تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

التيمم إذا بيع الماء بالغبن. قال مجاهد : كان هذا في أول الإسلام فقط لضعف المؤمنين. وروى عوف عن الحسن أنه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة. وهذا أرجح عند الأئمة. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) قيل : أي عقاب نفسه. وفيه تهديد عظيم لمن تعرّض لسخطه بموالاة أعدائه لأن شدة العقاب على حسب قدرة المعاقب. وفائدة ذكر النفس تصريح بأن الذي حذر منه هو عقاب يصدر من الله لا من غيره. وقيل : الضمير يعود إلى اتخاذ الأولياء أي ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل. ثم حذر عن جعل الباطن موافقا للظاهر في وقت التقية فقال : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) أي قلوبكم وضمائركم لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الظرف مقام المظروف (أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) يتعلق به علمه الأزلي. ثم استأنف بيانا أشفى وتحذيرا أوفى فقال : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ثم قال إتماما للتحذير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم خلط الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب فقال : (يَوْمَ تَجِدُ) وفي عامله وجوه قال ابن الأنباري : وإلى الله المصير يوم تجد. وقيل : والله على كل شيء قدير يوم تجد ، وخص ذلك اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تعظيما لشأنه مثل (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٣] وقيل : انتصابه بمضمر أي اذكر. والأظهر أن العامل فيه (تَوَدُّ) والضمير في (بَيْنَهُ) لليوم أي تود كل نفس يوم تجد ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء محضرا أيضا لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا. والأمد الغاية التي ينتهي ليها مكانا كانت أو زمانا. والمقصود تمني بعده كقوله : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) [الزخرف : ٣٨] ومعنى كون العمل محضرا هو أن يكون ما كتب فيه العمل من الصحائف حاضرا ، أو يكون جزاؤه حاضرا إذ العمل عرض لا يبقى. ثم إن لم يكن يوم متعلقا ب (تَوَدُّ) احتمل أن يكون (تَوَدُّ) صفة (سُوءٍ) والضمير في (بَيْنَهُ) يعود إليه ، واحتمل أن يكون حالا ، واحتمل أن يكون (ما عَمِلَتْ) مبتدأ من الصلة والموصول و (تَوَدُّ) خبره وهو الأكثر ، واحتمل أن يكون «ما» شرطية و (تَوَدُّ) جزاء له وهو قليل كقوله :

وإن أتاه خليل يوم مسغبة

يقول لا غائب ما لي ولا حرم

وقراءة عبد الله ودت يحتملهما على السواء إلا أن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) تأكيد للوعيد (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال الحسن : ومن رأفته أن حذرهم نفسه وعرّفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يهمل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذرهم من استحقاق غضبه. ويجوز أن يراد أنه

١٤١

رؤوف بهم حيث أمهلهم للتوبة والتلافي ، أو هو وعد كما أن التحذير وعيد ، أو المراد بالعباد عباده المخلصون كقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الدهر : ٦] كما هو منتقم من الفساق ومحذرهم نفسه فهو رؤوف بالعباد المطيعين والمحسنين : ثم إنه تعالى دعا القوم إلى الإيمان به ورسوله من طريق آخر سوى طريق التهديد والتحذير فقال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) قال الحسن وابن جريج : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم يحبون الله فقالوا : يا محمد إنا نحب ربنا فأنزل الله هذه الآية. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال : يا معشر قريش ، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام. فقالت قريش : يا محمد إنا نعبد هذه حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى. فأنزل الله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت حين زعمت اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه. وقيل : نزلت في نصارى نجران زعموا أنهم يعظمون المسيح ويعبدونه حبا لله وتعظيما له. والحاصل أن كل من يدعي محبة الله تعالى من فرق العقلاء فلا بد أن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه ، فإذا قامت الدلائل العقلية والمعجزات الحسية على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبت متابعته. فليس في متابعته إلا أنه يدعوهم إلى طاعة الله وتعظيمه وترك تعظيم غيره. فمن أحب الله كان راغبا فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غيره ، وقد مر في تفسير قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة : ١٦٥] تحقيق المحبة وأنها من الله تعالى عبارة عن إعطاء الثواب. وقال : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ليدل مع إيفاء الثواب على إزالة العقاب وهذه غاية ما يطلبه كل عاقل. (وَاللهُ غَفُورٌ) في الدنيا يستر على عبده أنواع المعاصي (رَحِيمٌ) في الآخرة يثيبه على مثقال الذرة من الطاعة والحسنة. يروى أنه لما نزل (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) قال عبد الله بن أبيّ إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزلت (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) وذلك أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في البين أمره الله تعالى أن يقول : إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا لما يقوله النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند الله ومبلغ تكاليفه (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا أو تعرضوا على أن يكون التاء الأولى محذوفة ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم ، فإنه لا يحصل للكافرين محبة الله لأنها عبارة عن الثناء لهم وإيصال الثواب إليهم ، والكافر يستحق الذم واللعن وهذا ضد المحبة. ثم إنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو

١٤٢

درجات الرسل وسموّ طبقاتهم فقال : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) الآية أي جعلهم صفوة خلقه والمختارين من بينهم تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ، وذلك باستخلاصهم من الصفات الذميمة وتحليتهم بالخصال الحميدة كقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وقيل : المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح ولكن الأصل عدم الإضمار. وذكر الحليمي في كتاب المنهاج أن الأنبياء عليهم‌السلام مخالفون لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية. أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة أو محركة. أما المدركة فهي الحواس الظاهرة أو الباطنة أما الظاهرة فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها» (١) وقوله : «أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري» (٢) وهذا يدل على كمال القوة الباصرة ونظيرها ما حصل لإبراهيم عليه‌السلام (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] ذكروا في تفسيره أن الله تعالى قوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت وليس بمستبعد ، فإنه يروى أن زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام. ويقال : إن النسر وغيره من عظام الجوارح يرتفع فيرى صيده من مائة فرسخ. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطت السماء وحق لها أن تئط» (٣) فسمع أطيط السماء. ومثله ما زعمت الفلاسفة أن فيثاغورس راض نفسه حتى سمع حفيف الفلك. وقد سمع سليمان كلام النمل وفهمه. ومثله ما يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلم مع الذئب ومع البعير ، وقد وجد يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ريح يوسف من مسيرة أيام. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم» (٤) وهو دليل كمال قوة الذوق. وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ، قيل : وهو دليل قوة اللمس كما في النعامة والسمندل وفيه نظر ، إذ لا إدراك هاهنا فكيف يستدل به على قوة الإدراك؟ بل يجب أن يحمل هذا على معنى آخر وهو أنه تعالى لا يبعد أن يجعل المنافي ملائما للإعجاز أو لخاصية أودعها في المنافي حتى يصير ملائما. وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ قال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] ومنها قوة الذكاء قال علي رضي

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٥ / ٢٧٨ ، ٢٨٤).

