تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرمه فاشهدوا أني قد حرمته وبرئت إلى الله منه. حجة ابن عباس أن قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقدا. وقوله : (وَحَرَّمَ الرِّبا) لا يتناوله لأن كل زيادة ليست محرمة فوجب أن تبقى على الحل ولا يخرج إلا العقد المخصوص الذي كان يسمى فيما بينهم ربا وهو ربا النسيئة. وقد تأكد هذا الرأي بما روى أسامة بن زيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الربا في النسيئة» (١) وفي رواية «لا ربا فيما كان يدا بيد» (٢) وذكر أبو المنهال أنه سأل البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصرف فقال : إن كان يدا بيد فلا بأس ، وإن كان نسيئة فلا يصح. وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على حرمة الربا في القسمين. أما النسيئة فبالقرآن ، وأما النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة : النقدان والمطعومات الأربعة. ولا شك أن الربا إنما ثبت فيها لمعنى ، فإذا عرف ذلك المعنى ألحق بها ما يشاركها فيه. أما الأشياء الأربعة فللشافعي في علة الربا فيها قولان : الجديد أن العلة الطعم لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «الطعام بالطعام مثل بمثل» (٣) علق الحكم باسمي الطعام ، والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق كالقطع المعلق باسم السارق ، والجلد المعلق باسم الزاني. والقديم أن العلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الذهب بالذهب وزنا بوزن والبر بالبر كيلا بكيل» فعلى هذا يثبت الربا في كل مطعوم مكيل أو موزون دون ما ليس بمكيل ولا موزون كالسفرجل والرمان والبيض والجوز. وقال مالك : العلة الاقتيات ، فكل ما هو قوت أو يستصلح به القوت كالملح يجري فيه الربا. وعند أبي حنيفة العلة الكيل حتى ثبت الربا في الجص والنورة. وعن أحمد رواية كأبي حنيفة والأخرى كالجديد. وأما النقدان فعن بعض الأصحاب أن العلة فيهما لعينهما لا لعلة. والمشهور أن العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة فيشمل التبر والمضروب والحلي والأواني المتخذة منها ، ولا يتعدى الحكم إلى الفلوس على الأصح وإن راجت رواج الذهب والفضة لانتفاء العلة. وقال أحمد وأبو حنيفة : العلة فيهما الوزن فيتعدى الحكم إلى كل موزون كالحديد والرصاص. فهذا ضبط المذاهب وتفاريعها إلى الفقه. وأما السبب في تحريم الربا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث ١٠٢. البخاري في كتاب البيوع باب ٧٩. النسائي في كتاب البيوع باب ٤٩. ابن ماجه في كتاب التجارات باب ٤٩.

(٢) رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث ١٠٣.

(٣) رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث ٩٣. أحمد في مسنده (٦ / ٤٠٠).

٦١

فهو أن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقدا أو نسيئة يحصل له زيادة درهم من غير عوض ، وأخذ مال المسلم من غير عوض محرم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» (١) وإبقاء رأس المال في يده مدة مديدة وتمكينه من أن يتجر فيه وينتفع به أمر موهوم فقد يحصل وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد متيقن وتفويت المتيقن لأجل الموهوم لا يخلو من ضرر. وقيل : سبب تحريمه أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب ، لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدا أو نسيئة أعرض عن وجوه المكاسب فيختل نظام العالم. وقيل : لما يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، ولأنه تمكين للغني من أن يأخذ مالا زائدا من الفقير. وقيل : إن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ولا يجب أن تكون حكمة كل تكليف معلومة لنا. (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) التخبط الضرب على غير استواء ومنه خبط العشواء وتخبط الشيطان. قيل : من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع فورد على ما كانوا يعتقدون. والمس الجنون رجل ممسوس أي مسه الجني فاختلط عقله ، وكذلك جن الرجل ضربته الجن وهذا أيضا من زعماتهم. وقيل : من عادة الناس إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [الصافات : ٦٥] فورد القرآن على ذلك. وقيل : إن الشيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الفزع فيصرع كما يصرع الجبان في الموضع الخالي ، ولهذا لا يوجد هذا الخبط في العقلاء وأرباب الحزم واللب. وأكثر المسلمين على أن الشيطان لا يبعد أن يكون قويا على الصرع والقتل والإيذاء بتقدير الله تعالى. وللمفسرين في الآية أقوال : أحدها أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف. وقوله : (مِنَ الْمَسِ) يتعلق ب (لا يَقُومُونَ) أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. أو يتعلق ب (يَقُومُ) أي كما يقوم المصروع من جنونه ، وقال ابن قتيبة : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم فأثقلهم. وقيل : إنه مأخوذ من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف : ٢٠١] وذلك أن الشيطان يدعوه إلى الهوى ، والملك يجره إلى التقوى ، فيقع هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة وهو الخبط. فإذا مات آكل الربا على ذلك أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب بينه وبين الله

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (١ / ٤٤٦).

٦٢

تعالى. (ذلِكَ) العقاب بسبب قولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) وذلك أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع وإلا كان حق النظم في الظاهر أن يعكس فيقال : إنما الربا مثل البيع. لأن الكلام في الربا لا في البيع ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، ثم إنهم كانوا يعولون في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوبا بعشرة ثم باعه بأحد عشر نقدا أو نسيئة فهذا حلال ، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر لا فرق بين الصورتين إذا حصل التراضي من الجانبين ، والبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات. ولعل الإنسان يكون صفر اليد في الحال وسيحصل له أموال كثيرة في المآل فإعطاؤه الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال. فأجاب الله تعالى عنها بحرف واحد وهو قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وحاصله إنكار التسوية وأن النص لا يعارض بالقياس فإن ذلك من عمل إبليس ، أمره الله تعالى بالسجود فعارض النص بالقياس وقال أنا خير منه. ثم ظاهر الآية يدل على أن الوعيد إنما لحقهم باستحلالهم الربا دون الإقدام على أكله مع اعتقاد التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون أكل الربا من الكبائر ، ويجب تأويل مقدمة الآية بأن المراد من أكلهم الربا استطابته واستحلاله كما يقال : فلان يأكل مال الله قضما وهضما. أي يستحل التصرف فيه إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد. قيل : ويحتمل أن يكون قوله (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) من تمام كلام الكفار على سبيل الاستبعاد. وأكثر المفسرين على خلافه لأن جعله من كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار هو أن يحمل ذلك على الاستفهام بطريق الإنكار ، أو على الرواية عن قول المسلمين والإضمار خلاف الأصل. وأيضا لو كان من تمام كلامهم فلم يكشف الله تعالى عن فساد شبهتهم ، فلم يكن قوله بعد ذلك (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لائقا بالمقام. وأيضا المسلمون لم يزالوا متمسكين في البيع بهذه الآية ، ولو لا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار لم يصح منهم الاستدلال بها. وهاهنا بحث للشافعي وهو أن الآية من المجملات التي لا يجوز التمسك بها بناء على أن الاسم المفرد باللام لا يفيد العموم وليس فيه إلا تعريف الماهية فيكفي في العمل به ثبوت صورة واحدة. ولو سلم إفادة العموم فلا شك أن إفادته مما لو قيل : وأحل الله البياعات : بلفظ الجمع. ومع ذلك فقد تطرق إليه تخصيصات خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله لأنه قريب من الكذب. نعم إطلاق اللفظ المستغرق على الأغلب عرف مشهور ، وأيضا روي أن عمر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا. ولو كان هذا اللفظ مفيدا للعموم لم يقل

