تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى : (صَعِيداً طَيِّباً). الستون : لا خلاف في جواز التيمم بدلا عن الوضوء ، أما التيمم بدل غسل الجنابة فعن علي رضي‌الله‌عنه وابن عباس جوازه وهو قول أكثر الفقهاء ، وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز. لنا قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ) إما يختص بالجماع أو يدخل الجماع فيه. الحادية والستون : الشافعي : لا يجوز أن يجمع بتيمم واحد بين صلاتي فرضين لأن ظاهر قوله : (إِذا قُمْتُمْ) يقتضي إعادة الوضوء لكل صلاة ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيبقى في التيمم على ظاهره. أبو حنيفة : يجوز أداء الفرائض به كالوضوء. أحمد : يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين. الثانية والستون : الشافعي : إذا لم يجد الماء في أول الوقت وتوقع في آخره جاز له التيمم لأن قوله : (إِذا قُمْتُمْ) يدل على أنه عند دخول الوقت إن لم يجد الماء جاز له التيمم. وقال أبو حنيفة : يؤخر الصلاة إلى آخره. الثالثة والستون : إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه لأنه وجد الماء فلا يجوز له الشروع في الصلاة بالتيمم. وخالف أبو موسى الأشعري والشعبي. الرابعة والستون : لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة لأنه خرج عن عهدة التكليف خلافا لطاوس. الخامسة والستون : ولو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها ـ وبه قال مالك وأحمد ـ ، لأنه انعقدت صلاته صحيحة بحكم التيمم فما لم تبطل صلاته لا يصير قادرا على استعمال الماء ، وما لم يصر قادرا على استعمال الماء لم تبطل صلاته فيدور. وقال أبو حنيفة والثوري والمزني : يلزمه الخروج لأنه واجد للماء. السادسة والستون : لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي وهو قول أحمد وأبي يوسف. والثاني لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة ومحمد لأن النسيان في حكم العجز وكذا إذا ضل رحله في الرحال بالطريق الأولى لأن مخيم الرفقة أوسع من رحله. ولو تيقن الماء في رحله واستقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد فالأكثرون على أنه يلزمه الإعادة لأن العذر ضعيف. وقيل : لا لأن حكمه حكم العاجز. السابعة والستون : لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكنه استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أوّلا ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله ، وإن لم يكن عالما فإن كان عليها علامة ظاهرة فالإعادة وإلّا فلا لأنه كالعاجز. الثامنة والستون : إذا لم يكن معه ماء ولا يمكنه أن يشتري إلّا بالغبن الفاحش جاز التيمم لقوله : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ولو وهب منه الماء لزمه القبول لأن المنة فيه سهل ، ولو وهب منه ثمنه لم يلزمه القبول لثقل المنة ووجود الحرج ، ولمثل هذا يجب قبول إعارة الدلو لاهبته فهذه جملة المسائل الفقهية المستنبطة من الآية سوى ما مرت في سورة النساء.

٥٦١

واعلم أن قوله سبحانه وتعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أصل معتبر في علم الفقه لأنه يدل على أن الأصل في المضار الحرمة وفي المنافع الإباحة. وقد تمسك به نفاة القياس قالوا : إن كل حادثة فحكمها المفصل إن كان مذكورا في الكتاب والسنة فذاك وإلّا فإن كان من باب المضارّ فالأصل فيها الحرمة ، وإن كان من باب المنافع فالأصل فيها الإباحة ، والقياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياسا واقعا في مقابلة النص فيكون مردودا. أما قوله : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) فله تفسيران : أحدهما وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة ، أن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية ، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية ، وزيف بأن أعضاء المؤمن لا تنجس لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن لا ينجس لا حيا ولا ميتا» (١) وبأنه لو كان رطبا فأصابه ثوب لم ينجس ، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته بالاتفاق ، وبأن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل عضو لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ، وبأن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر ، وبأن التيمم زيادة في التكدير فكيف يوجب النظافة والتطهير ، وبأن المسح على الخفين كيف يقوم مقام غسل الرجلين ، وبأن الذي يراد إزالته ليس من الأجسام ولا كان محسوسا ولا من الأعراض لأن انتقال الأعراض محال. التفسير الثاني أن المراد طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن إيصال الماء أو التراب إلى هذه الأعضاء المخصوصة ليس فيه فائدة يعقلها المكلف ، فالانقياد لمثل هذا التكليف تعبد محض يزيل آثار التمرد وتؤكده الأخبار في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه. (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بإباحة الطيبات الدنيوية من المطاعم والمناكح بهذه النعمة الدينية وهي كيفية فرض الوضوء ، أو ليتم برخصه كالتيمم ونحوه إنعامه عليكم بعزائمه. ثم ذكر ما يوجب عليهم قبول تكاليفه وذلك من وجهين : الأول تذكر نعمته يعني التأمل في هذا النوع الذي لا يقدر عليه غيره لأن هذا النوع وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى الخيرات في الدنيا والآخرة حيث إنه يمتاز عن نعمة غيره وأنه لا يقدر عليه غيره يجب تلقيه بالتشكر وهو الإذعان لأوامره والانقياد لنواهيه. فإن قيل : اذكروا مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الغسل باب ٢٣ ، ٢٤. مسلم في كتاب الحيض حديث ١١٥. أبو داود في كتاب الطهارة باب ٩١. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٨٩. النسائي في كتاب الطهارة باب ١٧١. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٨٠. أحمد في مسنده (٢ / ٢٢٥ ، ٣٨٢).

٥٦٢

نسيانها مع تواترها وتواليها في كل لحظة ولمحة؟ فالجواب أنها صارت لتواليها كالأمر المعتاد فصار من غاية الظهور كالأمر المستور ، أو المراد التوبيخ على عدم القيام بمواجبها فكأنها كالشيء المنسي. الثاني ذكر الميثاق ومعنى : (واثَقَكُمْ بِهِ) عاقدكم به عقدا وثيقا يعني ميثاق رسوله حين بايعهم تحت الشجرة وغيرها على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه. وعن ابن عباس : هو الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل حين قالوا : آمنا بالتوراة وبما فيها من البشارة بنبي آخر الزمان ومن غيرها. وقال مجاهد والكلبي ومقاتل : إنه إشارة إلى قوله للذرية : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وقال السدي : هو ما ركز في العقول من حسن هذه الشريعة وهو اختيار أكثر المتكلمين.

واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلّا أنها منحصرة في نوعين : التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) والشفقة على خلق الله وحث عليها بقوله : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) قال عطاء : يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. وقال الزجاج : بينوا دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. ثم أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلّا على سبيل العدل والإنصاف ويتركوا الظلم والاعتساف فقال (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم بغض (قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي فيهم فحذف للعلم. ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا فقال : (اعْدِلُوا) ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال : (هُوَ) أي العدل الذي دل عليه اعدلوا (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي إلى الاتقاء من عذاب الله أو من معاصيه. وقيل : المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام ، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مثلة ، أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو نحو ذلك. وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه؟ ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ووعيد الكافرين وقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) بيان للوعد قدم لهم وعدا ، ثم كأنه قيل : أي شيء ذلك؟ فقيل : لهم مغفرة أو يكون على إرادة القول أي وعدهم وقال لهم مغفرة ، أو يكون وعد مضمنا معنى قال ، أو يجعل وعد واقعا على هذا القول وإذا وعدهم هذا القول من هو قادر على كل المقدورات عالم بجميع المعلومات غني عن كل الحاجات فقد امتنع الخلف في وعده لأن سبب الخلف إما جهل أو عجز أو بخل أو حاجة وهو منزه عن الكل. وهذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت فيسهل عليه الشدائد وفي ظلمة القبر فيفيده نورا وفي عرصة القيامة فيزيده حبورا. والجحيم اسم من أسماء النار وهي كل نار عظيمة في مهواة كقوله : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)

٥٦٣

[الصافات : ٩٧] وأصحاب الجحيم ملازموها. بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه اليد مدّها إلى المبطوش به. عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها ، فعلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلاحه على شجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسله ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني؟ قال : الله ـ قالها ثلاثا ـ والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : الله. فأغمد الأعرابي السيف فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. وقال مجاهد والكلبي وعكرمة : قتل رجلان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين من بني سليم ـ وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قومهما موادعة ـ فجاء قومهما يطلبون الدية فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فدخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستقرضهم في عقلهما فقالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة ، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب : أنا. فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده ، فجاء جبريل عليه‌السلام وأخبره بذلك فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله هذه الآية. وقيل : نزلت في قصة عسفان حين هم الأعداء أن يواقعوهم فنزلت صلاة الخوف. وقيل : إنها لم تنزل في واقعة خاصة ولكن المراد أن الكفار أبدا كانوا يريدون إيقاع البلاء والنهب والقتل بالمسلمين فأعز الله المسلمين وفل شوكة الكفار وقوى دين الإسلام وأظهره على الأديان.

التأويل : سماع اسم الله وهو من صفات الهيبة يوجب الفناء والغيبة ، وسماع الرحمن الرحيم وهما من صفات اللطف يورث البقاء والقربة (أَوْفُوا) أيها العشاق (بِالْعُقُودِ) التي جرت بيننا يوم الميثاق ليوم التلاق. فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عند بذل وجوده (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ذبح (بَهِيمَةُ) النفس التي كالأنعام في طلب المرام إلا النفس المطمئنة التي تليت عليها (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] فتنفرت من الدنيا بما فيها فهي كالصيد في الحرم (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) بالتوجه إلى كعبة الوصال وإحرام الشوق إلى حضرة الجمال والجلال (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) لمن يريد فيأمر بذبح النفس إذا كانت متصفة بصفة البهيمية وبترك ذبحها إذا كانت مطمئنة بذكر الحق ومتسمة بسمات الملك. ثم أخبر عن تعظيم الشعائر من صدق الضمائر فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بشهود القلوب فقصدوا زيارة المحبوب وخرجوا عن أوطان الأوطار وسافروا عن ديار الأغيار (لا تُحِلُّوا) معالم الدين والشريعة ومراسم آداب الطريقة والحقيقة ، وعظموا الزمان والمكان والإخوان والقاصدين كعبة الوصول إلى الرحمن الذين أهدوا للقربان نفوسهم وقلدوها بلحاء الشجرة الطيبة ليأمنوا عن مكر الأعداء

٥٦٤

الخبيثة (وَإِذا حَلَلْتُمْ) أتممتم مناسك الوصول (فَاصْطادُوا) أرباب الطلب بشبكة الدعوة إلى الله ، ولا يحملنكم حسد الحساد الذين يريدون أن يصدّوكم عن الحق على أن تعتدوا على الطالبين فتكونوا قطاع الطريق عليهم في طلب الحق. (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) يا أهل الحق (الْمَيْتَةُ) وهي الدنيا بأسرها (وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) أي حلالها وحرامها قليلها وكثيرها لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة إلى اللحم قليل (وَما أُهِلَّ بِهِ) أي كل طاعة هي (لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ) يعني الذين يخنقون أنفسهم بالمجاهدات ويقذونها بالرياضات رياء وسمعة (وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) الذين يتردون أنفسهم إلى أسفل سافلي الطبيعة بالتناطح مع الأقران والتفاخر بالعلم والزهد بين الإخوان (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) الظلمة المتهارشون في جيفة الدنيا تهارش الكلاب (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) بالكسب الحلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ما تذبح عليه النفوس من المطالب الفانية (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) أي أن تكونوا مترددين في طلب المرام ، فإذا انتهيتم عن هذه المناهي وتخلصتم عن هذه الدواهي فقد عاد ليلكم نهارا وظلمتكم أنوارا. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها (مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) فإن كيدي متين. (الْيَوْمَ) أي في الأزل (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ولكن ظهر الأمر في حجة الوداع يوم عرفة. (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) وهي أسباب تحصيل الكمال ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَمَنِ اضْطُرَّ) فمن ابتلى بالتفات لشيء من الدنيا والآخرة غير مائل إليه للإعراض عن الحق ولكن من فترة للطالبين أو وقفة للسالكين. (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَ) لأرباب السلوك إذ الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا وهما حرام على أهل الله الطيبات كل مأكول ومشروب وملبوس يكون سببا للقيام بأداء الحقوق. (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) تناولوا ما اصطادت النفوس المطمئنة المعلمة بعلوم الشريعة المؤدبة بآداب الطريقة المنوّرة بأنوار الحقيقة. (وَاذْكُرُوا) عند تناول كل ما ورد عليكم من الأمور الدنيوية والأخروية (اسْمَ اللهِ) أي لا تتصرفوا فيه إلّا لله بالله في الله (الْيَوْمَ) يعني الذي فيه ظهر كمالية الدين الأزلية وهو يوم عرفة. وهذه فائدة التكرار (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل لكم التخلق بالأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله المنزهات عن الكميات والكيفيات (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم الأنبياء (حِلٌّ لَكُمْ) أي غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي منبع لبن النبوة والولاية واحد وإن كان الثدي اثنين (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة : ٦٠] وللنبي وراء ذلك كله مشرب «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) وهي أبكار حقائق القرآن

