تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٢

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٩

وإما لأنهما حكمان لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصنين ثم احتكموا في قتل كان بينهم. وزعم بعض الأئمة أن هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ) وعن ابن عباس أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشماس بن قيس من أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قوم خصومة ونحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل فيهم : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) محله نصب على أنه مفعول له أي مخافة أن يفتنوك ، أو على أنه بدل اشتمال من مفعول احذر. والمراد بالفتنة رده إلى أهوائهم فكل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن. قال بعض أهل العلم : في الآية دليل على أن الخطأ والنسيان جائزان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن التعمد في مثل هذا غير جائز فلم يبق إلّا الخطأ والنسيان فلو لم يكونا جائزين أيضا لم يكن للحذر فائدة ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الحكم المنزل أي فإن لم يقبلوا حكمك (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أما الإصابة فالمراد بها قتلهم وإجلاؤهم ، وأما ذكر بعض الذنوب فلأن مجازاتهم ببعض الذنوب كافية في إهلاكهم وتدميرهم ، أو أراد بالبعض ذنب التولي عن حكم الله. وفيه أن لهم ذنوبا جمة وأن هذا الذنب عظيم جدا كقول لبيد :

تراك أمكنة إذا لم أرضها.

أو يرتبط بعض النفوس حمامها.

أراد نفسه وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام فكأنه قال نفسا كبيرة لأن التنكير في معنى البعضية أيضا. (لَفاسِقُونَ) لمتمردون في الكفر. وفيه أن التولي عن حكم الله فسق مؤكد جدا.

ثم استفهم منكرا لرأيهم فقال : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) وفيه تعيير لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ومع ذلك يطلبون حكم الملّة الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى. وقال مقاتل : إن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : القتلى بواء أي سواء. فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت. وعن الحسن هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فتلا هذه الآية. واللام في قوله : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) للبيان كاللام في : (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] أي هذا لخطاب وهذا الاستفهام لهم لأنهم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ولا أحسن منه بيانا. قال عطية العوفي : جاء عبادة بن الصامت فقال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم حاضرا نصرهم

٦٠١

وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية اليهود ، أو إلى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه. قال : قد قبلت فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) تعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهي بقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) لأن الجنسية علة الضم. ثم أكد ذلك بقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) من جملتهم وحكمه حكمهم ولذلك قال ابن عباس : يريد أنه كافر مثلهم وفيه من التغليظ والتشديد ما فيه. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة فوضعوا الولاء في غير موضعه. عن أبي موسى الأشعري قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن لي كاتبا نصرانيا فقال : ما لك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا؟ أما سمعت هذه الآية؟ قلت : له دينه ولي كتابته. فقال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذ أذلهم الله ، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. قلت : لا قوام بالبصرة إلّا به. قال : مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الآن. (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعني أمثال عبد الله بن أبي. (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) في موالاة اليهود والنصارى يهود بني قينقاع ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهامهم ويقرضونهم (يَقُولُونَ) يعتذرون عن الموالاة بقولهم : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) قال الواحدي : هي الدولة ومثلها صروف الزمان ونوائبه. وقال الزجاج : نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك. ثم سلى رسوله والمؤمنين بقوله : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) فعسى من الله الكريم إطماع واجب. والفتح إما فتح مكة أو مطلق دولة الإسلام وغلبة ذويه. وقوله : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) المراد به فعل لا يكون للناس فيه مدخل البتة كقذف الرعب في قلوب بني النضير وغيرهم من الكفار. وقيل : هو أن يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من النفاق والشك في أن أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتم (نادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قال الواحدي : حذف الواو هاهنا كإثباتها فلهذا جاء في مصاحف أهل الحجاز والشام بغير واو ، وفي مصاحف أهل العراق بالواو ، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها ، فإن قوله : (أَهؤُلاءِ) إشارة إلى الذين يسارعون ، فلما حصل في كل من الجملتين ذكر من الأخرى حسن الوجهان. ووجه العطف مع النصب ظاهر ووجه ذلك مع الرفع على أنه كلام مبتدأ أي ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت. ووجه الفصل هو أن يكون جواب سائل يسأل فماذا يقول المؤمنون حينئذ وإنما يقولون هذا القول فيما بينهم تعجبا من حالهم وفرحا بما

٦٠٢

منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص ، أو يقولونه لليهود الذين كانوا يحلفون لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) [الحشر : ١١] وقوله : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي بأغلاظ الأيمان نصب على الحال أي يجتهدون جهد أيمانهم أو على المصدر من غير لفظه. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) من قول الله تعالى أو من جملة قول المؤمنين أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها رياء. وفيه معنى التعجب أي ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم حيث بقي عليهم التعب في الدنيا والعذاب في العقبى (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) أي من يتولّ الكفار منكم فيرتد فليعلم أن الله تعالى يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه. وقال الحسن : علم الله تعالى أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فأخبرهم أنه سبحانه سيأتي (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) فتكون الآية إخبارا عن الغيب وقد وقع فيكون معجزا. روي في الكشاف أن أهل الردّة كانوا إحدى عشرة فرقة ، ثلاث في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار الأسود العنسي وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي ، بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول. وبنو حنيفة قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام. أراد في جاهليتي وإسلامي. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالدا فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبع في عهد أبي بكر : فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وحاربهم أبو بكر وكفى الله أمرهم على يديه. وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم كان يطوف بالبيت ذات يوم بعد أن كان أسلم على يد عمر فرأى رجلا جارّا رداءه فلطمه فتظلم الرجل إلى عمر فقضى بالقصاص عليه. فقال : أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلّا القصاص فاستنظره فأنظره عمر فهرب إلى

