تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

يربي أحدكم فلوة أو فصيلة حتى تكون أعظم من الجبل. فمن أعطى قلبه إلى الله فهو يربيه بين أصبعي جلاله حتى يصير أعظم من العرش بما فيه ، وإن قوما بذلوا المال لله ، وقوما بذلوا الحال بإيثار صفاء الأوقات وفتوحات الخلوات على طلاب الحق وأرباب الصدق للقيام بأمورهم في تشفي ما في صدورهم (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] فبذلوا ليحصلوا ، وحصلوا لينفصلوا ، وانفصلوا ليتصلوا ، واتصلوا ليصلوا الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله في طلبه لا في طلب غيره من الثناء والجزاء (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الدهر : ٩] (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا) على الله بأن يقول : عملت هذا العمل لأجلك ووجب لي عليك الأجر (وَلا أَذىً) بأن يطلب من الله غير الله. رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام فقال له : كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ينزلهم في مرتبة العندية (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] لا عند الجنة ولا عند النار. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) يصدر عن العارف بالله في طلب المعروف (وَمَغْفِرَةٌ) له وأن لم يكن عنده ما يتصدق (خَيْرٌ) له عند ربه (مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها) من الجهل (أَذىً) طلب غير الحق من الحق (وَاللهُ غَنِيٌ) عن غيره (حَلِيمٌ) لا يعجل بالعقوبة على من يختار في الطلب غيره ، ولو لا حلمه فما للتراب ورب الأرباب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) فالمعاملات إذا كانت مشوبة بالأغراض ففيها نوع من الإعراض ، ومن أعرض عن الحق فقد أقبل على الباطل ومن أقبل على الباطل فقد أبطل حقوقه في الأعمال (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢]. ولو كان قصدك في الصدقة طلب الحق لما مننت على الفقير بل كنت رهين منته حيث صار سبب وصولك إلى الحق ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو لا الفقراء لهلك الأغنياء» أي لم يجدوا سبيلا إلى الحق. وفسر بعضهم اليد العليا بيد الفقير ، واليد السفلى بيد الغني. لأن الفقير يأخذ منه الدنيا ويعطيه الآخرة (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنه لو كان مؤمنا بالله لكان ينفق لله ، ولو كان يؤمن بالآخرة لأنفق للآخرة لا للناس فمثل المرائي (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) هو عمله (فَأَصابَهُ وابِلٌ) وهو وابل الرد. «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك» (١) (فَتَرَكَهُ صَلْداً) مفلسا خائبا. (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) ليتوسلوا به إلى الله. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) بنعمة طلب شهود جماله فحرموا عن دولة وصاله. (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وتخليصا لنياتهم في طلب الحق ومرضاته من خطوط أنفسهم (كَمَثَلِ جَنَّةٍ)

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٨ باب ٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٢١. أحمد في مسنده (٤ / ٢١٥).

٤١

هي قلب المخلص (بِرَبْوَةٍ) في رتبة عالية عند الحق (أَصابَها وابِلٌ) الواردات الربانية (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) الإلهامات (فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) ضعف من نعيم الجنة وضعف من دولة الوصال وشهود ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فإن الله تعالى كما يعطي أهل الآخرة نصيبا من الدنيا بالتبعية ولا يعطي أهل الدنيا نصيبا من الآخرة ، فكذلك يعطي أهل الله نصيبا من الآخرة بالتبعية ولا يعطي أهل الآخرة ما لأهل الله من القربة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) كيف تعملون ولما ذا تعملون لابتغاء المرضاة أو لاستيفاء اللذات واستبقاء الحياة. ثم ضرب مثلا لروح الإنسان وقلبه بجنة له فيها من كل الثمرات إذ خلق في أحسن تقويم ، مستعدا لجميع الكرامات ، مشرفا بعلم السمات ، منورا بأنوار العقل والحواس السليمات ، متوحدا بحمل الأمانة ، متفردا برتبة الخلافة. جنة هي منظور نظر العناية تجري من تحتها أنهار الهداية ، وأصاب صاحبها ضعف الإنسانية ، (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) من متولدات القوى البشرية في غاية الافتقار إلى التربية بأغذية ثمراتها (فَأَصابَها إِعْصارٌ) من أعمال البر (فِيهِ نارٌ) من الرياء والنفاق (فَاحْتَرَقَتْ) جنة الروحانية بنار صفات البشرية وتبدلت الأخلاق الروحية بالنفسية ، والملكية بالشيطانية (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في إحسانه معكم بإيتاء الاستعداد الفطري ، فلا تبطلوه بقبيح فعالكم ، ولا تضيعوا أعماركم في طلب آمالكم ، وتستعدوا للموت قبل حلول آجالكم والله المستعان وهو حسبي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما

٤٢

تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

القراآت : (وَلا تَيَمَّمُوا) بتشديد التاء ومد الألف : البزي وابن فليح الباقون على الأصل (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بكسر التاء : يعقوب أي من يؤتيه الله. الباقون بالفتح (فَنِعِمَّا هِيَ) ساكنة العين : أبو عمرو والمفضل ويحيى وأبو جعفر ونافع غير ورش (فَنِعِمَّا هِيَ) بفتح النون وكسر العين : ابن عامر وعلي وحمزة وخلف والخراز ، الباقون (فَنِعِمَّا هِيَ) بكسر النون والعين والميم مشددة في القراآت. (وَنَكْفُرُ) بالنون والراء ساكنة : أبو جعفر ونافع وحمزة وخلف وعلي (وَيُكَفِّرُ) بالياء والراء مرفوعة : ابن عامر وحفص والمفضل. الباقون (وَنَكْفُرُ) بالنون ورفع الراء (يَحْسَبُهُمُ) وبابه بفتح السين : ابن عامر ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة. (بِسِيماهُمْ) بالإمالة : حمزة وعلي وابن شاذان عن خلاد مخيرا. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة ، وكذلك كل كلمة على ميزان «فعلى».