٥٦٥

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أبكار حقائق الكتب المنزلة على الأمم السالفة أي التي أدرجت في القرآن (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وهي بذل الوجود محصنين في هذا البذل ليكون على وجه الحق (غَيْرَ مُسافِحِينَ) على وجه الطبع (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) غير ملتفتين إلى شيء من الأكوان (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) بهذه المقامات (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الذي عمل من دون المكاشفات. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا حقيقيا عند خطاب ألست بربكم (إِذا قُمْتُمْ) من نوم الغفلة (إِلَى الصَّلاةِ) وهي معراجكم للرجوع إلى مكامن قربكم (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) التي توجهتم بها إلى الدنيا ولطختموها بالنظر إلى الأغيار بماء التوبة والاستغفار (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أي اغسلوا أيديكم من التمسك بالدارين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ببذل نفوسكم (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) من طين طبيعتكم والقيام بأنانيتكم (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) ولا يحملنكم حسد الحساد وعداوة الأنذال (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) مع أنفسكم (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) من الشيطان والنفس والهوى (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) والله خير موفق ومعين.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً

٥٦٦

إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

القراآت : (قاسِيَةً) حمزة وعلي والمفضل. الباقون (قاسِيَةً).

الوقوف : (بَنِي إِسْرائِيلَ) ج للعدول عن الإخبار إلى الحكاية مع اتحاد القصة. (نَقِيباً) ج للعدول عن الحكاية إلى الإخبار. (مَعَكُمْ) ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف جوابه (لَأُكَفِّرَنَ). (الْأَنْهارُ) ج (السَّبِيلِ) ه (قاسِيَةً) ج لاحتمال الاستئناف والحال أي لعناهم محرفين. (مَواضِعِهِ) ط لأنا ما يتلوه حال أي وقد نسوا. (ذُكِّرُوا بِهِ) ج للعدول عن الماضي إلى المستقبل مع الواو. (وَاصْفَحْ) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه (ذُكِّرُوا بِهِ) ص لعطف المتفقتين. (يَوْمِ الْقِيامَةِ) ط (يَصْنَعُونَ) ه (عَنْ كَثِيرٍ) ه (مُبِينٌ) ه لا لأن قوله : (يَهْدِي) وصف الكتاب إلى آخر الآية. (مُسْتَقِيمٍ) ه (الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) الأول ط (جَمِيعاً) ط (وَما بَيْنَهُما) ط (ما يَشاءُ) ط (قَدِيرٌ) ه (وَأَحِبَّاؤُهُ) ط (بِذُنُوبِكُمْ) ط لتناهي الاستفهام إلى الأخبار. (مِمَّنْ خَلَقَ) ط (مَنْ يَشاءُ) ط (وَما بَيْنَهُما) ز للفصل بين ذكر الحال والمال. (الْمَصِيرُ) ه (وَلا نَذِيرٍ) ر للعطف مع وقوع العارض. (وَنَذِيرٌ) ط (قَدِيرٌ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما خاطب المؤمنين بذكر نعمته وميثاقه أردفه ذكر ميثاق بني إسرائيل ونقضهم إياه ثم لعنهم بسبب ذلك تحذيرا لهذه الأمة من مثل ما فعلوا وفعل بهم. وبوجه آخر لما ذكر غدر اليهود وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا دفع الله تعالى ، أردفه بذكر سائر فضائحهم ليعلم أن ذلك لم يزل هجيراهم. والنقيب العريف «فعيل» بمعنى «فاعل» لأنه ينقب عن أحوال القوم فيكون شاهدهم وضمينهم. وقال أبو مسلم : بمعنى «مفعول» يعني اختارهم على علم بهم. وأصل النقب الطريق في الجبل. ونقب البيطار سرة الدابة ليخرج منها ماء أصفر. والمناقب الفضائل لأنها لا تظهر إلّا بالنقب عنها. ويقال : كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرفع صوت نباحه ، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف. قال مجاهد والكلبي والسدي : إن الله تعالى اختار من كل سبط

