تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

فات الغرض وضاع السعي ، أو لكونه غير معلوم العاقبة فيفتقر إلى مزيد تدبر وتأمل. ومنها ما يحمد فيه التعجيل لضد ما قلنا فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم ، فإن الفرص تمر مر السحاب. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك». الصفة الثامنة : (أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى فإذا أخبر عنهم بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود. ثم شرط للأمة الموصوفة بل لجميع المكلفين إيصال الجزاء إليهم البتة تأكيدا للإخبار عنهم بقوله : (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) فقال : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي لن يحرموا ثوابه ولن يمنعوه. فضمن الكفران معنى الحرمان ولهذا يعدى إلى مفعولين ، مع أن الأصل فيه التعدية إلى واحد نحو : شكر النعمة وكفرها. وسمى منع الجزاء كفرا كما سمى إيصال الثواب شكرا في قوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١٥٨] ثم ختم الكلام بقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) مع أنه عالم بكل الأشياء بشارة لهم بجزيل الثواب ، ودلالة على أنه لا يفوز عنده بالكرامة إلا أهل التقوى ، وتنبيها على أن الملتزم لوعدهم هو معبودهم الحق القادر الغني الحميد الخبير الذي لا غاية لكرمه ولا نهاية لعلمه ، فما ظنك بمثيب هذا شأنه؟! ثم بين أحوال أهل الشقاء بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. وقد سبق تفسير مثله في أول السورة. ثم إنه لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا أمكن أن يخطر ببال أحد أن الذي ينفقون منه في وجوه الخيرات لعلهم ينتفعون بذلك فأزال ذلك الوهم بقوله : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) الآية. قال أكثر المفسرين وأهل اللغة : الصر البرد الشديد. وهو منقول عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد. وفي الصحاح : الصر بالكسر برد يضر بالنبات والحرث. وعلى هذا فمعنى الآية : كمثل ريح فيها برد وذلك ظاهر. وجوز في الكشاف أن يكون الصر صفة معناه البارد فيكون موصوفه محذوفا بمعنى فيها قرّة صر كما تقول : برد بارد على المبالغة ، أو تكون «في» تجريدية كما يقال : رأيت فيك أسدا أي أنت أسد ، وإن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل. وقيل : الصر السموم الحارة. وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس (فِيها صِرٌّ) قال : فيها نار. وعلى القولين ، الغرض من التشبيه حاصل سواء كان بردا مهلكا أو حرّا محرقا فإنه يصير مبطلا للحرث فيصح التشبيه. وهذا في التشبيه المركب الذي مر ذكره في أول سورة البقرة. ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث. والمراد ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون بها وجه الله ، ولهذا قيده بقوله : (فِي هذِهِ الْحَياةِ

٢٤١

الدُّنْيا) فشبه ذلك بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاما. وقيل : مثل ما ينفقون يعني أبا سفيان وأصحابه من سفلة اليهود المنفقين على أحبارهم في إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي جمع العساكر عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كونه مبطلا لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر ، كمثل ريح فيها صر في كونه مبطلا للحرث. والظاهر أن الضمير في (يُنْفِقُونَ) عائد إلى جميع الكفار. وذلك أن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر ، وإما أن يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع ، ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيرا كثيرا في المعاد ، لكنهم إذا قدموا الآخرة رأوا كفرهم مبطلا لآثار تلك الخيرات ، فكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كبيرا فأصابه جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف. ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيرا وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي تخريب ديار المسلمين. ولا يبعد أيضا تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالا كثيرة في تجهيز الجيوش والإغراء على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وأعز أهله ، فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة. وقيل : المراد بالإنفاق هاهنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة كقوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١١٨] والمراد جميع الانتفاعات. أما فائدة قوله : (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وعدم الاقتصار على قوله : (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) فهي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه أثر ولا عثر ، وحرث المسلم المطيع ليس كذلك لأنه إذا أصابته جائحة في الدنيا أبدله الله خيرا منه في الدنيا أو في الآخرة. فإن المسلم مثاب على كل ألم يصيبه حتى الشوكة يشاكها ، أما الذين عصوا الله فاستحقوا إهلاك حرثهم عقوبة لهم فحرثهم هو الذي لا يتصور منه بعد الإهلاك فائدة أصلا. ويحتمل أن يراد بالظالم هاهنا وضع الزرع في غير موضعه. فإن من زرع لا في موضعه وفي غير أوانه ثم أصابته الآفة كان أولى بأن يصير ضائعا. والضمير في (وَما ظَلَمَهُمُ) للمنفقين أي ما ظلمهم بأن لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول ، أو لأصحاب الحرث أي ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. ثم إنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين من مخالطة الكافرين. قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواطؤن رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع ، فنهاهم الله عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم وبطانة الرجل خصيصه وصفيه الذي يفضي