٦٠٣

الروم وتنصر. وتفسير المحبة قد مر في سورة البقرة في قوله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥] وإنما قدم محبته على محبتهم لأن محبتهم إياه نتيجة محبته الأزلية إياهم فتلك أصل وهذه فرع. والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن للشرط محذوف معناه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم (أَذِلَّةٍ) جمع ذليل لأن ذلولا من الذل نقيض الصعوبة لا يجمع على أذلة وإنما يجمع على ذلل. وليس المراد أنهم مهانون عند المؤمنين بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب ، فإن من كان ذليلا عند إنسان فإنه لا يظهر الكبر والترفع البتة. ولتضمين الذل معنى الحنو والعطف عدّي بعلى دون اللام كأنه قيل : عاطفين عليهم. أو المراد أنهم مع شرفهم واستعلاء حالهم واستيلائهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ليضموا إلى منصبهم فضيلة التواضع (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) يظهرون الغلظة والترفع عليهم من عزه يعزه إذا غلبه ونحو هذه الآية قوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] أما الواو في قوله : (وَلا يَخافُونَ) فإما أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين حيث يخافون لومة أوليائهم اليهود ، وإما أن تكون للعطف كقوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

أي هم الجامعون بين المجاهدة لله وبين الصلابة في الدين إذا شرعوا في أمر من أمور الدين ، لا يرعبهم اعتراض معترض. وفي وحدة اللوم وتنكير اللائم مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام. (ذلِكَ) الذي ذكر من نعوت الكمال من المحبة والذلة وغيرها (فَضْلُ اللهِ) إحسانه وتوفيقه. قالت الأشاعرة : إنه صريح في أن الأعمال مخلوقة لله تعالى. والمعتزلة حملوه على فعل الألطاف. وضعف بأن اللطف عام في حق الكل فلا بد للتخصيص من فائدة (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) تام القدرة كامل العلم يعلم أهل الفضل فيؤتيهم الفضل.

واعلم أن للمفسرين خلافا في أن القوم المذكورين في الآية من هم. قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج : هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة. وقال السدي : نزلت في الأنصار. وقال مجاهد : هم أهل اليمن لأنها لما نزلت أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال : هم قوم هذا. وقال آخرون : هم الفرس لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان قال : هذا وذووه ثم قال : لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس. وقالت الشيعة : نزلت في علي رضي‌الله‌عنه وكرّم الله

٦٠٤

وجهه لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفع الراية إلى علي يوم خيبر وكان قد قال : لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، ولأن ما بعد هذه الآية نازلة فيه باتفاق أكثر المفسرين. قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر ، لو كانوا أنكروا نصا جليا على إمامة علي رضي‌الله‌عنه لكان كلهم مرتدين ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق. ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن فرقة الشيعة مقهورون أبدا حصل الجزم بعدم النص. ولناصر مذهب الشيعة أن يقول : ما يدريك أنه تعالى لا يجيء بقوم تحاربهم ، ولعل المراد بخروج المهدي هو ذلك فإن محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل وهذا إنما ذكرته بطريق المنع لا لأجل العصبية والميل فإن اعتقاد ارتداد الصحابة الكرام أمر فظيع والله أعلم. ثم إنه سبحانه لما نهى في الآي المتقدمة عن موالاة الكفار أمر بعد ذلك بموالاة من يحق موالاته فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) ولم يقل أولياؤكم ليعلم أن ولاية الله أصل والباقي تبع (اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) وفيه قولان : الأول أن المراد عامة المؤمنين لأنّ الآية نزلت على وفق ما مر من قصة عبادة بن الصامت. وروي أيضا أن عبد الله بن سلام قال : يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية. فقالوا : رضينا بالله تعالى وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. ثم قال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ومحله رفع على البدل أو على هم الذين يقيمون ، أو نصب بمعنى أخص أو أعني وفي الكل مدح والغرض تميز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان نفاقا. ومعنى (وَهُمْ راكِعُونَ) قال أبو مسلم : أي منقادون خاضعون لأوامر الله تعالى ونواهيه. وقيل : المراد ومن شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر لشرفه. وقيل : إنّ الصحابة كانوا عند نزول الآية مختلفين في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد الصلاة راكعا فنزلت الآية على وفق أحوالهم. القول الثاني أن المراد شخص معين وجيء به على لفظ الجمع ليرغب الناس في مثل فعله. ثم إن ذلك الشخص من هو؟ روى عكرمة أنه أبو بكر وروى عطاء عن ابن عباس أنه علي عليه‌السلام. روي أن عبد الله بن سلام قال : لما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه. وروي عن أبي ذر أنه قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئا وعليّ عليه‌السلام كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتى أخذ