٦٣

ذلك. وأيضا قوله (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) يقتضي أن يكون كل بيع حلالا ، وقوله : (وَحَرَّمَ الرِّبا) يقتضي أن يكون كل ربا حراما. لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة ، وإذا تعارضا وتساقطا ووجب الرجوع إلى بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) فمن بلغه وعظ (مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) امتنع من استحلال الربا وتبع النهي (فَلَهُ ما سَلَفَ) فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم كقوله (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] عن الزجاج : والتنوين في (مَوْعِظَةٌ) للتعظيم أو للتقليل أي موعظة بليغة أو شيء من المواعظ. وقيل : النهي المتأخر كيف يؤثر في الفعل المتقدم حتى يكون ما سلف ذنبا؟ فالمراد له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف. عن السدي : والسلوف التقدم ومنه الأمم السالفة ، وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها. (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) لأنه إن انتهى عن أكل الربا كما انتهى عن استحلاله فهو المقر بدين الله العامل بتكليفه فيستحق المدح والثواب ، وإن انتهى عن الاستحلال دون الأكل فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] (وَمَنْ عادَ) إلى استحلال الربا وأنه مثل البيع (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأنه كفر باستحلال ما هو محرم إجماعا. وأما القائلون بتخليد الفساق فيقولون : ومن عاد إلى أكل الربا. ثم إنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآي السالفة في الحث على الصدقات ، ذكر ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الربا وفعل الصدقة فقال (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) والمحق نقص الشيء حالا بعد حال ومنه «محاق القمر» وكل من محق الربا وإرباء الصدقات إما في الدنيا وإما في الآخرة. وذلك أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله. عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الربا وإن كثر إلى قل» وذلك لدعاء الناس عليه وبغضهم إياه لسقوط عدالته وشهرته بالفسق والعدوان ، وربما يطمع الظلمة في ماله ظنا منهم أن المال في الحقيقة ليس له. وعن ابن عباس في تفسير هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة. ثم إن مال الربا لا يبقى عند الموت وتبقى التبعة عليه. وقد ثبت في الحديث «أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام» (١) هذا حال الغني من الحلال فكيف حال الغني من الحرام المقطوع بحرمته؟ قال القفال : نظير قوله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) المثل الذي ضربه فيما تقدم (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) [البقرة : ٢٦٤] ونظير قوله : (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) المثل الآخر (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) [البقرة : ٢٦١] عن أبي هريرة

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب العلم باب ١٣. أحمد في مسنده (٣ / ٦٣).

٦٤

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد» (١) وأيضا المتصدق يزداد كل يوم جاهه وذكره الجميل وتميل القلوب إليه وتنقطع الأطماع عنه متى اشتهر منه أنه متشمر لإصلاح مهمات الضعفاء وسد خلة الفقراء ، فتبين أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في المآل ، والصدقة وإن كانت نقصانا في الحال إلا أنها زيادة في الاستقبال. فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الحس والطبع ويعوّل على ما ندب إليه العقل والشرع (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) الكفار فعال من الكفر ومعناه المقيم على ذلك ، والصيغة للمزاولة ك «تمار وقوال» والأثيم «فعيل» بمعنى «فاعل» وهو أيضا للمبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام ، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحدا. ووجه آخر وهو أن يكون الكفار عائدا إلى المستحل ، والأثيم إلى الآكل مع اعتقاد التحريم. ويحتمل أن يعود كلاهما إلى أكل الربا ويكون تغليظا في أمر الربا وإيذانا بأنه من فعل الكفرة لا من فعل المسلمين. وفي الآية دلالة على أنه تعالى سبقت رحمته عضبه. بيانه أنه لم ينف المحبة إلا عن الجامع بين الإصرار على الكفر وبين المواظبة على سائر الآثام كالربا. فإن استحلاله كفر وهو في نفسه إثم مذموم في جميع الأديان ، لأنه سلب مال المحتاج بنوع من الإكراه والإلجاء ، فتبقى الآية ساكنة عمن جمع بين الأمرين لا على سبيل الإصرار والمواظبة وعن الذي لم يجمع بينهما. نعم قد عرف بدليل آخر أن الكفار الذي لم يواظب على سائر الآثام لا يستأهل محبة الله تعالى وذلك لا ينافي السكوت عن حكمه هاهنا والله أعلم. ثم ذكر الترغيب عقيب الترهيب على عادته من ذكر الوعد مع الوعيد فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية. فاحتج به من قال العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان كما مر. وأجيب بأنه قال في الآية : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) مع أن الصلاة والزكاة من الأعمال الصالحة. ورد بأن الأصل حمل كل لفظ على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر فيبقى في غيره على الأصل (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لم يقل «على ربهم» لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد وذلك النقد حاضر متى شاء البائع أخذه ، والثاني جار مجرى البيع في الذمة نسيئة ، ولا شك أن الأول أفضل (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) عن ابن عباس : أي فيما يستقبلهم من أحوال القيامة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بسبب ما تركوه في الدنيا ، فإن المنتقل من حال إلى حال أخرى فوقها ربما يتحسر على بعض ما فاته من الأحوال السالفة وإن كان مغتبطا بالثانية

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٨. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٦٣. الترمذي في كتاب الزكاة باب ٢٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٤٨. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٢٨.