الوقوف : (مِنَ الْأَرْضِ) «ز» لعطف المتفقتين (تُغْمِضُوا فِيهِ) (ط) ، (حَمِيدٌ) ه ، (بِالْفَحْشاءِ) ج ، وإن اتفقت الجملتان ولكن للفصل بين تخويف الشيطان الكذاب ووعد الله الحق الصادق ، (فَضْلاً) ط ، (عَلِيمٌ) ه ، وقد يوصل على جعل ما بعده صفة ، (مَنْ يَشاءُ) ج لابتداء الشرط مع العطف. ومن قرأ (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بالكسر فالوصل أجوز. (كَثِيراً) ط ، (الْأَلْبابِ) ه ، (يَعْلَمُهُ) ط ، (أَنْصارٍ) ه ، (فَنِعِمَّا هِيَ) ج ، (خَيْرٌ لَكُمْ) ط ، لمن قرأ ونكفر مرفوعا بالنون أو الياء على الاستئناف. ومن جزم بالعطف على موضع فهو خير لكم لم يقف (سَيِّئاتِكُمْ) ط ، (خَبِيرٌ) ه ، (مَنْ يَشاءُ) ط لابتداء الشرط (فَلِأَنْفُسِكُمْ) ط لابتداء النفي ، (وَجْهِ اللهِ) ط ، (لا تُظْلَمُونَ) ه ، (فِي الْأَرْضِ) ز لأن (يَحْسَبُهُمُ) وإن صلحت حالا بعد حال نظما ، ولكن لا يليق بحال من أحصر. (التَّعَفُّفِ) ز لأن (تَعْرِفُهُمْ) تصلح استئنافا والحال أوجه أي يحسبهم الجاهل أغنياء وأنت تعرفهم بحقيقة ما في بطونهم من الضر وهم لا يسألون الناس على إلحاف. وقد يجعل (لا يَسْئَلُونَ) استئنافا فيجوز الوقف على (بِسِيماهُمْ إِلْحافاً) ط ، (عَلِيمٌ) ه ، (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ج (يَحْزَنُونَ) ه.

التفسير : لما رغب في الإنفاق وذكر أن منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك ، وشرح ما يتعلق بكل من القسمين وضرب لكل واحد مثلا ، ذكر بعد ذلك أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف يجب أن يكون فقال (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا

٤٣

أَخْرَجْنا) أي من طيبات ما أخرجنا ، فحذف لدلالة الأول عليه. عن الحسن : أن المراد من هذا الإنفاق الفرض بناء على أن ظاهر الأمر للوجوب ، والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة ، وقيل : التطوع لما روي عن علي والحسن ومجاهد أن بعض الناس كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم فأنزل الله هذه الآية. عن ابن عباس : جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة لأهل الصفة على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بئسما صنع صاحب هذا فنزلت. وقيل : يشمل الفرض والنفل ، لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك فقط. ويتفرع على قول الوجوب وجوب الزكاة في كل مال يكسبه الإنسان ، فيشمل زكاة التجاوز وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم وزكاة كل ما ينبت من الأرض ، إلا أن العلماء خصصوها بالأقوات لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصدقة في أربعة : في التمر والزبيب والحنطة والشعير وليس فيما سواها صدقة» فهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة ، لكن ثبت أخذ الزكاة من الذرة وغيرها بأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلم وجوب الزكاة في الأقوات دون غيرها. ولا يكفي في وجوب الزكاة كون الشيء مقتاتا على الإطلاق ، بل المعتبر حالة الاختيار لا وقت الضرورة ومثله الشافعي بالقت وحب الحنظل وسائر البذور البرية ، وشبهها ببقرة الوحش لا زكاة فيها لأن الناس لا يتعهدونها. وأيضا لا تجب الزكاة في القوت ما لم يبلغ خمسة أوسق وبه قال مالك وأحمد لرواية أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (١) وقال أبو حنيفة : يجب العشر في القليل والكثير استدلالا بعموم الآية. وتفصيل الكلام في الأموال الزكوية وكيفية إخراجها ونصاب كل منها مشهور مذكور في الفروع ، فلذلك ولطولها لم نشرع فيها. وما المراد بالطيب في الآية؟ قيل : الجيد فيكون المراد بالخبيث الرديء لما مر في سبب النزول أنهم كانوا يتصدقون برذالة أموالهم فنهوا عن ذلك ، ولأن المحرم لا يجوز أخذه بالإغماض وبغيره ، والآية دلت على جواز أخذ الخبيث بالإغماض. وعن ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام ، والمراد من الإغماض هو المسامحة وترك الاستقصاء. والمعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال من حلاله أو من حرامه. ويحتمل أن يراد ما

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث ١ ، ٣ ، ٤. البخاري في كتاب الزكاة باب ٥٦. أبو داود في كتاب البيوع باب ٢٠. النسائي في كتاب البيوع باب ٤٥. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٦. الموطأ في كتاب الزكاة حديث ١ ، ٣.

٤٤

يكون طيبا من جميع الوجوه فيكون طيبا بمعنى الحلال وبمعنى الجودة أيضا ، لأن الاستطابة قد تكون شرعا وقد تكون عقلا. واعلم أن المال الزكوي إن كان كله شريفا وجب أن يكون المأخوذ منه كذلك ، وإن كان الكل خسيسا فلا يكلف صاحبه فوق طاقته ولا يكون خلافا للآية لأن المأخوذ في هذه الحال لا يكون خبيثا من ذلك المال وإنما الكلام فيما لو كان في المال جيد ورديء فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك ، ولا تكلف أيضا جيده لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم» (١) بل الواجب حينئذ هو الوسط. ثم إن قلنا : المراد من الإنفاق في الآية التطوع أو هو والفرض جميعا ، فالمعنى أن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه قضاء لحقوق التعظيم والإخلاص ، ومعنى (لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) لا تقصدوه. يقال : تيممته وتأممته كله بمعنى قصدته. ومحل (تُنْفِقُونَ) نصب على الحال ، وقدم (مِنْهُ) عليه ليعلم أن المنهي عنه هو تخصيص الخبيث بالإنفاق منه أي إذا كان في المال طيب وخبيث. ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) ثم ابتدأ مستفهما بطريق الإنكار فقال : (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم إلا بالإغماض وهو غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء. يقال للبائع : أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وأصله أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه كيلا يرى ذلك ، فكثر حتى جعل كل مساهلة إغماضا أي لو أهدي لكم مثل هذه الأشياء أخذتموها إلا على استحياء وإغماض ، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟ ويحتمل أن يراد إلا إذا أغمضتم بصر البائع أي كلفتموه الحط من الثمن. عن الحسن : لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن صدقاتكم (حَمِيدٌ) محمود على ما أنعم من البيان والتكليف بما تحوزون به النعيم الأبدي ، أو حامد شاكر على إنفاقكم كقوله : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩] ثم إن الله تعالى لما رغب في أجود ما يملكه الإنسان أن ينفق ، حذر عن وسوسة الشيطان فقال : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أما الشيطان فيشمل إبليس وجنوده وشياطين الإنس والنفس الأمارة بالسوء. والوعد يستعمل في الخير والشر. قال تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج : ٧٢] ويمكن أن يكون استعماله في الشر محمولا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ١. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٩. أبو داود في كتاب الزكاة باب ٥. الترمذي في كتاب الزكاة باب ٦. النسائي في كتاب الزكاة باب ١ ، ٤٦. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ١.