(٢) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ٧٦. النسائي في كتاب الإمامة باب ٢٨ ، ٤٧. أحمد في مسنده (٢ / ٩٨).

(٣) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ٩. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٩. أحمد في مسنده (٥ / ١٧٣).

(٤) رواه البخاري في كتاب الهبة باب ٢٨. الدارمي في كتاب المقدمة باب ١١. أحمد في مسنده (٢ / ٤٥١).

١٤٣

الله عنه : علمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف باب من العلم فاستنبطت من كل باب ألف باب. وإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي؟ وأما القوة المحركة فكعروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعروج عيسى عليه‌السلام إلى السماء ، وكرفع إدريس وإلياس على ما ورد في الأخبار. وأما القوة الروحانية العقلية فنقول : إن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ، أو كالمخالفة صفاء ونورية وانجذابا إلى عالم الأرواح ، فلا جرم تجري عليها الأنوار الفائضة من المبادئ العالية أتم من سائر النفوس وأكمل ، ولهذا بعثت مكملة للناقصين ومعلمة للجاهلين ومرشدة للطالبين مصطفاة على العالمين من جميع سكان الأرضين عند من يقول الملك أفضل من البشر ، أو من سكان السموات أيضا عند من يرى البشر أفضل المخلوقات. ثم إن القرآن دل على أن أول الأنبياء اصطفاء آدم صفي الله وخليفته. ثم إنه وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم وهم : شيث وأولاده إلى إدريس ، ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم انشعب من إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم شعبتان : إسماعيل وإسحق. فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل إسحق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيص. فوضع النبوة في نسل يعقوب ، ووضع الملك في نسل عيص ، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما ظهر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نقل نور النبوة ونور الملك إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقي الدين والملك في أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ، فالمراد بآل إبراهيم أولاده عليهم الصلاة والسلام وهو المطلوب بقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] بعد قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] وأما آل عمران فقيل : أولاد عمران بن يصهر والدموسي وهارون. وقيل : المراد بعمران والد مريم وهو عمران بن ماثان بدليل قوله عقيبه (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) [آل عمران : ٣٥] ولا شك أنه عمران بن ماثان جد عيسى من قبل الأم ، ولأن الكلام سيق للنصارى الذين يحتجون على إلهية عيسى عليه‌السلام بالخوارق التي ظهرت على يده. فالله تعالى يقول : إن ذلك باصطفاء الله إياه لا لكونه شريكا للإله ولأن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٩١]. (ذُرِّيَّةً) بدل ممن سوى آدم (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) قيل : أي في التوحيد والإخلاص والطاعة كقوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] وذلك لاشتراكهم في النفاق. وقيل : معناه أن غير آدم كانوا متوالدين من آدم. وقيل : يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض ، موسى وهارون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوي من يعقوب ، ويعقوب من إسحق. وكذلك عيسى من مريم ، ومريم بنت عمران بن ماثان. ثم قال في الكشاف : ماثان بن سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق وفيه نظر ، لأن بين ماثان وسليمان قوما آخرين ، وكذلك بين ايشا ويهوذا. (وَاللهُ

١٤٤

سَمِيعٌ) لأقوال العباد (عَلِيمٌ) بضمائرهم وأفعالهم فيصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا. ويحتمل أن يكون الكلام مع اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه تغريرا للعوام مع علمهم ببطلان هذا الكلام ، فيكون أول الكلام تشريفا للمرسلين وآخره تهديدا للمبطلين كأنه قيل : والله سميع لأقوالهم الباطلة ، عليم بأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بحسب ذلك. ويحتمل أن يتعلق بما بعده كما في الوقوف.

التأويل : مالك الملك هو ملك الوجود فلا وجود بالحقيقة إلا له ، تؤتي الوجود من تشاء وتنزع الوجود ممن تشاء ، فتخلق بعض الموجودات مستعدا للبقاء كالملائكة والإنسان ، توجد بعضها قابلا للفناء كالنبات والحيوان غير الإنسان. (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بعزة الوجود النوري ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بذل القبض القهري ، بيدك الخير. (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تضمين للدعاء بذكر السبب كما يقال للجواد إنك الذي يقدر على إعطاء كل خير فأتنا وأعزنا يا مفيض كل خير ، ويا كاشف كل ضير. تولج ليل ظلمات الصفات البشرية النفسانية في نهار أنوار الصفات الروحانية وبالعكس ، تخرج القلب الحي بالحياة الحقيقية من النفس الميتة ، وتخرج القلب الميت عن الحياة الحقيقية من النفس الحية بالحياة المجازية الحيوانية. لا يتخذ القلب المؤمن والروح والسر وصفاتها الكافرين من النفس الأمّارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين من القلب والروح والسر ، ومن يفعل ذلك من القلوب فليس من أنوار الله وألطافه في شيء إلا أن تخافوا من هلاك النفوس. فالنفس مركب الروح فتواسوها كيلا تعجز عن السير في الرجوع وتهلك في الطريق من شدة الرياضات وكثرة المجاهدات. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي من صفات قهره (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) قلوبكم (وَما فِي الْأَرْضِ) نفوسكم (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أثر الخير والشر ظاهر في ذات المرء وصفاته ، وبحسب ذلك يبيض وجه قلبه أو يسود ولكنه في غفلة من هذا محجوب عنه بحجاب النفس والجسم كمثل نائم لدغته حية كحية الكفر والخصال الذميمة فلا يحس بها ما دام نائما نوم الغفلة ، فإذا مات انتبه وأحس ، ثم أخبر عن طريق الوصول أنه في متابعة الرسول. واعلم أن للاتباع ثلاث درجات ، ولمحبة المحب ثلاث درجات ، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الاتباع ثلاث درجات. أما درجات الاتباع فالأولى درجة عوام المؤمنين وهي متابعة أعماله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثانية درجة الخواص وهي متابعة أخلاقه ، والثالثة درجة أخص الخواص وهي متابعة أحواله. وأما درجات محبة المحب فالأولى محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها» وهذا حب