٦٠٥

الخاتم فرآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) إلى قوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٢٥ ، ٣٢] فأنزلت قرآنا ناطقا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) [القصص : ٣٥] اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به أزري. قال أبو ذر : فو الله ما أتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال : يا محمد اقرأ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) الآية. فاستدلت الشيعة بها على أن الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام لأن الولي هو الوالي المتصرف في أمور الأمة ، وأنه علي عليه‌السلام برواية أبي ذر وغيره. وأجيب بالمنع من أن الولي هاهنا هو المتصرف بل المراد به الناصر والمحب لأن الولاية المنهي عنها فيما قبل هذه الآية ، وفيما بعدها هي بهذا المعنى فكذا الولاية المأمور بها. وأيضا إن عليا لم يكن نافذ التصرف حال نزول الآية وإنها تقتضي ظاهرا أن تكون الولاية حاصلة في الحال. وأيضا إطلاق لفظ الجمع على الواحد لأجل التعظيم مجاز والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فالمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وأن بعضهم يجب أن يكون ناصرا لبعض كقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١] وأيضا الآية المتقدمة نزلت في أبي بكر كما مر من أنه هو الذي حارب المرتدين فالمناسب أن تكون هذه أيضا فيه. ثم إن علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الإمامية فلو كانت الآية دالة على إمامة عليّ لاحتج بها كما احتج بما ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع مناقبه وفضائله. وهب أنها دالة على إمامته لكنه ما كان نافذ التصرف في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يبق إلا أنه سيصير إماما ونحن نقول بموجبه ولكنه بعد الشيوخ الثلاثة. ومن أين قلتم إنها تدل على إمامته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير فصل؟ وأيضا إنهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله فلا حاجة بهم إلى ذكر ذلك. فالمراد بقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أن من كان الله ورسوله ناصرين له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة عن غيره ، وإذا كان الولي مستعملا بمعنى النصرة مرة امتنع أن يراد به معنى المتصرف لأنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهومية معا فكأنه تعالى قسم المؤمنين قسمين وجعل أحدهما أنصارا للآخر. وأيضا الزكاة اسم للواجب لا للمندوب ، ومن المشهور أن عليا عليه‌السلام ما كان يجب عليه الزكاة ، ولو سلم فاللائق بحاله أن يكون في الصلاة مستغرق القلب بالله فلا يتفرغ لاستماع كلام السائل ولا إلى دفع الخاتم إليه لأنه عمل كثير ، اللهم إلا أن يكون الخاتم سهل المأخذ أو كان قد أومأ به إلى السائل فأخذه السائل. والحق أنه إن صحت الرواية فللآية دلالة قوية على عظم شأن علي

٦٠٦

عليه‌السلام ، والمناقشة في أمثال ذلك تطويل بلا طائل إلا أن أصحاب المذاهب لما تكلموا فيها أوردنا حاصل كلامهم على سبيل الاختصار. (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ) من إقامة المظهر مقام المضمر تشريفا. والمراد فإنهم هم الغالبون. وحزب الرجل أصحابه المجتمعون لأمر حزبهم. وقال الحسن : جند الله. أبو روق : أولياء الله. أبو العالية : شيعة الله. وقيل : أنصار الله. الأخفش : هم الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم. صاحب الكشاف : يحتمل أن يراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب. ثم عمم النهي عن موالاة جميع الكفار فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) عن ابن عباس : كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت ، يعني أن اتخاذهم دينكم هزوا ولعبا ينافي اتخاذكم إياهم أولياء بل يجب أن يقابل ذلك بالشنئان والبغضاء. وإنما عطف الكفار على أهل الكتاب مع أن أهل الكتاب أيضا كفار والعطف يقتضي المغايرة ، لأنه أراد بالكفار المشركين الوثنيين خاصة لما أن كفرهم أغلظ فكانوا أحق باسم الكفر. ومعنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم به إظهارهم ذلك باللسان دون مواطأة الجنان. (وَاتَّقُوا اللهَ) في موالاة الكفار (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا لأن الإيمان الحقيقي يأبى موالاة أعداء الدين. قال الكلبي : كان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نادى إلى الصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا ركعوا لا ركعوا على طريق الاستهزاء والضحك فنزل (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها) أي الصلاة والمناداة. وهذا بعض ما اتخذوه من هذا الدين هزوا ولعبا ، فلهذا أردفه بالآية المقدمة الكلية. وقال السدي : نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسول الله. قال : حرق الكاذب. فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله. وقال آخرون : إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية. فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك ، ولو كان في هذا الأمر خير كان أولى الناس به الأنبياء والرسل قبلك ، فمن أين لك صياح كصياح العنز؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر. فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنزل : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) قال بعض العلماء : فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. وأقول : لو قيل إن أصل الأذان بالمنام والتفرير بنص الكتاب كان أصوب ذلك الاتخاذ. (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ما في الصلاة من المنافع لأنها التوجه إلى الخالق والاشتغال بخدمة المعبود ، أو لا يفهمون ما في اللعب والهزء من السفه

٦٠٧

والجهل. قال بعض الحكماء : أشرف الحركات الصلاة وأنفع السكنات الصيام.