٢٤٢

إليه بشقوره أي أموره اللاصقة بالقلب المهمة له. الواحد شقر وأصله من البطن خلاف الظهر ، ومنه بطانة الثوب للذي يلي منه الجسد خلاف الظهارة. نهاهم عن مودة كل كافر لان قوله : (بِطانَةً) نكرة في سياق النفي. وقوله : (مِنْ دُونِكُمْ) يؤكد ذلك. وهو إما أن يتعلق ب (لا تَتَّخِذُوا) ويكون صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم والأول أولى ، لأن الغرض ليس هو النهي عن اتخاذ البطانة وإنما المقصود النهي عن الاتخاذ من غير أبناء جنسهم وأهل ملتهم بطانة ، وأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى. و «من» للتبيين وقيل : زائدة. ثم ذكر علة النهي فقال : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) يقال : ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : «لا آلوك نصحا أو جهدا» على التضمين أي لا أمنعك نصحا. والخبال الفساد والنقصان ومنه رجل مخبول ومخبل ناقص العقل فاسده. وقيل : خبالا نصب على التمييز ، وقيل : مصدر في موضع الحال. والمعنى لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفساد حالكم. (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي عنتكم على أن «ما» مصدرية. والعنت الوقوع في أمر شاق ومنه يقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه قد أعنته. والمراد أحبوا وتمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر. والحاصل من الجملتين أنهم لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يمكنهم ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ) هي شدة البغض كالضراء شدة الضر. والأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل تكسيره كسوط وأسواط. فحذفت الهاء تخفيفا وأقيمت الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان. وظهور البغضاء من اليهود واضح لقشرهم العصا وكشرهم عن الأنياب وعدم التقية في تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب. وأما من المنافقين فذلك أن المداجي لا بد أن ينفلت من لسانه ما يكشف عن نفاقه وخبث طويته. وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك. (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لأن فلتات اللسان متناهية وكوامن الصدور تكاد تكون غير متناهية. ثم بيّن أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من غاية العناية وحثهم على إعمال العقل في مدلولات هذه النصائح فقال : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) من أهل العقول. وقيل : إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه العدوّ والولي. ثم إن سياق هذه الجمل يحتمل أن يكون على سبيل تنسيق الصفات للبطانة كأنه قيل : لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالا وادّين عنتكم بادية بغضاؤهم. وأما (قَدْ بَيَّنَّا) فكلام مبتدأ ، أو أحسن من ذلك وأبلغ أن تكون الجمل مستأنفات كلها على جهة التعليل للنهي كما قلنا ، فكأنه قيل : لم لا نتخذهم بطانة. فقيل : لأنهم لا يقصرون فقيل : لم يفعلون ذلك؟ فقيل : لأنهم يودون عنتكم. ثم قيل : وما آية

٢٤٣

ودادة العنت؟ فقيل : قد بدت والله أعلم. أما كون هذا التقدير أحسن فلأن الجمل المتعاقبة على سبيل التنسيق يتوسط بينها العاطف ولا عاطف هاهنا ، وأما كونه أبلغ فلبناء الكلام على السؤال والجواب ولتقليل اللفظ وتكثير المعنى ولإثبات الدعاوى بالبراهين ، ولا يخفى جلالة قدر هذه الفوائد. ثم استأنف للتحذير نمطا آخر من البيان مشتملا على التوبيخ فقال : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ) الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب ، ثم ذيله ببيان الخطأ وهو قوله : (تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لأنكم تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ويريدون لكم الكفر وهو أقبح الأشياء ، أو تحبونهم لما بينكم وبينهم من الرضاعة والقرابة ولا يحبونكم لاختلاف الدين ، أو تحبونهم لأنهم أظهروا لكم الإيمان ولا يحبونكم لتمكن الكفر في باطنهم ، أو تحبونهم لأنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب ولا يحبونكم لأنكم تحبون الرسول وهم يبغضونه ومحب المبغوض مبغوض ، أو تحبونهم فتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم ولا يحبونكم لأنهم لا يفعلون مثل ذلك بكم ، أو تحبونهم لأنكم لا تريدون وقوعهم في المحن ولا يحبونكم لأنهم يتربصون بكم الدوائر. والحق أن هذه الاعتبارات وأمثالها مما لا تكاد تنحصر داخلة في الآية. ثم ذكر سببا آخر مما يأبى أن يكون بينهما جامع فقال : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) وأضمر قرينه وهو «وهم لا يؤمنون به» لأن ذكر أحد الضدين يغني عن الآخر غالبا. والمراد بالكتاب الجنس كقولهم «كثر الدرهم في أيدي الناس». وفي الكشاف : إن الواو في (وَتُؤْمِنُونَ) للحال ، واللام في (بِالْكِتابِ) للعهد أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله. وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطنهم أصلب منكم في حقكم. ثم ذكر مضادة أخرى فقال : (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) أحدثنا الدخول في الإيمان (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا) ويوصف المغتاظ أو النادم بعض الأنامل والبنان والإبهام لأن هذا الفعل كثيرا ما يصدر منهما فجعل كناية عن الغضب والندم ، وإن لم يكن هناك عض وإنما حصل لهم هذا الغيظ وهو شدة الغضب لما رأوا من ائتلاف المؤمنين وعلو دينهم وارتفاع شأنهم (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم بأن يزداد ما يوجب غيظهم من قوة الإسلام وعز أهله ، فإن ذلك يتضمن ذلهم وخزيهم. والحاصل أنه أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبرهم بأن الله تعالى أتاح أن يظهر دين الإسلام على الأديان كلها والمقدر كائن ، فإن كان هذا سببا لغيظكم فلا محالة يكون موتكم على هذا الغيظ. ثم إن قوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بصواحباتها وهي الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه. إن كان داخلا في جملة المقول ، فمعناه أخبرهم بما يسرونه من الغيظ وقل لهم : إن غيظكم سيزداد إلى أن يذيبكم أو تموتوا عليه ، وقل لهم : إن الله يعلم ما هو أخفى

٢٤٤

مما تسرونه وهو مضمرات القلوب وخفياتها. وإن كان خارجا فالمعنى قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني أعلم ما أضمره الخلائق ولم يظهروه على ألسنتهم أصلا. ويجوز أن لا يكون أمرا بالقول لفظا بل يراد حدّث نفسك بأنهم سيهلكون غيظا وحسدا ، فيكون أمرا للرسول بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله ونصره. ثم ذكر نوعا آخر من مضادتهم ومعاداتهم فقال : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) أي حسنة كانت من منافع الدنيا كالصحة والخصب والغنيمة والظفر على الأعداء والائتلاف بين الأحباء (تَسُؤْهُمْ) ساءه يسوءه نقيض سره يسره (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) ضد من أضداد ما عددنا. (يَفْرَحُوا بِها) ولم يفرق صاحب الكشاف هاهنا بين المس والإصابة وجعل المعنى واحدا. وأقول : يشبه أن يكون المس أقل من الإصابة وأنه أدخل في بيان شدة العداوة ، وذلك أن الحسد لا ينهض لقليل من الخير إلا أن يكون هناك كمال البغض ، والشماتة قلما توجد إذا أصاب العدوّ بلية عظمى كما قيل :