١٤٥

يتغير بتغير الإحسان وهو لمتابعي الأعمال الذين يطمعون في الأجر على ما يعملون وفيه قال أبو الطيب :

وما أنا بالباغي على الحب رشوة

ضعيف هوى يرجى عليه ثواب

والثانية محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إعظاما وإجلالا له ، ولأنه أهل لذلك كما قالت رابعة :

أحبك حبين حب الهوى

وحب لأنك أهل لذاكا

ويضطر هذا المحب في هذه الدرجة إلى إيثار الحق على غيره ، وهذا الحب يبقى على الأبد بقاء الكمال والجلال على السرمد وفيه قال :

سأعبد الله لا أرجو مثوبته

لكن تعبد إعظام وإجلال

والثالثة محبة أخص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكان من «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية ،

غذينا بالمحبة يوم قالت

له الدنيا أتينا طائعينا

وحقيقة هذه المحبة أن يفنى المحب بسطوتها وتبقى المحبة فيه بلا هو كما أن النار تفني الحطب بسطوتها وتبقى النار منه بلا هو. وحقيقة هذه المحبة نار لا تبقي ولا تذر. وأما درجات محبة الله للعبد فاعلم أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها فإنها لا تشبه في الحقيقة صفات المخلوقين ، حتى الوجود فإنه وإن عم الخالق والمخلوق إلا أن وجوده واجب بنفسه ووجود غيره ممكن في ذاته واجب به ، فليس في الكون إلا الله وأفعاله. قرأ القارئ بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير رحمه‌الله قوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] فقال : بحق يحبهم لأنه لا يحب إلا نفسه فليس في الوجود إلا هو ، وما سواه فهو من صنعه. والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه. والغرض أن محبة الله للخلق عائدة إليه حقيقة إلا أنه لما كان مرورها على الخلق فبحسب ذلك اختلفت مراتبها ، مع أنها صدرت عن محل واحد هو محل «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف» فما تعلقت إلا بأهل المعرفة وذلك قوله : «فخلقت الخلق لأعرف» لكنها تعلقت بالعوام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال فقيل لهم (فَاتَّبِعُونِي) بالأعمال الصالحة (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) يخصكم بالرحمة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم التي صدرت منكم على خلاف

١٤٦

المتابعة. وتعلقت بالخاص من أهل المعرفة بالفضل ومشربهم الأخلاق فقيل لهم : (فَاتَّبِعُونِي) بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل يخصكم بتجلي صفات الجمال (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته. وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات ومشربهم الأحوال فقيل لهم (فَاتَّبِعُونِي) ببذل الوجود (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) يخصكم بجذبكم إلى نفسه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب وجودكم فيمحوكم عنكم ويثبتكم به كما قال : «فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» (١) فهم بين روضة المحو وغدير الإثبات أحياء غير أموات ، ويكون في هذا المقام المحب والمحبوب والمحبة واحدا كما أن الرائي في المرآة يشاهد ذاته بذاته وصفاته بصفاته فيكون الرائي والمرئي والرؤية واحدا. (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) فإن متابعته صورة جذبة الحق وصدف درّة محبته لكم. (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) وذلك أن الله تعالى خلق العالمين سبعة أنواع : الجماد والمعدن والنبات والحيوان والنفوس والعقول والأرواح ، وجمع في آدم جميع الأنواع وخصه بتشريف ثامن هو تشريف (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] فهو المظهر لجميع آياته وصفاته وذاته وهو معنى جعله خليفة ومعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإن الله خلق آدم على صورته» (٢) ثم ذكر خواص أولاد آدم نوحا وآل إبراهيم وآل عمران والمراد بالآل كل مؤمن تقي (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) بالوراثة الدينية «العلماء ورثة الأنبياء» (٣) فالعالم كشجرة وثمرتها أهل المعرفة (وَاللهُ سَمِيعٌ) لدعائهم (عَلِيمٌ) بأحوالهم وخصالهم.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣٨.

(٢) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٤ ، ٢٥١). البخاري في كتاب الاستئذان باب ١. مسلم في كتاب البر حديث ١١٥.

(٣) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥ / ١٩٦).

١٤٧

الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ َلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

القراآت : (مِنِّي إِنَّكَ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. (بِما وَضَعَتْ) على الحكاية : ابن عامر ويعقوب وأبو بكر وحماد. الباقون (وَضَعَتْ) على الغيبة. (وَإِنِّي أُعِيذُها) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع. (وَكَفَّلَها) مشددة : عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون خفيفا (زَكَرِيَّا) مقصورا كل القرآن : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. وقرأ أبو بكر وحماد بالمد والنصب هاهنا. الباقون بالمد والرفع. فناديه بالياء والإمالة : علي وحمزة وخلف. الباقون (فَنادَتْهُ) بتاء التأنيث (فِي الْمِحْرابِ) بالإمالة حيث كان مخفوضا. قتيبة وابن ذكوان (أَنَّ اللهَ) بكسر «إن» : ابن عامر وحمزة. الباقون بالفتح. (يُبَشِّرُكَ) وما بعده من البشارة خفيفا : حمزة وعلي. الباقون بالتشديد (لِي آيَةً) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن ابن كثير.

الوقوف : (مِنِّي) ج للابتداء ولاحتمال لأنك (الْعَلِيمُ) ه (أُنْثى) ط لمن قرأ (بِما وَضَعَتْ) بتاء التأنيث الساكنة ، ومن قرأ على الحكاية لم يقف لأنه يجعلها من كلامها. (بِما وَضَعَتْ) ط (كَالْأُنْثى) ج للابتداء بأن ، ولاحتمال أن المجموع كلام واحد من قولها على قراءة من قرأ (وَضَعَتْ) بالضم (الرَّجِيمِ) ه (حَسَناً) ص لمن قرأ (وَكَفَّلَها) مخففا لتبدل فاعله ، فإن فاعل المخفف (زَكَرِيَّا) وفاعل المشدد الرب. وقد يعدى إلى مفعولين كقوله : (أَكْفِلْنِيها) [ص : ٢٣] (الْمِحْرابَ) (لا) لأن (وَجَدَ) جواب (كُلَّما رِزْقاً) ج لاتحاد فاعل الفعلين مع عدم العاطف (هذا) ط (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ط (حِسابٍ) ه (رَبَّهُ) ج لما قلنا في (رِزْقاً طَيِّبَةً) ج للابتداء ولجواز لأنك (الدُّعاءِ) ه (فِي الْمِحْرابِ) (لا) وان كسر «إن» لأن من كسر جعل النداء في معنى القول (الصَّالِحِينَ) ه (عاقِرٌ) ط (ما يَشاءُ) ه (آيَةً) ط (وَالْإِبْكارِ) ه.