التأويل : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي بالحقيقة لأنه أنزل على قلبه وأنزل سائر الكتب في الألواح والصحف فلهذا كان خلقه القرآن. وكان مهيمنا على جميع الكتب تصديقا عيانيا لا بيانيا بحيث يشاهد قلب المنزل عليه بنوره حقائق جميع الكتب وأسرارها بخلاف ما أنزل في الألواح فإن الألواح لا تشهد ولا تشاهد حقائق الكتب ومعانيها. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) معاشر الأنبياء (شِرْعَةً) يشرع فيها بالبيان (وَمِنْهاجاً) يسلك فيه بالعيان (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) أيها الأمم (فِي ما آتاكُمْ) من البيان والتبيان والحجج والبرهان والعزة والسلطان ، فابتلاكم بزينة الدنيا واتباع الهوى ونيل المنى والرفعة بين الورى والنجاة في العقبى ليهتدي التائبون بالبيان ، ويستفيد العاملون بالبرهان ، ويحكم العارفون بالسلطان بل يقصد الزاهدون برفض الدنيا ويقدم العابدون بنهي الهوى ، ويسلك المشتاقون بنفي المنى ، ويجذب العارفون بترك الورى ، ويسلب الواصلون بالسلو عن الدنيا والعقبى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) من هذه المقامات (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) اختيارا بقدم الصدق أو اضطرارا بحلول الأجل (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن قبول الحق (فَاعْلَمْ) بمطالعة القضاء (أَنَّما يُرِيدُ اللهُ) في حكم القدر (أَنْ يُصِيبَهُمْ) مصيبة الإعراض (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) وهو الاعتراض ، فإن الحق سبحانه يلزم بشرط التكاليف ويقدمهم ويؤخرهم بعين التصريف. فالتكليف فيما أوجب والتصريف فيما أوجدوا العبرة بالإيجاد لا بالإيجاب (لَفاسِقُونَ) لخارجون عن جذبات العناية (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أيطلبون منك أن تحيد عن المحجة المثلى بعد ما طلعت شموس الدنيا وسطعت براهين اليقين وانهتكت أستار الريب واستنار القلب بأنوار الغيب (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) لأن شبيه الشيء منجذب إليه (أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) فتح عيون القلوب (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) وهو الجذبة التي توازي عمل الثقلين (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) بأنوار الغيوب في أستار القلوب (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) بإبطال الاستعداد الفطري. (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) هم أرباب السلوك أفناهم عنهم بسطوات يحبهم ثم أبقاهم به عند هبوب نفحات يحبونه ، فإن محبة الله للعبد إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية ، ومحبة العبد لله إبقاء اللاهوتية في فناء الناسوتية. والشيخ نجم الدين الرازي المعروف بداية رضي‌الله‌عنه قد عكس القضية ، فلعله فهم غير ما فهمنا. ثم قال إنه تعالى يحب العبد بصفته ذاته أزلا وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالغاية ، والعبد يحب الله بذات تلك الصفة أبدا (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لارتفاع الأنانية (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في طلب الحق في البداية ببذل الوجود (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) عند غلبات الوجد في

٦٠٨

الوسط لدوام الشهود ذلك يعني صدق الطلب في البداية وغلبات الوجد في الوسط والاختصاص بالمحبة في النهاية (وَاللهُ واسِعٌ) كرمه قادر على أن يتفضل على كل أحد لكنه (عَلِيمٌ) بحال كل أحد فلا يتفضل إلا على من يستأهله. (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يديمونها مراقبين حقوقها في الباطن بمراعاة السر (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ما زكى من وجودهم وهو الفناء في الله (وَهُمْ راكِعُونَ) راجعون إلى الله بانحطاط. فمن قيام البشرية إلى قيام القيومية هم الغالبون على أهوائهم وأنفسهم والدنيا والشيطان. (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) يعني أهل الغفلة والسلو المستهزئين بأهل المحبة والقرب (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي العلوم الظاهرة والكفار يعني الفلاسفة ومقلديهم لأنهم بمعزل عن العلوم اللدنية والكشفية (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) دعوتموهم إلى محل القرب والنجوى لا يعقلون بالوهم والخيال لذاذة شهود ذلك الجمال.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))

٦٠٩

القراآت : (هَلْ تَنْقِمُونَ) وبابه مدغما : حمزة وعلي وهشام. (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) بضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت : حمزة. الباقون بنصب الطاغوت على أن. (عَبَدَ) فعل ماض عطفا على صلة من كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت. مبصوطتان بالصاد مثل وزاده بصطة [البقرة : ٢٤٧] وقد مر في البقرة. (رِسالَتَهُ) أبو عمرو وابن كثير وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون (رِسالاتِهِ).

الوقوف : (مِنْ قَبْلُ) لا لعطف (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) على (أَنْ آمَنَّا). (فاسِقُونَ) ه (عِنْدَ اللهِ) ط لتناهي الاستفهام والتقدير هو. (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) ط ومن جعل محله جرا على البدل من (شَرٌّ) لم يقف. (الطَّاغُوتَ) ط (السَّبِيلِ) ط (خَرَجُوا بِهِ) ط (يَكْتُمُونَ) ه (السُّحْتَ) ط (يَعْمَلُونَ) ه (السُّحْتَ) ط (يَصْنَعُونَ) ه (مَغْلُولَةٌ) ط وقيل : لا وقف ليتصل قوله : (غُلَّتْ) وهو جزاء قولهم (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ). (بِما قالُوا) م لئلا يوهم أن قوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) مفعول (قالُوا). (مَبْسُوطَتانِ) ط لأن قوله : (يُنْفِقُ) من مقصود الكلام فلا يستأنف. (كَيْفَ يَشاءُ) ط (وَكُفْراً) ط (يَوْمِ الْقِيامَةِ) ط (أَطْفَأَهَا اللهُ) لا قال السجاوندي : لأن الواو للحال أي وهم يسعون وفيه نظر. (فَساداً) ط (الْمُفْسِدِينَ) ه (النَّعِيمِ) ه (أَرْجُلِهِمْ) ط (مُقْتَصِدَةٌ) ط (يَعْمَلُونَ) ه (مِنْ رَبِّكَ) ط (رِسالَتَهُ) ط (مِنَ النَّاسِ) ط (الْكافِرِينَ) ه (مِنْ رَبِّكُمْ) ط (وَكُفْراً) ج لاختلاف النظم مع فاء التعقيب. (الْكافِرِينَ) ه (يَحْزَنُونَ) ه.