٦٥

لأجل إلف وعادة ، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الندامة لا يلحق أهل الثواب والكرامة. وقال الأصم : لا خوف عليهم من عذاب يومئذ ولا هم يحزنون بسبب أنهم فاتهم النعيم الزائد الذي حصل لغيرهم من السعداء لأنه لا منافسة في الآخرة. وأيضا إنهم لا يحزنون بسبب إنه لم يصدر منا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا بها مستحقين بثواب أزيد مما وجدناه لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة. وهاهنا سؤال وهو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله ، ولما بلغت حاضت. وعند انقطاع حيضها ماتت. أو الرجل بلغ عارفا بالله ، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات. فهما بالاتفاق من أهل الثواب مع خلوهما عن الأعمال ، فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال؟ والجواب أن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها ، وقد دلت الآية على أن كل مؤمن عمل صالحا فله الأجر فلا يلزم العكس الكلي ثم إنه تعالى لما بيّن أن من انتهى عن الربا فله ما سلف كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) فبين أنه يحرم أخذ ما بقي من الربا في ذمتهم. فإن قيل : كيف قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال في آخره (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)؟ فالجواب أن هذا كما يقال : إن كنت أخي فأكرمني. معناه أن من كان أخا أكرم أخاه. ومعناه إذ كنتم مؤمنين أو إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان ، أو يا أيها الذين آمنوا بلسانكم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم. قال القاضي : وفيه دلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمنا بالإطلاق متى تجنب كل الكبائر. وأجيب بأن المراد إن كنتم عاملين بمقتضى الإيمان. وهذا بناء على أن العمل الصالح غير داخل في مسمى الإيمان ، وإنما شدد الله في ذلك لأن المنتظر لحلول الأجل إذا حضر الوقت وطن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له ففطامه عنها يكون شديدا عليه فقال (اتَّقُوا اللهَ) واتقاؤه إنما يكون باتقاء ما نهى عنه. وهذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار. إذا أسلموا ، فإن ما مضى في الكفر يبقى ولا ينقض ولا ينسخ ، وما لم يوجد منه في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب وإن كان النكاح وقع على مهر حرام فقبضته المرأة فقد مضى ، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون ما سمى وهذا مذهب الشافعي. وأما سبب نزول الآية فعن ابن عباس : بلغنا ـ والله أعلم ـ أنها نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف وفي بني المغيرة بني مخزوم. كانت بنو المغيرة يربون لثقيف ، فلما أظهر الله رسوله على مكة وضع يومئذ الربا كله فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالربا أوضع عن

٦٦

الناس غيرنا. فقال بنو عمر : وصولحنا على أن لنا ربنا. فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله. وقال عطاء وعكرمة : نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر : لا يبقى لي ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقكما كله. فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا. فلما جاء الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاهما ونزلت الآية فسمعا وأطاعا وأخذ رؤوس أموالهما. وقال السدي : نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» (١) (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا) قيل : خطاب مع الكفار المستحلين للربا. ومعنى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معترفين بتحريم الربا (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه (فَأْذَنُوا) ومن ذهب إلى هذا القول قال : فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام فهو خارج عن الملة كما لو كفر بجميع شرائعه ، وعلى هذا يكون مالهم فيئا للمسلمين. وقيل : خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا لأنه خطاب مع قوم تقدم ذكرهم وما هم إلا المخاطبون بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ومعنى قوله : (فَأْذَنُوا) عند من جعله من الإيذان أعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ، فالمفعول محذوف. وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضا قد علموا ذلك ، لكن ليس في علمهم دلالة علي إعلام غيرهم. فهذه القراءة في الإبلاغ آكد ممن قرأ (فَأْذَنُوا) من أذن بالشيء إذا أعلم به أي كونوا على إذن وعلم. فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟ قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» (٢) وعن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله» (٣) وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣] أصلا في قطاع الطريق من المسلمين.

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الحج حديث ١٤٧. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٩ باب ٢. أبو داود في كتاب البيوع باب ٥. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٧٦ ، ٨٤. الدارمي في كتاب البيوع باب ٣. الموطأ في كتاب البيوع حديث ٨٣.

(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٦. بلفظ «من عادى ...».

(٣) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب ٣٣.

٦٧

فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وسنة رسوله. ثم التفضيل فيه أن المصر على عمل الربا إن كان شخصا قدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى عليه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن كان له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكر مانعي الزكاة. وكذا القول لو أجمعوا على ترك الأذان وترك دفن الموتى فإنه يفعل بهم ما ذكرناه (وَإِنْ تُبْتُمْ) من استحلال الربا أو عن معاملة الربا (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) الغريم يطلب زيادة على رأس المال (وَلا تُظْلَمُونَ) أنتم بنقصان رأس المال. (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) إن وقع غريم من غرمائكم ذو إعسار على أن «كان» هي التي تسمى تامة بمعنى وجد الشيء وحدث في نفسه لا بمعنى وجد موصوفا بشيء فإنها حينئذ تكون ناقصة تحتاج إلى الخبر. وقرأ عثمان ذا عسرة بمعنى وإن كان الغريم أو المستربي ذا عسرة. والقراءة المشهورة أولى كيلا تكون النظرة مقصورة على الغريم المستربي بل تعمه وغيره من أرباب العسرة وهي اسم من الإعسار وهو تعذر الموجود من المال. والنظرة التأخير والإمهال وفي الآية حذف والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة. وقرىء (فَنَظِرَةٌ) بسكون الظاء ، وقرأ عطاء فناظره على الأمر أي سامحه بالإنظار وناظره أي صاحب الحق ناظره أي منتظره ، أو ذو نظرته مثل مكان عاشب أي ذو عشب. والميسرة اليسار ضد الإعسار. وقرىء بضم السين كمقبرة ومقبرة. ومن قرأ بالإضافة إلى الضمير فقد حذف التاء كقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) واختلفوا في أن حكم الإنظار مختص بالربا أو عام في الكل؟ فعن ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا. قال الكلبي : قال بنو عمرو لبني المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم. فقال بنو المغيرة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فنزلت (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) وعن مجاهد وسائر المفسرين أنها عامة في كل دين ، ولهذا ورد «كان» تامة. ولو فرض أن سبب النزول خاص فلا بد من إلحاق سائر الصور به لأن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به وهو قول أكثر الفقهاء كمالك وأبي حنيفة والشافعي. والإعسار في الشرع هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ولا يكون له ما لو باعه لأمكن أداء الدين من ثمنه. فمن وجد دارا أو ثوبا لا يعد من ذوي العسرة إذا أمكنه بيعها وأداء ثمنها ، ولا يجوز له أن يحبس إلا قوت يومه لنفسه وعياله وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع الحر والبرد عنهم. وهل يلزمه أن يؤخر نفسه من صاحب الدين أو غيره؟ الأصح أنه لا يلزمه ، وكذا لو بذل له غيره ما يؤديه لا يلزمه القبول. فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يمكن إلا ذلك. وإذا علم الإنسان أن

