تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها. فالوجه أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم ولم يكن لكفرهم سبب إلا مجرد البغي والعناد ، كانوا طالبين دينا غير دين الله ، فاستنكر أن يفعلوا ذلك أو قرر أنهم يفعلون. ثم بيّن أن الإعراض عن دين الله خارج عن قضية العقل ، وكيف لا وقد أخلص له تعالى الانقياد وخصص له الخضوع كل من سواه ، لأن ما عداه كل ممكن وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه ، فهو ذليل بين يدي قدرته ، خاضع لجلال قدره في طرفي وجوده وعدمه عقلا كان أو نفسا أو روحا أو جسما أو جواهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا. ونظير الآية (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٥] فلا سبيل لأحد إلى الامتناع عن مراده (طَوْعاً وَكَرْهاً) وهما مصدران وقعا موقع الحال لأنهما من جنس الفعل أي طائعين وكارهين كقولك : أتاني ركضا أي راكضا. ولو قلت أتاني كلاما أي متكلما لم يجز لأن الكلام ليس من جنس الإتيان. فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وكرها في غيره من الآلام والمكاره التي تحالف طباعهم ، لأنهم لا يمكنهم دفع قضائه وقدره. وأما الكافرون فينقادون في الدين كرها أي خوفا من السيف أو عند الموت أو نزول العذاب. وعن الحسن : الطوع لأهل السموات ، والكره لأهل الأرض. أقول : وذلك لأن السفلي ينجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره. وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعا ، ومن شاهد الجلال أسلم كرها. فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهرا وباطنا ، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره. ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه. أما وجه التوحيد في (قُلْ) فظاهر ، بناء على ما قلنا. وأما وجه الجمع في (آمَنَّا) فلتشريف أمته بانضمامهم معه في سلك الإخبار عن الإيمان ، أو ليعلم أن هذا التكليف ليس من خواصه وإنما هو لازم لجميع المؤمنين كقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ) [البقرة : ٢٨٥] أو لإجلال قدر نبيه حيث أمر أن يتكلم عن نفسه كما يتكلم العظماء والملوك. وقدم الإيمان بالله لأنه أصل جميع العقائد ، ثم ذكر الإيمان بما أنزل الله إليه لأن كتب سائر الأنبياء محرفة لا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالفرقان المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر الإيمان بما أنزل على مشاهير الأنبياء إذ لا سبيل إلى حصر الكل ، وفي ذلك تنبيه على سوء عقيدة أهل الكتاب حيث فرقوا بين الأنبياء فصدقوا بعضا وكذبوا بعضا ، ورمز إلى أنهم ليسوا من الدين في شيء حيث خالفوا مقتضى الميثاق. ثم إن قلنا إنه تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول جاء بعده كما ذهب إليه الجمهور في

٢٠١

تفسير قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [آل عمران : ٨١] فههنا قد أخذ الميثاق على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يؤمن بكل رسول كان قبله ولم يؤخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده فيكون في الآية دليل على أنه لا نبي بعده.

واعلم أن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فيجوز أن يعدّى أنزل ب «على» تارة كما في هذه الآية ، وبحرف الانتهاء أخرى كما في البقرة. فنطق القرآن بالاعتبارين جميعا. وقيل : عدي هناك ب «إلى» لمكان قولوا فإن الوحي يأتي الأمة بطريق الانتهاء ، وعدي هاهنا ب «على» لمكان (قُلْ). فإن الرسول يأتيه الوحي بطريق الاستقلال وزيفه في الكشاف بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٤٨] وبقوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ٧٢]. والإنصاف أن هذا القائل لم يدع أن هذه المناسبة يجب اعتبارها في كل موضع وإنما ادعى اعتبارها في الموضعين فيصلح حجة للتخصيص والله أعلم. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فائدة تقديم الجار أن يعلم أن هذا الإذعان والإيمان والاستسلام لا غرض فيه إلا وجه الله دون شيء آخر من طلب المال والجاه ، بخلاف أحبار اليهود الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا فليسوا من الإسلام في شيء (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) حيث فاته الثواب وحصل مكانه العقاب. والخاسرون هاهنا هم الكافرون فقط عند أهل السنة ، ومع أصحاب الكبائر عند المعتزلة. وقد يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد إذ لو كان الإيمان غير الإسلام كان غير مقبول ، لأن كل ما هو غير الإسلام ليس بمقبول عند الله للآية. وقد ذكرنا مرارا أن النزاع لفظي لأن الإسلام إن أريد به الانقياد الكلي فلا فرق بينه وبين الإيمان كما في هذه الآية ، وإن أريد به الإقرار باللسان فالفرق بناء على أن الاعتقاد القلبي داخل في مفهوم الإيمان ، وعلى الفرق ورد قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٧] ثم بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) واختلف في سبب النزول ، ففي رواية عن ابن عباس نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم ، كفروا بالنبي بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا به بغيا وحسدا وعنادا ولددا. وفي رواية أخرى عنه : نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا). وعن مجاهد قال : كان الحرث بن سويد قد أسلم وكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم لحق بقومه وكفر فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فحملهن إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فقال الحرث : والله إنك لصدوق وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٠٢