التفسير : لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا قال لهم : ما الذي تنقمون من أهل هذا الدين. نقمت على الجل أنقم بالكسر ، إذا عتبت عليه ، ونقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضا إذا كرهته وأنكرته. وسمى العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلّا الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وليس هذا مما يوجب عتبا وعيبا لأن الإيمان بالله رأس جميع الطاعات ، وأما الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع الأنبياء عليهم‌السلام فهو الحق الذي لا محيد عنه لأن الطريق إلى تصديق الأنبياء هو المعجز وأنه حاصل في الكل فلا وجه للإيمان ببعض والكفر ببعض. ثم عطف عليه : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) والمراد ما تنقمون منا إلّا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم كأنه قيل : ما تنكرون منا إلّا مخالفتكم فآمنا وما فسقنا مثلكم. وفيه من حسن الازدواج والطباق ما فيه كقول القائل : هل تنقم مني إلّا أني عفيف وأنك فاجر. ويجوز أن يعطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم خارجون عن الدين ، ويجوز أن تكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنكرون منا إلّا الإيمان مع فسقكم لأن أحد الخصمين إذا كان مكتسبا للصفات

٦١٠

الحميدة مع اتصاف الآخر بالصفات الذميمة كان ذلك أشد تأثيرا في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم. ويحتمل أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل فسقكم ، ومن هنا قال الحسن في تفسيره : بفسقكم نقمتم ذلك علينا. ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف يدل عليه ما قبله أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون ، أو يرتفع بالابتداء والخبر محذوف أي وفسقكم ثابت محقق عندكم إلا أن حب الجاه والمال يدعوكم إلى عدم الإنصاف. وإنما خص الأكثر بالفسق مع أن اليهود كلهم فساق تعريضا بأحبارهم ورؤسائهم الطالبين للرياسة والمال والتقرب إلى الملوك. والمراد أن أكثرهم في دينهم فساق لا عدول ، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه أو ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك. قال ابن عباس : أتى نفر من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : أؤمن بالله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) [البقرة : ١٣٦] إلى قوله (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرا من دينكم ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) يعني المتقدم وهو الإيمان ، ولا بدّ من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله و (مَثُوبَةً) نصب على التمييز من (شَرٌّ) وهي من المصادر التي جاءت على «مفعول» كالميسور والمجلود ومثلها المشورة ، وقرىء مثوبة كما يقال مشورة والمثوبة ضدّ العقوبة. واستعمال أحد الضدّين مكان الآخر مجاز رخصه إرادة التهكم مثل : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] وقد أخرج الكلام هاهنا على حسب قولهم واعتقادهم وإلّا فلا شركة بين المسلمين وبين اليهود في أصل العقوبة حتى يقال إن عقوبة أحد الفريقين شر ، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شر فقيل لهم : هب أن الأمر كذلك ولكن لعن الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك. قال المفسرون : عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى عليه‌السلام. ويروى أن كلا المسخين كان في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير ، ولهذا كان المسلمون يعيرون اليهود بعد نزول الآية ويقولون : يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم. أما قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فقد ذكر في الكشاف فيه أنواعا من القراءة لا مزيد فائدة في تعدادها لشذوذها إلّا قراءة حمزة ، والوجه فيه أن العبد بمعنى العبد إلّا أنه بناء مبالغة كقولهم : رجل حذر وفطن البليغ في الحذر والفطنة. قال الشاعر :

أبني لبيني إن أمكم

أمة وإن أباكم عبد

٦١١

أبني لبيني لستم بيد

إلّا يدا ليست لها عضد

وقيل : هما لغتان مثل سبع وسبع. وقيل : إن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر إلا أنهم استثقلوا الضمتين فأبدلت الأولى فتحة. وقيل : أرادوا أعبد الطاغوت مثل : فلس وأفلس إلا أنه حذف الألف وضم الباء لئلا يشبه الفعل. والطاغوت هاهنا قيل : هو العجل. وقيل : هو الأحبار. والظاهر أنه كل ما عبد من دون الله ، وكل من أطاع أحدا في معصية فقد عبده. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الكفر بجعل الله تعالى. وقالت المعتزلة : معنى هذا الجعل أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] أو أنه خذلهم حتى عبدوها. (أُولئِكَ) الملعونون الممسوخون (شَرٌّ مَكاناً) من المؤمنين. قال ابن عباس : إن مكانهم سقر ولا مكان شر منه. وقال علماء البيان : هو من باب الكناية لأنه ذكر المكان وأريد أهله الذي هو ملزوم المكان. (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) قصده ووسطه. كان ناس من اليهود يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبره الله بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا لم يؤثر فيهم شيء من النصيحة والموعظة قط. وقوله : (بِالْكُفْرِ) وبه حالان أي ملتبسين بالكفر ، وكذلك قوله : (وَقَدْ دَخَلُوا وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) ولذلك دخلت «قد» تقريبا للماضي من الحال ، وليفيد التوقع أيضا. وذلك أن أمارات النفاق كانت لائحة على صفحات أحوالهم فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوقعا لإظهار الله أسرارهم. والعامل في هذه الحال قالوا : وفي الأولى : (دَخَلُوا) و (خَرَجُوا) أي قالوا آمنا وحالهم أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وإنما ذكر عند الخروج كلمة «هم» لتأكيد إضافة الكفر إليهم. ونفى أن يكون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم ما يوجب كفرا فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر ، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم. وهاهنا استدل المعتزلي على صحة مذهبه أن الكفر من العبد لا من الله ولكنه معارض بالعلم والداعي. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) فيه أن حسدهم وخبثهم لا يحيط به إلا الله فما أعظم ذلك وأبلغ. الإثم الكذب كقوله بعد : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) والعدوان الظلم وقيل : الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. وقيل : الإثم كلمة الشرك قولهم عزير ابن الله. وفي الآية فوائد منها : ذكر كثير لأن كلهم كان لا يفعل ذلك إذ بعضهم يستحيي فيترك. ومنها أن المسارعة إنما تليق بالخيرات وإنهم كانوا يستعملونها في المنكرات. ومنها أن الإثم يتناول جميع المعاصي فذكر بعده العدوان وأكل السحت ليدل على أنهما أعظم أنواع الإثم والكلام في معنى السحت. وفي تفسير الربانيين والأحبار قد مر في السورة عن قريب. وقال