٤٥

على التهكم مثل (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار وقرىء الفقر بضمتين ، والفقر بفتحتين. (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور. والفاحش عند العرب البخيل. والتحقيق أن لكل خلق طرفين ووسطا ، فالطرف الكامل للإنفاق هو أن يبذل كل ماله في سبيل الله ، والطرف الأفحش أن لا ينفق شيئا لا الجيد ولا الرديء ، والوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء. فالشيطان إذا أراد نقله من الأفضل إلى الأفحش ، فمن خفي حيلته أن يجره إلى الوسط وهو وعده بالفقر ، ثم إلى الطرف وهو أمره بالفحشاء. وذلك أن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يمكنه أن يجره ابتداء إليها إلا بتقديم مقدمة هي التخويف بالفقر إذا أنفق الجيد من ماله ، فإذا أطاعه زاد فيمنعه من الإنفاق بالكلية. وربما تدرج إلى أن يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة ، فإذا صار هكذا ذهب وقع الذنوب عن قلبه ويتسع الخرق فيقدم على المعاصي كلها. ثم لما ذكر درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الملك ينادي كل ليلة : اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا» (١) فالشيطان يعدكم الفقر في غد الدنيا ، والرحمن يعدكم المغفرة في غد العقبى ، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا مشكوك فيه ، وغد العقبى مقطوع به. وعلى تقدير وجدان غد الدنيا فقد لا يبقى المال بآفة أخرى ، وعند وجدان العقبى لا بد من حصول المغفرة فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد. ولو فرض بقاء المال فقد لا يتمكن صاحبه من الانتفاع به لخوف أو مرض أو مهم بخلاف الانتفاع بما في الآخرة فإنه لا مانع منه. وبتقدير التمكن من الانتفاع بالمال فإن ذلك ينقطع ويزول بخلاف الموعود في الآخرة فإنه باق لا يزول. وأيضا لذات الدنيا مشوبة بالآلام والمضار البتة ، فلا لذة إلا وفيها ألم من وجوه كثيرة بخلاف لذات الآخرة فإنه لا نغص فيها ولا نقص. والمراد بالمغفرة تكفير الذنوب ، والتنكير فيه للدلالة على الكمال والتعظيم لا سيما وقد قرن به لفظة «منه» فإن غاية كرمه ونهاية جوده مما يعجز عن إدراكها عقول الخلائق. ويحتمل أن يكون نوعا من المغفرة وهو المشار إليه في آية أخرى (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] أو أن يجعل شفيعا في غفران ذنوب إخوانه المؤمنين. وأما الفضل فيحتمل أن يراد به الفضيلة الحاصلة للنفس وهي ملكة الجود والسخاء ، وذلك أن المال فضيلة خارجية وعدمه نقصان خارجي ، وملكة الجود فضيلة نفسانية وملكة البخل رذيلة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٢٧. أحمد في مسنده (٢ / ٣٠٦ ، ٣٤٧).

٤٦

نفسانية ، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي ، وإذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي ، فيكون الإنفاق أولى وأفضل. وأيضا متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل. وأيضا مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى (وَاللهُ واسِعٌ) كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد (عَلِيمٌ) بحال من نفق ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان. ثم نبه على الأمر الذي لأجله يحصل ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان وهو الحكمة والعقل ، فإن وعد الشيطان إنما ترجحه الشهوة والنفس. عن مقاتل : إن تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه : أحدها : مواعظ القرآن (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [البقرة : ٢٣١] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان : ١٢] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ٢٥١] ورابعها القرآن بما فيه من الأسرار (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم. فتأمل يا مسكين شرف العلم فإن الله تعالى سماه الخير الكثير (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) والتنكير للتعظيم. وسمى الدنيا بأسرها قليلا «قل متاع الدنيا قليل» وذلك أن الدنيا متناهية العدد ، متناهية المقدار ، متناهية المدة والعلوم ، لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادات الحاصلة منها. واعلم أن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به. فمرجع الأول إلى العلم والإدراك المطلق ، ومرجع الثاني إلى فعل العدل والصواب ، ولذلك سأل إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) [الشعراء : ٨٣] وهو الحكمة النظرية ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء : ٨٣] وهو الحكمة العملية. ونودي موسى عليه‌السلام إنى أنا الله لا إله إلا أنا وهو الحكمة النظرية ثم قال : (فَاعْبُدْنِي) [طه : ١٤] وهو العملية. وحكي عن عيسى عليه‌السلام أنه (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [مريم : ٣٠ ، ٣١] وكلها النظرية (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) [مريم : ٣١ ، ٣٢] وجميعها العملية. وقال في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] وهو النظرية ثم قال (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩] وهو العملية. وقال في حق جميع الأنبياء (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) [النحل : ٢] وأنه الحكمة العلمية ثم قال (فَاتَّقُونِ) [النحل : ٢] وهو الحكمة العملية.