لأصدق منك وإن الله أصدق الثلاثة ، ثم رجع فأسلم إسلاما حسنا. قالت المعتزلة في الآية : إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وإلا كان الكافر معذورا ولا يحسن ذمه على الكفر. ثم إنه حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير الآية بشيء أخر سوى نصب الدلائل. قالوا : فالمراد بهذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم كما قال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] وقال : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] أو المعنى لا يهديهم إلى الجنة كقوله : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) [النساء : ١٦٨] وقوله : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) [يونس : ٩] وقال أهل السنة : المراد بالهداية خلق المعرفة. وقد جرت سنة الله في باب التكليف وفي دار العمل أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنه الله يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه؟ وقال أهل التحقيق : كيف يهدي الله إليه قوما احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية عن الأخلاق الربانية. وقوله : (وَشَهِدُوا) عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل إذ هو في تقدير أن آمنوا كقوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار «قد» أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق. وكيفما كان فمعنى الآية يؤل إلى أنه تعالى لا يهدي قوما كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق في نفسه غير باطل ولا مما يسوغ إنكاره بعد أن جاءتهم الشواهد الدالة على صدقه من القرآن وغيره ، لكن الشهادة هي الإقرار باللسان ، فيكون المراد من الإيمان هو التصديق بالقلب ليكون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواضعين للشيء في غير موضعه وذلك أن الخصال الثلاث ـ أعني الإيمان والشهادة ومشاهدة المعجزات ـ توجب مزيد الإيمان بالنبي المبعوث في آخر الزمان لا الكفر والعناد. وفيه دليل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل ولهذا صرح في آخر الآية بأنه تعالى لا يهديهم بعد أن عرض بذلك في أول الآية ، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلا (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) إلى قوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) وقد مر مثله في البقرة. وهذا تحقيق قول المتكلمين بأن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الكفر العظيم. ولا يكفي التوبة وحدها حتى يضاف إليها العمل الصالح فلهذا قال : (وَأَصْلَحُوا) أي باطنهم مع الحق بالمراجعات ، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات ، وأظهروا إنا كنا على الباطل حتى لو اغتر بطريقتهم المنحرفة مغتر رجع عنها. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) في الدنيا بالستر (رَحِيمٌ) في الآخرة بالعفو. أو غفور بإزالة العقاب ،

٢٠٣

رحيم بإعطاء الثواب. قوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) ازدياد الكفر قد يراد به الإصرار على الكفر ، وقد يراد به ضم كفر إلى كفره وهو المراد في الآية باتفاق عامة المفسرين. ثم اختلفوا فقيل : إنهم أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه كل وقت ، وإنكارهم لكل معجز يظهر عليه إلى غير ذلك من تخليطاتهم وتغليطاتهم. وقيل : إن اليهود كانوا مؤمنين بموسى ثم كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء. وقيل : نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة ، وازديادهم الكفر أنهم قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون. وقيل : عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق زيادة في الكفر. ثم إنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين ، وحكم تعالى في هذه الآية بعدم قبولها ، وهذا يوهم التناقض. وأيضا ثبت بالدليل أن التوبة بشروطها مقبولة فما معنى قوله (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) قال الحسن وقتادة وعطاء : المراد بازدياد الكفر إصرارهم عليه فلا يتوبون إلا عند حضور الموت ، والتوبة حينئذ لا تقبل لقوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨] وقيل : هي محمولة على ما إذا تابوا باللسان لا عن الإخلاص. وقال القاضي والقفال وابن الأنباري : هي من تتمة قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) يريد أنه لو كفر بعد التوبة الأولى فإن التوبة الأولى لا تكون مقبولة. وقيل : لعل المراد أن التوبة من تلك الزيادة لا تكون مقبولة ما لم يتب عن الأصل المزيد عليه. أقول : ويحتمل أن يكون لن تقبل توبتهم جعل كناية عن الموت على الكفر كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين المصرين على الكفر ما يتوبون عن الكفر لما في فعلهم من قساوة القلوب والإفضاء إلى الرين وانجراره إلى الموت على حالة الكفر. وفائدة هذه الكناية تصوير كونهم آيسين من الرحمة. هذا إذا خصصنا اليهود والمرتدين بالمصرين ، أما على تقدير التعميم فنقول : إنما يجعل الموت على الكفر لازما لازدياد كفرهم لأن القضية حينئذ لا تكون كلية. فكم من مرتد أو يهودي مزداد الكفر لا بمعنى الإصرار يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر وهو عدم قبول التوبة حتى برز الكلام في معرض الكناية. ومن المعلوم أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، وأنه لا بد للعدول من فائدة ، فصح أن نبين فائدة العدول على وجه يصير القضية كلية وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها ، ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف لأجل اليأس من الرحمة ، وهذا هو الذي عول عليه في الكشاف. والحاصل أنه

٢٠٤

كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا من حقهم أن لا تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون الكاملون في الضلال ، ضلوا في تيه الأوصاف البهيمية والأخلاق السبعية فلم يكادوا يخرجون منهما بقدم الإنابة.

واعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام : أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي سيق لأجله الآية التي ردفها الاستثناء ، وثانيها الذي يتوب توبة فاسدة وهو المذكور في قوله : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) على وجه. وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة فذكره في الآية الأخيرة. وملء الشيء قدر ما يملؤه و (ذَهَباً) نصب على التمييز. وربما يقال على التفسير. ومعناه أن يكون الكلام تاما إلا أنه يكون مبهما كقولك «عندي عشرون» فالعدد معلوم والمعدود مبهم. فإذا قلت «درهما» فسرت العدد. ومعنى الفاء في (فَلَنْ يُقْبَلَ) أن يعلم أن الكلام مبني على الشرط والجزاء ، وإذا ترك كما في الآية الأولى فلعدم قصد التسبيب والاكتفاء بمجرد الحمل والوضع. هذا ما قاله النحويون ومنهم صاحب الكشاف. وليت شعري أنهم لو سئلوا عن تخصيص كل موضع بما خصص به فبما ذا يجيبون؟ ولعل عقيدتهم في أمثال هذه المواضع أنها من الأسئلة المتقلبة وهو وهم. والسر في التخصيص هو أنه لما قيد في الجملة الثانية أنهم قد ماتوا على الكفر زيدت فاء السببية الجزائية تأكيدا للزوم وتغليظا في الوعيد والله أعلم. أما الواو في قوله (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) فإنها تشبه عطف الشيء على نفسه لأنه كالمكرر ، فلهذا كثر أقاويل العلماء فيه فقال الزجاج وابن الأنباري : إنها للعطف والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وقيل : إنها لبيان التفصيل بعد الإجمال فإن إعطاء ملء الأرض ذهبا يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية. وقيل : إن الملوك قد لا يقبلون الهدية ويقبلون الفدية ، فإذا لم يقبلوا الفدية كان ذلك غاية الغضب ونهاية السخط ، فعبر بنفي قبول الفداء عن شدة الغضب. وقيل : إنه محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. وقيل : يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) [الزمر : ٤٧] والمثل يحذف كثيرا في كلامهم مثل : ضربت ضرب زيد. أي مثل ضربه. و «أبو يوسف أبو حنيفة» تريد مثله. كما أنه يراد به في نحو قولهم «مثلك لا يفعل» كذا أي أنت. وذلك أن المثلين يقوم أحدهما مقام الآخر في أغلب الأمور فكانا في حكم شيء واحد. فإن قيل : من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا ، وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك ، فما فائدة هذا الكلام؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير ، والذهب

٢٠٥

كناية عن أعز الأشياء. والمراد أنه لو قدر على أعز الأشياء وفرض أن في بذله نفعا للآخذ وأن المبذول في غاية الكثرة لعجز أن يتوصل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب ربه. ثم صرح بعقابهم ونفى من يشفع لهم فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) قال أهل التحقيق : وماتوا أي ماتت قلوبهم (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بموت القلب وفقد المعرفة (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) على إحياء القلب بنور المعرفة حسبي الله ونعم الوكيل.

تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا) ...

٢٠٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الرابع من أجزاء القرآن الكريم

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١))

القراآت : (أَنْ تُنَزَّلَ) خفيفا : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد. (حِجُّ الْبَيْتِ) بكسر الحاء : يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بفتحها.

الوقوف : (تُحِبُّونَ) ط (عَلِيمٌ) ه (تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) ط (صادِقِينَ) ه (الظَّالِمُونَ) ه (حَنِيفاً) ط (الْمُشْرِكِينَ) ه (لِلْعالَمِينَ) ه ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا (مَقامُ إِبْراهِيمَ) ج للابتداء بالشرط مع الواو لأن الأمن من الآيات (آمِناً) ط (سَبِيلاً) ط (لِلْعالَمِينَ) ه (بِآياتِ اللهِ) ط قد قيل : والوجه الوصل لأن الواو للحال (تَعْمَلُونَ) ه (شُهَداءُ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (كافِرِينَ) ه (رَسُولُهُ) ط لتناهي الاستفهام الى الشرط (مُسْتَقِيمٍ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما ذكر أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة ، علّم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة وهو الإنفاق من أحب الأشياء إليهم. وهاهنا لطيفة وهي

٢٠٧

أنه سبحانه وتعالى سمى جوامع خصال الخير برا في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] الآية. وذكر في هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فالمعنى أنكم وإن أتيتم بكل الخيرات لم تفوزوا بإحراز خصلة البر ولم تبلغوا حقيقتها حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها. وكان السلف رحمهم‌الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله. يروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، حائط لي بالمدينة ـ يعني بيرحاء ـ وهو أحب أموالي إليّ صدقة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بخ بخ. ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة : افعل يا رسول الله. فقسمها صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقاربه. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب. وروي أن زيد بن حارثة جاء عند نزول الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله ، فجعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأسامة بن زيد. فوجد زيد في نفسه وقال : إنما أردت أن أتصدق به. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما إن الله قد قبلها منك. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما رآها أعجبته فقال : إن الله تعالى يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فأعتقها ولم يصب منها. ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي : ائتني بخير إبلي. فجاء بناقة مهزولة فقال : خنتني. فقال : وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتك إليه. فقال : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. وفي تفسير البر قولان : أحدهما ما به يصيرون أبرارا ليدخلوا في قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار : ١٣] فيكون المراد بالبر ما يصدر منهم من الأعمال المقبولة المذكورة في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] وجملتها التقوى لقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧] والثاني الجنة أي لن تنالوا ثواب البر. وقيل : المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم من قول الناس «برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني». وقال تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) [البقرة : ٢٢٤] و «من» في قوله : (مِمَّا تُحِبُّونَ) للتبعيض نحو : أخذت من المال. ويؤيده قراءة عبد الله بن مسعود بعض ما تحبون وفيه أن إنفاق كل المال غير مندوب بل غير جائز لمن يحتاج إليه. والمراد بما تحبون قال بعضهم : هو نفس المال لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] وقيل : هو ما يكون محتاجا إليه كقوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الدهر : ٨] (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] وقيل : هو أطيب المال وأرفعه كما مر. وعن ابن عباس : أراد به الزكاة أي حتى تخرجوا زكاة أموالكم. ويرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها. وقال الحسن : هو كل ما أنفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله. ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي انها منسوخة