عند الشدائد تذهب الأحقاد

إلا أن يكون ثمة غاية الحقد. وإذا كان حال القوم مع المسلمين في القضيتين بالخلاف دل ذلك على شدة بغضهم ونهاية حقدهم ، وعلى هذا فلا يبعد أن يقال التنوين في (حَسَنَةٌ) للتقليل وفي (سَيِّئَةٌ) للتعظيم. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم (وَتَتَّقُوا) ما نهيتم عنه من موالاتهم ، أو إن تصبروا على أوامر الله تعالى وتتقوا محارمه (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ) وهو احتيال الإنسان لإيقاع غيره في مكروه. وقال ابن عباس : هو العداوة. (شَيْئاً) من الضرر بل كنتم في كنف الله وحفظه. وفيه إرشاد من الله تعالى إلى أن يستعان على دفع مكايد الأعداء بالصبر والتقوى ، فمن كان لله كان الله له. وفي كلام الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. وقال بعضهم :

إذا ما شئت إرغام الأعادي

بلا سيف يسل ولا سنان

فزد في مكرماتك فهي أعدى

على الأعداء من نوب الزمان

(إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ) في عداوتكم أو بما تعملون أنتم من الصبر والتقوى. (مُحِيطٌ) فيجازي كل أحد بما هو أهله.

التأويل : ضربت عليهم ذلة الطمع ومسكنة الحرص إلا أن يعتصموا بمحبة الله وطلبه وحبل من الناس يعني متابعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرته. ويقتلون الأنبياء يميتون سنتهم وسيرهم. ليسوا أي العلماء الربانيون والمداهنون. فلن تكفروه لأنه من تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا. ثم أخبر عن نفقات أهل الشهوات في استيفاء اللذات الجسمانية بقوله : (مَثَلُ ما

٢٤٥

يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ) هي هواء الهوى (فِيها صِرٌّ) الشهوة (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) هو الحرث الروحاني (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بإبطال الاستعداد الإنساني. ثم نهى أهل المحبة عن مباطنة أهل السلو من هذا الحديث فقال : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) لا يقصرون في إنكاركم والاعتراض عليكم والطعن فيكم (وَدُّوا) من نعيم الدنيا ومشتهياتها (ما عَنِتُّمْ) ما مقتموه وتركتموه لدناءة همتهم وعلو همتكم ، أو فرحوا بما قاسيتم من المجاهدات والتزام الفقر والصبر على المكاره. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) اعتراضاتهم الفاسدة (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) الحاسدة من الغل والحقد (أَكْبَرُ تُحِبُّونَهُمْ) محبة الرحمة والشفقة (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لتناكر الأرواح واختلاف حال الأشباح (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) بجميع ما في القرآن من ترك الدنيا وجهاد النفس. (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بالقلوب التي في الصدور أن موتها في الغيظ والحسد. (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) كرامة من الله وقبول من الخلق. سيئة إنكار من الجهال وطعن.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

القراآت : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) بغير همز : أبو عمرو غير شجاع وورش والأعشى وحمزة في الوقف. (مُنْزَلِينَ) بالتشديد وفتح الزاي : ابن عامر. الباقون : بالتخفيف والفتح أيضا. (مُسَوِّمِينَ) بكسر الواو : أبو عمرو وابن كثير وعاصم وسهل ورويس. الباقون. بالفتح.

الوقوف : (لِلْقِتالِ) ط (عَلِيمٌ) ه لأن «إذ» بدل من (إِذْ غَدَوْتَ) أو يتعلق بالوصفين أو بقوله (تُبَوِّئُ أَنْ تَفْشَلا) (لا) لأن الواو للحال (وَلِيُّهُما) ط (الْمُؤْمِنُونَ) ه (أَذِلَّةٌ) ج للفاء (تَشْكُرُونَ) ه (مُنْزَلِينَ) ط لتمام القول (بَلى) (لا) لاتحاد مع ما بعده (مُسَوِّمِينَ) ه (قُلُوبُكُمْ بِهِ) ط (الْحَكِيمِ) (لا) لتعلق اللام بمعنى الفعل في النصر (خائِبِينَ) ه (ظالِمُونَ) ه (وَما فِي الْأَرْضِ) ط (مَنْ يَشاءُ) ط (رَحِيمٌ) ه.

٢٤٦

التفسير : إنه سبحانه لما وعدهم النصر على الأعداء إن هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك إن لم يصبروا ، أتبعه قوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين مستعدين للقتال ، فلما خالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انهزموا ، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين لكنهم أطاعوا أمر الرسول فغلبوا واستولوا على خصومهم. ووجه آخر في النظم وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق ، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ المنافقين بطانة. قال أبو مسلم : هذا كلام معطوف بالواو على قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) [آل عمران : ١٣] أي قد كان لكم مثل تلك الآية إذ غدا الرسول يبوىء المؤمنين. والجمهور على أنه منصوب بإضمار «اذكر». وعن الحسن أن هذا الغدو كان يوم بدر. وعن مجاهد أنه يوم الأحزاب. وأكثر العلماء بالمغازي على أن هذه الآية نزلت في واقعة أحد. وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحق والربيع والأصم وأبي مسلم. روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، فاستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ودعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبيّ ولم يدعه قط قبلها فاستشاره. فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وقال بعضهم : يا رسول الله اخرج بنا إلى هؤلاء إلا كلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني رأيت في منامي بقرا مذبحة حولي فأوّلتها خيرا ، أو رأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة. فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم. فقال رجال من المسلمين ـ قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد ـ : أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دخل فلبس لأمته. فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا : بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوحي يأتيه. فقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت. فقال : لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة من المدينة. قالوا من منزل عائشة وهو المراد بقوله : (مِنْ أَهْلِكَ) عن مجاهد والواحدي أنه مشى على رجليه إلى أحد وأصبح بالشعب منها يوم السبت للنصف من شوّال. وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوّم بهم القداح إن رأى صدرا خارجا قال : تأخر. وكان نزوله في جانب الوادي ، وجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهره وعسكره إلى أحد. وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم : انضحوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : اثبتوا في هذا المقام فإذا