التفسير : إنه سبحانه ذكر في هذا المقام قصصا. القصة الأولى قصة حنة أم مريم البتول زوجة ابن عمران بن ماثان بنت فاقوذ أخت إيشاع التي كانت تحت زكريا بن أذن. روي أن حنة كانت عاقرا لم تلد إلى أن كبرت وعجزت. فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا له ، فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالت : اللهم إن لك عليّ نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمته. فحملت بمريم

١٤٨

وهلك عمران وهي حامل. قال الحسن : إنما فعلت ذلك بإلهام الله تعالى كما ألهم أم موسى فقذفته في أليم. عن الشعبي : محررا مخلصا للعبادة. وتحرير العبد تخليصه من الرق ، وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلص من الغلط ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه يد وتصرف. قال الأصم : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي ، وكان في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين. فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع عن الانتفاع ويجعلون الأولاد محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى ، حتى إذا بلغ الحلم كان مخيرا. فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فلا خيار له بعد ذلك. ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس ، وما كان هذا التحرير إلا في الغلمان. لأن الجارية يصيبها الحيض والقذر ، ثم إنها نذرت مطلقا إما لبناء الأمر على الفرض والتقدير ، وإما لأنها جعلت النذر وسيلة إلى طلب الولد الذكر. (مُحَرَّراً) حال من «ما». وعن ابن قتيبة : المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محررا. فلما وضعتها يعني ما في بطنها لأنها كانت أنثى في علم الله ، أو على تأويل النفس أو النسمة أو الحبلة. والحبل بفتح الباء مصدر بمعنى المحبول ، كما سمي بالحمل ، ثم أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه ، ومنه الحديث «نهى عن حبل الحبلة» ومعناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أنه يكون أنثى. (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها) حال كونها (أُنْثى) ثم من قرأ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) على الحكاية فمجموع الكلام إلى آخر الآية من قولها ، ويكون فائدة قولها (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) الاعتذار عن إطلاق النذر الذي تقدم منها ، والخوف من أنها لا تقع الموقع الذي يعتد به والتحزن إلى ربها والتحسر على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها. ثم خافت أن يظن بها أنها قالت ذلك لإعلام الله تعالى فقالت : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) ليس جنس الذكور كجنس الإناث لا سيما في باب السدانة ، فإن تحرير غير الذكور لم يكن جائزا في شرعهم ، والذكر يمكن له الاستمرار على الخدمة دون الأنثى لعوارض النسوان ، ولأن الأنثى لا تقوى على الخدمة لأنها محل التهمة عند الاختلاط. ويحتمل أن تكون عارفة بالله واثقة بأن كل ما صدر عنه فإنه يكون خيرا وصوابا فقالت : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) ولكنك أعرف وأعلم بحال ما وضعت فلعل لك فيه سرا (وَلَيْسَ الذَّكَرُ) الذي طلبت (كَالْأُنْثى) التي وهبت لي لأنك لا تفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة ، فعلى هذا اللام في الذكر وفي الأنثى لمعهود حاضر ذهني لكنها في الذكر لحاضر ذهني تقديرا لدلالة ما في بطني عليه ضمنا ، وفي الأنثى لحاضر ذهني حقيقة لتقدم لفظة أنثى. ومن قرأ (بِما وَضَعَتْ) بسكون التاء للتأنيث فالجملتان أعني

١٤٩

قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) معترضتان. ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت لما علق به من عظائم الأمور وجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك. ثم زاده بيانا وإيضاحا فقال : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ) الذي طلبت (كَالْأُنْثى) التي وهبت لها. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) وذلك أن أباها قد مات عند وضعها فلهذا تولت الأم تسميتها. ومريم في لغتهم العابدة. فأرادت بقولها ذلك التقرب والطلب إلى الله أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها ، ولهذا أردف ذلك بطلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) الضمير يعود إلى امرأة عمران ظاهرا بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها) ويحتمل أن يعود إلى مريم فيكون فيه إشارة إلى أنه كما رباها في بطن أمها فسيربيها بعد ذلك (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) تقبلت الشيء وقبلته إذا رضيته لنفسك. قبولا بفتح القاف وهو مصدر شاذ حتى حكي أنه لم يسمع غيره. وأجاز الفراء والزجاج قبولا بالضم. والباء في قوله (بِقَبُولٍ) بمنزلة الباء في قولك «كتب بالقلم وضربته بالسوط». وفي التقبل نوع تكلف فكأنه إنما حكم بالتقبل بواسطة القبول الحسن. قال في الكشاف : معناه فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول وهو اختصاصها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى في النذر ، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. قال : ويجوز أن يكون القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلدّ وهو الاختصاص ، ويجوز أن يكون معناه فاستقبلها مثل تعجل بمعنى استعجل وذلك من قولهم «استقبل الأمر» إذا أخذه بأوله أي فأخذها من أول أمرها حين ولدت بقبول حسن. (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) قيل : كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام. وقيل : المراد نماؤها في الطاعة والعفة والصلاح والسداد (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة. فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم. فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها. فقالوا : لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة والوحي ، على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح. فألقوا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريا. فعلى هذه الرواية تكون كفالة زكريا إياها من أول أمرها وهو قول الأكثرين. وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن على ترتيب الذكور. والأرجح أنها لم ترضع ثديا قط ، وكانت تتكلم في الصغر ، وكان رزقها من الجنة ، وأن