٢٠٨

بآية الزكاة. وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله. و «من» في (مِنْ شَيْءٍ) للتبيين يعني من أي شيء كان ، طيب أو خبيث (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بحسبه أو يعلم الوجه الذي لأجله تنفقون من الإخلاص أو الرياء. ثم إنه سبحانه بعد تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب ، أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه : أحدها أنهم كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إنكار النسخ ، فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده وهو النسخ. ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا أن ذلك كان حراما من لدن آدم ولم يحدث نسخ ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاما لهم وتفضيحا ودلالة على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه كان أميا فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر من السماء. وثانيها أن اليهود قالوا له : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم؟ فأجيبوا بأن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب. إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحرمة في أولاده ، فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع الى التوراة. وثالثها لما نزل قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم. غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ. ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم. فقالوا : لسنا بأول من حرمت هي عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت (كُلُّ الطَّعامِ) أي المطعومات كلها لدلالة كل على العموم وإن كان لفظه مفردا سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أولا. والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل. وعن بعض أصحاب أبي حنيفة : إنه اسم البر خاصة. ويرد عليه أن المستثنى في الآية من الطعام كان شيئا سوى الحنطة وما يتخذ منها. قال القفال : لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام ، وكذا القول في الخنزير ، فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها كانت محرمة على إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق. والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع. قال تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) [الممتحنة : ١٠] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة. وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه فروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعقوب مرض

٢٠٩

مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها. وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل. وقيل : كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئا من العروق. وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر.

وهاهنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب سببا للحرمة؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء. وأيضا لا يبعد أن يكون تحريم الإنسان سببا لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية. وأيضا الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم (فَاعْتَبِرُوا) [الحشر : ٢] ولقوله في معرض المدح (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر ، وعقولهم أنور ، وأذهانهم أصفى ، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى. ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته. والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل : إلا ما حرمه الله على إسرائيل. فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال : الشافعي يحلل لحم الخيل ، وأبو حنيفة يحرّمه. وقال الأصم : لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس كما يفعله الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم. وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب. ومعنى قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة ، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله عليهم أنواعا كثيرة بدليل قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) [النساء : ١٦٠] إلى آخر الآية. ثم إن القوم نازعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إخباره عن الله تعالى فأمروا بالرجوع إلى كتابهم كما سبق تقريره ، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا فلزمت الحجة عليهم وظهر إعجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه ، فلهذا قال : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الذي ظهر من الحجة الباهرة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواضعون الباطل في موضع الحق ، والكذب في مقام الصدق والعناد في محل الإنصاف. وأيضا إن تكذيبهم وافتراءهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن يقتدي بهم من أشياعهم (قُلْ صَدَقَ اللهُ) في جواب الشبه الثلاث وفيه تعريض بكذبهم (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وهي التي عليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن تبعه حتى تتخلصوا من اليهودية التي فيها فساد دينكم ودنياكم حيث ألجأتكم الى تحريف كتاب الله لأغراضكم الفاسدة

٢١٠

وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلت لإبراهيم ولمن يقتدي به (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وفيه تنبيه على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دين إبراهيم في الفروع لما ثبت أن الذي حكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحله حكم إبراهيم بحله. وفي الأصول لأن محمدا وإبراهيم كليهما صلى الله عليهما وسلم لا يدعون إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى ، خلاف اليهود والنصارى ، وخلاف عبدة الأوثان والكواكب.

قوله سبحانه : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) قال مجاهد : هو جواب عن شبهة أخرى لليهود وذلك أنهم قالوا : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر وقبلة الأنبياء. فكان تحويل القبلة منه إلى الكعبة كالطعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : إن الآية المتقدمة سيقت لجواز النسخ ، وإن أعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسخها هو القبلة ، فذكر عقيب ذلك ما لأجله حولت القبلة إلى الكعبة. وقيل : لما انجر الكلام في الآية المتقدمة إلى قوله : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) وكان الحج من أعظم شعائر ملته ، أردفها بفضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج. وقيل : زعم كل من اليهود والنصارى أنه على ملة إبراهيم ، فبين الله تعالى ما يدل على كذبهم من حيث إن حج البيت كان من ملة إبراهيم وأهل الكتاب لا يحجون. قالت العلماء : الأول هو الفرد السابق ، فلو قال : أول عبد أشتريه فهو حر. فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق واحد منهما لفقد قيد الفرد. ولو اشترى في المرة الثانية عبدا واحدا لم يعتق أيضا لفقدان قيد السابق. ومعنى كونه موضوعا للناس أنه جعل متعبدهم وموضع طاعتهم يتوجهون نحوه من جميع الأقطار ، وليس كل أول يقتضي أن يكون له ثان فضلا أن يشاركه في جميع خواصه ، فلا يلزم من كونه أول أن يكون بيت المقدس مثلا ثانيا له ولا مشاركا في وجوب الحج والاستقبال وغيرهما من الخواص. ثم إن كونه أول بيت وضع للناس يحتمل أن يكون المراد أنه أول في البناء والوضع ، ويحتمل أن يراد أنه أول في الوضع وإن كان متأخرا في البناء ، فلا جرم حصل فيه للمفسرين قولان : الأول أنه أول في بنائه ووضعه جميعا. روى الواحدي رحمه‌الله في البسيط بإسناده عن مجاهد أنه قال : خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين. وفي رواية أخرى : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. وروى أيضا عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن آبائه قال : إن الله تعالى بعث ملائكة فقال : ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور. وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. وهذا كان قبل خلق آدم وقد ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر

٢١١

ومجاهد والسدي أنه أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض من تحته. وعن الزهري قال : بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح في كل صفح منها كتاب. في الصفح الأول : «أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء وباركت لأهلها في اللحم واللبن». وفي الثاني : «أنا الله ذو بكة ، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي. من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته». وفي الثالث : «أنا الله ذو بكة خلقت الجن والإنس فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه». وقد يستدل على صحة هذا القول بما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم فتح مكة : ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض. وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماها أم القرى ، وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع ، ولأن تكليف الصلاة كان ثابتا في أديان جميع الأنبياء. وأيضا قال تعالى في سورة مريم (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) إلى قوله : (خَرُّوا سُجَّداً) [مريم : ٥٨] والسجدة لا بد لها من قبلة. فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس هذا محال خلف. القول الثاني : روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أول مسجد وضع للناس؟ فقال : «المسجد الحرام ثم بيت المقدس فسئل كم بينهما؟ قال : أربعون سنة» (١) وعن علي أن رجلا قال له : هو أول بيت؟ قال : لا. قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا ، فيه الهدى والرحمة والبركة. واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأوّلية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس. ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود ، وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولية أيضا كما روينا آنفا ، وفي سورة البقرة أيضا من الأخبار والآثار. فمن فضائل البيت أن الآمر ببنائه الرب الجليل ، والمهندس جبرائيل ، وبانيه إبراهيم الخليل وتلميذه ابنه إسماعيل. ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات ، ومصعد الصلوات والطاعات ، ومنها مقام إبراهيم كما يجيء ، ومنها قلة ما يجتمع من حصى الجمار فيه فإنه منذ ألف سنة يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير. وليس الموضع الذي يرمى إليه الجمرات مسيل ماء أو مهب رياح شديدة. وقد جاء في الآثار أن كل من كانت حجته مقبولة رفعت جمراته إلى السماء. ومنها أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة وتنحرف عنها البتة إذا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١٠ ، ٤٠. مسلم في كتاب المساجد حديث ١ ، ٢. النسائي في كتاب المساجد باب ٣. ابن ماجه في كتاب المساجد باب ٧. أحمد في مسنده (٥ / ١٥٠).

٢١٢

وصلت إلى محاذاتها. ومنها أن الحيوانات المتضادة في الطبائع لا يؤذي بعضها بعضا عنده كالكلاب والظباء. ومنها أمن سكانها فلم ينقل البتة أن ظالما هدم الكعبة أو خرب مكة بالكلية ، وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية ، وقصة أصحاب الفيل سوف تجيء في موضعها إن شاء العزيز. ومنها أنه تعالى وضعها بواد غير ذي زرع لفوائد منها : أنه قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله. ومنها أنه مع كونه كذلك يجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة خليله إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنه من أعظم الآيات. ومنها أن لا يسكنها أحد من الجبابرة لأنهم يميلون إلى طيبات الدنيا ، فيبقى ذلك الموضع المنيف والمقام الشريف مطهرا عن لوث وجود أرباب الهمم الدنية. ومنها أن لا يقصدها الناس للتجارة بل يأتون لمحض العبادة والزيارة. ومنها أنه تعالى أظهر بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيت في أقل المواضع نصيبا من الدنيا فكأنه تعالى يقول : جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين لأجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين. ومنها كأنه قيل : كما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في قلب خال عن محبة الدنيا (لَلَّذِي بِبَكَّةَ). للبيت الذي ببكة. قال في الكشاف : وهي علم للبلد الحرام. ومكة وبكة لغتان كراتب وراتم. وضربة لازم ولازب مما يعتقب فيه الميم والباء لتقارب مخرجهما. وقيل : مكة البلد وبكة موضع المسجد. وفي الصحاح بكة اسم لبطن مكة. وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكه إذا زحمه ودفعه ، وعن سعيد بن جبير : سميت بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة. قال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي. فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضا ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان. ويؤكد هذا قول من قال : إن بكة موضع المسجد لأن المطاف هناك وفيه الازدحام. ولا شك أن بكة غير البيت لأن الآية تدل على أن البيت حاصل في بكة ، والشيء لا يكون ظرفا لنفسه. وقيل : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها ، لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه. وأما مكة فاشتقاقها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه واستقصى ، فسميت بذلك لأنها تجذب الناس من كل جانب وقطر أو لقلة مائها كأن أرضها امتصت ماءها. وقيل : إن مكة وسط الأرض ، والعيون والمياه تنبع من تحتها ، فكأن الأرض كلها تمك من ماء مكة. ثم إنه تعالى وصف البيت بكونه مباركا وهدى للعالمين. أما انتصابه فعلى الحال من الضمير المستكن في الظرف ، لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه معنى الاستقرار.