٤٧

فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن كمال حال الإنسان في هاتين القوتين. والحكمة فعلة من الحكم كالنحلة من النحل. ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي ، فعيل بمعنى فاعل ويجيء بمعنى مفعول (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤] أي محكم. وفي الآية دليل على أن جميع العلوم النظرية والأخلاق المرضية إنما هي بإيتاء الله تعالى. والذين حملوا الإيتاء على التوفيق والإعانة كالمعتزلة ما زادوا إلا أن وسعوا الدائرة إذ لا بد من الانتهاء إليه أية سلكوا (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين إذا حصل لهم الحكم والمعارف لم يقفوا عند المسببات ، فلم ينسبوا هذه الأحوال إلى أنفسهم بل يرقون إلى أسبابها حتى يصلوا إلى السبب الأول. وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا : هذه الحكمة لا تفيد بنفسها وإنما ينتفع بها المرء إذا تدبر وتذكر فعرف ماله وما عليه ، وعند ذلك يقدم أو يحجم. ثم إنه تعالى نبه على أنه عالم بما في قلب العبد من نية الإخلاص أو الرياء ، وأنه يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئا منها فقال (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) لله أو للشيطان (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) في طاعة الله أو معصيته (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) وتذكير الضمير إما لأنه عائد إلى «ما» وإما لأنه عائد إلى الأخير كقوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] وهذا قول الأخفش. والنذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه وأصله من الخوف كأنه يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ومنه الإنذار إبلاغ مع تخويف. واعلم أن النذر قسمان : نذر اللجاج والغضب ونذر التبرر. أما الأول فهو أن يمنع نفسه من الفعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك كقوله «إن كلمت فلانا أو أكلت كذا أو دخلت الدار أو لم أخرج من البلد فلله علي صوم شهر أو صلاة أو حج أو إعتاق رقبة» ثم إنه إذا كلمه أو أكل أو دخل أو لم يخرج فللعلماء ثلاثة أقوال : أحدها يلزمه الوفاء بما التزم ، والثاني : وهو الأصح أن عليه كفارة يمين لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كفارة النذر كفارة يمين» (١) ، والثالث : التخيير بين الوفاء وبين الكفارة. وأما نذر التبرر فنوعان : نذر المجازاة وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة مثل «إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا فلله علي أن أعتق رقبة أو أصوم أو أصلي كذا» فإذا حصل المعلق عليه لزمه الوفاء بما التزم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (٢). ونذر التنجيز وهو أن يلتزم ابتداء غير معلق على شيء كقوله «لله علي

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب النذر حديث ١٢. أبو داود في كتاب الأيمان باب ٢٥. الترمذي في كتاب النذور باب ٤. النسائي في كتاب الأيمان باب ٤١. أحمد في مسنده (٤ / ١٤٤).

(٢) رواه الترمذي في كتاب النذور باب ٢.

٤٨

أن أصوم أو أصلي أو أعتق» فالأصح أنه يصح ويلزم الوفاء به لمطلق الخبر. وما يفرض التزامه بالنذر إما المعاصي وإما الطاعات وإما المباحات. فالمعاصي كشرب الخمر والزنا ونذر المرأة صوم أيام الحيض ونذر قراءة القرآن في حال الجنابة لا يصح التزامها بالنذر لأنه لا نذر في معصية الله تعالى ، ومن هذا القبيل نذر ذبح الولد أو ذبح نفسه. وإذا لم ينعقد نذر فعل المعصية فعليه أن يمتنع منه ولا يلزمه كفارة يمين ، وما روي من أنه صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» (١) محمول على نذر اللجاج ، وأما الطاعات فالواجبات ابتداء بالشرع كالصلوات الخمس وصوم رمضان لا معنى لالتزامها بالنذر معلقا أو غير معلق ، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني ، وإذا خالف ما ذكره فلا يلزمه الكفارة على الأصح. وأما غير الواجبات فالعبادات المقصودة وهي التي وضعت للتقرب بها وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة فتلزم بالنذر وذلك كالصوم والصلاة والزكاة والصدقة والحج والاعتكاف والإعتاق وكذا فروض الكفايات التي يحتاج فيها إلى معاناة تعب وبذل مال كالجهاد وتجهيز الموتى ، ذكره إمام الحرمين ـ وفي الصلاة على الجنازة والأمر بالمعروف ، وما ليس فيه بذل مال وكثير مشقة الأظهر اللزوم أيضا ، وكما يلزم أصل العبادات بالنذر يلزم رعاية الصفة المشروطة فيها إذا كانت من المحبوبات كالصلاة بشرط طول القراءة أو الركوع أو السجود أو الحج بشرط المشي إذا جعلناه أفضل من الركوب وهو الأصح ولو أفرد الصفة بالالتزام. والأصل واجب كتطويل الركوع والسجود أو القراءة في الفرائض ، فالأشبة اللزوم لأنها عبادات مندوب إليها. وأما الأعمال والأخلاق المستحسنة كعيادة المريض وزيارة القادم وإفشاء السلام على المسلمين فالأظهر لزومها أيضا بالنذر ، وكذا تجديد الوضوء لأن كلها مما يتقرب بها إلى الله سبحانه ، وقد رغب الشارع فيها. وأما المباحات التي لم يرد فيها ترغيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعلها أو تركها لم ينعقد نذره ، روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه. ولو قال : «لله عليّ نذر» من غير تسمية لزمه كفارة يمين لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نذر نذرا وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين» (٢) (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين يمنعون الصدقات ، أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو للرياء ، أو لا يوفون بالنذور ، أو ينذرون في

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأيمان باب ١٩. الترمذي في كتاب النذور باب ١. النسائي في كتاب الأيمان باب ٤١. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب ١٦.

(٢) رواه أبو داود في كتاب الأيمان باب ٢٥. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب ١٧.

٤٩

المعاصي (مِنْ أَنْصارٍ) ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه. والأنصار جمع ناصر كأصحاب في صاحب ، أو جمع نصير كأشراف في شريف. وقد يتمسك المعتزلة بهذا في نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، فإن الشفيع ناصر. ورد بأن الشفيع في العرف لا يسمى ناصرا وإلا كان قوله (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ٤٨] بعد قوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨] تكرارا. وأيضا إن هذا الدليل النافي عام في حق كل الظالمين وفي كل الأوقات ، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام. وأيضا اللفظ لا يكون قاطعا في الاستغراق بل ظاهرا على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنيا والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطا. سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) والتركيب موضوع للصحة والكمال ومنه «فلان صادق المودة» و «هذا خل صادق الحموضة» و «صدق فلان في خبر» إذا أخبر على وجه الصحة والكمال ، ومنه «الصداق» لأن عقد الصداق به يتم ويكمل ، والزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويبقى وبها يستدل على صدق العبد وكماله في إيمانه ، (فَنِعِمَّا هِيَ) من قرأ بسكون العين فمحمول على أنه أوقع على العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس وإلا لزم التقاء الساكنين على غير حدة ، ومثله ما يروى في الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمرو بن العاص : «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (١) بسكون العين. ومن قرأ بكسر النون والعين فلتحصيل المشاكلة ، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين فعلى الأصل. قال طرفة :

نعم الساعون في الأمر المبر

قال سيبويه : «ما» في تأويل الشيء أي نعم الشيء هي. وقال أبو علي : الجيد في مثله أن يقال : «ما» في تأويل شيء لأن «ما» هاهنا نكرة إذ لو كانت معرفة بقيت بلا صلة. فإن «هي» مخصوصة بالمدح. فالتقدير : نعم شيئا إبداء الصدقات. فحذف المضاف للدلالة ، أو نعم شيئا تلك الصدقات ، أو تلك الخصلة وهي الإبداء. قال الأكثرون : المراد بها صدقة التطوع لقوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) والإخفاء في صدقة التطوع أفضل كما أن الإظهار في الزكاة أفضل أما الأول فلأن ذلك أشق على النفس فيكون أكثر ثوابا ، ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان» والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء ، وقد بالغ قوم في الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فبعضهم كان يلقي الصدقة في يد

__________________

(١) أحمد في مسنده (٤ / ١٩٧).

