تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

الى الله من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله ، فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول : رب ذنبي ذنبي. قد خنت أخي فقال له : يا فلان قم فانطلق الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسأله عن ذنبك لعل الله أن يجعل لك فرجا وتوبة. فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة ، وكان ذات يوم عند صلاة العصر فنزل جبريل عليه‌السلام بتوبته فتلا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) إلى قوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) فقال عمر : يا رسول الله أخاص هذا لهذا أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة في التوبة. وعن ابن مسعود أن المسلمين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أذنك اجدع أنفك افعل كذا. فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم ، وبيّن أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار. والفاحشة نعت محذوف أي فعلوا فعلة فاحشة متزايدة القبح (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به. وقيل : الفاحشة هي الزنا لقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) [الإسراء : ٣٢] وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة. وهذا القول أنسب بسبب النزول الذي رويناه. وقيل : الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بالاستغفار (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩] وما كان استغفاره إلا عن الصغائر بل ترك الأولى (ذَكَرُوا اللهَ) أي وعيده أو عقابه وأنه سائلهم أو نهيه ، أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه ، أو ذكروا العرض الأكبر على الله. وعلى جميع التقادير فلا بد من مضاف محذوف. ويكون الذكر بمعنى ضد النسيان وإليه ذهب الضحاك ومقاتل والواقدي. ونظيره (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] وقيل : المراد ذكروا الله بالثناء والتعظيم والإجلال ، فإن من آداب المسألة والدعاء تقديم التعظيم والثناء. (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) يقال : استغفر الله لذنبه ومن ذنبه بمعنى. والمراد بالاستغفار الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح ، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل. فأما الاستغفار بمجرد اللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب وإنما يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار كونه منقطعا إلى الله تعالى (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) لأن كمال قدرته وغناه كما أنه يقتضي إيقاع العبد في العقاب ، فكمال رحمته وعفوه يقتضي إزالة ذلك العقاب عنه ، لكن صدور الرحمة عنه بالذات «سبقت رحمتي غضبي» (١) فجانب العفو والمغفرة أرجح ولا سيما إذا اقترن الذنب

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في ـ

٢٦١

بالتوبة والاعتذار والتنصل بأقصى ما يمكن للعبد. وفي كتاب مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» (١) وعن أنس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرضين خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» (٢) وعن علي رضي‌الله‌عنه قال : حدثني أبو بكر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له» (٣) ثم قرأ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) إلى قوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) وهذه الجملة معترضة والتقدير : فاستغفروا لذنوبهم (وَلَمْ يُصِرُّوا) لم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. والتركيب يدل على الشدة ، ومنه صررت الصرة شددتها ، وصر الفرس أذنيه ضمهما إلى رأسه. وأصر أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» (٤) وروي «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من فاعل يصروا ، وحرف النفي منصب عليها معا كما لو قلت : ما جاءني زيد وهو راكب. وأردت نفي المجيء والركوب معا. وذلك أن المقام مقام مدح لهم بعدم الإصرار. والمعنى ليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها لأنه قد يعذر الجاهل ولا يعذر العالم ، ويحتمل أن يراد بالعلم العقل والتمييز والتمكن من الاحتراز عن الفواحش فيجري مجرى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رفع القلم عن ثلاث» (٥) وعلى هذا يجوز أن يراد نفي الإصرار في حالة العلم لا نفيه مطلقا كما لو أردت في المثال المذكور نفي المجيء

__________________

ـ كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).

(١) رواه مسلم في كتاب التوبة حديث ١١. الترمذي في كتاب الجنّة باب ٢. أحمد في مسنده (١ / ٢٨٩) ، (٢ / ٣٠٥).

(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٨.

(٣) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٦. الترمذي في كتاب الصلاة باب ١٨١. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٩٣. أحمد في مسنده (١ / ٢ ، ٩).

(٤) رواه البخاري في كتاب الدعوات باب ٣. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٤٧ باب ١. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٧. أحمد في مسنده (٢ / ٢٨٢ ، ٣٤١).

(٥) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب ١١. أبو داود في كتاب الحدود باب ١٧. الترمذي في كتاب الحدود باب ١. النسائي في كتاب الطلاق باب ٢١. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب ١٥. الدارمي في كتاب الحدود باب ١. أحمد في مسنده (١ / ١١٦ ، ١١٨).

٢٦٢

في حال الركوب لا نفي المجيء على الإطلاق (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وهي إشارة إلى إزالة العقاب (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وهذه إشارة إلى إيصال الثواب (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) ذلك الجزاء. قال القاضي : وهذا يبطل قول من قال : إن الثواب تفضل من الله وليس جزاء على عملهم ، وذلك أنه سمى الجزاء أجرا والأجر واجب مستحق فكذلك الجزاء. ولقائل أن يقول : إنه على وجه التشبيه لا التحقيق. واستدلوا أيضا بالآية على أن أهل الجنة هم المتقون والتائبون دون المصرين لقوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا) والجواب ما مر أن كون الجنة معدة للمتقين الموصوفين لا يوجب أن لا يدخلها غيرهم بفضل الله وبرحمته. ثم ذكر ما يحمل المكلفين على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية فقال : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) وأصل الخلو الانفراد ، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ، وكل ما انقرض ومضى فقد انفرد عن الوجود ، والسنة الطريقة المستقيمة. والمثال المتبع وهي «فعلة» بمعنى «مفعولة» من سن الماء يسنه إذا والى صبه فكأنه أجراه على نهج واحد ، أو من سننت؟؟؟ النصل أحددته ، أو من سن الإبل إذا أحسن الرعي. والمراد قد مضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة يعني سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله : (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) فإنهم خالفوا رسلهم للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ، ثم انقرضوا ولم؟؟؟؟ أثر وبقي عليهم اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة هذا قول أكثر المفسرين. قال مجاهد : المراد سنن الله في الكافرين والمؤمنين فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن بقي له الثناء الجميل والثواب الجزيل والكافر له اللعن والعقاب. ثم قال (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر ، أو لأن الغرض زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يحصل بتأمل أحوال أمثالهم. وليس المراد من قوله (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الأمر بالسير بل المقصود تعرّف أحوالهم. فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا. ولا يبعد أن يقال : ندب إلى السير لأن لمشاهدة آثار الأقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قيل :