٥٦٧

من أسباط بني إسرائيل رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم. ثم إنهم بعثوا إلى مدينة الجبارين لينقبوا عن أحوالهم فرأوا أجراما عظيمة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه‌السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلّا رجلين منهم. ومعنى (إِنِّي مَعَكُمْ) إني ناصركم ومعينكم والتقدير : وقال الله لهم. فحذف الرابط للعلم به. والخطاب للنقباء أو لكل بني إسرائيل. والحاصل إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم. فهذه مقدمة معتبرة جدا في الترغيب والترهيب. ثم ذكر بعدها جملة شرطية مقدمها مركب من خمسة أمور والجزاء هو قوله : (لَأُكَفِّرَنَ) وهو إشارة إلى إزالة العقاب. وقوله : (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ) وهو إشارة إلى إيصال الثواب. واللام في (لَئِنْ أَقَمْتُمُ) موطئة للقسم وفي (لَأُكَفِّرَنَ) جواب له ولكنه سد مسد جواب الشرط أيضا. والعزر في اللغة الرد ومنه التعزير التأديب لأنه يرده عن القبيح ولهذا قال الأكثرون : معنى (عَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم لأن نصر الإنسان رد أعدائه عنه. ولو كان التعزير هو التوقير لكان قوله : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح : ٩] تكرارا. وهاهنا أسئلة : لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أن الإيمان مقدم على الأعمال؟ وأجيب بعد تسليم أن الواو للترتيب بأن اليهود كانوا معترفين بأن النجاة مربوطة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلّا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنه لا بد بعد الصلاة والزكاة من الإيمان بجميع الرسل وإلّا لم يكن لتلك الأعمال أثر. قلت : يحتمل أن يكون التقدير وقد آمنتم أو أخر الإيمان عن العمل تنبيها على أن الإيمان إنما يقع معتدا به إذا اقترن به العمل كقوله (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢] أو هو من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس ، أو لعل اليهود كانوا مقصرين في الصلاة والزكاة فكان ذكرهما أهم. سؤال آخر ما الفائدة في قوله : (وَأَقْرَضْتُمُ) بعد قوله : (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ)؟ وأجيب بأن الإقراض أريد به الصدقات المندوبة. قال الفراء : ولو قال وأقرضتم الله إقراضا حسنا لكان صوابا أيضا إلّا أنه أقيم الاسم مقام المصدر مثل (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [آل عمران : ٣٧]. آخر لم قال : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) فإن من كفر قبل ذلك أيضا فقد أخطأ الطريق المستقيم الذي شرعه الله لهم؟ والجواب أجل ، ولكن الضلال بعد الشرط المؤكد المعلق به الوعيد العظيم أشنع فلهذا خص بالذكر. (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) بتكذيب الرسل وقتلهم أو بكتمانهم صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بإخلال جملة الشروط المذكورة (لَعَنَّاهُمْ) قال عطاء : أخرجناهم من رحمتنا. وقال الحسن ومقاتل : مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير. قال ابن عباس : ضربنا الجزية عليهم. (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) من قرأ (قاسِيَةً)

٥٦٨

فبمعنى القاسية أيضا إلا أنها أبلغ كعليم وعالم ومنه قولهم «درهم قسي» أي رديء مغشوش لما فيه من اليبس الصلابة بخلاف الدرهم الخالص فإن فيه لينا وانقيادا. قالت المعتزلة : معنى الجعل هاهنا أنه أخبر عنها بأنها صارت قاسية كما يقال جعلت فلانا فاسقا أو عدلا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير كلامه (وَنَسُوا حَظًّا) تركوا نصيبا وافرا أو قسطا وافيا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) من التوراة يريد أن تركهم التوراة وإعراضهم عن العمل بها إغفال حظ عظيم ، أو فسدت نياتهم فحرفوا التوراة وزالت علوم منها عن حفظهم كما روي عن ابن مسعود : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. وقال ابن عباس : تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم بيّن أن نكث العهود والغدر لم يزل عادتهم خلفا عن سلف فقال : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ) أي خيانة كالعافية والحادثة أو صفة لمحذوف مؤنث أي على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة أو التاء للمبالغة مثل «رجل راوية للشعر» (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله ، أو هم الذين بقوا على الكفر من غير غدر ونقض لعهودهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) بعث على حسن العشرة معهم. فقيل منسوخ بآية الجهاد (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم : ٩] وقيل : المراد فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم. وقيل : بناء على أن القليل هم الباقون على العهد منهم أن المراد لا تؤاخذهم بالصغائر ما داموا باقين على العهد وهذا قول أبي مسلم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال ابن عباس : معناه إذا عفوت فأنت محسن ، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله. وعلى قول أبي مسلم فالمراد بهؤلاء المحسنين هم القليلون الذين ما نقضوا عهد الله وفي هذا التفسير بعد والله أعلم.

ثم قال : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) ولم يقل ومن النصارى لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى عليه‌السلام نحن أنصار الله وكانوا بالحقيقة أنصار الشيطان حيث اختلفوا وخالفوا الحق (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) إن كان الضمير عائدا إلى الذين قالوا فالمعنى ظاهر ، وإن عاد إلى اليهود فالمعنى أخذنا منهم مثل ميثاق اليهود في أفعال الخير والإيمان بالرسل (فَأَغْرَيْنا) ألصقنا وألزمنا ومنه الغراء الذي يلصق به وغرى بالشيء لزمه ولصق به (بَيْنَهُمُ) بين فرق النصارى أو بينهم وبين اليهود. ثم دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) ووحد الكتاب لأنه أخرج مخرج الجنس (مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) كصفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكصفة الرجم

٥٦٩

وهذا معجز لأنه لم يقرأ كتابا وقد أخبرهم بأسرار كتابهم (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) مما تخفونه فلا يبينه مما لا تمس إليه حاجة في هذا الدين. وعن الحسن : ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه بجرمه (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) محمد أو الإسلام (وَكِتابٌ مُبِينٌ) هو القرآن لإبانته ما كان خافيا على الناس من الحق ، أو لأنه ظاهر الإعجاز ، ويحتمل أن يكون النور والكتاب هو القرآن والمغايرة اللفظية كافية بين المعطوفين. ولا شك أن القرآن نور معنوي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات. (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي بالكتاب (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) من كان مطلوبه اتباع الدين الذي يرتضيه الله لا الذي ألفه بحسب هواه (سُبُلَ السَّلامِ) طرق السلامة أو طرق دار السلام أو سبيل دين الله (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) بناء على جواز الحلول (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) من الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله ومنع شيء من مراده. وقوله : (إِنْ أَرادَ) شرط جزاء آخر محذوف يدل عليه ما تقدمه والمعنى إن أراد (أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ) المدعو إلها وغيره فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره؟؟؟ والمراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمه أنهما من جنسهم وشكلهم في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وسائر الأعراض. فلما سلمتم كونه تعالى خالقا لغيرهما وجب أن يكون خالقا لهما ومتصرفا فيهما. وإنما قال : (وَما بَيْنَهُما) بعد ذكر السموات والأرض ولم يقل «بينهن» لأنه أراد الصنفين أو النوعين. وفي قوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وجهان : أحدهما يخلق تارة من ذكر وأنثى ، وتارة من أنثى فقط كما في حق عيسى ، وتارة من غير ذكر وأنثى كآدم عليه‌السلام. وثانيهما أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فإن الله تعالى يخلق فيها اللحمية والحياة معجزة لعيسى ، وكذا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) قيل : عليه أن اليهود لا يقولون ذلك فكيف يجوز نقل ذلك عنهم؟ وأما النصارى فلا يقولون ذلك في حق أنفسهم. وأجيب بأن المضاف محذوف أي نحن أبناء رسل الله أو أريد إن عناية الله تعالى بحالهم أكمل وأشد من اعتناء الأب بالابن ، أو اليهود زعموا أن عزيرا ابن الله ، والنصارى أن المسيح ابن الله. وقد يقول أقارب الملوك وحشمه نحن الملوك وغرضهم كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك. عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله فقالوا : كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه؟ ومما يتلو النصارى في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم. ثم إنه سبحانه أبطل عليهم دعواهم بقوله : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فسئل أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا فحينئذ تمكن المعارضة بوقعة أحد وبقتل أحباء الله كالحسن والحسين عليهما‌السلام أو عذاب الآخرة. فالقوم ينكرون