٥٠

الأعمى ، وبعضهم يلقيها في طريق الفقير أو في موضع جلوسه بحيث يراها ولا يرى المعطي ، وبعض يشدها في ثوب الفقير وهو نائم ، وبعض يوصل إلى الفقير على يد غيره ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر» وقال أيضا «إن العبد ليعمل عملا في السر فيكتبه الله سرا ، فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقة السر تطفئ غضب الرب» (١) وأيضا في الإظهار هتك ستر الفقير وإخراجه من حيز التعفف ، وربما أنكر الناس على الفقير أخذ تلك الصدقة لظن الاستغناء به فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة ، ولأن في الإظهار إذلالا للآخذ وإهانة له ، وإذلال مؤمن غير جائزة ولأن الصدقة كالهدية ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاء فيها» وربما لا يدفع الفقير إليهم شيئا فيقع في حيز اللوم والتعنيف. نعم لو علم أنه إذا أظهرها اقتدى غيره به لم يبعد والحالة هذه أن يكون الإظهار أفضل. وروى ابن عمر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء» واعلم أن الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة ، فههنا الشيطان يردد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكره. فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فيكون إخفاؤه يفضل علانيته سبعين ضعفا كما روي عن ابن عباس : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا. ثم إن لله تعالى عبادا راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنوار هدايته ، وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله فلم يحتاجوا إلى المجاهدة. فإذا أعلنوا بالعمل أرادوا أن يقتدي بهم غيرهم ، فهم كاملون في أنفسهم ويسعون في تكميل غيرهم كما قال تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) [الأعراف : ١٨١] (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدى في الذهاب إلى الله. وأما أن الإظهار في إعطاء الزكاة أفضل فلأن الله أمر الأئمة بتوجيه السعادة لطلب الزكوات ، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها ، ولأنه ينفي التهمة ولهذا روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة. وعن ابن عباس : صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا. هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره ، فإن لم يعرف باليسار كان الإخفاء له أفضل ولا سيما إذا خاف الظلمة أن يطمعوا في ماله. وعن بعضهم أن معنى قوله (خَيْرٌ لَكُمْ) أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير من الأطعمة.

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب ٢٨. بلفظ «ان الصدقة لتطفئ غضب الرب».

٥١

وإنما قيل (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) لأن المقصود من بعث المتصدق أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالما بالفقراء مميزا لهم عن غيرهم ، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة فلهذا شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء. وأما في الإبداء فقلما يخفى حال الفقير فلهذا لم يصرح بالشرط. ونكفر عنكم من قرأ بالنون مرفوعا فهو عطف على محل ما بعد الفاء ، لأن الأصل في الشرط والجزاء أن يكونا فعلين. فإذا وقع الجزاء فعلا مضارعا مع الفاء كان خبر مبتدأ محذوف. فقوله : (فَهُوَ) في تأويل. فيكون خيرا لكم ونكفر بالرفع عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر ، وأن يكون جملة من فعل وفاعل مستأنفة. ومن قرأ مجزوما فهو عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط كأنه قيل : وإن تخفوها تكن أعظم أجرا. وأما من قرأ (وَيُكَفِّرُ) بياء الغيبة مرفوعا فالإعراب كما مر في النون والضمير لله أو للإخفاء. وقرىء وتكفر بالتاء مرفوعا ومجزوما والضمير للصدقات ، وقرأ الحسن بالياء والنصب بإضمار «إن» ومعناه : وإن تخفوها تكن خيرا لكم وأن يكفر عنكم خير لكم. والتكفير في اللغة الستر والتغطية ومنه «كفر عن يمينه» أي ستر ذنب الحنث. وقوله : (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) يحتمل أن يكون «من» للتبعيض لأن السيئات كلها لا تكفر وإنما يكفر بعضها ، ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغراء على ارتكابها ، وأحسن أحوال العبد أن يكون بين الخوف والرجاء. ويحتمل أن يكون للتعليل أي من أجل سيئاتكم كما لو قلت : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك. وقيل : إنها زائدة. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) كأنه ندب بهذا الكلام إلى الإخفاء الذي هو أبعد من الرياء.

عن الكلبي أنه قال : اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرة القضاء وكانت معه أسماء بنت أبي بكر ، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها فسألتاها وهما مشركتان فقالت : لا أعطيكما شيئا حتى أستأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنكما لستما على ديني. فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها أن تتصدق عليهما فأعطتهما ووصلتهما. قال الكلبي : ولها وجه آخر ، وذلك أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود ، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا. فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وراودوهم أن يسلموا واستأمروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فأعطوهم بعد نزولها. وعن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصدقوا على أهل الأديان» وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك. والعلماء أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون

٥٢

الآية مخصوصة بالتطوع. وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وأباه غيره ،. ومعنى الآية ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم فأعلمهم الله تعالى أنه بعث بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله ومبينا للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك. فالهدى هاهنا بمعنى الاهتداء ، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم. وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة توقيف الصدقة على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل الإيمان المطلوب منهم هو الإيمان طوعا واختيارا (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إثبات للهداية التي نفاها أولا. لكن المنفي أولا هو الهداية أي الاهتداء على سبيل الاختيار فكذا الثاني. ومنه يعلم أن الاهتداء الاختياري واقع بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وهذا التفسير هو المناسب لسبب النزول. وفي الكشاف : أن المعنى لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه. ثم ظاهر قوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) إنه خطاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن المراد به هو وأمته ، لأن ما قبله عام (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) وما بعده عام (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) من مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) ثوابه فليس يضركم كفرهم أو فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي لستم في صدقتكم على أقاربكم المشركين تقصدون إلا وجه الله من صلة رحم أو سد خلة مضطر ، قد علم الله هذا من قلوبكم. وقيل : خبر في معنى نهي أي لا تنفقوا إلا لله. وقيل : معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم المفيد للمدح حتى تبتغوا وجه الله ، وقيل : ليست نفقتكم إلا لطلب ما عند الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وفائدة إقحام الوجه أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أشرف من قولك فعلته له ، لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا. وأيضا قول القائل : «فعلت هذا الفعل له» احتمل الشركة وأن يكون قد فعله لأجله ولغيره ، أما إذا قال «فعلت لوجهه» فلا يحتمل الشركة عرفا (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه في الآخرة أضعافا مضاعفة ، وإنما حسن قوله (إِلَيْكُمْ) مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا.