٢٤٧

عاينوكم ولو كم الأدبار ، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام. ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خالف ، رأى عبد الله بن أبيّ شق عليه ذلك وقال : أطاع الصبيان وعصاني ثم قال لأصحابه : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يظفر بعدوّكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا ، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعونكم فيصير الأمر على خلاف ما ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما التقى الفريقان انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال : يا قوم علام نقتل أولادنا وأنفسنا. وكان جملة عسكر الإسلام ألفا ـ وقيل : تسعمائة وخمسين ـ فبقي نحو من سبعمائة. وكان المشركون ثلاثة آلاف فقوّاهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين. لكنهم لما رأوا انهزام القوم وكان الله تعالى بشرهم بذلك طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر ، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع وخالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعلموا أن ظفرهم يوم بدر ببركة طاعتهم لله ولرسوله ، ومتى تركهم الله مع عدوّهم لم يقوموا لهم. فنزع الله الرعب من قلوب المشركين ، فكرّوا على المسلمين وتفرق العسكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) وشج وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد. ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قتل. فأشرف أبو سفيان وقال : أفي القوم محمد؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تجيبوه. فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال : لا تجيبوه. قال : أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال : إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال : كذبت يا عدوّ الله. أبقى الله لك ما يخزيك. فقال أبو سفيان مرتجزا : أعل هبل أعل هبل. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبوه. فقالوا : ما نقول؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبوه. قالوا : ما نقول؟ قال : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبوه. قالوا : ما نقول؟ قال : قولوا لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.

ولنرجع إلى التفسير بوّأته منزلا وبوّأت له منزلا أنزلته فيه. ومقاعد أي مواطن ومواقف ، وقد اتسع في «قعد» و «قام» حتى استعمل المقعد والمقام في المكان ومنه قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر : ٥٥] وقوله : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) [النمل : ٣٩] أي من موضع حكمك. ويحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمرهم أن يثبتوا في تلك الأمكنة ولا ينتقلوا عنها شبهت بالمقاعد لذلك ، ويحتمل أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدوّ فيقوموا فلهذا سميت تلك المواضع مقاعد (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بضمائركم ونياتكم فإنا بينا أنه كان في القوم موافق ومنافق (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ) هما

٢٤٨

حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان. (أَنْ تَفْشَلا) والفشل الجبن والخور. والظاهر أنها ما كانت عزيمة ممضاة ولكنها كانت حديث نفس وقلما تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع. فإن ساعدها صاحبها ذم وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل. وعن معاوية أنه قال : عليكم بحفظ الشعر فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين فما ثبتني إلّا قول عمرو بن الأطنابة :

أقول لها إذا جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يفض إلى حد العصيان قوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) ولو كانت عزيمة لما ثبت معها الولاية. ويجوز أن يراد والله ناصرهما ومتولي أمرهما فما لهما يفشلان ولا يتوكلان على الله (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) والتوكل «تفعل» من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه ولم يتوله بنفسه. وفيه إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يدفع ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله ، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك. عن جابر : فينا نزلت (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ) نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة. وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أخرجاه في الصحيحين. ومع ذلك قال بعض العلماء : إن الله أبهم ذكرهما وستر عليهما ولا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر. (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) وإنه ماء بين مكة والمدينة. عن الواقدي أنه اسم لماء بعينه. وعن الشعبي أنه سمي باسم رجل كان ذلك الماء له (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) إنما جاء بجمع القلة دون الأذلاء الذي هو للكثرة ليدل على أنهم مع قلة العدد ـ وهو المراد بذلتهم ـ كانوا قليلي العدد أيضا كما مر في تفسير قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) [آل عمران : ١٣] ولم يعن بالذلة هاهنا نقيض العزة لقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] أو لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين وفي اعتقادهم لقلة عددهم وسلاحهم كما حكى عنهم «ليخرجن الأعز منها الأذل» أو لعل الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار في مكة في غاية القوة والشوكة ، وإلى هذا الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار فكانت هيبتهم باقية في نفوسهم (فَاتَّقُوا اللهَ) في الثبات مع رسوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بسبب تقواكم ما أنعم به عليكم من نصره. أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر فيكون العامل في «إذ» قوله : (نَصَرَكُمُ) أو حصل يوم أحد فيكون بدلا ثانيا من (إِذْ غَدَوْتَ) والأول قول أكثر المفسرين لأن الكلام متصل بقصة بدر ، ولأن العدد والعدد يوم بدر أقل وكان الاحتياج إلى المدد أكثر. والثاني مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحق ، لأن المدد

٢٤٩

يوم بدر كان بألف من الملائكة لقوله تعالى في سورة الأنفال (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) [الأنفال : ٩] دون ثلاثة آلاف وخمسة آلاف فأنى صاروا خمسة آلاف ؛ وأجيب بأنهم أمدوا بألف ثم زيد ألفان فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم زيدت ألفان آخران فصاروا خمسة آلاف. فكأنه قيل لهم : أن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة؟ فقالوا : بلى. ثم قيل : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا : بلى. ثم قيل لهم : إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف. وهو كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : «أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا : نعم. قال : أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا : نعم. قال : فإني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» (١). وأيضا لعل أهل بدر أمدوا بألف ، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق ذلك عليهم لقلة عددهم فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة. ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف. قالوا : إن الكفار كانوا يوم بدر ألفا والمسلمون على الثلث منهم فأنزل الله ألفا من الملائكة بعدد الكفار ، وأما يوم أحد فكان عدد المسلمين ألفا وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فلا جرم أنزل الله ثلاثة آلاف من الملائكة بعدد الكفار أيضا ، ثم وعدهم أن يجعل الثلاثة الآلاف خمسة آلاف إن صبروا واتقوا. وأجيب بأن هذا تقريب حسن ولكنه لا يغلب على الظن أن يكون الأمر كذلك. قالوا : قال تعالى : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) ويوم أحد هو الذي كان يأتيهم الأعداء ، أما يوم بدر فهم ذهبوا إلى الأعداء. وأجيب بأن المشركين لما سمعوا يوم بدر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير ، ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى أنهم إن أتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف. ثم قالوا في وجه النظم إنه تعالى ذكر قصة أحد ثم قال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي يجب أن يكون توكلكم على الله لا على كثرة عددكم وعددكم (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ثم عاد إلى قصة أحد. ثم إنزال خمسة آلاف كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا. ثم إنهم لم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا بل خالفوا أمر الرسول ، فلما مات الشرط لا جرم فات المشروط. وأما إنزال ثلاثة آلاف فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدهم ذلك بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد ، فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط. روى الواقدي عن مجاهد أنه قال : حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا. وروي عن