٥٧٠

ذلك ولو كان مجرد إخبار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادّعاء أنهم أحباء الله كافيا ويصير الاستدلال ضائعا. وأجيب بأن محل الإلزام عذاب عاجل ، والمعارضة بيوم أحد ساقطة لأنهم وإن ادعوا أنهم الأحباء لكنهم لم يدعوا أنهم الأبناء. أو عذاب آجل واليهود والنصارى يعترفون بذلك وأنهم تمسهم النار أياما معدودة. ويمكن أن يقال : المراد مسخهم قردة وخنازير بل هذا الجواب أولى ليكون الاحتجاج عليهم بشيء قد دخل في الوجود فلا يمكنهم الإنكار. (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ) جملة (مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ولا قدرة تمنعه من أن يعذبه ، وباقي الآية تأكيد لهذا المعنى (يُبَيِّنُ لَكُمْ) في محل النصب على الحال وفيه وجهان : أن يقدر المبين وهو الدين والشرائع وحسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع ، أو هو ما كنتم تخفون وحسن حذفه لتقدم ذكره وأن لا يقدر المبين. والمعنى يبذل لكم البيان وحذف المفعول أعم فائدة. وقوله : (عَلى فَتْرَةٍ) متعلق ب (جاءَكُمْ) أو حال آخر. قال ابن عباس : أي على حين فتور من إرسال الرسل وفي زمان انقطاع الوحي. وسميت المدّة بين الرسولين من رسل الله فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع. وكان بين عيسى عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسمائة وستون أو ستمائة سنة. وعن الكلبي : كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي ، وبين عيسى عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة أنبياء ، ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي. وأما العنسي بالنون فهو المتنبئ الكاذب. والمقصود أن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وتطرق التحريف والتغيير إلى الشرائع المتقدمة وكان ذلك عذرا ظاهرا في إعراض الخلق عن العبادات ، لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادات ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك ، فمن الله تعالى عليهم بإزاحة هذه العلة وذلك قوله : (أَنْ تَقُولُوا) أي كراهة أن تقولوا : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ) أي لا تعتذروا فقد جاءكم. والحاصل أن الفترة توجب الاحتياج إلى بعثة الرسل والله قادر على ذلك لأنه قادر على كل شيء ، فكان يجب في حكمته ورحمته إرسال الرسل في الفترات إلزاما للحجج وإقامة للبينات.

التأويل : جعل في أمة موسى عليه‌السلام اثني عشر نقيبا ، وجعل في هذه الأمة من النجباء البدلاء أربعين رجلا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم وسبعة على خلق موسى وثلاثة على خلق عيسى عليه‌السلام وواحد على خلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وقال أبو عثمان المغربي : البدلاء أربعون ، والأمناء سبعة ، والخلفاء ثلاثة ، والواحد هو القطب ، والقطب عارف بهم جميعا ويشرف عليهم ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه وهو إمام

٥٧١

الأولياء ، وهكذا حال الثلاثة مع السبعة والسبعة مع الأربعين ، فإذا نقص من الأربعين واحد بدل مكانه واحد من غيرهم ، وإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الأربعين ، وإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة ، وإذا مضى القطب الذي به قوام أعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة هكذا إلى أن يأذن الله تعالى في قيام الساعة. (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) بأن تجعلها معراجك إلى الحق في درجات القيام والركوع والسجود والتشهد. فبالقيام تتخلص عن حجب أوصاف الإنسانية وأعظمها الكبر وهو من خاصية النار ، وبالركوع تتخلص عن حجب صفات الحيوانية وأعظمها الشهوة وهو من خاصية الهواء ، وبالسجود تتخلص عن حجب طبيعة النبات وأعظمها الحرص على الجذب للنشو والنماء وهو من خاصية الماء ، وبالتشهد تتخلص عن حجب طبع الجماد وأعظمها الجمود وهو خاصية التراب ، فإذا تخلصت من هذه الحجب فقد أقمت الصلاة مناجيا ربك مشاهدا له كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعبد الله كأنك تراه». (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) بأن تصرف ما زاد من روحانيتك بتعلق القالب في سبيل الله (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) استسلمتم بالكلية لتصرفات النبوّة والرسالة (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ) بالوجود كله (قَرْضاً حَسَناً) وهو أن يأخذ منكم وجودا مجازيا فانيا ويعطيكم وجودا حقيقيا باقيا كما يقول. (لَأُكَفِّرَنَ) لأسترن بالوجود الحقيقي (عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الوجود المجازي (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ) الوصلة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار العناية (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) لأنّ العصيان يجر إلى العصيان (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) حيث نسوا حظ الميثاق وأبطلوا الاستعداد الفطري صاروا كالسباع يتهارشون ويتجاذبون (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يجعل أقواما مظهر لطفه وفضله وآخرين مظهر قهره وعدله وهو أعلم بعباده.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ

٥٧٢

الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

القراآت : (جَبَّارِينَ) بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو حيث كان. (فَلا تَأْسَ) بغير همزة حيث وقعت : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف.