١٥٠

زكريا بنى لها محرابا وهي غرفة يصعد إليها بسلم. وقيل : هو أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب. والتركيب يدل على الطلب فكان صدر المجلس يسمى محرابا لطلب الناس إياه. وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، وذلك قوله عز من قائل (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة؟ قالت (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فلا تستبعد (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم ، وأن يكون معترضا من كلام الله تعالى. واعلم أن الأمور الخارقة للعادة في حق مريم كثيرة فمنها : أنه روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها» (١) قلت : وذلك لدعاء حنة (وَإِنِّي أُعِيذُها) ومنها تكلمها في الصغر. ومنها حصول الرزق لها من عند الله كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاع في زمن قحط فأهدّت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة رضي‌الله‌عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها إليها وقال : هلمي يا بنية. فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها : أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل. ثم جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت فاطمة رضي‌الله‌عنها على جيرانها. وفي أمثال هذه الخوارق من غير الأنبياء دليل على صحة الكرامات من الأولياء. والفرق بين المعجزة والكرامة أن صاحب الفعل الخارق في الأول يدعي النبوة ، وفي الثاني يدعي الولاية ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعي المعجز ويقطع به ، والولي لا يمكنه أن يقطع به ، والمعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة بخلافها. وقال بعضهم : الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة ، والأولياء مأمورون بإخفاء الكرامات أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات. بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي كما أن الفعل المحكم لما كان دليلا على أن فاعله عالم فلا جرم لا يوجد في غير العالم. وأجابوا عن حديث أبي هريرة بعد تسليم صحته أن استهلال المولود صارخا من مس الشيطان تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٤٤. مسلم في كتاب الفضائل حديث ١٤٦.

١٥١

هذا ممن أغويه. فمعنى الحديث أن كل مولود فإنه يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها. وهذا المعنى يعم جميع من كان في صفتهما من عباد الله المخلصين. قال في الكشاف : وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون به من نخسه. قلت : وعجيب من مثله مثل هذا الكلام فإنه لا يلزم من الإحساس بمس الشيطان والصراخ منه في وقت الولادة وإنه قريب العهد بعالم الأرواح وبزمان المكاشفة بعيد العهد من عالم الغفلة والإلف بالمحسوسات أن يحس به في وقت آخر ويصرخ على أن أثر مس الشيطان ونخسه يظهر في هيئات النفس وأحوالها ، وأنها أمور لا يحس بها إلا بعد المفارقة أو قطع العلائق البدنية ، والكلام فيه يستدعي فهمه استعدادا آخر غير العلوم الظاهرية. قال الجبائي : لم لا يجوز أن تكون تلك الخوارق من معجزات زكريا؟ وبيانه أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وربما كان غافلا عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله. فإذا رأى شيئا بعينه في وقت معين قال لها : أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله لا من عند غيره. فعند ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة. ويحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقا معتادا لأنه كان يأتيها من السماء وكان زكريا يسألها عن ذلك حذرا من أن يكون من عند إنسان يبعثه إليها فقالت : هو من عند الله ، لا من عند غيره. على أنا لا نسلم أنه قد ظهر لها شيء من الخوارق ، بل كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات. فكان زكريا إذ رأى شيئا من ذلك خاف أن ذلك الرزق أتاها من حيث لا ينبغي ، وكان يسألها عن كيفية الحال. قلت : أمثال هذه الشبهات يوجبها الشك في القرآن وفي الحديث أو العصبية المحضة. على أنا نقول : لو كان معجزا لزكريا لكان مأذونا من عند الله في طلبه فكان عالما بحصوله ، وإذا علم امتنع أن يطلب كيفية الحال. وأيضا كيف قنع بمجرد إخبارها في زوال الشبهة؟ وكيف مدح الله تعالى مريم بحصول هذا الرزق عندها؟ وكيف يستبعد هذا القدر ممن أخبر الله تعالى بأنه اصطفاها على نساء العالمين وقال : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ)؟ [الأنبياء : ٩١].

القصة الثانية : واقعة زكريا عليه‌السلام وذلك قوله سبحانه (هُنالِكَ) أي في ذلك المكان الذي كانا فيه في المحراب ، أو في ذلك الوقت الذي شاهد تلك الكرامات فقد يستعار «هنا» و «ثمة» و «حيث» للزمان (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) وهذا يقتضي أن يكون قد عرف في ذلك الزمان أو المكان أمرا له تعلق بهذا الدعاء ، فالجمهور من العلماء المحققين على أن زكريا رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء وبالعكس وأن ذلك خارق للعادة ، فطمع

١٥٢

هو أيضا في أمر خارق هو حصول الولد من شيخ كبير ومن امرأة عاقر. وهذا لا يقتضي أن يكون زكريا قبل ذلك شاكا في قدرة الله تعالى غير مجوّز وقوع الخوارق ، فإن من حسن الأدب رعاية الوقت الأنسب في الطلب. وأما المعتزلة فحين أنكروا كرامات الأولياء وإرهاص الأنبياء قالوا : إن زكريا لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم تمنى أن يكون له ولد مثلها. قال المتكلمون : إن دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكون إلا بعد الإذن لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة فحينئذ تصير دعوته مردودة وذلك نقص في منصبه. وقول إن دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكون بمجرد التشهي فلا حاجة له في كل دعاء إلى إذن مخصوص ، بل يكفي له الإذن في الدعاء على الإطلاق والغالب في دعوته الإجابة. ثم إن وقع الأمر بالندرة على خلاف دعوته فذلك بالحقيقة مطلوبه لأنه يريد الأصلح ، ويضمر في دعائه أنه لو لم يكن أصلح لم يبعثه الله عليه ويصرفه عنه. ومعنى قوله : (مِنْ لَدُنْكَ) أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة وكانت مفقودة في حقه. فكأنه قال : أريد منك يا رب أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وتخلق هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسيط الأسباب. والذرية النسل يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هاهنا ولد واحد كما قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥] قال الفراء : وأنث الطيبة لتأنيث لفظ الذرية في الظاهر. فالتذكير والتأنيث تارة يجيء على اللفظ وأخرى على المعنى ، وهذا في أسماء الأجناس بخلاف الأسماء الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال : جاءت طلحة ، لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان مذكرا لم يجز فيه إلا التذكير. (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) يعني سماع إجابة. وذلك لما عهد من الإجابة في غير هذه الواقعة كما قال في سورة مريم (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) [مريم : ٤]. (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) ظاهر اللفظ للجمع وهذا في باب التشريف أعظم. ثم ما روي أن المنادي كان جبريل فالوجه فيه أنه كقولهم «فلان يركب الخيل ويأكل الأطعمة النفيسة» أي يركب من هذا الجنس ويأكل منه. أو لأن جبريل كان رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه آخرون. (يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) يحتمل أن يكون زكريا قد عرف أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله درجة عالية. فإذا قيل له : إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان بشارة له ، ويحتمل أن يكون المعنى يبشرك بولد اسمه يحيى كما يجيء في سورة مريم (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧] وإنه اسم أعجمي كموسى وعيسى ، ومن جوز أن يكون عربيا فمنع صرفه للعلمية ووزن الفعل كيعمر. ثم إنه تعالى وصف يحيى بصفات منها : قوله (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وهو نصب على الحال لأنه نكرة و «يحيى» معرفة. قال أبو عبيدة : أي مؤمنا بكتاب الله. وسمي الكتاب