إن آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

(هذا بَيانٌ) المشار إليه بهذا إما أن يكون جميع ما تقدم من الأمر والنهي والوعد والوعيد للمتقين والتائبين والمصرين ويكون قوله : (قَدْ خَلَتْ) جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق من الأجر ، وإما أن يكون ما حثهم عليه من النظر في سوء عواقب المكذبين ومن الاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم. أما البيان والهدى والموعظة فلا بد من

٢٦٣

الفرق بينها لأن العطف يقتضي المغايرة. فقيل : البيان كالجنس وهو إزالة الشبهات وتحته نوعان : أحدهما الكلام الذي يهدي المكلف إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى ، وثانيهما الكلام الزاجر عما لا ينبغي في طريق الدين وهو الموعظة. وخص الهدى والموعظة بالمتقين لأنهم هم المنتفعون به. وقيل : البيان عام للناس والهدى والموعظة خاصان بالمتقين ، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية. وأقول : يشبه أن يكون البيان عاما لجميع المكلفين وبأي طريق كان من طرق الدلالة. والهدى يراد به الكلام البرهاني والجدلي ، والموعظة يراد بها الكلام الإقناعي الخطابي كقوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] وخص المتقون بالذكر لأن البيان في حق غيرهم غير مثمر. ثم لما بيّن هذه المقدمات ومهدها ذكر المقصود وهو قوله : (وَلا تَهِنُوا). كأنه قال : إذا بحثتم عن أحوال القرون الخالية علمتم أن صولة الباطل تضحمل ، وأن العاقبة والغلبة لأرباب الحق. والوهن الضعف أي لا تضعفوا عن الجهاد ولا يورثنكم ما أصابكم يوم أحد وهنا وجبنا (وَلا تَحْزَنُوا) على من قتل منكم وجرح (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا عنكم؟؟؟؟ أحد أو أنتم الأعلون شأنا لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان وقتلاكم في الجنة؟؟؟؟ ، أو أنتم الأعلون بالحجة والعاقبة الحميدة كقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] وفي هذا تسلية لهم وبشارة. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إما أن يكون قيدا لقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة ، وإما أن يكون قيدا لقوله : (وَلا تَهِنُوا) أي إن صح إيمانكم بالله وبحقية هذا الدين فلا تضعفوا لثقتكم بأن الله سيتم هذا الأمر. قال ابن عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد. فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم لا يعلون علينا ، اللهم لا قوة لنا إلا بك ، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وقال راشد بن سعد : لما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد كئيبا حزينا جعلت المرأة تجيء بزوجها وأبيها وابنها مقتولين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أهكذا تفعل برسولك؟ فنزلت (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) بفتح القاف وبضمها وهما لغتان كالضعف والضعف ، والجهد والجهد. وقيل بالفتح لغة تهامة والحجاز. وقيل بالفتح مصدر ، وبالضم اسم. وقال الفراء : إنه بالفتح الجراحة بعينها ، وبالضم ألم الجراحة. وقال ابن مقسم : هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع

٢٦٤

قرحة. ومعنى الآية إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبل ذلك في يوم بدر. ثم لم يثبطهم ذلك عن معاودة القتال فأنتم أولى بأن لا تفرقوا ولا تجبنوا ونظيره (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) [النساء : ١٠٤] وقيل : القرحان في يوم أحد وذلك أنه قتل يومئذ خلق من الكفار نيف وعشرون رجلا ، وقتل صاحب لوائهم ، وكثرت الجراحات فيهم ، وعقرت عامة خيلهم بالنبل ، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار كما يجيء من قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ) [آل عمران : ١٥٢] والمماثلة في عدد القتلى والجرحى غير لازمة وإنما تكفي المثلية في نفس القتل والجراحة. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) موصوفا وصفته مبتدأ خبره (نُداوِلُها) وتلك مبتدأ أو الأيام خبره كقولك : «هي الأيام تبلي كل جديد» فإن الضمير لا يوصف ويكون (تِلْكَ) إشارة إلى الوقائع والأحوال العجيبة التي يعرفها أهل التجارب من أبناء الزمان. والمراد بالأيام ما في تلك الأوقات من الظفر والغلبة والحالات الغريبة. وقوله (نُداوِلُها) كالتفسير لما تقدمه. والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر. ويقال : تداولته الأيدي أي تناقلته. والدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين لا تدوم مسارّها ومغامها ، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوّه ، ويوم آخر بالعكس فلا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها ونظيره قولهم : «الحرب سجال». شبهت بالدلاء لكونها تارة مملوءة وأخرى فارغة. وليس المراد من هذه المداولة أنه تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، فإن نصرة الله منصب شريف لا يناله الكافرون. بل المراد أنه تارة يشدد المحنة على الكافرين وأخرى على المؤمنين وذلك أنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميعها لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب. فالحكمة في المداولة أن تكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام ، فيعظم ثوابه عند الله وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) وحذف المعطوف عليه ليذهب الوهم كل مذهب ويقرر الفوائد. والتقدير نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم. وفيه إيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ولكن في ضمنها مصالح جمة لو عرفوها انقلبت مساءتهم مسرة منها أن يعلم الله. وقد احتج هشام بن الحكم بظاهر هذه الآية ونحوها كقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا) [آل عمران : ١٤٢] على أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند وقوعها وقد سبق الأجوبة عنها في تفسير قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] وتأويل الآية أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على