الوقوف :(مُلُوكاً) ز (جَبَّارِينَ) ق قد قيل لشبهة الابتداء بأن ولكن كسر ألف «إن» بمجيئه بعد القول معطوفا على الأول. (حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. (داخِلُونَ) ه (الْبابَ) ج لذلك. (غالِبُونَ) ه (مُؤْمِنِينَ) ه (قاعِدُونَ) ه (الْفاسِقِينَ) ه (سَنَةً) ج لأنها تصلح ظرفا للتيه بعده والتحريم قبله (الْفاسِقِينَ) ه.

التفسير : وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال : أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وذكرهم موسى نعم الله وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في الكل. منّ الله عليهم بأمور ثلاثة : أوّلها قوله : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) وذلك أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. وثانيها قوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) قال السدي : أي جعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما استعبدكم القبط. وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكان لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكا. وقال الزجاج : الملك من لا يدخل عليه أحد إلّا بإذنه. وقيل : الملك هو الصحة والإسلام والأمن والفوز وقهر النفس. وقيل : من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. وقيل : كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء ، وقد يقال لمن حصل فيهم ملوك إنهم ملوك مجازا. وقيل : كل نبي ملك لأنه يملك أمر أمته ينفذ فيهم حكمه. وثالثها : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) من فلق البحر وإغراق العدوّ وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الخوارق والعظائم. وقيل : أراد عالمي زمانهم. روي أن إبراهيم عليه‌السلام لما صعد جبل لبنان قال الله تعالى له : انظر فما أدرك بصرك فهو مقدّس وميراث لذريتك. وقيل : لما خرج قوم موسى من مصر وعدهم الله إسكان أرض الشام ، فكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد. ثم بعث موسى عليه‌السلام اثني عشر نقيبا من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي ، فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة. قال المفسرون : لما بعث موسى النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجبا للملك : هؤلاء يريدون قتالنا. فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم

٥٧٣

وأخبروه بما شاهدتم. فانصرف النقباء إلى موسى وأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلّا رجلان ـ هما كالب بن يوفنا من سبط يهودا ، ويوشع بن نون من سبط افرائيم بن يوسف ـ فإنهما قالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم وأجسامهم عظيمة إلّا أن قلوبهم ضعيفة ، وأما العشرة الباقية فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم. والأرض المقدسة هي المطهرة من الآفات ، وقيل من الشرك. وزيف بأنها لم تكن وقت الجبارين كذلك. وأجيب بأنها كانت كذلك فيما قبل لأنها كانت مسكن الأنبياء. ثم إنها ما هي؟ فعن عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحا. وقال الكلبي : دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل : الطور وما حوله. وقيل : بيت المقدس. وقيل : الشام. ومعنى (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) وهبها لكم أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم أو أمركم بدخولها. قال ابن عباس : كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وقيل : المراد خاص أي مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم. وقيل : إن الوعد كان مشروطا بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وقيل : حرمها عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب. وفي قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) تقوية القلوب وأنّ الله سينصرهم مع ضعفهم على الجبارين مع قوّتهم. (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه‌السلام وإخباره بهذه النصرة ، أو لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى التي خرجتم عنها. فقد روي أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) في الآخرة بفوت الثواب ولحوق العقاب ، أو فترجعوا إلى الذل أو تموتوا في التيه غير واصلين إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة. والجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهو اختيار الفراء والزجاج. قال الفراء : لم أسمع «فعالا» من «أفعل» إلّا في حرفين : جبار من أجبر ، ودراك من أدرك. ويقال : نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها. والقوم كانوا في غاية القوّة ونهاية العظم فجبن قوم موسى عنهم حتى قالوا على سبيل المبالغة في الاستبعاد (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] (قالَ رَجُلانِ) هما يوشع وكالب (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أي بالهداية والثقة بقوله والاعتماد على نصره ومحل (أَنْعَمَ اللهُ) مرفوع صفة لرجلان. ويحتمل أن يكون جملة معترضة. قال القفال : يجوز أن يكون الضمير في (يَخافُونَ) لبني إسرائيل والعائد إلى الموصول محذوف تقديره من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون فعلى هذا الرجلان من الجبارين.

٥٧٤

(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال : متى دخلتم باب بلدهم لم يبق منهم نافخ نار ولا ساكن دار (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) علموه ظنا أو يقينا من عادة الله في نصرة رسله عامة ومن صنعه لموسى عليه‌السلام؟؟؟ في قهر أعدائه خاصة (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) الفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها. والمعنى لما وعدكم الله النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من عظم أجسامهم بل توكلوا على الله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مقرين بوجود الإله القدير ، موقنين بصحة نبوّة موسى (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) نفوا دخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس وزادوا في التأكيد بقولهم : (أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) قال العلماء : لعلهم كانوا مجسمة يجوّزون الذهاب والمجيء على الله تعالى أو أنهم لم يقصدوا حقيقة الذهاب كقولك : «كلمته فذهب يجيبني» يريد القصد والإرادة. وقيل : المراد بالرب أخوه هارون وسموه ربا لأنه أكبر من موسى. وقيل : التقدير اذهب وربك معين لك بزعمك ولكن لا يجاوبه. قوله (فَقاتِلا) ولا يبقى لقوله أنت فائدة واضحة. ولا يخفى أنّ هذا القول منهم كفر أو فسق فلهذا قال موسى على سبيل الشكوى والبث (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) قال الزجاج : في إعرابه وجهان : الرفع على موضع إني والمعنى أنا لا أملك إلّا نفسي وأخي كذلك ، أو نسقا على الضمير في (أَمْلِكُ) أي لا أملك أنا وأخي إلّا أنفسنا. والنصب على أنه نسق على الياء أي إني وأخي لا نملك إلّا أنفسنا ، أو على نفسي أي لا أملك إلّا نفسي ولا أملك إلّا أخي ، لأنّ أخاه إذا كان مطيعا له فهو مالك طاعته ، وكأنه لم يثق بالرجلين كل الوثوق فلهذا لم يذكرهما ، أو لعله قال ذلك تقليلا لمن يوافقه ، أو أراد من يؤاخيه في الدين. (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله : (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم : ١١] أو المراد فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لكل منا بما يستحق وهو في معنى الدعاء عليهم بدليل فاء التسبيب في قوله : (فَإِنَّها) أي الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ثم يفتحها الله لهم من غير محاربة. أو المراد أنهم يتيهون أربعين سنة ومعنى يتيهون يسيرون متحيرين. عن مقاتل أن موسى عليه‌السلام لما دعا عليهم فأخبره الله بأنهم يتيهون قالوا له : لم دعوت علينا وندم على ما عمل فأوحى الله إليه : (فَلا تَأْسَ) أي لا تحزن ولا تندم (عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) فإنهم أحقاء بالعذاب لفسقهم. وجوّز بعضهم أن يكون ذلك خطابا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لا تحزن على قوم لم تزل مخالفة الرسل هجيراهم.