٦١٢

الحسن : الربانيون علماء الإنجيل ، والأحبار علماء التوراة. وإنما قال هاهنا : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) وفي الأول (يَعْمَلُونَ) لأن الصنع أرسخ من العمل فلا يسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة إلا إذا تمكن فيه وتدرب وينسب إليه فكان ذنب العلماء إذا تركوا النهي عن المنكر أشد وأعظم وأثبت وأرسخ. وتحقيقه أن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وصفاته وأحكامه ، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة كالمرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال. وعن ابن عباس : هي أشد آية في القرآن. وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها. (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) قيل : في هذه الآية إشكال لأن اليهود مطبقون على أنا لا نقول ذلك ، كيف وبطلانه معلوم بالضرورة لأن الله اسم لموجود قديم قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه ، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته قاصرة. والجواب أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه فلا بد من تصحيح هذا النقل عنهم ، فلعل القوم قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قالوا من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين ، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غاية الفقر والضر قالوا : إن إله محمد كذلك. وقال الحسن : أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياما معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب. وقيل : لعلهم كانوا على مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالى موجب لذاته ، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره على غير ذلك النسق بغل اليد. وقال المفسرون : كان اليهود أكثر الناس مالا وثروة ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا : يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة النعت بالبخل ، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ. وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه ، فأطلقوا اسم السبب على المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد سبط البنان رطب الأنامل ، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل ، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع : ما أبسط يده بالنوال. وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد :

قد أصبحت بيد الشمال زمامها

٦١٣

فجازاهم الله تعالى بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم ، دعا به عليهم تعليما لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٩] وكما علمهم الدعاء على المنافقين في قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] وعلى أبي لهب في قوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة أو إخبارا. قال الحسن : يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز. وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره. (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) قال الحسن : عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقي الناس كان قد سمع بهذه الآية ، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين ، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال : أين هذه الآية يعني قوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) فأروه إياها فمحاها ، فلم يمض أسبوع إلّا وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله. ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة ـ وهو ظاهر ـ وعلى النعمة. يقال : لفلان عندي يد أشكرها له. وعلى القوة مثل : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) [ص : ٤٥] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا. والمعنى سلب كمال القدرة. وعلى الملك تقول : هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى : (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [البقرة : ٢٣٧] وقد يراد به شدة العناية قال : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ويقال : يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئا. ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافا للمجسمة ، وأما سائر المعاني فلا بأس بها. وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله. وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠]. وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية ، وبإثبات الأيدي أخرى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١] ووجه التوحيد والجمع ظاهر. وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله ، أو

٦١٤

المراد نعمة الدين نعمة الدنيا ، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن ، أو نعمة النفع ونعمة الدفع ، أو نعمته على أهل اليمين ونعمته على أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء ، أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو : لبيك وسعديك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وإسعادا بعد إسعاد. ثم أكد الوصف بالقدرة والسخاء فقال : (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) وفيه أنه لا ينفق إلّا على مقتضى الحكمة وقانون العدالة وعلى حسب المشيئة والإرادة ، لا مانع له ولا مكره فمن أوجب عليه شيئا أو اعترض على فعل من أفعاله فقد نازعه في ملكه وحجر تصرفه وقيد وغل ونسبه إلى ما لا يليق به. (وَلَيَزِيدَنَ) جواب قسم محذوف (كَثِيراً مِنْهُمْ) يعني علماء اليهود (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من القرآن والحجج (طُغْياناً وَكُفْراً) مجاوزة في الحد وغلوا في الإنكار لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرها (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) بين اليهود والنصارى ـ قاله مجاهد والحسن ـ أو فيما بين اليهود (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) لا تأتلف كلمتهم ولا تتساعد أفئدتهم ، فمن اليهود جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، ومن النصارى ملكانية ونسطورية ، وكل ذلك الاختلاف يوجب السخط واللعن بخلاف هذه الأمة فإن اختلافهم رحمة ولتفرق أهوائهم وتشعب آرائهم (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) فلا يهمون بأمر من الأمور إلّا وقد رجعوا بخفي حنين. وقيل : كلما حاربوا رسول الله غلبوا. وعن قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلّا وجدتهم أذل الناس (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) يستخفون كيدا للإسلام وذويه (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فلا ينجح لهم كيد ولا ينتج لهم سعي. قيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليم المسلمين إلى يوم القيامة. ثم لما بالغ في تهجين سيرتهم ذكر أنهم مع ما عدّد من مساويهم لو آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به واتقوا المنكرات التي كانوا يأتونها لتكون توبتهم نصوحا (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ) تلك السيئات سترناها عليهم (وَلَأَدْخَلْناهُمْ) مع المسلمين (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) من النعم خلاف البؤس أي نعيم صاحبها فما أوسع رحمة الله تعالى وما أعظم عفوه وغفرانه (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) عملوا بما فيهما من الوفاء بعهود الله تعالى ومن الإقرار بنبوّة نبي آخر الزمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو حافظوا على أحكامهما وحدودهما ، أو أقاموهما نصب أعينهم لئلا ينسوا ما فيهما من التكاليف. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني القرآن أو سائر الكتب الإلهية كصحف إبراهيم وزبور داود وكتاب شعيا وحيقوق ودانيال فإن كلها مشحونة من البشارة بمبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها. (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي ينزل عليهم بركات السماء وبركات الأرض ، أو يكثر لهم الأشجار

