من الآيات. (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) فيه إشارة إلى أن عيسى الروح ، لما أحس من النفس وصفاتها الكفر (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ) وهم القلب وصفاته (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ) أي بوحدانيته والتبري عن غيره (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) منقادون لأحكامه ، راضون بقضائه ، صابرون على بلائه (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من الحكم والأسرار واللطائف والحقائق (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) الوارد من نفحات ألطافك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المشاهدين لأنوار جلالك (وَمَكَرُوا) أي النفس وصفاتها والشياطين وأتباعها في هلاك عيسى الروح (وَمَكَرَ اللهُ) بتجلي صفات قهره في فناء النفس وصفاتها (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) في قهر النفس الأمارة بالسوء وقمع صفاتها وقلع شهواتها (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) عن الصفات النفسانية والسمات الحيوانية (وَرافِعُكَ إِلَيَ) بجذبات العناية كما أسرى بعبده إلى قاب قوسين أو أدنى. ومن خواص الجذبة الربوبية خمود الصفات البشرية (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) باللطف أو القهر بالاختيار على قدم السلوك ، أو بالاضطرار عند نزع الروح. (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بحجاب الغفلة والاشتغال بغير الله ، (وَالْآخِرَةِ) بالقطيعة والبعد عن الله (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بانقضاء العمر في طلب غير الله تعالى. ثم قال له كن فيكون. هذه السنة في تكوين الأرواح والملكوت لا الأجساد والملك ، ولكنه أجراها في تكوين آدم من تراب بلا أب وأم ، وخلق حوّاء منه بلا أم ، وخلق عيسى ابن مريم بلا أب خرقا للعادة ودلالة على اختياره ورغما بأنف من قال بالإيجاب في الإيجاد (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) نهي الكينونة قاله في الأزل فما كان من الممترين ولا يكون إلى الأبد.

١٧٦

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١))

القراآت : (ها أَنْتُمْ) بالمد وغير الهمزة حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. وروى ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل (ها أَنْتُمْ) على وزن «هعنتم» الباقون بالمد والهمز.

الوقوف : (الْكاذِبِينَ) ه (الْقَصَصُ الْحَقُ) ج ط (إِلَّا اللهُ) ط (الْحَكِيمُ) ه (بِالْمُفْسِدِينَ) ه (مِنْ دُونِ اللهِ) ط لتناهي جملة وافية إلى ابتداء شرط (مُسْلِمُونَ) ه (مِنْ بَعْدِهِ) ط (تَعْقِلُونَ) ه (لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ط (لا تَعْلَمُونَ) ه (مُسْلِماً) ط (الْمُشْرِكِينَ) ه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ط (الْمُؤْمِنِينَ) ه (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) ط (يَشْعُرُونَ) ه (تَشْهَدُونَ) ه (تَعْلَمُونَ) ه.

التفسير : روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أورد الدلائل على نصارى نجران ، ثم إنهم أصروا على جهلهم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم. فقالوا : يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك. فلما رجعوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ يا عبد المسيح ما ترى؟ قال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم. والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لكان الاستئصال ، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا

١٧٧

الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خرج وعليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرط من شعر أسود. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي عليه‌السلام خلفها وهو يقول : إذا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إنى لأرى وجوها لودعت الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإني أناجزكم أي أحاربكم. فقالوا : ما لنا بحرب العرب المسلمين طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حاول الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا. وروي عن عائشة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج في المرط الأسود جاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ثم علي عليه‌السلام ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] وهذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث. (فَمَنْ حَاجَّكَ) من النصارى (فِيهِ) في عيسى وقيل في الحق (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) من البينات الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله وذلك بطريق الوحي والتنزيل (فَقُلْ تَعالَوْا) هلموا والمراد المجيء بالرأي والعزم كما تقول : تعال نفكر في هذه المسألة. وهو في الأصل «تفاعلوا» من العلو. وذلك أن بيوتهم كانت على أعالي الجبل ، فكانوا ينادون تعال يا فلان أي ارتفع ، إلا أنه كثر حتى استعمل في كل مجيء فصار بمنزلة «هلم». (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ويأت هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة. وإنما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ومن إحضار من هم أعز من النفس ، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) ثم نتباهل وقد يجيء «افتعل» بمعنى «تفاعل» نحو : اختصم بمعنى تخاصم. والتباهل أن يقول كل واحد منهما : بهلة الله على الكاذب منا أي لعنته. ويقال : بهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته ومنه قولهم : «أبهله» إذا أهمله. وناقة بأهل لاصرار عليها بل هي مرسلة مخلاة. فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة بها على الدفع عن نفسها. فكأن المباهل يقول : إن كان كذا فوكلني الله إلى نفسي وفوّضني إلى حولي وقوتي وخلاني من كلائه وحفظه. هذا