٢٦٥

المقدور مجاز مشهور. يقال : هذا علم فلان أو قدرته والمراد معلومه أو مقدوره. فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم لأن التغير في علم الله تعالى محال. فمعنى الآية ليظهر معلومنا وهو المخلص من المنافق والمؤمن من الكفار. وقيل : معناه ليحكم بالامتياز ، فوضع العلم مقام الحكم. وقيل : ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات ، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد. وقيل : ليعلم أولياء الله فأضاف إلى نفسه تفخيما لهم. وعلى الأقوال العلم بمعنى العرفان ولهذا تعدى إلى مفعول واحد. وقيل : إنه بمعنى فعل القلب الذي يتعدى الى مفعولين والتقدير : وليعلمهم مميزين عن غيرهم. ويحتمل على جميع التقادير أن يضمر متعلق وليعلم بعده ومعناه : وليتميز الثابتون على الإيمان من المضطربين فعلنا ما فعلنا. ومن حكم المداولة قوله : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة كقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] فإن كونهم كذلك منصب شريف لا يناله إلا هذه الأمة ، ولن يكونوا من الأمة إلا بالصبر على ما ابتلوا به من الشدائد. أو المراد ليكرم ناسا منكم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء. والمقتول من المسلمين بسيف الكفار يسمى شهيدا. قال النضر بن شميل : لأنهم أحياء حضروا دار السلام كما ماتوا بخلاف غيرهم. وقال ابن الأنباري : لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي المشركين (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] قال ابن عباس : وقيل : لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان الصابرين على البلوى ، وهو اعتراض بين بعض المعللات وبعض. وفيه أن دولة الكافرين على المؤمنين للفوائد المذكورة لا لأنه يحبهم. ومن الحكم قوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) والمحص في اللغة التنقية والمحق النقصان. وقال المفضل : هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء. وقال الزجاج : معنى الآية أنه إن حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين أي تطهيرهم وتصفيتهم ، وإن كان بالعكس فالمراد محو آثار الكفار. وهذه مقابلة لطيفة لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم لا بالكلية ، فإن ذلك غير واقع بل بتدريج ومهل ليقطع طرفا ننقصها من أطرافها.

التأويل : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) ما يؤدي إلى الحرص على طلب الدنيا (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) إلى ما لا يتناهى فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. (وَاتَّقُوا اللهَ) خطاب للخواص أي اتقوا بالله عن غير الله في طلب الله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) عن حجب ما سوى الله ، وتظفرون بالوصول إلى الله. ثم خاطب العوام الذين هم أرباب الوسائط بقوله : (وَاتَّقُوا) أي بالقناعة (النَّارَ)

٢٦٦

أي نار الحرص التي توري عنها نار القطيعة ، وجوزوا بقدمي طاعة الله وطاعة رسوله. ثم أخبر عن المسارعة إلى الجنان بمصارعة النفس والجنان (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي المسافة بين العبد وبينها هذا القدر لأن الوصول إليها بعد العبور عما في السموات والأرض وهو عالم المحسوسات كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عيسى أنه قال : لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين. فالولادة الثانية هي الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها. وولوج الملكوت هو التحلية بالصفات الروحانية (يُنْفِقُونَ) أموالهم (فِي السَّرَّاءِ) وأرواحهم في الضراء بل من سوى الله في طلب الله (فَعَلُوا فاحِشَةً) هي رؤية غير الله (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالتعلق بما سوى الله (وَذَكَرُوا اللهَ) بالنظر إليه وبرؤيته (وَمَنْ يَغْفِرُ) ومن يستر بكنف عواطفه ذنوب وجود الأغيار (إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) من رؤية الوسائط والتعلق بها (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن كل شيء ما خلا الله باطل (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي هم مستحقون لمقامات القرب (مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ) من أصناف ألطافه (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) العناية (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) لأن نيل المقصود في بذل المجهود (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) أمم لهم (سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) نفوسكم الحيوانية بالعبور على أوصافها الدنية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية (وَلا تَهِنُوا) أيها السائرون في السير إلى الله (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من اللذات الفانية (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) من أهل الدنيا والآخرة لأنكم من أهل الله (إِنْ يَمْسَسْكُمْ) في أثناء المجاهدات (قَرْحٌ) ابتلاء وامتحان (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) من الأنبياء والأولياء (قَرْحٌ) محن (مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) السائرين يوما نعمة ويوما نقمة ، ويوما منحة ويوما محنة. (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أرباب المشاهدات والمكاشفات (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ) فيه إشارة إلى أن كل ألم ونصب يصيب المؤمن فهو تطهير لقلبه وتكفير لسره ، وما يصيب الكافر من نعمة ودولة وغنى ومنى فهو سبب لكفرانه ومزيد لطغيانه. وبوجه آخر البلاء لأهل الولاء تمحيص للقلوب عن ظلمات العيوب وتنويرها بأنوار الغيوب ومحق صفات نفوسهم الكافرة ومحو سمات أخلاقهم الفاجرة ليتخلصوا عن قفص الأشباح إلى حظائر الأرواح.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ

٢٦٧

يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠))

القراآت : (رَأَيْتُمُوهُ) بغير همزة يعني بالتليين ونحوه (رَأَوْكَ) [الفرقان : ٤١] و (رَأَوْهُ) [الملك : ٢٧] روى هبة الله بن جعفر عن الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. (يُرِدْ ثَوابَ) وبابه مدغما : أبو عمرو وشان بن عامر وسهل وحمزة وعلي وخلف (نُؤْتِهِ) مثل (يُؤَدِّهِ) [آل عمران : ٧٥] (وَكَأَيِّنْ) بالمد والهمز مثل «كاعن» حيث كان : ابن كثير. وقرأ يزيد (وَكَأَيِّنْ) بالمد بغير همزة. وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي بغير نون في الوقف وكأي الباقون : (وَكَأَيِّنْ) في الحالين قتل أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع وقتيبة والمفضل الباقون. (قاتَلَ).

الوقوف : (الصَّابِرِينَ) ه (تَلْقَوْهُ) ص لطول الكلام (رَسُولٌ) ج لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافا (الرُّسُلُ) ط (أَعْقابِكُمْ) ط لتناهي الاستفهام (شَيْئاً) ط (الشَّاكِرِينَ) ه (مُؤَجَّلاً) ج لابتداء الشرط (مِنْها) ج للعطف (مِنْها) ط (الشَّاكِرِينَ) ه قتل ط ليكون قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلزاما للحجة على من اعتذر في الانهزام بما سمع من نداء إبليس ألا إن محمدا قد قتل. والتقدير ومعه ربيون كثير. ولو وصل كان الربيون مقتولين. ومن قرأ (قاتَلَ) فله أن لا يقف (كَثِيرٌ) ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب (وَمَا اسْتَكانُوا) ط (الصَّابِرِينَ) ه (الْكافِرِينَ) ه (الْآخِرَةِ) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه (خاسِرِينَ) ه (مَوْلاكُمْ) ج (النَّاصِرِينَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما ذكر فوائد مداولة الأيام وحكمها ، أتبعها ما هو السبب الأصلي في ذلك فقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) بدون تحمل المشاق. و «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار و «لما» بمعنى «لم» مع زيادة التوقع. وليس المراد نفي العلم بالمجاهدين ولكن المراد نفي المعلوم. وإنما حسن إقامة ذلك مقام هذا لأن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه ، فلما حصلت بينهما هذه المطابقة حسن إقامة أحدهما مقام الآخر. تقول : ما علم الله في فلان خيرا أي ما فيه خير حتى يعلمه. فحاصل الكلام لا تحسبوا أن