٦٨

غريمه معسر حرام عليه حبسه وأن يطالبه بما له عليه ووجب الإنظار إلى وقت اليسار فأما إن كان غريمه في إعساره جاز أن يحبسه إلى ظهور الإعسار. وإذا ادعى الإعسار وكذبه الغريم فإن كان الدين الذي حصل لزمه حصل له عن عوض كالبيع أو القرض فلا بد له من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، فإن لم يكن عن عوض كإتلاف وضمان وصداق فالقول قوله وعلى الغريم البينة ، لأن الأصل هو الفقر ، (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) على المعسر بما عليه من الدين يدل على ذلك ذكر المعسر وذكر رأس المال (خَيْرٌ لَكُمْ) لحصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن هذا التصدق خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه ، أو تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض بعده ، أو تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم. وقيل : المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه‌السلام : «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» وزيف بأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى فلا بد من فائدة جديدة ولأن قوله (خَيْرٌ لَكُمْ) إنما يليق بالمندوب لا بالواجب. ثم إن المعاملين بالربا كانوا أصحاب شرف وجلالة وأعوان وتغلب على الناس ، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد فلا جرم وقع ختم أحكام الربا بقوله (وَاتَّقُوا يَوْماً) والمراد اتقاء ما يحدث فيه من الشدائد والأهوال. واتقاء ذلك لا يمكن إلا باجتناب المعاصي وفعل الأوامر في الدنيا فهذا القول يتضمن الإتيان بجميع التكاليف. وانتصب (يَوْماً) على أنه مفعول به. والمعنى : تأهبوا بما تسلفون من العمل الصالح للقاء يوم (تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) أي إلى ما أعد لكم من ثواب أو عقاب ، وإلى علمه وحفظه وذلك أن الإنسان له أحوال ثلاث على الترتيب : الأولى كونه جنينا لا يملك تصرفا فلا تصرف فيه إلا الله ، والثانية خروجه إلى فضاء وهناك يرى للأبوين لغيرهما تصرف فيه ظاهر. الثالثة ما بعد الموت وهنالك لا يكون التصرف فيه ظاهرا وفي الحقيقة إلا لله تعالى فكأنه عاد إلى الحالة الأولى. وهذا معنى الرجوع إلى الله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي جزاء ذلك أو المكتسب هو الجزاء كما يقال : كسب الرجل لما يحصله بتجارته. والمراد أن كل مكلف فإنه يصل إليه جزاء عمله بالتمام عند الرجوع إلى الله تعالى كقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨] ثم كان لقائل أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين إيصال العذاب إلى عبيده الكفار والفساق فقال (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بل العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره وسهل طريق الاستدلال عليه وأمهل. هذا على أصول المعتزلة. وأما على أصول الأصحاب فهو إشارة إلى أنه تعالى ملك الملوك وخالق الخلائق ، والملك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلما. عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. نزل بها جبريل وقال :

٦٩

ضعها على رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها أحدا وثمانين يوما ، وقيل أحدا وعشرين ، وقيل سبعة أيام ، وقيل ثلاث ساعات ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

التأويل : أخبر عن حرص أهل الدنيا وهم أكلة الربا بعد ذكر قناعة أهل العقبى. فمثل آكل الربا كمثل من به جوع الكلب يأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فلا يقوم إلا كما يقوم المصروع لأنه كلما أقام صرعه ثقل بطنه ، ومثله قوله عليه‌السلام «إن هذا المال خضر حلو وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت فمن أخذه بحقه ووضعه بحقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» (١) وفي الحديث مثلان : أحدهما للمفرط في جمع الدنيا بحيث يفضي به إلى الهلاك في الدنيا والعقبى وأشار إليه بقوله : «وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم» (٢) وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول فتستكثر منها الماشية لاستطابتها إياها حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاعتدال فتنشق أمعاؤها فتهلك أو تقارب الهلاك. والمثل الآخر للمقتصد وذلك قوله «إلا آكلة الخضر» وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول وجيدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره ولكنها من كلإ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لا تجد سواها ، فلا ترى الماشية تكثر منها وهو مثل التاجر الذي يكتسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدي حقه وإن كان له حرص في الطلب والجمع. ولكن لما كان بأمر الشرع وطريق الحل ما أضربه (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) يعني كيف يكون ما أزال نور الأمر ظلمته مثل ما زاد ظلمته ارتكاب المنهي؟ فمرتكب الربا في ظلمات ثلاث : ظلمة الحرص وظلمة الدنيا وظلمة المعصية. (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يرزقه من حيث لا يحتسب (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ) بنعمة الشرع وأنواره (أَثِيمٍ) عامل بالطبع مقيم في ظلمة إصراره. ثم أخبر عن العاملين بالشرع الخارجين عن الطبع الذين آمنوا إيمان التصديق بالتحقيق مقرونا بالتوفيق ، ثم خرجوا عن ظلمة اتباع الهوى بإقامة الصلاة وعالجوا ظلمة الركون إلى الدنيا بأنوار إيتاء الزكاة ، فجذبتهم العناية من حضيض العبدية إلى ذروة العندية (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من الرجوع إلى ظلمات الطبيعة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوات أنوار الشريعة. ثم أخبر عن أهل الإيمان المجازي فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) باللسان (اتَّقُوا اللهَ) أي بالله كما جاء. «كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». أي جعلناه قدامنا. ومن شرط المؤمن الحقيقي اتقاؤه بالله في

__________________

(١ ، ٢) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٣٧. مسلم في كتاب الزكاة حديث ١٢١. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٨. أحمد في مسنده (٣ / ٧ ، ٢١).