ثم لما بيّن أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان ، أراد أن يبين أن أشد الناس

٥٣

استحقاقا من هو فقال (لِلْفُقَراءِ) أي ذلك الإنفاق لهؤلاء الفقراء كما لو تقدم ذكر رجل فتقول : عاقل لبيب أي ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب ، وقيل : اعمدوا للفقراء أو أجلوا ما تنفقون للفقراء ، أو المراد صدقاتكم للفقراء. قيل : نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة رجل وهم أصحاب الصفة ، لم يكن لهم سكن ولا عشائر بالمدينة ، كانوا ملازمين للمسجد يتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وعن ابن عباس : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائي. ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفات : الأولى قوله (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي حصروا أنفسهم ووقفوا على الجهاد في سبيل الله لأن سبيل الله مختص بالجهاد في عرف القرآن ، ولأن وجوب الجهاد في ذلك الزمان كان آكد فكانت الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد ، فموضع الصدق فيهم يكون أوقع سدا لخلتهم وتقوية لقلوبهم وإعلاء لمعالم الدين. وعن سعيد بن المسيب واختاره الكسائي ، أن هؤلاء قوم أصابتهم جراحات في الغزوات فأحصرهم المرض والزمانة ، وعن ابن عباس : هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد فعذرهم الله. الثانية (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي سيرا فيها وذلك إما لاشتغالهم بالعبادة أو بالجهاد فلا يفرغون للكسب والتجارة ، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر ، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه. الثالثة (يَحْسَبُهُمُ) يظنهم (الْجاهِلُ) بحالهم ومن لم يخبر أمرهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) من أجل تركهم المسألة وإظهارهم التجمل تكلفا منهم. والتعفف إظهار العفة وهي ترك الشيء والكف عنه. الرابعة (تَعْرِفُهُمْ) أي أنت يا محمد أو كل راء (بِسِيماهُمْ) والسيما والسيمياء العلامة التي يعرف بها الشيء من السمة العلامة فوزنه «عفلى» قال مجاهد : سيماهم التخشع والتواضع. الربيع والسدي : أثر الجهد من الجوع والفقر. الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع. أبو زيد : رثاثة ثيابهم. وقيل : المهابة في العيون. وقيل : آثار الفكر. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كثير الفكر. الخامسة (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي إلحاحا وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطى له. والتركيب يدل على الستر كأنه لزم المسئول لزوم الساتر للمستور. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذيء السآل الملحف» قيل : معنى الآية أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا ، وأورد عليه أنه ينافي التعفف الذي وصفوا به قبل. فالوجه أن يراد نفي السؤال والإلحاف جميعا كقوله : «ولا ترى الضب بها يتجحر» أي لا ضب ولا انجحار ليكون موافقا لوصفهم بالتعفف. وفائدة الكلام التنبيه على سوء طريقة الملحف كما

٥٤

إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور والآخر طياش خفيف وأردت أن تمدح أحدهما وتذم الآخر قلت : فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ليس بخواض ولا مهذار. لم يكن غرضك من قولك «ليس بخواض ولا مهذار» وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عنه ، بل غرضك التنبيه على سوء طريقة الثاني. وقيل : معناه لا يتركون السؤال إلا بإلحاح شديد منهم على أنفسهم لشدة حاجتهم كقوله :

ولي نفس أقول لها إذا ما

تنازعني لعلي أو عساني

وقيل : إن عدم السؤال بطريق الإلحاف يتضمن نفي السؤال عنهم رأسا لأن كل سائل فلا بد أن يلح في بعض الأوقات كأنه يقول : إذا أرقت ماء وجهي فلا أرجع بغير مقصود. وقيل : لعل الساكت عن السؤال يطهر من نفسه أمارات الحاجة فيكون في حال سكوته أنطق ما يكون فترق القلوب له ، فالمراد أنهم وإن سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السؤال من رثاثة الحال وآثار الانكسار ما يقوم مقام السؤال فإن ذلك نوع إلحاف ، بل يتجملون للخلق بحيث لا يطلع على سرهم غير الخالق. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن استعف يعفه الله» (١) «لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب به فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس» (٢) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيه أن ثواب هذا الإنفاق الذي هو أعظم المصارف لا يكتنه كنهه فلذلك وكل إلى علم الله تعالى بخلاف الآية المتقدمة فإنه لما رغب في التصدق على أهل الأديان قال في آخره (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) كما لو قال السلطان لعبده الذي حسن عنده موقع خدمته : إني بحسن خدمتك عالم ولحقك عارف. كان أبلغ مما لو قال : إن أجرك واصل إليك. ثم أرشد في خاتمة الآيات إلى أكمل وجوه الإنفاقات بقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الآية. وذلك أن الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة يكون ذلك منهم دليلا على الحرص البالغ والاهتمام التام كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه متعللين بوقت وحال. والباء بمعنى «في» أي في الليل والنهار و (سِرًّا وَعَلانِيَةً) منصوبان على الظرفية أيضا أي في أوقات السر والعلن ، أو على وصف المصدر أي إنفاقا سرا وعلانية ، أو على الحال لكونه بيانا عن كيفية الإنفاق. وقيل : لما نزل

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ١٧. أحمد في مسنده (١ / ١٩٣).

(٢) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٥٠ ، ٥٣. الترمذي في كتاب الزكاة باب ٣٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٨٥. أحمد في مسنده (١ / ١٢٤) ، (٢ / ٢٤٣).