٢٦٨

تدخلوا الجنة ولم تجاهدوا بعد. وإنما أنكر هذا الحسبان لأنه تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح المنوطة بها في الدين والدنيا. وإذا كان كذلك فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال مثل هذه الطاعة. والواو في قوله : (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) واو الجمع في قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. كأنه قيل : إن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا ، ولكن الفيصل فيه تسليط المكروهات ومخالفات النفس فإن الحب هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء. وقيل : التقدير أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن يعلم الله المجاهدين وأن يعلم الصابرين؟ ووجه آخر وهو أن يكون مجزوما أيضا لكن الميم لما حركت للساكنين حركت بالفتحة اتباعا للفتحة قبلها. وهذا كما قرىء (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) بفتح الميم إلا أن يراد ولما يعلمن بالنون الخفيفة ثم حذفت. وقرأ الحسن (وَيَعْلَمَ) بالجزم على العطف. وروي عن أبي عمرو (وَيَعْلَمَ) بالرفع على الحال كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الخطاب فيه للذين ألحوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة. ويراد بالموت سببه وهو الجهاد والقتل. قال المحققون : إنه لم يكن تمنيهم للموت تمنيا لأن يقتلوا لأن قتل المشركين لهم كفر. ولا يجوز للمؤمن أن يتمنى الكفر أو يريده أو يرضى به ، بل إنما تمنوا لفوز بدرجات الشهداء والوصول إلى كراماتهم. وشبهوا ذلك بمن شرب دواء الطبيب النصراني فإن غرضه حصول الشفاء. ولا يخطر بباله جر منفعة وإحسان إلى عدو الله وتنفيق صناعته. قالت الأشاعرة هاهنا : من أراد شيئا أراد ما هو من لوازمه ، وثواب الشهداء لا يحصل إلا بالشهادة ، ولا ريب أنه تعالى أراد إيصال ثواب الشهداء إلى المؤمنين ، ولهذا ورد من الترغيبات ما ورد فأراد صيرورتهم شهداء ، ولن يصيروا شهداء إلا إذا قتلهم الكفار فلا بد أن يريد أن يقتلهم الكفار وذلك القتل كفر ومعصية ، فثبت أنه تعالى مريد للكفر والإيمان والطاعة والعصيان. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته وصعوبة مقاساته. (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قال الزجاج : أي وأنتم بصراء كقولهم : رأيته بعيني أي رأيتموه معاينين حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وشارفتم أن تقتلوا. ويحتمل أن يراد رأيتم إقدام القوم وشدة حرصهم على قتلكم وعلى قتل الرسول ، ثم بقيتم أنتم تنظرون إليهم من غير جد في دفعهم ولا اجتهاد في مقاتلتهم ، وفيه توبيخ لهم على تمنيهم الجهاد وعلى إلحاحهم في الخروج إليه ، ثم انهزامهم وقلة ثباتهم عنده. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : لما نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشعب أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ولا ينتقلوا سواء كان الأمر لهم أو عليهم. فلما وقفوا وحملوا على الكفار هزموهم وقتل علي عليه

٢٦٩

السلام طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم ، والزبير والمقداد شدا على المشركين ، ثم حمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه فهزموا أبا سفيان. ثم إن بعض القوم لما رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة الى الغنيمة ، وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار ، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم ، وكثر القتل في المسلمين ، ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجر وكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله ، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة. واحتمل طلحة بن عبيد الله رسول الله ودافع عنه أبوبكر وعلي عليه‌السلام. وظن ابن قميئة أنه قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قد قتلت محمدا ، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل. قيل : وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانكفؤا ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو : إليّ عباد الله ، حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فنزلت (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) أي مرسل. قال أبو علي : وقد يكون الرسول في غير هذا الموضع بمعنى الرسالة أي حاله مقصور على الرسالة لا يتخطاها إلى البقاء والدوام (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فسيخلو كما خلوا. وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فكونوا أنتم كذلك لأن الغرض من إرسال الرسل التبليغ وإلزام الحجة لا وجودهم بين أممهم أبدا (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) الفاء لتسبيب الجملة الشرطية عن الجملة التي قبلها ، والهمزة لإنكار الجزاء لأنه في الحقيقة كأنه دخل عليه. والمعنى : أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمدا أو قتل؟ وسبب الإنكار ما تقدم من الدليلين : أحدهما أن الحاجة الى الرسول هي التبليغ وبعد ذلك لا حاجة إليه ، فلا يلزم من قتله أو موته الإدبار عما كان هو عليه من الدين وما يلزم كالجهاد. وثانيهما القياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم ، فإن موسى عليه‌السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك الدين. والنصارى زعموا أن عيسى عليه‌السلام قتل وهم لم يرجعوا عن دينه وإنما ذكر القتل. وقد علم أنه لا يقتل لكونه مجوّزا عند المخاطبين. وقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] لو سلم أنه متقدم في النزول فإنه مما كان يختص بمعرفته العلماء منهم على أنه ليس نصا في العصمة عن القتل ، بل يحتمل العصمة من فتنة الناس وإضلالهم. وقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) [الزمر : ٣٠] يراد به المفارقة إلى الآخرة بأي طريق كان بدليل (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] وكثير منهم قد قتلوا. ويمكن أن يقال : صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق جزأيها لصدق قولنا إن كانت الخمسة زوجا فهي تنقسم بمتساويين مع كذب جزأيها. ومعنى «أو» هو الترديد والتشكيك أي سواء فرض