١٥٣

كلمة كما قيل : «كلمة الحويدرة» لقصيدته. والجمهور على أن المراد بكلمة من الله هو عيسى. قال السدي : لقيت أم يحيى أم عيسى وهما حاملان بهما. فقالت : يا مريم أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم : وأنا أيضا حبلى. قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذاك قوله : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وقال ابن عباس : إن يحيى أكبر سنا من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن به وصدّق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى. وسمي عيسى كلمة الله لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وهي «كن» من غير واسطة أب وزرع كما يسمى المخلوق خلقا والمرجو رجاء ، أو لكونه متكلما في أوان الطفولية ، أو لأنه منشأ الحقائق والأسرار كالكلمة ، ولهذا سمي روحا أيضا لأنه سبب حياة الأرواح. وقد يقال للسلطان العادل ظل الله ونور الله لأنه سبب ظهور ظل العدل ونور الإحسان ، أو لأنه وردت البشارة به في كلمات الأنبياء وكتبهم كما لو أخبرت عن حدوث أمر ، ثم إذا حدث قلت قد جاء قولي أو كلامي أي ما كنت أقول أو أتكلم به. ومنها قوله : (وَسَيِّداً) والسيد الذي يفوق قومه في الشرف. وكان يحيى فائقا لقومه بل للناس كلهم في الخصال الحميدة. وقال ابن عباس : السيد الحليم. وقال ابن المسيب : الفقيه العالم. وقال عكرمة : الذي لا يغلبه الغضب. ومنها قوله : (وَحَصُوراً) قيل : أي محصورا عن النساء لضعف في الآلة ، وزيف بأنه من صفات النقص فلا يليق في معرض المدح. والمحققون على أنه فعول بمعنى فاعل وهو الذي لا يأتي النسوان لا للعجز بل للعفة والزهد وحبس النفس عنهن ، وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل من تلك الشريعة ، فلولا أن الأمر بالنكاح والحث عليه وارد في شرعنا كان الأصل بقاء الأمر على ما كان. ومنها قوله : (وَنَبِيًّا) واعلم أن السيادة لا تتم إلا بالقدرة على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى الدين والدنيا. والحصور إشارة إلى الزهد التام وهو منع النفس عما لا يعنيه. روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت. فقوله : (وَنَبِيًّا) أشار به إلى ما عدا مجموع الأمرين فإنه ليس بعدهما إلا النبوة. ثم قال : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي من أولادهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائنا من جملة الصالحين كقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة : ١٣٠] أو لأن صلاحه كان أتم بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا فإنه لم يعص ولم يهم» وفيه أن الختم على الصلاح هو الغرض الأعظم والغاية القصوى وإن كان نبيا ، ولهذا قال سليمان بعد حصول النبوة (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩] وقال يوسف : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١]. ثم إن الملائكة لما نادوه بما نادوه قال زكريا

١٥٤

مخاطبا لله تعالى ومناجيا إياه (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أدركتني السنون العالية وأثر فيّ طول العمر وأضعفني. قال أهل اللغة : كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك وذلك إذا أمكن تصور الطلب من الجانبين. فيجوز بلغت الكبر وبلغني الكبر لأن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه. والإنسان أيضا يأتيه بمرور العمر عليه. ولا يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد لأن البلد ليس كالطالب للإنسان الذاهب. (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) هي من الصفات الخاصة بالنساء. ويقال : رمل عاقر لا ينبت شيئا. فإن قيل : لما كان زكريا هو الذي سأل الولد ثم أجابه الله تعالى إلى ذلك فما وجه تعجبه واستبعاده بقوله : (أَنَّى يَكُونُ) من أين يحصل لي غلام؟ فالجواب على ما في الكشاف أن الاستبعاد إنما جاء من حيث العادة. وقيل : إنه دهش من شدة الفرح فسبق لسانه. ونقل عن سفيان بن عيينة أن دعاءه كان قبل البشارة بستين سنة ، فكان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة ، فلما سمع البشارة في زمان الشيخوخة استغرب وكان له يؤمئذ مائة وعشرون سنة أو تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون ، وعن السدي أن الشيطان جاءه عند سماع البشارة قال : إن هذا النداء من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه عليه الأمر ولا سيما أنه كان من مصالح الدنيا ولم يتأكد بالمعجزة فرجع إلى إزالة ذلك الخاطر فسأل ما سأل. والجواب المعتمد أن زكريا لم يسأل عما سأل استبعادا وتشككا في قدرة الله تعالى ، وإنما أراد تعيين الجهة التي بها يحصل الولد ، فإن الجهة المعتادة كانت متعذرة عادة لكبره وعقارتها فأجيب بقوله : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وهو إما جملة واحدة أي الله يفعل ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر ، أو جملتان فيكون (كَذلِكَ اللهُ) مبتدأ وخبرا أي على نحو هذه الصفة الله و (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيانا له أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات. ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفرط سروره وثقته بكرم ربه وإنعامه سأل عن تعيين الوقت فقال : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) علامة أعرف بها العلوق فإن ذلك لا يظهر من أوّل الأمر فقال تعالى : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي بلياليها ولهذا ذكر في سورة مريم (ثَلاثَ لَيالٍ) [مريم : ١٠] ومعنى قوله : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) قال المفسرون : أي لا تقدر على التكلم. حبس لسانه عن أمور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة الجسمية ، فيصير الشيء الواحد علامة على المقصود وأداء لشكر النعمة فيكون جامعا للمقاصد. وفي هذه الآية إعجاز من وجوه منها : القدرة على التكلم بالتسبيح والذكر مع العجز عن التكلم بكلام البشر. ومنها العجز مع سلامة البنية واعتدال المزاج. ومنها الإخبار بأنه متى حصلت هذه