واعلم أن المفسرين اختلفوا في أنّ موسى وهارون هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه لأنه دعا أن يفرق بينه وبينهم وكل نبي مجاب ، ولأن التيه عذاب

٥٧٥

والأنبياء لا يعذبون ، ولأنّ سبب ذلك العذاب التمرد وهما لم يتمرّدا. وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم إلّا أنّ الله تعالى سهل عليهم ذلك العذاب كما أن النار كانت على إبراهيم بردا وسلاما. ثم من هؤلاء من قال : إنّ هارون عليه‌السلام مات في التيه ومات موسى عليه‌السلام بعده فيه بسنة ، ودخل يوشع عليه‌السلام أريحا بعد موته بثلاثة أشهر وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته ، ومات النقباء في التيه بغتة بعقوبات غليظة إلّا كالب ويوشع. ومنهم من قال : بل بقي موسى عليه‌السلام بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله تعالى أعلم. واختلفوا أيضا في التيه وهي المفازة التي تاهوا فيها فقال الربيع : مقدار ستة فراسخ. وقيل : تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا. وقيل : ستة في اثني عشر. وقيل : كانوا ستمائة ألف فارس. ثم الأكثرون على أنّ قوله : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ) تحريم منع كانوا يسيرون كل يوم على الاستدارة جادّين حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان مع ذلك نعمة الله عليهم من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك متظاهرة كالوالد الشفيق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولكن لا يقطع عنه معروفه وإحسانه. ويشكل هذا القول بأنه كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في ذلك القدر الصغير من المفازة سنين متطاولة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يهتدي طريقا للتيه ولو بأمارات حركات النجوم؟ والجواب أنّ هذا من الخوارق التي يجب التصديق بها كسائر المعجزات التي يستبعد وقوعها. وقال بعضهم : إنّ هذا التحريم تعبّد وإنه تعالى أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة عقابا لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا فلا إشكال.

التأويل : أشار موسى الروح إلى القوى البدنية ادخلوا أرض القلب المقدسة التي كتبها الله تعالى للإنسان المستعد في الفطرة ، فهابوا تحمل أعباء المجاهدات ولزوم المخالفات والرياضات فقال لهم رجلان ـ النفسان اللوّامة والمطمئنة ـ إنكم غالبون إذا دخلتم باب الجدّ والطلب تستبدل الراحة بالتعب ، فلم يعتدّوا بقولهما فحرّم الله تعالى ذلك عليهم أربعين سنة هي مدة استيفاء حظوظ النفس الأمارة وانكسار سورة قواها في الأغلب كقوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف : ١٥]. وفي الآية نكتة هي أنّ موسى عليه‌السلام لما ظن أنه يملك نفسه ونفس أخيه ابتلاه الله في الحال بالدعاء على أمته لأنّ المرء إنما يملك نفسه إذا ملكها عند الغضب فشتان بينه وبين من قال حين شج رأسه وكسرت رباعيته «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» اللهم صلّ عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كل بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين. قول الله عزوجل :

٥٧٦

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

القراآت : (لَأَقْتُلَنَّكَ) بالنون الخفيفة. روى المعدّل عن زيد (يَدِيَ إِلَيْكَ) بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع. (مِنْ أَجْلِ) بكسر النون : يزيد وقرأ ورش بفتح النون موصولة (رُسُلُنا) بسكون السين حيث كان : أبو عمرو.

الوقوف : (بِالْحَقِ) م على أن «إذ» معمول اذكر محذوفا ولو وصل لأوهم أنه معمول (اتْلُ) وهو محال (مِنَ الْآخَرِ) ط (لَأَقْتُلَنَّكَ) ط (الْمُتَّقِينَ) ه (لِأَقْتُلَكَ) ج لاحتمال إضمار اللام أو الفاء. (الْعالَمِينَ) ه (النَّارِ) ج لاختلاف الجملتين. (الظَّالِمِينَ) ه ج لأجل الفاء. (الْخاسِرِينَ) ه (سَوْأَةَ أَخِيهِ) ط (أَخِي) ج لطول ما اعترض من المعطوف

٥٧٧

والمعطوف عليه. (النَّادِمِينَ) ه ج (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) ج كذلك لأنّ قوله : (مِنْ أَجْلِ) يصلح أن يتعلق ب (فَأَصْبَحَ) وب (كَتَبْنا). (جَمِيعاً) في الموضعين ط. (بِالْبَيِّناتِ) ز لأنّ «ثم» لترتيب الأخبار. (لَمُسْرِفُونَ) ه (مِنَ الْأَرْضِ) ط (عَظِيمٌ) ه (لا عَلَيْهِمْ) ج لتناهي الاستثناء مع الجواب أي لا تعذب التائبين. (أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ه (تُفْلِحُونَ) ه (مِنْهُمْ) ج لتناهي الشرط مع اتحاد المقصود من الكلام. (أَلِيمٌ) ه لاتحاد المقصود مع اختلاف الجملتين. (مُقِيمٌ) ه (مِنَ اللهِ) ط (حَكِيمٌ) ه (يَتُوبُ عَلَيْهِ) ط (رَحِيمٌ) ه (لِمَنْ يَشاءُ) ط (قَدِيرٌ) ه.