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٧٦ ، ٣٧٧. الترمذي في كتاب الجنّة باب ١٣. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٤. أحمد في مسنده (٤ / ١٦٠).

٢٥٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أعطى اللواء مصعب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تقدم يا مصعب. فقال الملك : لست بمصعب. فعرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ملك أمد به. وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهم يومئذ فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه ، فظننت أنه ملك. هذا حاصل تقرير القولين. واختلفوا أيضا في عدد الملائكة فمنهم من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد لأن الوعد بإمداد الثلاثة الآلاف لا شرط فيه ، والوعد بإمداد خمسة الآلاف مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم فهما متغايران وعلى هذا إن حملنا الآية على قصة بدر وقد ورد فيها ذكر الألف في موضع آخر فيكون المجموع تسعة آلاف ، وإن حملناها على قصة أحد كان الجميع ثمانية آلاف. ومنهم من أدخل الناقص في الزائد فقال : وعدوا بألف ثم زيد ألفان فصح أن يقال : وعدوا بثلاثة آلاف. ثم زيد ألفان آخران فوعدوا بخمسة آلاف. وأجمع أهل التفسير وأرباب السير أنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار. وعن ابن عباس أنه لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر ، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون. ومنهم من قال : إن نصر الملائكة بإلقاء الرعب في قلوب الكفار وبإشعار المؤمنين بأن النصرة لهم. وأما أبوبكر الأصم فقد أنكر إمداد الملائكة وقال : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط ، فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ، وبتقدير حضوره فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم. وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكون بحيث يراهم الناس أولا ، وعلى الأول كان المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك ، ولأنه خلاف قوله (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال : ٤٤] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك البتة. وعلى الثاني كان يلزم جز الرؤوس وتمزيق البطون وإسقاط الكفار عن الأفراس من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف. وأيضا إنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل ، وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخبول؟

واعلم أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة وبمن يدعي التمسك بها ويعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فاعل لما يريد ، فما كان يليق بالأصم إيرادها مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الإخبار قريب من التواتر. روى عبيد بن عمير قال : لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون : لم نر الخيل البلق ولا الرجال

٢٥١

البيض الذين كنا نراهم يوم بدر. والتحقيق في هذا المقام أن التكليف ينافي الإلجاء ، وأنه تعالى قادر على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك أو بلا سبب ، وكذا على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم عليه ، لكنه لما أراد إشادة هذا الدين على مهل وتدريج بواسطة الدعوة بطريق الابتلاء والتكليف ، فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى ، وله الحكم في الآخرة والأولى. والحاصل أن إهلاك قوم لوط كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس ، فلا جرم أظهر القدرة وجعل عاليها سافلها. وفي حرب أحد كان الزمان زمان تكليف ، فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق من المنافق والثابت من المضطرب ، فإنه لو جرى الأمر في أحد كما جرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب به ، ولمثل ذلك أمد بالملائكة حين أمد على عادة الإمداد بالعساكر وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك كثير من الناس فاعلم. ولنعد إلى تفسير الألفاظ. قال صاحب الكشاف : إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة ليقوي قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله. ومعنى (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء ب «لن» الذي هو تأكيد النقي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم كالآيسين من النصر. ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بما يجب ، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال. قال بعضهم : ما كان على جهة القوة والإعانة. قيل فيه : أمده يمده. وما كان على جهة الزيادة قيل فيه : مده يمده. وقرىء (مُنْزَلِينَ) بكسر الزاي بمعنى منزلين النصر. (بَلى) إيجاب لما بعد «لن» أي بلى يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية. ثم قال : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ) يعني المشركين (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) أي من ساعتهم هذه. والفور مصدر من فارت القدر إذا غلت ، ثم استعمل في معنى السرعة. يقال : جاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو للتراخي. ثم سميت به الحالة التي لا توقف فيها على صاحبها فقيل : خرج من فوره كما يقال من ساعته لم يلبث. جعل مجيء خمسة آلاف مشروطا بثلاثة أشياء : الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور. فلما لم توجد هذه الشرائط بكلها أو بجلها فلا جرم لم يوجد المشروط. ويحتمل أن يعلق قوله : (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) بما بعده أي يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر النزول عن الإتيان. وفيه بشارة بتعجيل النصر والفتح إن صبروا عن الغنائم واتقوا مخالفة الرسول. وقوله : (مُسَوِّمِينَ) من السومة العلامة ، وقد يعلم الفارس يوم اللقاء بعلامة ليعرف بها. فمن قرأ بكسر الواو فمعناه معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة ، ومن قرأ بالفتح فالمعنى أن الله سوّمهم. قال