٢١٣

وأما معناه فالبركة إما النمو والتزايد وكثرة الخير ، وإما البقاء والدوام. وكل شيء ثبت ودام فقد برك ، ومنه برك البعير إذا وضع صدره على الأرض والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وتبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال ، والبيت مبارك لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (١) ولو استحضر العاقل في نفسه أن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها ولعمري إنها غير محصورة كالدوائر المحيطة بالمركز ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، علم أنه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية ، اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره. قال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧] فيكون كقوله : (إِلَى الْأَرْضِ) [الأنبياء : ٧١] المقدسة (الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأنبياء : ٧١] وإن فسرنا البركة بالدوام فلا شك أنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذا كانت الأرض كرة وكل آن يفرض فإنه صبح لقوم ظهر لآخرين وعصر لغيرهم أو مغرب أو عشاء ، فلا تخلو الكعبة عن توجه قوم إليها البتة. وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام. وأما كونه هدى للعالمين فلأنه قبلتهم ومتعبدهم أو لأنه يدل على وجود الصانع وصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فيه من الآيات والأعاجيب ، أو لأنه يهدي إلى الجنة. ومعنى هدى هاديا أو ذا هدى قاله الزجاج ، وجوز أن يكون محله رفعا أي وهو هدى (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) يحتمل أن يراد بها ما عددنا من بعض فضائله ، ويكون قوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) غير متعلق بما قبله ، فكأنه قيل فيه آيات بينات ومع ذلك فهو مقام إبراهيم وموضعه الذي اختاره وعبد الله فيه. وقال الأكثرون إن الآيات بيانه وتفسيره قوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) إما بأن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لأنه معجز رسول وكل معجز ففيه دليل أيضا على علم الصانع وقدرته وإرادته وحياته وتعاليه عن مشابهة المحدثات ، فلقوة هذا الدليل عبر عنه بلفظ الجمع كقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] وإما بأن يجعل المقام مشتملا على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب العمرة باب ١. مسلم في كتاب الحج حديث ٤٣٧. الترمذي في كتاب الحج باب ٢ ، ٨٨. النسائي في كتاب الحج باب ٣ ، ٥. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٣. الدارمي في كتاب مناسك الحج باب ٧. الموطأ في كتاب الحج حديث ٦٥. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٧).

٢١٤

آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية وإبقاء هذا الأثر دون آثار سائر الأنبياء آية لإبراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوفا من السنين آية. قال الزجاج : قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) من تتمة تفسير الآيات. وهذه الجملة وإن كانت من مبتدأ وخبر أو من شرط وجزاء إلا أنها في تقدير مفرد من حيث المعنى. فكأنه قيل : فيه آيات بينات وأمن من دخله كما لو قلت : فيه آية بينة من دخله كان آمنا كان معناه فيه آية بينة أمن من دخله. وهذا التفسير بعد تصحيحه مبني على أن الاثنين جمع كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الاثنان فما فوقهما جماعة» وفي القرآن (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) [الحج : ١٩] وقيل : ذكر آيتان وطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» (١) ومنهم من تمم الثلاثة فقال : مقام إبراهيم وأمن من دخله وإن لله على الناس حجه. وقال المبرد : مقام مصدر فلم يجمع والمراد مقامات إبراهيم هي ما أقامه من المناسك ، فالمراد بالآيات شعائر الحج. وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة آية بينة على التوحيد قاله في الكشاف. وفيه توكيد لكون مقام إبراهيم وحده بيانا. وأما حديث «أمن من دخله» فقد مر اختلاف العلماء فيه في سورة البقرة في قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥] وقيل : كان آمنا من النار لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة» وهما مقبرتا مكة والمدينة. وعن ابن مسعود : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال : «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر» وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام». (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) لما ذكر فضائل البيت أردفه بإيجاب الحج وفيه لغتان : الفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد ، وكلاهما مصدر كالمدح والذم والذكر والعلم. وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح مصدر. ومحل (مَنِ اسْتَطاعَ) خفض على البدل (عَلَى النَّاسِ) والمعنى : ولله على من استطاع من الناس حج البيت. وقال الفراء : يجوز أن ينوي الاستئناف بمن والخبر ، أو الجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه والتقدير : من استطاع إليه سبيلا فلله عليه حج البيت. وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون محله رفعا على البيان

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب عشرة النساء باب ١. أحمد في مسنده (٣ / ١٢٨ ، ١٩٩) بدون لفظ «ثلاث».

٢١٥

كأنه قيل : من الناس الذين عليهم لله حج البيت؟ فقيل : هم من استطاع. والضمير في (إِلَيْهِ) للبيت أو الحج. واستطاعة السبيل إلى الشيء هي إمكان الوصول إليه. واحتج أصحاب الشافعي بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن الناس يعم المؤمن والكفار وعدم الإيمان لا يصلح أن يكون معارضا ومخصصا لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مع أن شرط صحة الإيمان بمحمد غير حاصل ، والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة ليس بحاصل. واحتج جمهور المعتزلة بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنها لو كانت مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعا للحج فلا يتناوله التكليف المذكور وذلك باطل بالاتفاق. أجاب الأشاعرة بأن هذا أيضا لازم عليكم لأن القادر إما أن يكون مأمورا بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل وهو محال لأنه تكليف بما لا يطاق ، أو بعد حصوله وحينئذ يكون الفعل واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة. وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف. والحق أن وجوب الفعل بالقدرة والإرادة لا ينافي توجيه التكليف إليه.