٢٧٠

وقوع الموت أو القتل فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الإدبار أو الارتداد (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) بل لا يضر إلا نفسه ، وهذا كما يقول الوالد لولده عند العتاب إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض. يريد أنه يعود ضرره عليه. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روي أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين : ليت عبد الله بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال ناس من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت. وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين أنه مر بأنصاري يتشحط في دمه فقال : يا فلان ، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال : إن كان قتل فقد بلغ قاتلوا على دينكم. ففي أمثالهم قال تعالى : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا من الصبر والثبات. ثم قال : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) ووجه النظم أن المنافقين أرجفوا أن محمدا قتل فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان ، فأبطل قولهم بأن القتل مثل الموت في أنه لا يحصل إلا في الوقت المقدر. وكما أنه لو مات في بلده لم يدل ذلك على فساد دينه فكذا لو قتل. وفيه تحريض المؤمنين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يغنى عن القدر ، وأن أحدا لا يموت قبل الأجل وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك. أو الغرض بيان حفظة وكلاءته لنبيه فإنه ما بقي في تلك الواقعة سبب من أسباب الهلاك والشر إلا وقد حصل إلا أنه تعالى لما كان حافظا لنبيه ولم يقدّر في ذلك الوقت أجله لم يضره ذلك. وفيه تقريع لأصحابه أنهم قد قصروا في الذب عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجواب عما قاله المنافقون للصحابة لما رجعوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. قال الأخفش والزجاج : تقدير الكلام وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله. وقال ابن عباس : الإذن هو قضاء الله وقدره فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئة الله وإرادته ، فأورد الكلام على سبيل التمثيل كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله فيه ، وذلك أن إسناد الموت إلى النفس نسبة الفعل إلى القابل لا إلى الفاعل ، فأقيم القابل مقام الفاعل. وقال أبو مسلم : الإذن هو الأمر. والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الأمر. وقيل : المراد التكوين والتخليق لأنه لا يقدر على خلق الموت والحياة أحد إلا الله. وقيل : التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار.

٢٧١

والمعنى ما كان لنفس أن تموت بالقتل إلا بأن يخلي الله بين القاتل والمقتول. وفيه أنه تعالى لا يخلي بين نبيه وبين أحد ليقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه جعل من بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به فلا تهنوا في غزواتكم بعد ذلك بإرجاف مرجف. وقيل : الإذن العلم أي لن تموت نفس إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه. وفي الآية دليل على أن المقتول ميت بأجله ، وأن تغيير الآجال ممتنع ولذا أكد هذا المعنى بقوله : (كِتاباً مُؤَجَّلاً) وهو مصدر مؤكد لنفسه لدلالة ما قبله عليه أي كتب الموت كتابا مؤجلا مؤقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل : الكتاب المؤجل هو المشتمل على الآجال. وقيل : هو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع الحوادث من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. قال القاضي : الأجل والرزق مضافان إلى الله تعالى ، وأما الكفر والفسق والإيمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد. فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يخرج فيه العبد من أن يكون مذموما أو ممدوحا. والحق أن هذا تعكيس للقضية فإن الله تعالى إذا علم من العبد الكفر استحال أن يأتي هو بالإيمان وإلا انقلب علم الله جهلا ، وإذا كان هو غير قادر على الإيمان حينئذ فما معنى اختياره؟ ثم إنه كان في الذين حضروا يوم أحد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة كما أخبر الله تعالى في هذه السورة فقوله : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) أي من ثوابها تعريض بالفريق الدنيوي وهم الذين شغلتهم الغنائم ، وباقي الآية مدح للفريق الآخر الأخروي ، وإن فضله تعالى وعطيته شامل لكلا الفريقين ، لكن ثواب الفريق الثاني هو المعتمد به في الحقيقة ولهذا ختم الكلام بقوله : (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) فأبهم الجزاء وأضافه إلى نفسه تنبيها على أن جزاء الذين شكروا نعمة الإسلام فلم يشغلهم عن الجهاد شيء لا يكتنه كنهه وتقصر عنه العبارة ، وأنه كما يليق بعميم فضله وجسيم طوله. وهذه الآية وإن وردت في الجهاد لكنها عامة في جميع الأعمال كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيات» (١) وذلك لأن المؤثر في جانب الثواب والعقاب القصود والدواعي. فمن وضع الجبهة على الأرض والوقت ظهر والشمس أمامه ، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان من الإيمان ، وإن قصد تعظيم الشمس كان من الكفر.

(وَكَأَيِّنْ) الأكثرون على أنها في الأصل مركبة من كاف التشبيه و «أي» التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة. كما أن «كذا» مركبة من «الكاف» و «ذا» المقصود به

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب ١ ، كتاب الإيمان باب ٤١. مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٥٥. أبو داود في كتاب الطلاق باب ١١. الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ١٦. النسائي في كتاب الطهارة باب ٥٩. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٢٦. أحمد في مسنده (١ / ٢٥).

٢٧٢

الإشارة. «فكأين» مثل «كذا» في كون المجروحين مبهمين عند السامع إلا أن في «ذا» إشارة فى الأصل إلى ما في ذهن المتكلم بخلاف «أي» فإنه للعدد المبهم ومميزها منصوب ومفرد على الأصل. والأكثر إدخال «من» في مميز «كأين» وبه ورد القرآن ، والتمييز بعد «كذا» و «كأين» في الأصل عن الكاف لا عن «ذا» و «أي» كما في «مثلك رجلا» لأنك تبين في كذا رجلا وكأين رجلا أن مثل العدد المبهم في أي جنس هو ولم تبين العدد المبهم. فأي في الأصل كان معربا لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى «كم» الخبرية فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في «من» لا تنوين تمكن فلهذا يكتب بعد الياء نون ، مع أن التنوين لا صورة له خطا ولأجل التركيب تصرف فيه فقيل : كائن مثل كاعن. وربما ظن بعضهم أنه اسم فاعل من كان ، ولكنه بني لكثرة الاستعمال وهاتان اللغتان فيه مشهورتان ولهذا قرىء بهما. وفيه لغات أخر غير مشهورة تركنا ذكرها لأنه لم يقرأ بها ولعلك تجدها في كتبنا الأدبية. ومحل (كَأَيِّنْ) هاهنا رفع على الابتداء ، وقوله قتل أو (قاتَلَ) خبره والضمير يعود إلى لفظ (كَأَيِّنْ) فإنه مفرد اللفظ. وإن كان مجموع المعنى. والربيون معناه الألوف أو الجماعات الكثيرة. الواحد ربى عن الفراء والزجاج. قال ابن قتيبة : أصله من الربة الجماعة ، فحذفت الهاء في النسبة ، ويقال : ترببوا أي تجمعوا. وقال ابن زيد : الربانيون الأئمة والولاة ، والربيون الرعية. والكسر فيه من تغييرات النسب كالضم في دهري ، والقياس الفتح ، ثم من قرأ قتل فمعنى الآية إن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعده ما وهنوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوّهم ونصرة دينهم وكان ينبغي أن يكون لكم فيهم أسوة حسنة. فيكون المقصود من الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم. ومن قرأ (قاتَلَ) فالمعنى : وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوّهم قروح فما وهنوا. فعلى هذا يكون الغرض من الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القتال. وربما تؤيد هذه القراءة بما روي عن سعيد بن جبير أنه قال : ما سمعنا بنبي في القتال. ويحتمل أن تنزل القراءة الأولى على هذه الرواية أيضا بأن يقال : المعنى وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير ، فما ضعف الباقون وما استكانوا لقتل من قتل من إخوانهم ، بل مضوا على جهاد عدوّهم. ثم إنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بصفات وذلك قوله (فَما وَهَنُوا) إلخ ولا بد من تغايرها فقيل (فَما وَهَنُوا) عند قتل النبي (وَما ضَعُفُوا) عن الجهاد بعده (وَمَا اسْتَكانُوا) للعدو أي لم يخضعوا له ، وفيه تعريض بما أصاب المسلمين من الوهن والانكسار عن الإرجاف بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبضعفهم عند ذلك عن جهاد الكفار