١٥٥

الحالة فقد حصل الولد. ثم إن الأمر وقع على وفق هذا الخبر. وعن قتادة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عوتب بذلك حيث سأل بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصبر بحيث لا يقدر على الكلام. قلت : وأحسن العتاب ما كان منتزعا من نفس الواقعة ومناسبا لها. وفيه لطيفة أخرى وهي أنه طلب الآية على الإطلاق فاحتمل أن يكون قد طلب علامة للعلوق ، واحتمل أن يكون قد طلب دلالة على إحداث الخوارق ليصير علم اليقين عين اليقين ، فصار حبس لسانه آية العلوق ودلالة على الفعل الخارق جميعا مع مناسبته للواقعة حيث سأل ما كان من حقه أن لا يسأل. وزعم أبو مسلم أن المعنى : آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم ولكن بالاشتغال بالذكر والتسبيح (إِلَّا رَمْزاً) إشارة بيد أو رأس أو بالشفتين ونحوها. وأصل التركيب للتحرك يقال : ارتمز إذا تحرك ومنه الراموز للبحر ، وهو استثناء من قوله : (أَلَّا تُكَلِّمَ) وجاز وإن لم يكن الرمز من جنس الكلام لأن مؤدّاه مؤدى الكلام ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا. وقيل : الرمز الكلام الخفي. وعلى هذا فالاستثناء متصل من غير تكلف. وقرأ يحيى بن وثاب (إِلَّا رَمْزاً) بضمتين جميع رموز كرسول ورسل وقرىء (رَمْزاً) بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس دفعة بمعنى إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) قيل : إنه لم يكن عاجزا إلا عن تكليم البشر. وقيل : المراد الذكر بالقلب وإنه كان عاجزا عن التكلم مطلقا (وَسَبِّحْ) حمله بعضهم على صلّ كيلا يكون تكرارا للذكر. وقد تسمى الصلاة تسبيحا (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) [الروم : ١٧] لاشتمالها عليه. والعشيّ مصدر على «فعيل» وهو من وقت زوال الشمس إلى غروبها. والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى وهو مصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر من أول النهار ، ومنه الباكورة لأول الثمار. وقرىء بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار.

التأويل : إن لله تعالى في كل ذرة من ذرات الموجودات وحركة من حركاتها أسرارا لا يعلمها إلا الله. فانظر ماذا أخرج الله من الأسرار عن إطعام طائر فرخه ، وماذا أظهر من الآيات والمعجزات من تلك الساعة إلى يوم القيامة بواسطة مريم وعيسى (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) راجع إلى المحرر لا إلى التحرير أي تقبلها مني أن تتكفلها وتربيها تربية المحررين (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) أي تقبلها ربها أن يربيها (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) كقبول ذكر أو قبولا أخرج منها مثل عيسى (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) من كمال رأفته أنه جعل كفالتها إلى زكريا حيث أراد أن يخرج عيسى منها بلا أب لئلا يدخل عليها غيره فتكون أبعد من التهمة. (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي من فتوحات الغيب الذي يطعم الله به خواص عباده الذين يبيتون عنده لا عند أنفسهم ولا عند الخلق

١٥٦

كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ما لم يكن في حسابها من الولد بلا أب ، ومن الفاكهة بلا شجرة ، ومن المعجزات بلا نبوة ، ومن العلوم اللدنية بلا واسطة (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) كما أنه تعالى جعل إطعام الطائر فرخه سبب تحريك قلب حنة لطلب الولد ، فكذلك جعل حالة مريم وما كان يأتيها من الرزق خارقا للعادة سبب تحريك قلب زكريا (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي ولدا يكون روحه من الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة ، وهو المطهر من لوث الحجاب والوسط الصالح للنبوة والولاية بخلاف الصف الثاني الذي هو لأرواح الأولياء وبينه وبين الله تعالى حجاب الصف الأول ، وبخلاف الصف الثالث الذي هو لأرواح المؤمنين ، وبخلاف الصف الرابع الذي هو لأرواح المنافقين والمشركين (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ) بالله (يُصَلِّي) بسائر سره في الملكوت يحارب نفسه وهواه في المحراب إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى لأنه منذ خلق ما ابتلى بالموت لا بموت القلب بالمعاصي ولا بموت الصورة لأنه استشهد والشهداء لا يموتون بل أحياء عند ربهم يرزقون. (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) وهي قوله : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢] (وَسَيِّداً) أي حرا من رق الكونين بل سيدا لرقيقي الكونين (وَحَصُوراً) نفسه عن التعلق بالكونين (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) من أهل الصف الأول (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) لم يكن استبعاده من قبل القدرة الإلهية ولكن من جهة استحقاقه لهذه الكرامة (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) لغلبات الصفات الروحانية عليك واستيلاء سلطان الحقيقة على قلبك ، فإن النفس الناطقة تكون مغلوبة في تلك الحالة بشواهد الحق في الغيب ، فلا تفرغ لإجراء عادتها في الشهادة بالكلام (إِلَّا رَمْزاً) ولهذا يقوى الروح الحيواني وتستمد منه القوة البشرية فيحيي الله تعالى به الشهوة الميتة فسمى ما تولد من الشهوة الميتة التي أحياها الله يحيى. ولاستمرار هذه الحالة في الأيام الثلاثة أمر بالمراقبة ليلا ونهارا وعشيا وإبكارا حسبي الله.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب ٩. مسلم في كتاب الصيام حديث ٥٧. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣ / ٨).

١٥٧

الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠))

القراآت : (وَيُعَلِّمُهُ) بياء الغيبة : أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل ويعقوب. الباقون بالنون. (أَنِّي أَخْلُقُ) بكسر الهمزة بفتح الياء : نافع (أَنِّي أَخْلُقُ) بالفتح فيهما : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد (كَهَيْئَةِ) بتشديد الياء : يزيد وحمزة في الوقف. وكان ابن مقسم يقول : بلغني أن خلفا يقول : إن حمزة كان يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. الباقون بالياء والهمزة. الطائر يزيد. الباقون (الطَّيْرِ) فتكون بتاء التأنيث. المفضل. الباقون : بياء الغيبة طائر أبو جعفر ونافع ويعقوب وكذلك في المائدة. الباقون (طَيْراً أَنْصارِي إِلَى) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع. وقرأ قتيبة وأبو عمرو وطريق أبي الزعراء بالإمالة (فَيُوَفِّيهِمْ) بياء الغيبة : حفص ورويس ، وزاد رويس ضم الهاء. الباقون بالنون.