٥٥

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير إلى أصحاب الصفة وبعث عليّ بوسق من تمر ليلا فنزلت الآية. وفي تقديم ذكر الليل وتقديم السر على العلانية دليل على أن صدقة علي رضي‌الله‌عنه كانت أكمل. وعن ابن عباس : ما كان علي رضي‌الله‌عنه يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم نهارا وبدرهم ليلا وبدرهم سرا وبدرهم علانية فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما حملك على هذا؟ فقال : أن استوجب ما وعد لي ربي. فقال : ذلك لك ونزلت الآية. وقيل : نزلت في أبي بكر حين تصدق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية. وقيل : في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله. وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

التأويل : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) فيه صلاح المتصدق من وجوه : أحدها لو فسر الطيب بالحلال فليقبل الله منه ، ولو فسر بالجودة فليجز به بقدر جودته. وثانيها ليثاب على التعظيم لأمر الله. وثالثها ليثاب على الشفقة على خلق الله. ورابعها ليثاب على الإيثار (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] وخامسها ليستحق البر (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢]. وسادسها ليثاب على زيادة الإيمان وأن المتصدق في صدقته كالزارع في زراعته. فكما أن الزارع كلما ازداد إيقانه بحصول الثمرة اجتهد في جودة البذر فكذا المتصدق كلما ازداد إيمانه بالبعث والجزاء زاد في جودة صدقته لتحققه (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠] وقدم ذكر الكسب على ذكر المخرج من الأرض لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسب يده» (١) وفي الآية معنى آخر لطيف (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) من تزكية النفوس وتصفية القلوب (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ) من أرض طينتكم من تحلية سرائركم بمكارم الأخلاق ، ولتكن النفقة طيبة من خباثة الشبهات طيبا إنفاقها من خباثة الأغراض الدنيوية والأخروية ، طيبا منفقها من خباثة الالتفات والنظر في الإنفاق إلى غير الله ، فإذا كانت النفقة طيبة في نفسها فلله قبول طيب من الوسائط فيأخذها بيده ويربيها قبل أن تقع في يد الفقير ، وإذا كانت اليد طيبة في إنفاقها فلله قبول طيب فإنها أبلغ عند الله من عملها ، وإذا كان القلب المنفق طيبا عن الالتفات إلى غير الله فلله قبول طيب عن الأغيار بين أصبعين من أصابع الرحمن ، وهذا

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب البيوع باب ١. ابن ماجه في كتاب التجارات باب ١. أحمد في مسنده (٦ / ٣١).

٥٦

تحقيق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب» (١) ولستم بآخذي هذا الخبيث لا في أصل الفطرة ولا في عهد الخلقة لأنكم خلقتم من أصل طيب وطينة طيبة. فالروح من أطيب الأطايب لأنه أقرب الأقربين إلى حضرة رب العالمين ، والجسد من التراب الطيب (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء : ٤٣] ثم أحياكم بالإيمان (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧] ثم يرزقكم من الطيبات (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٥٧] فليس منكم شيء خبيث في الظاهر والباطن (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) فتقبلوه تكلفا وقسرا «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه» (٢) فلما لم تكن الخباثة ذاتية للإنسان بل كانت طارئة عليه عارية لديه أنزل الله تعالى كلمة طيبة هي «لا إله إلا الله» ليطيب بالمواظبة عليها أخلاقهم ويستحقوا يوم القيامة أن يقال لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) فمن كمال غناه أراد أن يغنيكم بثواب الإنفاق (حَمِيدٌ) على ما أنعم بهذا التكليف ليتوسل به إلى الكمال الأبدي. (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ظاهرا فهو يأمركم بالفحشاء باطنا لأنها اسم جامع لكل سوء فيتضمن البخل والحرص واليأس من الحق والشك في مواعيد الحق بالخلف والتضعيف وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه ونسيان فضله وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبذر كل بلية. فمن فتح على نفسه باب وسوسة فسوف يبتلى بهذه الآفات وأضعافها ، ومن فتح على نفسه باب عدة الحق أفاض عليه سجال غفرانه وبحار فضله وإحسانه. فالمغفرة تكفير الذنوب والآثام ، والفضل ما لا تدركه الأوهام (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] فمن ذلك أن يفتح على قلبه باب حكمته عاجلا كما قال (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) وليست الحكمة مما يحصل بمجرد التكرار كما ظنه أهل الإنكار والذين لم يفرقوا بين المعقولات وبين الأسرار والحكم الإلهيات. فالمعقولات ما تكتسب بالبرهان وهي مشتركة بين أهل الأديان ، والأسرار الإلهية مواهب الحق لا ترد إلا على قلوب الأنبياء والأولياء (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥] (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين لم يقفوا عند القشور وارتقوا إلى لب عالم النور. ثم أخبر عن توفية الأجور للمنفق في المفروض والمنذور (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين وضعوا الشيء في غير موضعه فبدلوا بالإنفاق النفاق وبالإخلاص الرياء (مِنْ أَنْصارٍ) ولا ناصر بالحقيقة إلا الله ، ومن أذن له الله

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث ٦٤. الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب ٣٦.

(٢) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٩٢. أبو داود في كتاب السنة باب ١٧. الترمذي في كتاب القدر باب ٥. الموطأ في كتاب الجنائز حديث ٢.

٥٧

إبداء الصدقات ضد إخفائها ، وإخفاؤها تخليتها عن شوب الحظوظ وإليه الإشارة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبعة يظلهم الله في ظله» ثم قال : «ورجل تصدق بيمينه فأخفاها عن شماله» (١) أي عن حظوظ نفسه لتكون خالصة لوجه الله. فصاحبها يكون في ظل الله قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المرء يكون في ظل صدقته يوم القيامة» (٢) أي إن كانت صدقته لله كان في ظل الله ، وإن كانت للجنة كان في ظل الجنة ، وإن كانت للهوى كان في ظل الهاوية. فمعنى قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) أي تظهروها لطمع ثواب الجنة فإن طمع الصواب شوب حظ (فَنِعِمَّا هِيَ) فإنها مرتبة الأبرار (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار : ١٣] (وَإِنْ تُخْفُوها) عن كل حظ ونصيب (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) الذين تعطونها إياهم لوجه الله لا لحظ النفس (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأن جزاءها لقاء الله. ثم أخبر عن الهداية وأن ليس لأحد عليها الولاية وأن الله فيها ولي الكفاية ، يا محمد لك المقام المحمود واللواء المعقود ولك الوسيلة وعلى الأنبياء الفضيلة ، وأنت سيد الأولين والآخرين وأنت أكرم الخلائق على رب العالمين ولكن (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ولكن الهداية من خصائص شأننا ولوائح برهاننا ، أنت تدعوهم ونحن نهديهم. ثم نبه على أن أفضل وجوه الإنفاق هو الفقير الذي أحصرته المحبة في الله عن طلب المعاش لا الذي أحصره الفقر والعجز عن طلب الكفاف ، أخذ عليه سلطان الحقيقة كل طريق فلا له في المشرق مذهب ولا له في المغرب مضرب ، ولا منه إلى غيره مهرب.