٢٥٢

الكلبي : معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وعن الضحاك : معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيول وأذنابها. وعن مجاهد : مجزوزة أذناب خيلهم. وعن قتادة : كانوا على خيل بلق. وعن عروة بن الزبير : كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر : تسوموا فإن الملائكة قد تسوّمت. وقيل : مسومين مرسلين من أسمت الإبل وسوّمتها أرسلتها للرعي. فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيولهم على الكفار لقتلهم وأسرهم ، أو أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات في المراعي. (وَما جَعَلَهُ اللهُ) الضمير عائد إلى المدد أو الإمداد الدال عليه الفعل. وقال الزجاج : وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى وهي اسم من البشارة أي إلا لتبشروا بأنكم تنصرون (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من المقاتلة إذا تكاثروا ، ولا من عند الملائكة والسكينة. ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة ويربط به على قلوب المجاهدين. وفيه تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسببها. وقوله : (الْعَزِيزِ) إشارة إلى كمال قدرته و (الْحَكِيمِ) إشارة إلى كمال علمه فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إنجاحها (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) أي طائفة وقطعة من الذين كفروا. وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف دون الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف كما قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١] (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه. وفسره الأئمة هاهنا بالإخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ والإذلال والكل متقارب (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) غير ظافرين بمبتغاهم قيل : الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع ونقيضه الظفر. وأما اليأس فقد يكون قبل التوقع وبعده. ونقيضه الرجاء ، واللام في (لِيَقْطَعَ) يحتمل أن يتعلق بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ) أو بقوله (وَمَا النَّصْرُ) ويحتمل أن يكون من تمام قوله : (وَلِتَطْمَئِنَ) ولكنه ذكر بغير العاطف لأنه إذا كان البعض قريبا من البعض جاز حذف العاطف كما يقول السيد لعبده : اشتريتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي.

قوله عز من قائل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) فيه قولان : أحدهما وهو الأشهر أنه نزل في قصة أحد عن أنس بن مالك قال : كسرت رباعية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوم أحد ودمي وجهه فجعل يسيل الدم على وجهه ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ وفي رواية : شج رأسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتبة بن أبي وقاص يوم أحد وكسر رباعيته

٢٥٣

فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول الحديث فنزلت. وفي رواية عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن أقواما فقال : اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحرث بن هشام ، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية. وفيها (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فتاب الله على هؤلاء فحسن إسلامهم. وقيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب. وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال : لأمثلن منهم بثلاثين فنزلت ، وقيل : أراد يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله عن ذلك. مروى عن ابن عباس ، وقيل : أراد أن يستغفر للمسلمين الذين عصوا أمره فنزلت. وقال القفال : كل هذه الأمور وقعت يوم أحد فلا يمتنع حمل نزول الآية في الكل.

القول الثاني : وإليه ذهب مقاتل أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث جمعا من خيار الصحابة زهاء سبعين إلى بني عامر ليعلموهم القرآن. فلما وصلوا إلى موضع يقال له بئر معونة ، ذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم. فجزع من ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديدا ودعا على الكفار في القنوت أربعين يوما يقول بعد ما يرفع رأسه من الركعة الثانية في الصبح : اللهم العن بني لحيان والعن رعلا وذكوان. اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة. اللهم أشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف حتى أنزل الله عزوجل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ولا يخفى أن ظاهر الآية يدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفعل فعلا فمنع منه ، وحينئذ يتوجه الإشكال بأن فعل ذلك الفعل إن كان من الله تعالى فكيف منعه منه وإلا فهو قدح في عصمته ومناف لقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] والجواب أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع مشتغل به كقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) [الأحزاب : ٤٨] مع أنه ما أطاعهم وقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] مع أنه ما أشرك قط. ولعله عليه‌السلام شاهد من قتل حمزة وغيره ما أورثه حزنا شديدا ، وكان من الممكن أن يحمله على ما لا ينبغي من الفعل والقول ، فنص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأكيدا لطهارته. ولئن سلمنا أنه كان مشغولا بذلك الفعل والقول فإنه محمول على ترك الأولى ، والنهي إرشاد إلى اختيار الأفضل وأيضا إن دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكون بمجرد التشهي وإنما هو بطلب الأصلح فالذي يظن به أنه خلاف مسؤوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد وقع فهو بالحقيقة سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا سأل الله تعالى أن يجعل لعنه على من لا يستحقه طهرا وزكاة ورحمة والله أعلم. وقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء ، فإني أعلم بمصالح عبادي. أو المراد الأمر الذي هو خلاف النهي أي ليس لك من

٢٥٤

أمر خلقي شيء إلا ما يكون أمري وحكمي. وقوله : (أَوْ يَتُوبَ) منصوب بإضمار «أن». و «أن يتوب» في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أي ليس لك من أمرهم شيء ، أو من التوبة عليهم ، أو من تعذيبهم. ويجوز أن يكون معطوفا على (شَيْءٌ) والحاصل منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كل فعل أو قول إلا ما كان بإذنه وأمره. وفيه إرشاد إلى كمال درجات العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار ملكه تعالى وملكوته. وعن الفراء والزجاج أن قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عطف على (لِيَقْطَعَ) وما بعده. وقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول : ضربت زيدا فاعلم ذاك وعمرا. فيكون المعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل : «أو» بمعنى «إلا أن» كقولك : لألزمنك أو تعطيني حقي. والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم. ثم التوبة عليهم مفسرة عند أهل السنة بخلق الندم فيه على ما مضى ، وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل. وأكدوا هذا الظاهر ببرهان عقلي وهو أن الندم كراهة تحصل في القلب عما سلف منه ، والعزم إرادة تتعلق بترك ذلك الفعل فيما يستقبل. فلو كانت هذه الإرادة فعل العبد لافتقر في فعلها إلى إرادة أخرى وتسلسل ، فهو إذن بخلق الله تعالى. وأما المعتزلة ففسروا التوبة عليهم إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة منهم. وقوله : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) تعليل حسن التعذيب بسبب شركهم أو عصيانهم. ثم أكد ما ذكر من قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) بقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هما والحقائق والماهيات التي فيهما لله ، فليس الحكم فيهما إلا له. ثم ذكر لازم الملك والحكم فقال : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) بعميم فضله وإن كان من الأبالسة والفراعنة (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) بحكم الإلهية والقدرة وإن كان من الملائكة المقربين والصديقين. وكل ذلك يحسن منه شرعا وعقلا وإلا لم يحصل كمال الملك والحكم إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب ، ولهذا ختم الكلام بقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا قول الأشاعرة ويؤكده ما يروى عن ابن عباس في تفسير الآية : يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. وأيدوا هذا النقل بدليل عقلي يشبه ما مر آنفا ، وهو أن الإرادات كلها تستند إلى الله تعالى دفعا للتسلسل. فإذا خلق الله إرادة الطاعة أطاع ، وإذا خلق إرادة المعصية عصى. فطاعة العبد أو معصيته تنتهي إلى الله ، وفعل الله لا يوجب على الله شيئا. أما المعتزلة فناقشوا في ذلك ورووا عن الحسن : يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين ، ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. والحق