١٧٨

أصل الابتهال ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا وهو المراد في الآية لئلا يلزم التكرار أي ثم نجتهد في الدعاء فنجعل اللعنة على الكاذب بأن نسأل الله أن يلعنه. وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين وهما ابنا البنت يصح أن يقال إنهما ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعد أن يدعو أبناءه ثم جاء بهما. وقد تمسك الشيعة قديما وحديثا بها في أن عليا أفضل من سائر الصحابة لأنها دلت على أن نفس علي مثل نفس محمد إلا فيما خصه الدليل. وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ، وكان متكلم الاثني عشرية يزعم أن عليا أفضل من سائر الأنبياء سوى محمد. قال : وذلك أنه ليس المراد بقوله : (وَأَنْفُسَنا) نفس محمد لأن الإنسان لا يدعو نفسه فالمراد غيره. وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب فإذا نفس علي هي نفس محمد. لكن الإجماع دل على أن محمدا أفضل من سائر الأنبياء ، فكذا علي عليه‌السلام قال : ويؤكده ما يرويه المخالف والموافق أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أراد أن يرى آدم في علمه. ونوحا في طاعته ، وإبراهيم في خلته ، وموسى في قربته ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام» فدل الحديث على أنه اجتمع فيه عليه‌السلام ما كان متفرقا فيهم ، وأجيب بأنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمدا أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، وأجمعوا على أن عليا عليه‌السلام ما كان نبيا ، فعلم أن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكذا في حق سائر الأنبياء ، وأما فضل أصحاب الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك ، ولهذا ضمهم إلى نفسه بل قدمهم في الذكر. وفيها أيضا دلالة على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه لو لم يكن واثقا بصدقه لم يتجرأ على تعريض أعزته وخويصته وأفلاذ كبده في معرض الابتهال ومظنة الاستئصال ، ولو لا أن القوم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أحجموا عن مباهلته ، وأما قول المشركين (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] فليس من قبيل المباهلة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرض نفسه لذلك ولم يكن ذلك القول في معرض الاحتجاج والادعاء ولا بإذن من الله تعالى لرسوله. (إِنَّ هذا) الذي تلي عليك من نبأ عيسى (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) وهو في إفادة معنى الاستغراق لزيادة «من» بمنزلة لا إله إلا الله مبنيا على الفتح ، وفيه رد على النصارى في تثليثهم (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيه جواب عن شبهة النصارى أن عيسى يقدر على الإحياء ويخبر عن الغيوب ، فإن هذا القدر من القدرة والعلم لا يكفي في الإلهية ، بل يجب أن يكون الإله غالبا لا يدفع ولا يمنع وهم يقولون إنه قد قتل ولم يقدر على الدفع. ويلزم أن يكون عالما

١٧٩

بكل المعلومات وبعواقب الأمور وعيسى لم يكن كذلك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عما وصفت من التوحيد وأن إله الخلق يجب أن يكون قادرا على المقدورات عالما بجميع المعلومات ، فاعلم أن إعراضهم ليس إلا على سبيل العناد ، فاقطع كلامك معهم وفوّض أمرهم إلى الله فإنه عليم بحال المفسدين في الدين ، وبنياتهم وأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بأعمالهم الخبيثة. ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أورد على نصارى نجران من الدلائل ما انقطعوا معه ، ثم دعاهم إلى المباهلة فانخزلوا ورضوا بالصغار وقبلوا الجزية ، أمره الله تعالى بنمط آخر من الكلام مبني على الإنصاف يشهد به كل طبع مستقيم وعقل سليم فقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) يعني نصارى نجران ، لأن الآية من تمام قصتهم ، ولأنه كلام منصف فخوطب بما يطيب به قلوبهم كما لو قيل لحامل القرآن : يا حافظ كتاب الله. وقيل : المراد يهود المدينة ، وقيل اليهود والنصارى جميعا لأن ظاهر اللفظ يتناولهما ، ولما روي أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ، وقالت النصارى : يا محمد ما نريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمراد من قوله : (تَعالَوْا) تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالا من مكان إلى مكان. والمعنى هلموا إلى كلمة سواء فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء هو العدل والإنصاف لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف وفيه التسوية بين نفسه وبين صاحبه. أو المراد إلى كلمة سواء مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل. وتفسير الكلمة بقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فمحل (أَلَّا نَعْبُدَ) خفض على البدل من (كَلِمَةٍ) أو رفع على الخبر أي هي أن لا نعبد. وهو خبر في معنى الأمر أي اعبدوا. وإنما ذكر أمورا ثلاثة لأن النصارى جمعوا بين الثلاثة. فعبدوا غير الله وهو المسيح ، وأشركوا به غيره لأنهم أثبتوا أقانيم ثلاثة أبا وابنا وروح القدس. ثم قالوا : إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ، ولو لا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين لما جاز عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم. وحيث أثبتوا ثلاثة ذوات مستقلة فقد أشركوا. ثم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا لأنهم أطاعوهم في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم من غير شريعة وبيان ، ولأنهم يسجدون لهم ويطيعونهم في المعاصي وهوى النفس ورؤية الأمور من الوسائط (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] ولأن من مذهبهم أن الكامل في الرياضة يظهر فيه أثر اللاهوت ويحل فيه فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. فهم وإن لم يطلقوا عليهم اسم الرب إلا أنهم أثبتوا

١٨٠