٢٧٣

واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان. وقيل : الوهن استيلاء الخوف عليهم ، والضعف ضعف الإيمان واختلاج الشبهات في صدورهم ، والاستكانة الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم. وقيل : الوهن ضعف يلحق القلب ، والضعف مطلقا اختلال القوة الجسمية ، والاستكانة إظهار ذلك العجز والضعف. واستكان قيل «افتعل» من السكون كأنه سكن لصاحبه ليفعل به ما يريد. وعلى هذا فالمد شاذ كقولهم «هو منه بمنتزاح» أي ببعد يراد بمنتزح. والأصح أنه استفعل من «كان» والمد قياسي كأن صاحبه تغير من كون إلى كون أي من حال إلى حال. (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) بأن يريد إكرامهم والحكم بالثواب والجنة لهم. ثم أخبر أنهم كانوا مستعينين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع وطلب الإمداد والنصر من الله ، والغرض أن تقتدي هذه الأمة بهم. فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه وعدده وعدده ذل ، ومن اعتصم بالله والتجأ إليه فاز بالظفر. وفي إضافتهم الذنوب والإسراف إلى أنفسهم وهم ربانيون هضم للنفس واستصغار لها. قال المحققون : إنما قدموا الاستغفار لعلمهم بأنه تعالى ضمن نصر المؤمنين ، فإذا لم يحصل النصرة وظهرت أمارات استيلاء الأعداء دل ذلك على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ، فيلزم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة أقرب إلى الاستجابة. إنهم عمموا الذنوب أوّلا الصغائر والكبائر بقولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ثم خصصوا الذنوب الكبائر بقولهم (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه. والمراد بتثبيت الأقدام وإزالة الخوف عن قلوبهم وإماطة الخواطر الفاسدة عن صدورهم. والمراد بالنصر الأمور الزائدة على القوة والعدة والشدة كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء ، وكإحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم كهبوب ريح تثير الغبار في وجوههم ، وإجراء سيل في مواضع وقوفهم. وفي الآية تأديب وإرشاد من الله تعالى في كيفية الطلب عند النوائب جهادا كان أو غيره (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر وانشراح الصدر (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) وهو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وذلك غير حاصل في الحال. والمراد أنه حكم لهم بحصولها في الآخرة ، وحكم الله بالحصول كنفس الحصول. أو المراد أنه سيؤتيهم مثل أتى أمر الله أي سيأتي ، قال القاضي : ولا يمتنع أن تكون الآية مختصة بالشهداء وأنهم في الجنة عند ربهم كما ماتوا أحياء. وثواب الآخرة كله حسن ، فما ظنك بحسن ثوابها؟ وإنما لم يصف ثواب الدنيا بالحسن لقلتها وامتزاجها بالمضار وكدر صفوها بالانقطاع والزوال. قال القفال : يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله (وَقُولُوا لِلنَّاسِ

٢٧٤

حُسْناً) [البقرة : ٨٣] والغرض منه المبالغة كما يقال : فلان جود وعدل إذا كان غاية في الجود ونهاية في العدل. وهاهنا نكتة وهي أنه أدخل «من» التبعيضية في الآية المتقدمة في قوله : (نُؤْتِهِ مِنْها) في الموضعين ، ولم يذكر في هذه الآية. لأن أولئك اشتغلوا بالثواب عن العبودية فلم ينالوا إلا البعض ، بخلاف هؤلاء فإنهم لم يذكروا أنفسهم إلا بالعيب والقصور ولم يسألوا ربهم إلا ما يوجب إعلاء كلمته ، فلا جرم فازوا بالكل. وفيه تنبيه على أن من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله. ثم قال (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وهاهنا سر وهو أنه تعالى وفقهم للطاعة ثم أثابهم عليها ثم مدحهم على ذلك فسماهم محسنين ، ليعلم العبد أن الكل بعنايته وفضله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) عن السدي : المراد بالذين كفروا هو أبو سفيان وأصحابه فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم. والمعنى إن تستكينوا لهم وتستأمنوهم. وعن علي عليه‌السلام : هم المنافقون عبد الله بن أبيّ وأشياعه قالوا للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم. وعن الحسن : هم اليهود والنصارى يستغوونهم ويوقعون لهم الشبهة في الدين ولا سيما عند هذه الواقعة كانوا يقولون : لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوم له ويوم عليه. والأقرب أنه عام في جميع الكفار فإن خصوص السبب لا ينافي إرادة العموم ، فعلى المؤمنين أن لا يطيعوهم في شيء ولا ينزلوا على حكمهم وعلى مشورتهم حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم وهو المراد بقوله : (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي إلى الكفر بعد الإيمان (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) في الدنيا باستبدال ذلة الكفر بعزة الإسلام والانقياد للأعداء الذي هو أشق الأشياء لدى العقلاء ، وفي الآخرة بالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد. (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) ناصركم وهو إضراب عما كانوا بصدده من طاعة الكفار. والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا خطأ وجهالة لأنهم عاجزون مثلكم متحيرون ، وبغير إذن الله لا ينفعون ولا يضرون. (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) لو فرض أن لأحد سواه قدرة على النصر لأنه خبير بمواقع الحاجات ، قدير على إنجاز الطلبات ، ينصر في الدنيا والآخرة بلا شائبة علة من العلات ، ونصرة غيره لو فرض فإنه مخصوص بالدنيا وببعض الأمور وفي بعض الأوقات ولغرض من الأغراض الفاسدات ، كيف ولا ناصر بالحقيقة سواه.