واعلم أن الحج لا يجب بأصل الشرع في العمر إلا مرة واحدة لما روي عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج. فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال : لو قلتها لو جبت ولو وجبت لم تعملوا بها. الحج مرة فمن زاد فتطوع» (١) وقد يجب أكثر من مرة واحدة لعارض كالنذور والقضاء. ولصحة الحج على الإطلاق شرط واحد وهو الإسلام ، فلا يصح حج الكافر كصومه وصلاته. ولا يشترط فيها التكليف بل يجوز للولي أن يحرم عن المجنون وعن الصبي الذي لا يميز وحينئذ يصح حجهما لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بامرأة وهي في محفتها ، فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت : ألهذا حج؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ولك أجر. وعن جابر قال : حججنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. ولصحة المباشرة شرط زائد على الإسلام وهو التمييز. فلا تصح مباشرة الحج من المجنون والصبي الذي لا يميز كسائر العبادات ، ويصح من الصبي المميز أن يحرم ويحج بإذن الولي ، ولا يشترط فيها الحرية كسائر العبادات. ولوقوعه عن حجة الإسلام شرطان زائدان : البلوغ والحرية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ٥ باب ١٥. النسائي في كتاب المناسك باب ١. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٢. الدارمي في كتاب المناسك باب ٤. أحمد في مسنده (١ / ٢٥٥ ، ٢٩١).

٢١٦

حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام» والمعنى فيه أن الحج عبادة عمر لا تتكرر فاعتبر وقوعها في حالة الكمال ، ولأن التكليف تابع للتمييز فشرط هذا الحكم إذن يعود إلى ثلاثة : الإسلام والتكليف والحرية. ولو تكلف الفقير الحج وقع حجه عن الفرض كما لو تحمل الغني خطر الطريق وحج ، وكما لو تحمل المريض المشقة وحضر الجمعة. ولوجوب حجة الإسلام شرط زائد على الثلاثة المذكورة آنفا وهو الاستطاعة بالآية. والاستطاعة نوعان : استطاعة مباشرته بنفسه واستطاعة تحصيله بغيره. النوع الأول يتعلق به أمور أربعة : أحدها الراحلة ، والناس قسمان : أحدهما من بينه وبين مكة مسافة القصر فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة سواء كان قادرا على المشي أو لم يكن لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة. نعم لو كان قادرا على المشي يستحب له أن لا يترك الحج. وعند مالك القوي على المشي يلزمه الحج. ويعتبر مع وجدان الراحلة وجدان المحمل أيضا إن كان لا يستمسك على الراحلة ويلحقه مشقة شديدة. ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل. فإن وجد مؤنة محمل أو شق محمل ووجد شريكا يجلس في الجانب الآخر لزمه الحج ، وإن لم يجد الشريك فلا. القسم الثاني من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر. فإن كان قويا على المشي لزمه الحج وإلا فلا يجب إلا مع الراحلة أو معها ومع المحمل كما في حق البعيد. والمراد بوجود الراحلة أن يقدر على تحصيلها ملكا أو استئجارا بثمن المثل أو بأجرة المثل وكذا في المحمل. المتعلق الثاني : الزاد وأوعيته وما يحتاج إليه في السفر مدة ذهابه وإيابه سواء كان له أهل أو عشيرة يرجع إليهم أو لا فحب الوطن من الإيمان. وكذا الراحلة للإياب وأجرة البذرقة. كل ذلك بعد قضاء جميع الديون ورد الودائع ونفقة من يلزمه نفقتهم حينئذ إلى العود ، وبعد مؤن النكاح إن خاف العنت ، وبعد مسكنه ودست ثوب يليق به وخادم يحتاج إليه لزمانته أو لمنصبه. ولو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه ولو نقص لبطلت تجارته ، أو كان له مستغلات يرتفق منها نفقته ، فالأصح عند الأئمة أنه يكلف بيعها لأن واجد للزاد والراحلة في الحال ولا عبرة لخوف الفقر في الاستقبال.

المتعلق الثالث : الطريق ويشترط فيه غلبة ظن الأمن على النفس من نحو سبع وعدو ، والأمن على المال من عدو أو رصديّ وإن رضي بشيء يسير ، والأمن على البضع للمرأة بخروج زوج أو محرم أو نسوة ثقات. وفي البحر يعتبر غلبة السلامة وفي البر وجود علف الدابة.

المتعلق الرابع : البدن ويشترط فيه أن يقوى على الاستمساك على الراحلة ، فإن ضعف عن ذلك لمرض أو غيره فهو غير مستطيع للمباشرة. ولا بد للأعمى من قائد ، وعند أبي حنيفة لا حج عليه. ويروى أنه يستنيب قال الأئمة : لا بد مع الشرائط من إمكان المسير وهو

٢١٧

أن يبقى من الزمان بعد الاستطاعة ما يمكنه المسير فيه إلى الحج به السير المعهود ، فإن احتاج إلى أن يقطع في يوم مرحلتين أو أكثر لم يلزمه الحج. ولو خرجت الرفقة قبل الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه لم يلزمه الخروج معهم. ووجوب الحج في العمر كالصلاة في وقتها ، فيجوز التراخي لكنه إن دامت الاستطاعة وتحقق الإمكان ولم يحج حتى مات عصى على الأظهر وإن كان شابا. وقال أحمد ومالك وأبو حنيفة في رواية : إنه على الفور. حجة الشافعي أن فريضة الحج نزلت سنة خمس من الهجرة وأخره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج وفتح مكة سنة ثمان ، وبعث أبا بكر أميرا على الحاج سنة تسع وحج هو سنة عشر وعاش بعدها ثمانين يوما.