٦١٥

المثمرة والزروع المغلة ، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تناثر على وجه الأرض. ويحتمل أن يراد به المبالغة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقا أو تحتا أي لأكلوا أكلا كثيرا متصلا ، ويشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم. والحاصل أنه سبحانه وعدهم سعادة الدارين بشرط الإيمان بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقدم السعادة الأخروية بقسميها وهما دفع العذاب وإيصال الثواب لشرفها. ثم فصل حالهم فقال : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) طائفة متوسطة في الغلو والتقصير ، وذلك أن من عرف مقصوده فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب بخلاف من لا مقصد له فإنه يذهب متحيرا يمينا وشمالا ، فجعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ومن هم فيه قولان : أحدهما الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم ولا يوجد فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة ، والثاني هم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) فيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أسوأ عملهم لكونهم أجلافا متعصبين لا ينجع فيهم القول ولا يؤثر فيهم الدليل قيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.

ثم أمر رسوله بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة المعاندين ولا يتخوف مكروههم فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في فضل علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وكرم الله وجهه يوم غدير خم ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده وقال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فلقيه عمر وقال : هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نام في بعض أسفاره تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال : يا محمد ، من يمنعك مني؟ فقال : الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ونزل : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وقيل : لما نزلت آية التخيير : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) [الأحزاب : ٢٨] فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا نزلت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) وقيل : نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش. وقيل : لما نزل (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأنعام : ١٠٨] سكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عيب آلهتهم فنزلت. أي بلغ معايب آلهتهم ولا تخفها. وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بين الشرائع والمناسك في حجة الوداع. قال : هل بلغت؟ قالوا : نعم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم اشهد فنزلت. وقيل : نزلت في قصة

٦١٦

الرجم والقصاص المذكورتين. وقال الحسن : إن نبي الله قال : لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني واليهود والنصارى وقريش يخوفونني فنزلت الآية فزال الخوف. وقالت عائشة : سهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة فقلت : يا رسول الله ما شأنك؟ قال : ألا رجل صالح يحرسني الليلة. قالت : فبينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال : من هذا؟ قال سعد وحذيفة : جئنا نحرسك. فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سمعت غطيطه فنزلت هذه الآية ، فأخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه من قبة أدم فقال : انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله. وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية. فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسونه فقال : يا عماه إن الله تعالى قد عصمني من الجن والإنس. ومعنى قوله : (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ما أمرتك به كما أمرتك به (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) من قرأ على الوحدة فلأنّ القرآن كله رسالة واحدة ، أو لأن الرسالة اسم المصدر فيقع على الواحد وعلى الجمع. ومن جمع فلأن كل آية أو حكم رسالة. فإن قيل : معنى قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) إن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته فما وجه صحته؟ فالجواب أن هذا جار على طريق التهديد والمراد إن لم تبلغ منها أدنى شيء فأنت كمن لم يبلغ شيئا لأن أداء بعضها ليس أولى من أداء البعض الآخر كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها. أو المراد إن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بعثني الله برسالاته وضقت بها ذرعا فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت. فإن قيل : أين ضمان العصمة وقد جرى عليه يوم أحد ما جرى؟ فالجواب أن الآية نزلت بعد يوم أحد. أو المراد أنه يعصمه من القتل وعليه أن يحتمل كل ما دون النفس والناس الكفار لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يمكنهم مما يريدون. ثم لما أمره بتبليغ أي شيء كان طاب للسامع أو ثقل عليه أمره أن يقول لأهل الكتاب : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي على دين يعتد به كما تقول : هذا ليس بشيء تريد تحقير شأنه ، وباقي الآية مكرر للتأكيد. ومعنى (فَلا تَأْسَ) لا تأسف ولا تحزن عليهم بسبب زيادة طغيانهم فإن وبال ذلك عائد عليهم ، أو لا تأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك. يقال : آسى على مصيبته يأسى أسى أي حزن. ثم لما بين أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيّن أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد منقبة ولا سعادة إلّا إذا آمن وعمل صالحا ، وذلك أن كمال القوة النظرية لا يحصل إلّا بمعرفة المبدأ والمعاد ـ أعني