التأويل : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) أن تلجوا عالم الملكوت ولم تظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات ولا الصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق

٢٧٥

الشريعة وقانون الطريقة لتتحلى الأرواح بأنوار الحقيقة (وَلَقَدْ كُنْتُمْ) يا أرباب الصدق وأصحاب الطلب (تَمَنَّوْنَ) موت النفوس عن صفاتها تزكية لها (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) بالمجاهدات والرياضات في خلاف النفس وقهرها عند لقاء العدو في الجهاد الأصغر ظاهرا وفي الجهاد الأكبر باطنا (فَقَدْ) رأيتم هذه الأسباب التي كنتم تمنونها عيانا (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) لا تفدون أرواحكم ولا تجاهدون حق الجهاد في الله بأرواحكم وأشباحكم (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) فيه أن الإيمان التقليدي لا اعتبار له فينقلب المقلد عن إيمانه عند إعدام المقلد من الوالدين أو الأستاذ ، وكذا عند موت المقلد فيعجز عند سؤال الملكين في قولهما له من ربك؟ فيقول : هاه لا أدري. فيقولون : ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول : هاه لا أدري كنت أقول فيه ما قال الناس. فيقولان له : لا دريت ولا تليت. (وَسَيَجْزِي اللهُ) بالإيمان الحقيقي (الشَّاكِرِينَ) الذين شكروا نعمة الإيمان التقليدي بأداء حقوقه وهو الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه. (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية وتتخلص عنها بطبعها إلا بتوفيق الله وجذبه وإشراق نوره كما أن ظلمة الليل لا تنتهي إلا بإشراق طلوع الشمس. ثم أثبت للعبد كسبا في طلب الهداية واستجلاب العناية بقوله : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) وهذه رتبة الخواص أي من عمل شوقا إلى الحق فقد رأى نعمة وجود المنعم ، فثوابه نقد في الدنيا لأنه حاضر لا غيبة له وهو معنى قولهم «الصوفي ابن الوقت» وفيه أنشد :

خليلي هل أبصرتما أو سمعتما

بأكرم من مولى تمشى إلى عبد

أتى زائرا من غير وعد وقال لي

أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد

ومن عمل شوقا إلى الجنة فنظره على النعمة فثوابه في الآخرة (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أي كلا الفريقين على قدر شكرهما. (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) أعدى العدو الذي بين جنبيه و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) متخلقون بأخلاق الرب (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ) من تعب المجاهدات (وَما ضَعُفُوا) في طلب الحق (وَمَا اسْتَكانُوا) باحتمال الذلة والالتفات إلى غير الله. (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي النفوس الكافرة وصفاتها (يَرُدُّوكُمْ) إلى أسفل سافلين بشريتكم وبهيميتكم.

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ

٢٧٦

ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

القراآت : (الرُّعْبَ) بضمتين حيث كان : ابن عامر وعلي ويزيد وسهل ويعقوب. الباقون : بسكون العين ـ (وَمَأْواهُمُ) وبابه بغير همز : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ) وبابه بإدغام الدال في الصاد : حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وهشام وسهل. وتغشى بتاء فوقانية وبالإمالة : حمزة وعلي وخلف. الباقون : بياء الغيبة. (كُلَّهُ) بالرفع : أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون : بالنصب. يعملون بصير بياء الغيبة : ابن كثير وعباس وعلي وخلف وحمزة. الباقون : بالخطاب. (مُتُّمْ) ومتنا بكسر الميم من مات يمات حيث كان : نافع وعلي وحمزة وخلف وافق حفصا إلا هاهنا لجوار (قُتِلْتُمْ) الباقون : بضم الميم من مات يموت. (يَجْمَعُونَ) بياء الغيبة : حفص والمفضل وسائر القراء بتاء الخطاب.

٢٧٧

الوقوف : (سُلْطاناً) ج لعطف المختلفتين (النَّارُ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (بِإِذْنِهِ) ج لأن «حتى» تحتمل انتهاء الحس ، ووجه الابتداء أظهر لاقتران «إذا» مع حذف الجواب أي إذا فعلتم وفعلتم انقلب الأمر ويمنعكم نصره. والوقف على (تُحِبُّونَ) ظاهر في الوجهين. (الْآخِرَةَ) ج لأن «ثم» لترتيب الإخبار وقيل لعطف (صَرَفَكُمْ) على الجواب المحذوف. (لِيَبْتَلِيَكُمْ) ج (عَفا عَنْكُمْ) ط (الْمُؤْمِنِينَ) ه (أَصابَكُمْ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (طائِفَةً مِنْكُمْ) (لا) لأن الواو للحال. (الْجاهِلِيَّةِ) ط (مِنْ شَيْءٍ) ط (لِلَّهِ) ط (يُبْدُونَ لَكَ) ط (هاهُنا) ط (مَضاجِعِهِمْ) ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي لينفذ الحكم فيكم. (وَلِيَبْتَلِيَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) ط (الصُّدُورِ) ه (الْجَمْعانِ) (لا) لأن إنما خبر إن (كَسَبُوا) ج لاحتمال الواو حالا واستئنافا (عَنْهُمْ) ط (حَلِيمٌ) ه (وَما قُتِلُوا) ج لأن لام (لِيَجْعَلَ) قد يتعلق بقوله : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أو بمحذوف أي ذلك ليجعل (فِي قُلُوبِهِمْ) ط (وَيُمِيتُ) ط (بَصِيرٌ) ه (يَجْمَعُونَ) ه (تُحْشَرُونَ) ه (لِنْتَ لَهُمْ) ج لأن الواو للعطف و «لو» للشرط (مِنْ حَوْلِكَ) ص والوصل أولى ليعطف الأمر بالرحمة على النهي عن الغلظة تعريضا (الْأَمْرِ) ج لفاء التعقيب مع «إذا» الشرطية (عَلَى اللهِ) ط (الْمُتَوَكِّلِينَ) ه (لَكُمْ) ج لابتداء شرط آخر مع الواو. (مِنْ بَعْدِهِ) ط (الْمُؤْمِنُونَ) ه.