وأما النوع الثاني فهو استطاعة الاستنابة فإنها جائزة في الحج وإن كانت العبادات بعيدة عن الاستنابة ، لأن المحجوج عنه قد يكون عاجزا عن المباشرة بسبب الموت أو الكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله. وعن ابن عباس أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج وماتت قبل أن تحج ، أفأحج عنها؟ فقال : لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟ قال : نعم. قال : فاقضوا حق الله تعالى فهو أحق بالقضاء» (١) وعنه أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال : نعم. وقد تكون الاستنابة بطريق الاستئجار لأنه عمل يدخله النيابة فيجري فيه الاستئجار كتفريق الزكاة. وعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز ولكن يرزق عليه. ولو استأجر كان ثواب النفقة للآمر وسقط عنه الخطاب بالحج ويقع الحج عن الحاج. والحج بالرزق أن يقول : حج عني وأعطيك نفقتك. وهذا أيضا جائز عند الشافعي كالإجارة ، ولكن لا يجوز أن يقول استأجرتك بالنفقة لأنها مجهولة. والأجرة لا بد أن تكون معلومة. فهذا جملة الكلام في الاستطاعة عند الجمهور. وعن الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه بل كان ينطلق إليه ولو حبوا ، فكذلك يجب عليه الحج. وفي الآية أنواع من التوكيد والتغليظ منها قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) أي حق واجب له عليهم لكونه إلها فيجب عليهم الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أم لم يعرفوا فإن كثيرا من أعمال الحج تعبد محض. ومنها بناء الكلام على الأبدال ليكون تثنية للمراد

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب ٣٠. أبو داود في كتاب الأيمان باب ١٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٥٢).

٢١٨

وتفصيلا بعد الإجمال وإيراد للغرض في صورتين تقريرا له في الأذهان. ومنها ذكر من كفر مكان من لم يحج وفيه من التغليظ ما فيه ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» ونظيره قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» (١) ومنها إظهار الغنى وتهويل الخطب بذكر اسم الله دون أن يقول : «فإنه» أو «فإني» فإنه يدل على غاية السخط والخذلان. ومنها وضع المظهر مقام المضمر حيث قال : (عَنِ الْعالَمِينَ). ولم يقل «عنه» لأنه تعالى إذا كان غنيا عن كل العالمين فلأن يكون غنيا عن طاعة ذلك الواحد أولى. ومن العلماء من زعم أن هذا الوعيد عام في حق كل من كفر ولا تعلق له بما قبله ، ومنهم من حمله على اعتقاد عدم وجوب الحج ويؤكده ما روي عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في اليهود قالوا : إن الحج إلى مكة غير واجب. وعن الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الأديان الستة. المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ـ فخطبهم وقال : إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا. فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه. فنزلت (وَمَنْ كَفَرَ). ومن الأحاديث الواردة في تأكيد أمر الحج قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» وروي «حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه» أي يتعذر عليكم الذهاب إلى مكة من جانب البر لعدم الأمن أو غيره. وعن ابن مسعود : حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت أي هلكت. وعن عمر : لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا أي عجل عقوبتهم ويستأصلون.

ثم إنه سبحانه لاين أهل الكتاب في الخطاب فقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) التي دلتكم على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ظهور البينات ودحوض الشبهات ، أو بعد معرفة فضيلة الكعبة ووجوب الحج؟ (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليه. وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته ودلالتها على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم وبخهم على إضلالهم فقال : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) قال المفسرون : وكان صدّهم عن سبيل الله إلقاء الشكوك والشبهات في قلوب ضعفة المسلمين ، وإنكار أن نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم ، ومنع من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم وكدهم ، أو بتذكير ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله. ومحل (تَبْغُونَها عِوَجاً) أي اعوجاجا نصب على الحال أو بدل وهو بكسر العين

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الصلاة باب ٨. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٩. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ٧٧. أحمد في مسنده (٥ / ٣٤٦).

٢١٩

الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى كالدين والقول. وأما الشيء الذي يرى فيقال فيه «عوج» بالفتح كالحائط والقناة ، ولهذا قال الزجاج : العوج بالكسر في المعاني وبالفتح في الأعيان. وتبغون بمعنى تطلبون ويقتصر على مفعول واحد إذا لم يكن معها اللام مثل «بغيت المال والأجر» فإن أريد تعديته إلى مفعولين زيدت اللام. فالتقدير تبغون لها عوجا كما تقول : صدتك ظبيا أي صدت لك ظبيا. والضمير عائد إلى السبيل فإنها تذكر وتؤنث. والمعنى انكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها زيفا كقولكم : إن النسخ يدل على البداء وإن شريعة موسى باقية إلى الأبد وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بذلك المنعوت في كتابنا أو المراد أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم. ويحتمل أن يكون (عِوَجاً) حالا بمعنى ذا عوج. وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقيل لهم : إنكم تبغون سبيل الله ضالين (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل قاله ابن عباس. أو أنتم تشهدون ظهور المعجزات على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يصغون لأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم الأمور يعني الأحبار. وفيه أن من كان كذلك لا يليق بحاله الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال. ثم أوعدهم بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) كقول السيد لعبده وقد أنكر طريقته. لا يخفى عليّ سيرتك ولست بغافل عنك. وإنما ختم الآية الأولى بقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ) وهذه بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) لأن ذلك فيما أظهروه من الكفر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا فيما أضمروه وهو الصد بالاحتيال وإلقاء الشبهة. وفي تكرير الخطاب في الآيتين بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) توبيخ لهم على توبيخ بألطف الوجوه وألين المقال لعلهم يتفكرون فينصرفون عن سلوك سبيل الضلال والإضلال. عن عكرمة ويروى عن زيد بن أسلم وجابر أيضا أن شاس بن قيس اليهودي ـ وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين ـ مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال : ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار. فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث ، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين ، أوس بن قيظى أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ـ فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئت والله رددتها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعا وقالا : قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهي

٢٢٠