التفسير : في النظم وجوه منها : أنه راجع إلى قوله : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) [المائدة : ١١] فكأنه تعالى ذكر لأجل تسلية نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصصا كثيرة كقصة النقباء وما انجرّ إليه الكلام من إصرار أهل الكتاب وتعنتهم بعد ظهور الدلائل القاطعة ، ثم ختمها بقصة ابني آدم وأنّ أحدهما قتل الآخر حسدا وبغيا ليعلم أنّ الفضل كان محسودا بكل أوان. ومنها أنه عائد إلى قوله : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) [المائدة : ١٥] فإنّ هذه القصة وكيفية إيجاب القصاص بسببها كانت من أسرار التوراة. ومنها أنه من تمام قوله : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينفع قابيل. والمراد اتل على الناس أو على أهل الكتاب خبر ابني آدم من صلبه ـ هابيل وقابيل ـ تلاوة ملتبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى ، أو ملتبسة بالصدق موافقة لما في التوراة والإنجيل أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد والتحذير من سوء عاقبة الحاسد. أو اتل عليهم وأنت محق صادق لا مبطل هازل كالأقاصيص التي لا غناء فيها (إِذْ قَرَّبا) قال في الكشاف : نصب بالنبا أي قصتهم في ذلك الوقت أو بدل من النبا أي نبأ ذلك الوقت على حذف المضاف ، والمقصود إذ قرب كل واحد منهما قربانا إلّا أنه جمعهما في الفعل اتكالا على قرينة الحكاية ، أو لأنّ القربان في الأصل مصدر ، ثم سمي به ما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة. يروى أنّ آدم عليه‌السلام كان يولد له في كل سنة بطن غلام وجارية ، فكان يزوّج البنت من بطن بالغلام من بطن آخر فولد قابيل وتوأمته إقليما وبعدهما هابيل وتوأمته لبودا. وكانت توأمة قابيل أحسن وأجمل فأراد آدم أن يزوّجها من هابيل فأبى قابيل وقال : أنا أحق بها وليس هذا من الله وإنما هو رأيك. فقال آدم لهما : قرّبا قربانا فمن أيكما قبل قربانه زوّجتها منه. فقبل الله قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل سخطا وقتل أخاه حسدا. هذا ما عليه أكثر المفسرين وأصحاب الأخبار. وقال الحسن والضحاك : إنهما ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل لقوله عزّ من

٥٧٨

قائل : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ومن البين أنّ صدور الذنب من أحد ابني آدم لا يصلح أن يكون سببا لإيجاب القصاص على بني إسرائيل ، وزيف بأنّ الآية تدل على أنّ القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لم يخف عليه. قال مجاهد : أكل النار علامة الرد. وجمهور المفسرين على أنّ ذلك علامة القبول. وقيل : ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرّب به إلى الله فكانت النار تنزل من السماء فتأكله. وإنما صار أحد القربانين مقبولا والآخر مردودا لأنّ حصول التقوى شرط في قبول الأعمال ولهذا قال تعالى حكاية عن المحق في جواب المبطل : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) وذلك لأنه لما كان الحسد هو الذي حمله على توعده بالقتل فكأنه قال له : ما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على طاعة الله تعالى التي هي السبب في القبول؟ قيل في هذه القصة : إنّ أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه وكان صاحب غنم ، والآخر جعله أردأ ما كان معه وكان صاحب زرع. وقيل : إنه أضمر حين قرب أنه لا يزوّج أخته من هابيل سواء قبل أو لم يقبل. وقيل : لم يكن قابيل من أهل التقوى وفي الكلام حذف فكأن هابيل قال في جواب المتوعد : لم تقتلني؟ قال : لأنّ قربانك صار مقبولا. فقال هابيل : وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين. ثم حكى الله سبحانه عن المظلوم أنه قال : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ) فذكر الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل مقرونا بالباء المزيدة لتأكيد النفي دلالة على أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع البتة. قال مجاهد : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من الله لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت وهذا وجه قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وقيل : المعنى لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع. قال أهل العلم : الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع ، ثم إن لم يندفع إلّا بالقتل جاز له ذلك. ثم قال : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) فسئل أنه كيف يعقل أن يرجع القاتل مع إثم المقتول (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]؟ فقال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة : أي تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. وقال الزجاج : ترجع إلى الله بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك. وقال في الكشاف : إنه يتحمل مثل الإثم المقدر كأنه قال إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي. سؤال آخر : كيف جاز أن يريد معصية أخيه وكونه من أهل النار؟ والجواب أن هذا الكلام إنما دار بينهما عند ما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل فكأنه لما وعظه

٥٧٩

ونصحه قال له : إن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد أن تترصد لقتلي في وقت غفلة وحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلّا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية ، وإذا دار الأمر بين أن أكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن تكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي ، ومن البين أن إرادة صدور الذنب عن الغير في هذه الحالة لا يكون حراما بل هو عين الطاعة. أو المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي ، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله تعالى عقاب الظالم. وروي أنّ الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم ، فعلى هذا يجوز أن يقال : إني أريد أن تبوء بإثمي الذي يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني ، وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأوّل أيضا. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) وسعته ورخصته وسهلت من طاع له المرتع وأطاع إذا اتسع وله لأجل زيادة الربط كقول القائل : حفظت لزيد ماله. ومنهم من قال : شجعته فقتله. والتحقيق أن الإنسان يعلم أن القتل العمد العدوان من أعظم الذنوب فهذا الاعتقاد يكون صارفا له عن فعله فلا يطاوع النفس الأمارة حتى إذا كثرت وساوسها انقاد لها وخضع. وإضافة التطويع والتمرين إلى النفس لا ينافي كون الكل مضافا إلى قضاء الله فتنبه. يحكى أنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيرا وضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه. ثم إنه وجد هابيل يوما نائما فضرب رأسه بصخرة فمات. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها» (١) وذلك أنه أوّل من سن القتل (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دنياه وآخرته لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة ثم يلقى في النار خالدا. قيل : لما قتل أخاه هرب من أرض اليمن إلى عدن فأتاه إبليس وقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها. فبنى بيت نار وهو أوّل من عبد النار. وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء. وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا. فقال : بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك وإنه رثاه بشعر هو هذا :

تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبر قبيح

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٣٣. كتاب الأنبياء باب ١. مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٧. الترمذي في كتاب العلم باب ١٤. النسائي في كتاب التحريم باب ١. ابن ماجه في كتاب الديات باب ١. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٣ ، ٤٣٠).

٥٨٠