التفسير : إنه تعالى يذكر في هذه الآيات وجوها كثيرة في باب الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار. من جملتها الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفرة ، ولا شك أن هذا من معاظم أسباب الاستيلاء ، ثم إن هذا الوعد مخصوص بيوم أحد أو هو عام في جميع الأوقات. الأظهر الثاني كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أنا سنلقي الرعب في قلوب الكفار بعد ذلك حتى يظهر هذا الدين على سائر الأديان ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نصرت بالرعب مسيرة شهر» (١) وذهب كثير من المفسرين إلى أنه مختص بيوم أحد لوروده في مساق تلك القصة. قال السدي : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة ، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق. ثم إنهم ندموا وقالوا بئسما صنعنا. قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم. فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم حتى رجعوا عما هموا به ففي ذلك نزلت الآية. وقيل : إن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب السير باب ٢٨. البخاري في كتاب التيمم باب ١. مسلم في كتاب المساجد حديث ٣ ، ٥. الترمذي في كتاب السير باب ٥. النسائي في كتاب الغسل باب ٢٦. أحمد في مسنده (١ / ٣٠١).

٢٧٨

سبب حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل من الخوف وقال : أين ابن أبي كبشة ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ـ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فأجابه عمر وجرى بينهم من الكلمات ما جرى. والرعب الخوف الذي يملأ القلب فزعا ومنه سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار. وإلقاء الرعب في قلوبهم لا يقتضي إلقاء جميع أنواعه فيها وإنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة فيها من بعض الوجوه. ولكن ظاهر قوله : (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقتضي وقوع الرعب في قلوب جميع الكفرة وهكذا هو في الواقع لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه خوف المسلمين وهيبتهم. إما في الحرب وإما في المحاجة. وقيل : إنه مخصوص بأولئك الكفار. (بِما أَشْرَكُوا) أي بسبب إشراكهم بالله. وفيه وجه معقول وهو أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار كما قال : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل : ٦٢] ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار لأنه يقول : إن كان هذا المعبود لا ينصرني فذاك الآخر ينصرني فلا يحصل له الإجابة. فيلزمهم الرعب والخوف هذا على تقدير أن معبوديهم يصح منهم الإجابة. كيف وإنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا؟ (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) الهة لم ينزل الله بإشراكها حجة. والتركيب يدل على القدرة والشدة والحدة ومنه يقال للوالي سلطان ، ومنه سلاطة اللسان ، والسليط الزيت كأنه استخراج بالقهر. قال الجوهري : السلطان بمعنى الحجة والبرهان لا يجمع لأن مجراه مجرى المصدر. وليس المراد أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل لأن الشرك لن يقوم عليه حجة ، ولكن المراد نفي الحجة ونزولها جميعا كقوله :

ولا ترى الضب بها ينجحر

قال المتكلمون : التقليد باطل لأن كل ما لا دليل عليه لم يجز إثباته. ومنهم من يبالغ فيقول : ما لا دليل عليه فيجب نفيه. ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع فقال : لا سبيل إلى إثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات إليه. ويكفي في رفع هذه الحاجة إثبات الصانع الواحد فما زاد لا سبيل إلى إثباته فلم يجز إثباته. أقول : هذا إذا استدللنا بعدم الدليل على وجود الشريك على نفيه ، أما إذا استدللنا بوجود الدليل على نفيه فلا شريك لأجل الدليل ، ولا دليل على الاشتراك لوجود الدليل على نفي الشريك. ولما ذكر حال الكفرة في الدنيا وهو استيلاء الرعب عليهم أتبعه حالهم في الآخرة فقال : (وَمَأْواهُمُ) أي والمكان الذي يأوون إليه (النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) مقام المشركين من ثوى بالمكان يثوي إذا أقام به ثم أكد وعد إلقاء الرعب بقوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ)

٢٧٩

تستأصلونهم قتلا. قال أصحاب الاشتقاق : حسّه أي قتله لأنه أبطل حسه بالقتل كما يقال : بطنه إذا أصاب بطنه ، ورأسه إذا أصاب رأسه. (بِإِذْنِهِ) بعلمه. وقيل : المراد بهذا الوعد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة صاحب لواء المشركين يوم أحد ، وقتل تسعة نفر بعده على اللواء. وقيل : هو ما ذكره من قوله (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) [آل عمران : ١٢٥] إلا أن هذا كان مشروطا بشرط هو الصبر والتقوى. وقيل : المراد هو أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للرماة : لا تبرحوا هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم فيه. فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم. وقيل : لما رجعوا الى المدينة قال ناس من المؤمنين : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ) قال بعض العلماء : هذا ليس بشرط فلهذا لم يقتض الجواب. والمعنى قد نصركم الله إلى حين كان منكم الفشل لأن وعدهم بالنصر كان مشروطا بالصبر. وقال آخرون : إنه للمجازاة. ثم اختلفوا في الجزاء على وجوه : أحدها قال البصريون : إنه محذوف كما مر في الوقوف وذلك لدلالة سياق الكلام عليه. وثانيها قال الكوفيون : جوابه وعصيتم ، والواو زائدة. والمراد بالعصيان خروجهم من ذلك المكان فإن الفشل والتنازع أخرجهم من المكان الذي وقفهم فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وثالثها قال أبو مسلم : جوابه ثم صرفكم. و «ثم» هاهنا كالساقطة. وقيل : جوابه ما يدل عليه قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) والتقدير : حتى إذا فشلتم صرتم فريقين. والمراد بالفشل الجبن والخور ، وبالتنازع أن الرماة لما هزم المشركون ونساؤهم يصعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخلهن قالوا : الغنيمة. فقال عبد الله بن جبير أمير الرماة : عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا نبرح هذا المكان. فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة ، وبقي عبد الله مع طائفة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون. وقوله : (فِي الْأَمْرِ) إما أن يكون بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن ، أو بمعنى الأمر الذي يضاد النهي أي تنازعتم فيما أمركم الرسول به وعصيتم بترك ملازمة ذلك المكان. وإنما قدم ذكر الفشل على التنازع والمعصية كأنهم فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة ، ثم تنازعوا من طريق القول في أنا هل نذهب في طلب الغنيمة أم لا ، ثم اشتغل بعضهم بطلب الغنيمة. وإنما ورد الخطاب عاما وإن كانت المعصية بمفارقة ذلك الموضع خاصة بالبعض اعتمادا على المخصص بعده وهو قوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وفائدة قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) التنبيه على عظم شأن المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله أكرمهم بإنجاز الوعد كان

٢٨٠