٢٥٥

أن العذاب لازم ملكة العصيان ، وكذا القرب منه تعالى لازم ملكة الطاعة. فإن أريد بالوجوب هذا فلا نزاع ، وإن أريد غير ذلك فممنوع والله أعلم.

التأويل : أخبر عن النصر بعد الصبر بقوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ) وهو إشارة إلى جوهر السالك الصادق والسائر العاشق ، وذلك أن يغدو في طلب الحق والرجوع إلى المبدأ من أصله أي صفات نفسه الحيوانية والبهيمية (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) أي صفاتك الروحانية مقاعد لقتال النفس والشيطان والدنيا (وَاللهُ سَمِيعٌ) لدعائكم بالإخلاص للخلاص عن ورطة تيه الهوى (عَلِيمٌ) بصدق نياتكم في طلب الحق. (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) يعني القلب وأوصافه والروح وأخلاقه (وَاللهُ وَلِيُّهُما) ليخرجهما من ظلمات البشرية إلى نور الربوبية (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) الدينا (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) من غلبات شهوات النفس (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فيه إشارة إلى أن نور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلهم أرواح المؤمنين على الدوام عند مقاتلة الشياطين ومجاهدة النفس ومكابدة الهوى في الركون إلى زخارف الدنيا. وثلاثة آلاف من الملائكة إشارة إلى الجنود الروحانية الملكوتية التي لا تدركها الحواس كقوله : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [التوبة : ٢٦] (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا) على مخالفة النفس وتثقوا بالله عما سواه يزدكم في الإمداد بالجنود (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) ليقهر بعضا من الصفات النفسانية التي هي منشأ الكفر بنصر الروح وصفاته (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أو يغلبهم ويظفر بهم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعز بحكمته من يشاء على ما يشاء والله المستعان على ما تصفون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا

٢٥٦

وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١))

القراآت : (سارِعُوا) بغير واو العطف : أبو جعفر ونافع وابن عامر. (قَرْحٌ) بالضم حيث كان : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة. الباقون بالفتح.

الوقوف : (مُضاعَفَةً) ص لعطف المتفقتين (تُفْلِحُونَ) ه ج للعطف (لِلْكافِرِينَ) ه (تُرْحَمُونَ) ه ومن قرأ (سارِعُوا) بغير واو فوقفه مطلق (وَالْأَرْضُ) ص لأن ما بعده صفة لجنة أيضا أي جنة واسعة معدّة. (لِلْمُتَّقِينَ) لا لأن الذين صفتهم. (عَنِ النَّاسِ) ط (الْمُحْسِنِينَ) ج ٥ لأن والذين يصلح مبتدأ وخبره (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) فلا وقف على (يَعْلَمُونَ) ويصلح معطوفا لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له فيوقف على (يَعْلَمُونَ) لينصرف عموم أولئك إلى المتقين السابقين منهم بعصمة الله واللاحقين بهم برحمة الله. والوقف لطول الكلام على (لِذُنُوبِهِمْ) للابتداء بالاستفهام وعلى (إِلَّا اللهُ) لاعتراض الاستفهام ولزوم الجواب بأن يقول الروح : لا أحد يغفر الذنوب إلا أنت (خالِدِينَ فِيها) ط (الْعامِلِينَ) ه (سُنَنٌ) لا لتعقب الأمر بالاعتبار بعد الإخبار بالتبار. (الْمُكَذِّبِينَ) ه (لِلْمُتَّقِينَ) ه (مُؤْمِنِينَ) ه (مِثْلُهُ) ط (بَيْنَ النَّاسِ) ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي ليعتبروا (وَلِيَعْلَمَ شُهَداءَ) ط (الظَّالِمِينَ) لا للعطف على (لِيَعْلَمَ الْكافِرِينَ) ه.

التفسير : قال القفال : يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين كانت قد اجتمعت من الربا ، وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر ، وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر ويتمكنوا من الانتقام منهم ، فورد النهي عن ذلك نظرا لهم ورحمة عليهم. وقيل : إن هذه الآيات ابتداء أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد. وليس المراد النهي عن الربا في حال كونه أضعافا لما علم أنه منهي عنه مطلقا ، وإنما هو نهي عنه مع توبيخ بما كانوا عليه في الغالب والمعتاد من تضعيفه. كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل ، وهكذا مرة بعد أخرى حتى استغرق بالشيء الطفيف مال المديون. (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فيه أن اتقاء الله في هذا النهي واجب ، وأن الفلاح يقف عليه. فلو أكل ولم يتق زال الفلاح. ويعلم منه أن الربا من الكبائر لا من الصغائر ويؤكد قوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) كان أبو حنيفة يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار

٢٥٧

المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. وكون النار معدّة للكافرين لا يمنع دخول الفساق وهم مسلمون فيها لأن أكثر أهل النار الكفار فغلب جانبهم كما لو قلت : أعددت هذه الدابة للقاء المشركين. لم يمتنع من أن تركبها لبعض حوائجك. ومثله قوله في صفة الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) فإنه لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين وغيرهم كالملائكة والحور.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فيه أن رجاء الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول فلهذا يتمسك به أصحاب الوعيد في أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء فهو ليس أهلا للرحمة. وغيرهم يحمل الآية على الزجر والتخويف (وَسارِعُوا) معطوف على ما قبله. ومن قرأ بغير الواو فلأنه جعل قوله : (سارِعُوا) وقوله : (أَطِيعُوا اللهَ) كالشيء الواحد لأنهما متلازمان. وتمسك كثير من الأصوليين به في أن ظاهر الأمر يوجب الفور قالوا : في الكلام محذوف والتقدير : سارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم. ونكر المغفرة ليفيد المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وليس ذلك إلا المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام والإتيان بجميع الطاعات والاجتناب عن كل المنهيات وهذا قول عكرمة. وعن علي بن أبي طالب : هو أداء الفرائض. وعن عثمان بن عفان أنه الإخلاص لأنه المقصود من جميع العبادات. وعن أبي العالية أنه الهجرة. وقال الضحاك ومحمد بن إسحق : إنه الجهاد لأنه من تمام قصة أحد. وقال الأصم : بادروا إلى التوبة من الربا لأنه ورد عقيب النهي عن الربا. ثم عطف عليه المسارعة إلى الجنة لأن الغفران ظاهره إزالة العقاب. والجنة معناها حصول الثواب ، ولا بد للمكلف من تحصيل الأمرين. ثم وصف الجنة بأن عرضها السموات ، ومن البيّن أن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة ، فالمراد كعرض السموات لقوله في موضع آخر (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ) [الحديد : ٢١] والمراد المبالغة في وصف سعة الجنة فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه ونظيره (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] لأنها أطول الأشياء بقاء عندنا. وقيل : المراد أنه لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحد من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذه غاية من السعة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقيل : إن الجنة التي عرضها عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا له ، فلا بد أن تكون الجنة المملوكة لكل أحد مقدارها هكذا. وقال أبو مسلم : معنى العرض القيمة ، ومنه عارضت الثوب بكذا. معناه لو عرضت السموات والأرض على

٢٥٨

سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة. والأكثرون على أن المراد بالعرض هاهنا خلاف الطول. وخص بالذكر لأنه في العادة أدنى من الطول ، وإذا كان العرض هكذا فما ظنك بالطول. ونظيره (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] لأن البطائن في العادة تكون أدون حالا من الظهائر وإذا كانت البطانة كذلك فكيف الظهارة؟ وقال القفال : العرض عبارة عن السعة. تقول العرب : بلاد عريضة أي واسعة. والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ولم يدق ، وما ضاق عرضه دق. فجعل العرض كناية عن السعة. وسئل هاهنا إنكم تقولون الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء؟ وأجيب بعد تسليم كونها الآن مخلوقة أنها فوق السموات وتحت العرش. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة الفردوس «سقفها عرش الرحمن» (١) وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟ والمعنى ـ والله ورسوله أعلم ـ أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب ، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل. وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء؟ فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل : فأين هي؟ قال : فوق السموات السبع تحت العرش. ثم ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات. منها قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) في حال الغنى والفقر لا يخلون بأن ينفقوا ما قدروا عليه. عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة. وعن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فكان الفقير أنكر عليها فقالت : احسب كم هي من مثقال ذرة. وقيل : في عرس أو حبس. والمراد في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة ، فهم لا يدعون الإحسان إلى الناس في حالتي فرح وحزن. وقيل : إن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم ، أو ساءهم بأن كان مخالفا له ، فإنهم لا يتركونه. وفي افتتاحه بذكر الإنفاق دليل على عظم وقعه عند الله لأنه طاعة شاقة ، أو لأنه كان أهم في ذلك الوقت لأجل الحاجة إليه في الجهاد ومواساة فقراء المسلمين. ومنها قوله (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) كظم القربة إذا ملأها وشد فاها. ويقال : كظم غيظه إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل كأنه كتمه على امتلائه ، ورد غيظه في جوفه ، وكف غضبه عن الإمضاء ، وهو من أقسام الصبر والحلم. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كظم غيظا وهو يقدر على

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٣٥).

٢٥٩

إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» (١) وقال أيضا : «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (٢) ومنها قوله : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قيل : يحتمل أن يراد العفو عن المعسرين لأنه ورد عقيب قصة الربا كما قال في البقرة : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٨٠] ويحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضب على المشركين حين مثلوا بحمزة فقال : لأمثلن بهم. فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والعفو عنهم. والظاهر أنه عام لجميع المكلفين في الأحوال إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه» وعن عيسى ابن مريم عليه‌السلام : ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذاك مكافأة ، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يجوز أن يكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل فيه هؤلاء المذكورون ، وأن يكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء. وذلك أن من أنواع الإحسان إيصال النفع إلى الغير وهو المعنى بالإنفاق في السراء والضراء في وجوه الخيرات. ويدخل فيه الإنفاق بالعلم وبالنفس ، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ومنها دفع الضرر عن الغير إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة الإساءة بإساءة أخرى وهو المعبر عنه بكظم الغيظ ، وإما في الآخرة بأن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات الأخروية وهو المقصود بالعفو. فإذن الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. فذكر ثواب المجموع بقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فإن محبة الله للعبد أعظم درجات الثواب. قال ابن عباس في رواية عطاء : إن منهالا التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر ذلك له فنزلت (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الآية. وقال في رواية الكلبي : إن رجلين أنصاريا وثقيفا آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ، فكانا لا يفترقان في أحوالهما. فخرج الثقفي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري في أهله وحاجته. فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها ، فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها. فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحى فأدبر راجعا فقال : سبحان الله خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك. قال : وندم على صنيعه فخرج يسيح في الجبال ويتوب

__________________

(١) رواه ابو داود في كتاب الأدب باب ٣. الترمذي في كتاب البر باب ٧٤. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٨. أحمد في مسنده (٣ / ٤٣٨ ، ٤٤٠).

(٢) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١٠٢. مسلم في كتاب البر حديث ١٠٦. الموطأ في كتاب حسن الخلق حديث ١٢. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٢).

٢٦٠