الوقوف : (الْعالَمِينَ) ه (الرَّاكِعِينَ) ه (إِلَيْكَ) ط (يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ص لعطف

١٥٨

المتفقتين. (يَخْتَصِمُونَ) ه (مِنْهُ) ج قد قيل لتذكير الضمير وتأنيث الكلمة في اسمه ، ولكن المراد من الكلمة الولد فلم يكن تأنيثا حقيقيا. فالوجه أن لا يوقف إلى (الصَّالِحِينَ) لأن (وَجِيهاً) حال وما بعده معطوف عليه على تقدير وكائنا من المقربين ومكلما وكائنا من الصالحين المقربين. (الصَّالِحِينَ) ه (بَشَرٌ) (ط) (يَشاءُ) ط (فَيَكُونُ) ه (وَالْإِنْجِيلَ) ج لأن (وَرَسُولاً) يجوز أن يكون معطوفا على (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أو منصوبا بمحذوف أي ويجعله رسولا ، والوقف أجوز لتباعد العطف. (مِنْ رَبِّكُمْ) ج لمن قرأ (أَنِّي أَخْلُقُ) بالكسر (بِإِذْنِ اللهِ) ج والثاني كذلك للتفصيل بين المعجزات. (فِي بُيُوتِكُمْ) ط (مُؤْمِنِينَ) ج للعطف (وَأَطِيعُونِ) ه (فَاعْبُدُوهُ) ط (مُسْتَقِيمٌ) ه (إِلَى اللهِ) ط (أَنْصارُ اللهِ) ج لأن (آمَنَّا) في نظم الاستئناف مع إمكان الحال أي وقد آمنا بالله ، كذلك لانقطاع النظم مع اتحاد مقصود الكلام (مُسْلِمُونَ) ه (الشَّاهِدِينَ) ه (وَمَكَرَ اللهُ) ط (الْماكِرِينَ) ه (الْقِيامَةِ) ج لأن «ثم» لترتيب الإخبار. (وَالْآخِرَةِ) ز للابتداء بالنفي مع أن النفي تمام المقصود. (ناصِرِينَ) ه (أُجُورَهُمْ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (الْحَكِيمِ) ه (آدَمَ) ط لأن الجملة لا يتصف بها المعرّف. (فَيَكُونُ) ط (الْمُمْتَرِينَ) ه.

التفسير : القصة الثالثة قصة مريم. والعامل في «إذ» هاهنا هو ما ذكر في قوله : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) [آل عمران : ٣٥] لمكان العطف. والمراد بالملائكة هاهنا جبريل كما يجيء ، في سورة مريم (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [مريم : ١٧]. واعلم أن مريم ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [الأنبياء : ٧] فإرسال جبريل إليها إما أن يكون كرامة لها عند من يجوّز كرامات الأولياء ، وإما أن يكون إرهاصا لعيسى وهو جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة ، أو معجزة لزكريا وهو قول جمهور المعتزلة. ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام كما في حق أم موسى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧]. ثم إنه تعالى مدحها بالاصطفاء ثم بالتطهير ثم بالاصطفاء ولا يجوز أن يكون الاصطفاآن بمعنى واحد للتكرار والصرف ، فحمل المفسرون الاصطفاء الأول على ما اتفق لها من الأمور في أول عمرها منها قبول تحريرها مع كونها أنثى ، ومنها قال الحسن : ما غذتها أمها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها من عند الله ، ومنها تفريغها للعبادة ، ومنها إسماعها كلام الملائكة شفاها ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها إلى غير ذلك من أنواع اللطف والهداية والعصمة في حقها. وأما التطهير فتطهيرها عن الكفر والمعصية كما قال في حق أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣]. وعن مسيس الرجال وعن الحيض والنفاس قالوا : كانت لا تحيض وعن الأفعال

١٥٩

الذميمة والأقوال القبيحة. وأما الاصطفاء الثاني فهو ما اتفق لها في آخر عمرها من ولادة عيسى بغير أب وشهادته ببراءتها عما قذفها اليهود. قيل : المراد اصطفاؤها على نساء عالمي زمانها لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كمل من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة» (١) ثم لما بيّن اختصاصها بمزيد المواهب والعطايا أوجب عليها مزيد الطاعة شكرا لتلك النعم. فقوله : (اقْنُتِي) أمر بالعبادة على العموم (وَاسْجُدِي) أمر بالصلاة تسمية للشيء بمعظم أركانه كما في قوله (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [ق : ٤] وفي الخبر «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» ولا ريب أن السجود أشرف الأركان لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد» (٢) ثم قال : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) فالأول أمر بالصلاة مطلقا ، والثاني أمر بالصلاة في الجماعة. وإنما عبر عن الصلاة هاهنا بالركوع إما لتغيير العبارة وقد يسمى الشيء بأحد أركانه ، وإما تسمية للشيء بمعظم أركانه بناء على ما قيل إن الركوع أفضل من السجود ، لأن الراكع حامل نفسه في الركوع فالمشقة فيه أكثر ، وللتمييز عن صلاة اليهود. وقيل : اركعي مع الراكعين أمر بالخضوع والخشوع بالقلب ، ويحتمل أن يراد بقوله : (اقْنُتِي) الأمر بالصلاة لأن القنوت أحد أجزائها ، وأن يراد بقوله : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) استعمال كل منهما في وقته اللائق به ، والواو تفيد التشريك لا الترتيب ، أو المراد انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم لا في عداد غيرهم. وإنما لم يقل مع الراكعات إما للتغليب وإما لأن الاقتداء بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء. روي أن مريم بعد ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح منهما. اللهم لا تؤاخذنا باسم الرجولية ونحن أقل في خدمتك من إحدى النساء (ذلِكَ) الذي سبق من أنباء حنة وزكريا ويحيى ومريم من أخبار الغيب (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) قد ورد الكتاب بالإيحاء على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرها. وبهذا التفسير يعد الإلهام وحيا كقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] وقال : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [الأنعام : ١٢١] وقال : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ١١] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٣٢ ، ٤٦. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٧٠. الترمذي في كتاب الأطعمة باب ٣١. ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب ١٤. أحمد في مسنده (٤ / ٣٩٤).

(٢) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٢١٥. النسائي في كتاب المواقيت باب ٣٥. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١١٨. أحمد في مسنده (٢ / ٤٢١).

١٦٠