٧٠

ترك الزيادات كما قال : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (١) و (ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) تركوا ما سوى الله في طلبه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيمانا حقيقيا. (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) لم تتركوا كل زيادة تمنعكم (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ببعد منهما وبغض. (وَإِنْ تُبْتُمْ) تركتم غيره (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) وهي الكرامة التي فضلكم بها على كثير من خلقه وهي المحبة يحبهم ويحبونه (لا تَظْلِمُونَ) بوضع محبتي في غير موضعها من المخلوقات (وَلا تُظْلَمُونَ) بوضع محبتكم في غير موضعها. (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) لم يصل إليه ما أعد لأجله عاجلا (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) وهو وقت وصوله إليه آجلا (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) تبذلوا فينا ما تتمنون من صنوف برنا في الدنيا والعقبى على قدر همتكم فهو (خَيْرٌ لَكُمْ) لأنا نجازيكم على قدر مواهبنا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قدرها (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» (٢) ثم إنه سبحانه كما جمع في القرآن خلاصة الكتب السماوية جمع في خاتمة الوحي خلاصة أي القرآن فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً) الآية. وذلك أن فائدة جميع الكتب راجعة إلى معنيين : النجاة من الدركات السفلى وهي سبعة : الكفر والشرك والجهل والمعاصي والأخلاق المذمومة وحجب الأوصاف وحجاب النفس. والفوز بالدرجات العلى وهي ثمانية : المعرفة والتوحيد والعلم والطاعات والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته. فقوله (وَاتَّقُوا) شامل لما يتعلق بالسعي الإنساني من هذه المعاني ، لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك إليه ، فتقوى العام الخروج بسبب الإقامة بشرائط (جاهَدُوا فِينا) [العنكبوت : ٦٩] عن الكفر بالمعرفة ، وعن الشرك بالتوحيد ، وعن الجهل بالعلم ، وعن المعاصي بالطاعات ، وعن الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة. ثم من هاهنا تقوى الخاص تخرجهم جذبات (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] من حجب أوصافهم إلى درجة تجلي صفات الحق فيستظلون بظل سدرة المنتهى (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم : ١٥] فينتفعون بمواهب (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم : ١٦] ثم من هاهنا تقوى خاص الخاص فتخرجه العناية بجذبات (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] من سدرة المنتهى الأوصاف إلى قاب قوسين نهاية حجاب النفس وبدية أنوار القدس. وهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه وهو مقام أو أدنى ترجعون فيه إلى الله. لأن مبدأ وجودك النفخة ، وآخر حالك الجذبة ، وبها

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ١١. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٢. الموطأ في كتاب حسن الخلق حديث ٣.

(٢) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ٢٥. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ٦.

٧١

اصطفى آدم وكرم نبيه ولهذا لم يقل : ولقد كرمنا أولاد آدم ، لأن أهل الكرامة منهم من هو بوصف الرجال دون النساء. ثم وصف الرجال بقوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧] فمن كان من النساء بهذا الوصف فهو من الرجال في المعنى ، ومن لم يكن من الرجال بهذا الوصف فهو من النساء في الحقيقة ، وفي هذا الرجوع وعد وبشارة للأولياء ، ووعيد وإنذار للأعداء (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) فبقدر مراتبه في العبودية والتقوى يهتدي إلى مقامات القرب من المولى ، وبحسب فنائه عن حجاب نفسه يبقى ببقاء ذاته وهويته ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فإن دخول النور في البيت وخروج الظلمة منه إنما يكون على مقدار سعة فتح الروزنة وضيقة ولا تظلم الشمس عليه مثقال ذرة (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧ ، ٤١].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

القراآت : (أَنْ يُمِلَ) هو بسكون الهاء : قتيبة والحلواني عن قالون. الباقون بالضم على الأصل (أَنْ تَضِلَ) بكسر الهمزة على الشرط : حمزة والمفضل. الباقون بالفتح على أنها ناصبة (فَتُذَكِّرَ) بالتشديد والرفع : حمزة وجبلة (فَتُذَكِّرَ) بالرفع ، ومن الإذكار : أبو زيد عن المفضل (فَتُذَكِّرَ) من الإذكار وبالنصب : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة. الباقون (فَتُذَكِّرَ) بالتشديد والنصب. (تِجارَةً حاضِرَةً) بالنصب فيهما : عاصم.

٧٢

الباقون بالرفع فيهما. (فَرِهانٌ) بضم الراء والهاء : ابن كثير وأبو عمرو. الباقون (فَرِهانٌ).

الوقوف : (فَاكْتُبُوهُ) ط ، للعدول. (بِالْعَدْلِ) ص ، لعطف المتفقين (فَلْيَكْتُبْ) ج (شَيْئاً) ط. (بِالْعَدْلِ) ط ، (مِنْ رِجالِكُمْ) ج للشرط مع فاء التعقيب (الْأُخْرى) ط (دُعُوا) ط للعدول (أَجَلِهِ) ط (أَلَّا تَكْتُبُوها) ط لابتداء الأمر. (تَبايَعْتُمْ) ص لعطف المتفقين (وَلا شَهِيدٌ) ط (بِكُمْ) ط (وَاتَّقُوا اللهَ) ط ه ، (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ط (عَلِيمٌ) ه ، (مَقْبُوضَةٌ) ط لابتداء شرط واستئناف معنى آخر (رَبَّهُ) ط للعدول (الشَّهادَةَ) ط (قَلْبُهُ) ط (عَلِيمٌ) ه.

التفسير : الحكم الثالث المداينة. وسبب النظم أن الحكمي المتقدمين وهما الإنفاق وترك الربا كانا سببين لنقصان المال ، فأرشد الله تعالى في هذه الآية بكمال رأفته إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن التلف والبوار ورعاية وجوه الاحتياط ، فإن مصالح المعاش والمعاد متوقفة على ذلك ، ولهذه الدقيقة بالغ في الوصاية وأطنب. عن ابن عباس أن المراد به السلم وقال : لما حرم الربا أباح السلم وأنزل فيه أطول آية. ولهذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا وجعل الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثلها طريقا حلالا وسبيلا مشروعا. والتداين تفاعل من الدين. يقال : داينت الرجل إذا عاملته بدين معطيا أو آخذا. والمراد إذا تعاملتم بما فيه دين. وذلك أن البياعات على أربعة أوجه : أحدها بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة البتة. والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فيبقى هاهنا بيعان : بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئا بثمن مؤجل ، وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهما داخلان تحت الآية. وأما القرض فلا يدخل فيه وإنه غير الدين لغة فإن الدين يجوز فيه الأجل ، والقرض لا يجوز فيه الأجل. والفائدة في قوله : (بِدَيْنٍ) تخليصه من التداين بمعنى المجازاة ، أو التأكيد مثل (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] أو ليشمل أي دين كان صغيرا أو كبيرا سلما أو غيره. وفي الكشاف : فائدته رجوع الضمير إليه في قوله : (فَاكْتُبُوهُ) إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن. ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال فإنه كالمطابقة ، ودلالة تداينتم على ذلك كالتضمن. وقيل : ليكون المعنى تداينا يحصل فيه دين واحد فيخرج بيع الدين بالدين. وإنما لم يقل كلما تداينتم ليكون نصا في العموم لأن الكلية تفهم من بيان العلة في قوله : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) فإن العلة قائمة في الكل فيكون الحكم حاصلا في الكل ، أو نقول : العلة هي التداين والعلة لا ينفك عنها معلولها فتكون القضية كلية كما في قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة : ٦] والأجل مدة الشيء ومنه أجل الإنسان لمدة عمره.