كأن فجاج الأرض ضاقت برحبها

عليه فما تزداد طولا ولا عرضا

(يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) لأنهم مستورون تحت قباب الغيرة محجوبون عن معرفة أهل الغيرية «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري يا محمد» (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) لأنك لست بك فلست غيري ، ما رأيت إذ رأيت ولكن الله رأى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] وإن سيماهم لا يرى بالبصر الإنساني بل يرى من نور رباني ، فمن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن أنهم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) لا بقليل ولا بكثير. لأن اثار أنوار غنى قلوبهم انعكست على ظواهرهم فتنورت بالتعفف نفوسهم ، واضمحلت ظلمة فقرهم وفاقتهم (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) من المال أو الجاه أو خدمة بالنفس أو إكرام أو إرادة حتى السلام على هؤلاء السادة استحقاقا وإجلالا لا استخفافا وإذلالا (فَإِنَّ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ٣٦. الترمذي في كتاب الزهد باب ٥٣. الموطأ في كتاب الشعر حديث ١٤.

(٢) رواه أحمد في مسنده (٤ / ٢٣٣) ، (٥ / ٤١١) بلفظ «إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته».

٥٨

اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ومن سيماهم في الظاهر أنهم إذا وجدوا مالا لم يبيعوا عزة الفقر به بل ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) عند مليك مقتدر (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الدنيا على ما يفوتهم لأنهم تركوها لله وهو لهم خلف عن كل تلف ، ولا في الآخرة (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر : ٣٤].

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

القراآت : (الرِّبا) حيث كان بالإمالة : حمزة وعلي وخلف. وهذا إذا كان معرّفا ولا يميلون المنكر في الوصل لأجل التنوين كقوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) [الروم : ٣٩] ويميلون في الوقف لزوال التنوين (فَأْذَنُوا) ممدودة مكسورة الذال : حمزة وحماد وأبو بكر غير ابن غالب والبرجمي حمزة يقف بغير همزة أي بالتليين. الباقون فأذنوا بسكون الهمزة وفتح الذال (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) الأول مبني للمفعول والثاني للفاعل المفضل. الباقون بالعكس (مَيْسَرَةٍ) بضم السين : نافع (مَيْسَرَةٍ) بضم السين وإثبات التاء : زيد عن يعقوب ، الباقون بفتح السين وعدم التاء. (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) خفيفا بحذف إحدى التاءين : عاصم. الباقون بتشديد الصاد لإدغام تاء التفعل في الصاد. (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم : أبو عمرو ويعقوب عباس مخير. الباقون مبنيا للمفعول.

الوقوف : (مِنَ الْمَسِ) ط ، (مِثْلُ الرِّبا) م كيلا يظن أن ما بعده من قولهم وإن أمكن جعل (وَأَحَلَ) حالا بإضمار «قد» (وَحَرَّمَ الرِّبا) ط لابتداء الشرط واستئناف المعنى ، (ما سَلَفَ) ط لتناهي الجزاء ، (إِلَى اللهِ) ج ، (النَّارِ) ج ، (خالِدُونَ) ه ، (الصَّدَقاتِ) ط ،

٥٩

(أَثِيمٍ) ه (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ج ، (يَحْزَنُونَ) ه ، (مُؤْمِنِينَ) ه ، (وَرَسُولِهِ) ج ، (أَمْوالِكُمْ) ج لأن ما بعده مستأنف أو حال عامله معنى الفعل في لام التمليك ، (وَلا تُظْلَمُونَ) ه ، (مَيْسَرَةٍ) ط ، (تَعْلَمُونَ) ه ، (لا يُظْلَمُونَ) ه.

التفسير : الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع حكم الربا. وذلك أنّ بين الصدقة وبين الربا مناسبة التضاد ، فإن الصدقة تنقيص مأمور بها ، والربا زيادة منهي عنها. وأيضا لما أمر بالإنفاق من طيبات المكاسب وجب أن يردف بالكسب الحرام وهو الربا ، والحلال وهو البيع ما يناسب من الدين والرهن وغيرهما فقال (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أما الأكل فيعم جميع التصرفات إلا أنه عبر عن الشيء بمعظم مقاصده وكيف لا وقد «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل له» (١) وأيضا نفس الربا لا يمكن أن يؤكل ولكن يصرف إلى المأكول فيؤكل ، فالمراد التصرف فيه. والربا في اللغة الزيادة من ربا يربو ، ومن أمالها فلمكان كسرة الراء. وهو في المصاحف مكتوب بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو. وفي الكشاف : كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة. وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع. ثم الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل. أما الأول فهو الذي كانوا يتعارفونه في الجاهلية ، كانوا يدفعون المال مدة على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ، ثم إذا حل الدين طالب المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل. وأما ربا الفضل فأن يباع منّ من الحنطة بمنوين مثلا. والمروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول وكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة. ويجوّز ربا النقد فقال له أبو سعيد الخدري : أشهدت ما لم نشهد أسمعت ما لم نسمع؟ فروى له الحديث المشهور في هذا الباب. وله روايات منها. «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء» (٢) ثم قال أبو سعيد : لا أرني وإياك في ظل بيت ما دمت على هذا. فيروى أنه رجع عنه. قال محمد بن سيرين : كنا في بيت معنا عكرمة فقال رجل : يا عكرمة ، أما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس؟ فقال : إنما كنت

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ٢٤. مسلم في كتاب المساقاة حديث ١٠٦ ، ١٠٧. أبو داود في كتاب البيوع باب ٤. الترمذي في كتاب البيوع باب ٢. النسائي في كتاب الطلاق باب ١٣. أحمد في مسنده (١ / ٨٣ ، ٨٧).

(٢) رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث : ٨٠ ، ٨٢. أبو داود في كتاب البيوع باب ١٢. الترمذي في كتاب البيوع باب ٢٣. النسائي في كتاب البيوع باب ٤٢ ، ٤٣. الدارمي في كتاب البيوع باب ٤١.

٦٠