٧٣

وفائدة قوله (مُسَمًّى) أن يعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام. وإنه لو قال إلى الحصاد أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية. ثم إنه تعالى أمر في المداينة بشيئين : الكتبة والاستشهاد ليكون كلا المتداينين أوثق وآمن من النسيان والتفاوت والتخالف في مقدار الدين وفي انقضاء الأجل وفي سائر ما تشارطا عليه. وهذا الأمر قيل للوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي ، وجمهور المجتهدين على أنه للندب لإجماع المسلمين قديما وحديثا على البيع بالأثمان المؤجلة من غير كتبة ولا إشهاد ، ولأن في إيجابهما حرجا وتضييقا. وقيل : كانا واجبين فنسخا بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم بن عتيبة. أما المخاطب بقوله : (فَاكْتُبُوهُ) فليس كل أحد لوجود أميين كثيرين في الدنيا ، بل من له استئهال لكتبه ولهذا قال : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) وليس ذلك أيضا على الإطلاق ولكنه يجب أن يكون الكاتب متصفا بالعدل فيكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص عنه ولا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، ويحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد منها. وهذا بالحقيقة أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيها أديبا دينا. قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين المجتهدين ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلا إلى إبطاله (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى التنكير في كاتب (أَنْ يَكْتُبَ) وقوله (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) إما أن يكون متعلقا بما قبله فالتقدير : ولا يأب كاتب أن يكتب مثل ما علمه الله تعالى فيقع قوله بعد ذلك (فَلْيَكْتُبْ) تأكيدا للأول أي فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله تعالى إياها أو بما بعده فيكون الأول نهيا عن الامتناع مطلقا ، والثاني أمرا بالكتابة المقيدة والمطلق لا دلالة له على المقيد ، فلا يكون الثاني تأكيدا للأول وإنما يكون بيانا له. ثم النهي عن الامتناع عن الكتابة لكل كاتب إنما هو على سبيل الإرشاد والأولى تحصيلا لحاجة المسلم وشكرا لما علمه الله من كتابة الوثائق فهو كقوله : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧] وقيل : إنه على سبيل الإيجاب ولكنه نسخ بقوله (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). وعن الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد إلا كاتبا واحدا وجبت الكتابة عليه ، وإن وجد أشخاصا فالواجب كتابة أحدهم. وقيل : متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أنه بتقدير أن يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشروط كيلا يضيع مال المسلم بإهماله. واعلم أن الكتابة بعد حصول الكاتب العارف بشروط الصكوك والسجلات لا تتم إلا بإملاء من عليه الحق ليدخل في جملة إملائه اعترافه بمقدار الحق وصفته وأجله إلى غير ذلك ، فلهذا قال سبحانه (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) والإملال والإملاء لغتان : قال الفراء : أمللت عليه الكتاب لغة

٧٤

الحجاز وبني أسد ، وأمليت لغة بني تميم وقيس ، وقد نطق القرآن بهما. قال : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥].

(وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) أمر أن لهذا المملي الذي عليه الحق بأن يقر بتمام المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئا. والبخس النقص (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف وضعف عقله (أَوْ ضَعِيفاً) صبيا أو شيخا مختلا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) والمراد بولي الذي عليه الحق الذي يلي أمره ويقوم بمصالحه من وصي إن كان سفيها أو صبيا ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه. وفائدة توكيد المتصل بالمنفصل في قوله : (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره وهو الذي يترجم عنه. وعن ابن عباس ومقاتل والربيع أن الضمير في (وَلِيُّهُ) عائد إلى الدين أي الذي له الدين ليمل. قيل : وفيه بعد لأن قول المدعي كيف يقبل؟ ولو كان قوله معتبرا فأي حاجة إلى الكتابة والإشهاد؟ ثم المقصود من الكتابة هو الاستشهاد ليتمكن بالشهود من التوصل إلى تحصيل الحق إن جحد فلهذا قال تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا) أي أشهدوا. والإشهاد والاستشهاد بمعنى ، لأن معنى استشهدته سألته أن يشهد شهيدين أي شاهدين «فعيل» بمعنى «فاعل». وإطلاق الشهيد على من سيكون شهيدا تنزيل لما يشارف منزلة الكائن. ومعنى قوله (مِنْ رِجالِكُمْ) أي من رجال أهل ملتكم وهم المسلمون. وقيل يعني الأحرار ، وقيل من رجالكم الذين تعدّونهم للشهادة من أهل العدالة (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي الشهيدان رجلين (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فليكن أو فليشهد أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يشهدون جميع هذه التقديرات جائز حسن ذكره علي بن عيسى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) وفيه دليل على أنه ليس كل أحد صالحا للشهادة. والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا عالما بما يشهد به لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع مضرة عنها ، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط ولا بترك المروءة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة. وعن علي عليه‌السلام : ولا يجوز شهادة العبد في شيء وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وذلك لأنه تعالى قال (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) والإجماع منعقد على أن العبد لا يجب عليه الذهاب بل يحرم عليه ذلك إذا لم يأذن له السيد ، فيعلم منه أن العبد لا يجوز أن يكون شاهدا. وعند شريح وابن سيرين وأحمد : تجوز شهادة العبد قالوا : لأن العقل والعدالة والدين لا يختلف بالحرية والرق. وعند أبي حنيفة يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل (أَنْ تَضِلَ) أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن

٧٥

تنساها لغلبة البرد والرطوبة على أمزجتهن أو إحدى النفسين ، فإن الإنسان لا يخلو من النسيان (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل. قال في الكشاف : فإن قلت : كيف يكون ضلالها مرادا لله؟ قلت : لما كان الضلال سببا للإذكار والإذكار مسببا عنه وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما ، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار ، فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ونظيره قولهم «أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه». وفي التفسير الكبير أن هاهنا غرضين : أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يتأتى إلا بتذكير إحدى المرأتين. والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يتأتّى إلا بضلال إحدى المرأتين ، فلهذا صار كل من الغرضين صحيحا ولا محذور. ومن قرأ بكسر «إن» على الشرط والجزاء فلا إشكال. وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا) معناه فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر ولا يخفى ما فيه من التعسف. واعلم أن الشهادة خبر قاطع ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على مثل الشمس فاشهد أو فدع» وقد يقام الظن المؤكد فيه مقام اليقين ضرورة. وقول الشاهد الواحد لا يكفي للحكم به إلا في هلال رمضان كما مر ، ولا يحتاج إلى أزيد من اثنين إلا في الزنا لقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) [النور : ٤] وقال : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء : ١٥] ولا يعتبر فيه شهادة النساء. عن الزهري أنه قال مضت السنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود وغير هلال رمضان والزنا إما عقوبة أو غيرها. فإن كان عقوبة فلا يثبت إلا برجلين لما مر من حديث الزهري يستوي فيه حق الله تعالى كحد الشرب وقطع الطريق ، وحق العباد كالقصاص والقذف ، وأما غير العقوبات فما ليس بمالي. ولا يقصد به المال إن كان مما يطلع عليه الرجال غالبا كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإسلام والردة والبلوغ والولاء وانقضاء العدة وجرح الشهود وتعديلهم والعفو عن القصاص ، فكل ذلك لا يثبت إلا برجلين أيضا. وإن كان مما يختص بمعرفته النساء غالبا فتقبل فيه شهادتهن على انفرادهن لما روي عن الزهري أنه قال : مضت السنة أن تجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن وذلك كالولادة والبكارة والثيابة والرتق والقرن والحيض والرضاع وعيب المرأة من برص وغيره تحت الإزار ، ولا يثبت شيء من ذلك بأقل من أربع نسوة تنزيلا لاثنتين منهن منزلة رجل. وما يثبت بهن يثبت برجل وامرأتين وبرجلين بالطريق الأولى. وأما ما هو مال أو يقصد به المال كالأعيان

٧٦

والديون والعقود المالية من البيع والإقالة والرد بالعيب والإجارة والوصية بالمال والحوالة والضمان والصلح والقرض ، فيثبت بشهادة رجل وامرأتين ثبوتها بشهادة رجلين ونص القرآن منزل على هذا القسم والذي قبله. وجوز الشافعي القضاء بالشاهد واليمين لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالشاهد واليمين وأنكره أبو حنيفة (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) «ما» زائدة مبهمة أي إذا دعوا فقيل : أي إلى أداء الشهادة عند حتياج صاحب الحق إليها. وقيل : إلى تحمل الشهادة وهو قول قتادة واختاره القفال قال : كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة ، أمر الشاهد أن لا يأبى تحمل الشهادة وقيل : أمر بالتحمل إذا لم يوجد غيره. وحمله الزجاج على مجموع الأمرين : التحمل أولا والأداء ثانيا. والقول الأول أصح لأنه أطلق عليهم لفظ الشهداء. والأصل في الإطلاق الحقيقة وتسميتهم قبل التحمل شهداء مجاز لا يعدل إليه إلا لضرورة. وأيضا التحمل غير واجب على الكل بخلاف الأداء بعد التحمل. وأيضا الأمر بالإشهاد يتضمن الأمر بتحمل الشهادة ، فكان صرف قوله (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ) إلى الأمر بالأداء أولى ليفيد فائدة جديدة وهي أن الشاهد إن كان متعينا وجب عليه أداء الشهادة ، وإن كان فيهم كثرة كان الأداء فرضا على الكفاية. (وَلا تَسْئَمُوا) لا تضجروا ولا تملوا أن تكتبوه أي الدين أو الحق لتقدم ذكرهما على أي حال كان الحق صغيرا أو كبيرا مما جرت العادة بكتبته لا كالحبة والقيراط ، فإن القليل من المال ربما أفضى إلى نزاع كثير. وإنما نهى عن السآمة لأنها من الكسل والكسل صفة المنافق. وأيضا من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتابا فربما مل كثرة الكتب فاقتضى المقام ترغيبه وإلهابه. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب ، وأن تكتبوه مختصرا أو مشبعا ، ولا يخلوا بكتابته إلى أجله إلى وقته الذي اتفقا على تسميته (ذلِكُمْ) الكتب أو ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد (أَقْسَطُ) أعدل (عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أعون على إقامة الشهادة وهما إما من أقسط وأقام فيكون محمولا على قولهم «أفلس من ابن المذلق» وإما من قويم وقاسط بمعنى ذو قسط على طريقة النسب وإلا فالقاسط الجائر. ولا يصح ذلك المعنى هاهنا يقال : قسط إذا جار ، وأقسط أي عدل (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أقرب من انتفاء الريب. رتب الله تعالى على الكتبة والإشهاد ثلاث فوائد :

الأولى : تتعلق بالدين لأنه إذا كان مكتوبا كان إلى اليقين أقرب وعن الجهل أبعد فيكون أعدل عند الله. والثانية تتعلق بالدنيا وهو كونه أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وأعون للحفظ والذكر.

والثالثة أنه يدفع الضرر عن نفسه بأن لا يضل في أمره ولا يتردد ، وعن غيره بأن لا

٧٧

ينسبه إلى الكذب والخيانة فلا يقع في الغيبة والجهالة. فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في الضبط والترتيب (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً) قيل : هو راجع إلى قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) إن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد ، فاستثنى عن المداينة ما يكون أجله قريبا. ويحتمل أن يكون استثناء من قوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) وقد يقال : إنه استثناء منقطع والتقدير : لكنه إذا كانت التجارة حاضرة فليس عليكم جناح. فيكون كلاما مستأنفا على سبيل الإضراب عن الأول. والتجارة تصرف في المال لطلب الربح. فسواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة. فإذا المراد بالتجارة هاهنا ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد. والمعنى إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد. ومن قرأ (تِجارَةً) بالرفع فعلى «كان» التامة أو الناقصة والخبر (تُدِيرُونَها) ومن قرأ بالنصب فالتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب.

بني أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

أي إذا كان اليوم يوما. واليوم الأشنع هو الذي ارتفع شره وعلا. وذو كواكب أي شديد. ويقال في التهديد : لأرينك الكواكب ظهرا. وقال الزجاج : تقديره إلا أن تكون المداينة تجارة أي يكون دينا قريب الأجل. (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) ومعنى رفع الجناح عدم الضرر لا عدم الإثم إلا لزم أن تكون الكتابة المذكورة أولا واجبة ، وقد أثبتنا خلاف ذلك. وإنما رخص تعالى في هذا النوع من التجارة لكثرة جريانها فيما بين الناس. فتكليفهم الكتابة والإشهاد في كل لحظة حرج عليهم مع أن خوف التجاحد في مثله قليل. (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) هذا التبايع كأنه لما رفع عنهم الكتابة في التجارة الحاضرة ، كرر الأمر بالإشهاد ليعلم أن حكمه باق فيها لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته. ويحتمل أن يكون أمرا بالإشهاد مطلقا ناجزا كان التبايع أو كالئا لأنه أحوط. عن الحسن : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد. وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل. (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل فيكون أصله لا يضارر بكسر الراء وبه قرأ عمر وعليه أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ومعناه : نهى الكاتب أن يزيد أو ينقص والشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة إلى ما يطلب منهما ولهذا قال (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) فإن التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم. وعن ابن مسعود وعطاء ومجاهد أن التقدير لا يضارر بفتح الراء وبه قرأ ابن عباس ، وأنه نهي للمتداينين عن الضرار بالكاتب والشهيد كأن يعجلا عن مهم ويلزا ، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد

٧٨

مؤنة مجيئه من بلد. (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتكم عنه من الضرار أو كل ما نهيتكم عنه من فعل معصية أو ترك طاعة ليكون عاما (فَإِنَّهُ) فإن الضرار أو ارتكاب المنهي (فُسُوقٌ بِكُمْ) خروج عن أمر الله وطاعته. ومعنى (بِكُمْ) أي ملتصق بكم. (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما فيه صلاح الدارين (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من مصالح عباد (عَلِيمٌ).

واعلم أنه سبحانه جعل البياعات في هذا المقام على ثلاثة أقسام : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع بالأمانة. ولما بين القسم الأول شرع في الثاني وقال (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) واتفق الفقهاء على أن الارتهان لا يختص بالسفر ولا بحالة عدم وجدان الكاتب ، كيف وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رهن درعه في غير سفر ، ولكنه وردت الآية على الغالب ، فإن الغالب أن لا يوجد الكاتب في السفر ولا يوجد أدوات الكتابة ولهذا قال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة وقرأ ولم تجدوا كتابا ونظيره قوله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء : ١٠١] وليس الخوف من شرط جواز القصر. وكان مجاهد والضحاك يذهبان إلى أن الرهن لا يجوز في غير السفر أخذا بظاهر الآية ، ولا يعمل بقولهما اليوم. وأصل الرهن من الدوام. رهن الشيء إذا دام وثبت. ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة والرهن مصدر جعل اسما وزال عنه عمل الفعل. فإذا قلت رهنت عنده رهنا لم يكن انتصابه انتصاب المصدر ولكن انتصاب المفعول به كما تقول : رهنت ثوبا. ولهذا جمع جمع الأسماء. وله جمعان : رهن بضمتين كسقف في سقف ، ورهان مثل كباش في كبش. وقيل : إن أحدهما جمع الآخر. وفي الكلام حذف تقديره فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين ، أو فعليه رهن ، أو فالوثيقة ، أو الذي يستوثق به رهن. ويعلم من قوله : (مَقْبُوضَةٌ) أن الرهن لا بد في لزومه من القبض ، والمراد باللزوم أن لا يكون للراهن الرجوع عن الرهن ولا للمرتهن عن الارتهان. وقبض المرهون المشاع إنما يحصل بقبض الكل وقبل القبض يصح الرهن ولكن لا يلزم. وأما صورة القبض فقبض العقار إنما يحصل بتخلية الراهن أو وكيله بينه وبين المرتهن أو وكيله وتمكينه منه بتسليم المفتاح فيما له مفتاح. وقبض المنقول يحصل بالنقل من موضعه إلى موضع لا يختص بالراهن كالشارع والمسجد وملك المرتهن ، وإن كان المنقول مقدرا فلا بد من التقدير أيضا بوزن أو كيل أو ذرع. ولو نقل من بيت من دار الراهن إلى بيت آخر بإذنه ، أو وضعه الراهن بين يدي المرتهن إذا امتنع من قبضه ، حصل القبض. ثم إنه تعالى ذكر بيع الأمانة فقال (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) فليكن المديون عند ظن الدائن به. وسمى

٧٩

الدين أمانة وإن كان مضمونا لائتمانه عليه بترك الارتهان منه والحاصل أنه مجاز مستعار. وذلك أنه لما اشترك هذا الدين مع الأمانة الشرعية في وصف وجود الأمانة اللغوية أطلق أحدهما على الآخر. والائتمان افتعال من الأمن (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) حتى لا يدور في خلده جحود واختيان. وفي الآية قول آخر وهو أنها خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنها أمانة في يده. والصحيح هو الأول. ومن الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتبة والإشهاد وأخذ الرهن. والحق أن تلك الأوامر محمولة على الإرشاد رعاية وجوه الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة. وعن ابن عباس أنه قال : في آية المداينة نسخ. ثم قال : (لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) وفيه وجوه :

الأول عن القفال : أنه تعالى لما أباح ترك الكتبة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أمينا ، ثم كان من الجائز أن يكون هذا الظن خطأ وأن يخرج المديون جاحدا للحق ، وكان من الممكن أن يكون بعض الناس مطلعا على أحوالهم ، ندب الله ذلك الإنسان أن يشهد لصاحب الحق بحقه ، سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لا ، وشدد فيه بأن جعله إثم القلب لو تركه. وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد» (١) وقيل : المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة. وقيل : المراد بالكتمان الامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، فإن في ذلك إبطال حق المسلم ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه ، فلهذا بالغ في الوعيد وقال (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) والآثم الفاجر ، والآثم مرتفع بأن و (قَلْبُهُ) فاعله. ويجوز أن يكون (قَلْبُهُ) مبتدأ و (آثِمٌ) خبره مقدما عليه ، والجملة خبر «إن». وفائدة ذكر القلب والشخص بجملته آثم لا قلبه وحده ، هو أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلب من الدواعي والصوارف ، وإسناد الفعل إلى القلب الذي هو محل الاقتراف ومعدن الاكتساب أبلغ كما يقال عند التوكيد : هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب» (٢). وزعم كثير من المتكلمين أن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١١٧) ، (٥ / ١٩٢) بلفظ «خير الشهادة ما شهد بها صاحبها قبل أن يسألها».

(٢) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ٣٩. مسلم في كتاب المساقاة حديث ١٠٧. ابن ماجه في الفتن باب ١٤. الدارمي في كتاب البيوع باب ١.

٨٠