٦١٧

الإيمان بالله واليوم الآخر ـ وكمال القوة العملية إنما يحصل بتعظيم المعبود والشفقة على المخلوق ـ أعني العمل الصالح ـ وغاية هذا الكمال الخلاص من الخوف مما يستقبل ومن الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة إلّا أنه بقي هاهنا بحث لفظيّ وهو أن قوله : (وَالصَّابِئُونَ) عطف على ماذا؟ فقال الكوفيون : إنه معطوف على محل (الَّذِينَ) لأن اسم «إن» إذا كان مبنيا جاز العطف على محله ، وإن كان قبل ذكر الخبر فيجوز : إنك وزيد ذاهبان. وإن لم يجز إن زيدا وعمرو قائمان. وذهب البصريون إلى عدم جواز ذلك مطلقا لأنه يؤدي إلى إعمال «إنّ» وإعمال معنى الابتداء معا في «قائمان» فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان وإنه محال. فإذن (الصَّابِئُونَ) مرفوع بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك ، فتكون هذه جملة معطوفة على جملة قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخره ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها ، وفائدة هذا التقديم التنبيه على أن التوبة مقبولة البتة ، وذلك أن الصابئين بين هؤلاء المعدودين ضلال لأنهم صبؤا عن الأديان كلها أي خرجوا فكأنه قال : كل هؤلاء الفرق إذا أتوا بالإيمان والعمل الصالح قبلت توبتهم حتى الصابئون ولو قيل : والصابئين لم يكن من التقديم في شيء لأنه ثابت في مركزه الأصلي وإنما تطلب فائدة التقديم للمزال عن موضعه والراجع إلى اسم «إن» محذوف والتقدير من آمن منهم كما في البقرة والله أعلم.

التأويل : شر الفريقين من جعله الله مستعدا لقبول فيض القهر من اللعن والغضب ، وجعل صفة الفردية والخنزيرية أعني الحيلة والحرص والشهوة من بعض خصائصهم. (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) من القردة والخنازير لأن القردة والخنازير لا استعداد لهم وهؤلاء قد أبطلوا استعدادهم الفطري ومثله : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] ولهذا دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. الربانيون مشايخ الطريقة والأحبار علماء الشريعة. (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) كانت أيديهم من إصابة الخير مغلولة ومشامهم عن تنسم روائح الصدق مزكومة فلهذا قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) وكل إناء يرشح بما فيه. ولكن الذي أدركته العناية الأزلية وسلبت عنه صفات الظلومية والجهولية صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء» (١) بيدي اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإحسان ، وعلى

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ١١ باب ٢. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٣٦ ، ٣٧. الترمذي

٦١٨

الكافرين من الغواية والخذلان. (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) فلا يوجد أحد إلّا وبينه وبين صاحبه بغض إلى أن يتوارثوا بطنا بعد بطن. ولو أن أهل العلوم الظاهرة آمنوا بالعلوم الباطنة واتقوا الإنكار والاعتراض ، ولو أنهم عملوا بمتفقات الكتب المنزلة ومستحسناتها (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) ورزقوا من الواردات الروحانية (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إلى أعلى مقاماتهم. من العلماء الظاهريين أمة مقتصدة إن لم تكن سابقة بالخيرات ، والمقتصد هو العالم المتقي والمريد الصادق دون السابق وهو الواصل الكامل العالم الرباني. (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يندرج تحته الوحي والإلهامات والمنامات والوقائع والواردات والمشاهدات والكشوف والأنوار والأسرار والأخلاق والمواهب والحقائق ومعاني النبوّة والرسالة. فالرسول إن لم يبلغ بعض هذه الحقائق إلى العباد لم يمكنهم الوصول إلى الله فلا يحصل مقصود ما أرسل به فلم يبلغ رسالته إلّا أن للتبليغ مراتب كما أنزل إليه. فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالتأديب وتبليغ بالتعليم وتبليغ بالتزكية وتبليغ بالتحلية وتبليغ بالهمة وتبليغ بجذبات الولاية وتبليغ بقوة النبوة والرسالة وتبليغ بالشفاعة. وللخلق أيضا مراتب في قبول الدعوة بحسب الاستعدادات المختلفة (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧] (وَاللهُ يَعْصِمُكَ) بأوصاف لاهوتيته عن أوصاف ناسوتيتك لتتصرف في الخلق بقوة اللاهوتية فتوصلهم إلى الله ولا يتصرفون فيك فيقطعوك عن الله. يا أرباب العلوم الظاهرة لستم على شيء من حقيقة الدين حتى تزينوا ظاهركم وباطنكم بالأعمال والأحوال الواردة في الكتب الإلهية وذلك بمقدمتين وأربع نتائج. فالمقدمتان : الجذبة الإلهية ونتيجتها الإعراض عن الدنيا والتوجه إلى المولى ، ثم تربية الشيخ ونتيجتها تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتحلية القلب بالأخلاق الفاضلة والله حسبي ونعم الوكيل.

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ

__________________

ـ في كتاب تفسير سورة المائدة باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٣١٢).

٦١٩

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))

القراءات : (أَلَّا تَكُونَ) بالرفع : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف غير سهل وحفص وأبي بكر وحماد. الباقون بالنصب.

الوقوف : (رُسُلاً) ط (أَنْفُسُهُمْ) لا لأن عامل (كُلَّما) قوله (كَذَّبُوا يَقْتُلُونَ) ه (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ط (بِما يَعْمَلُونَ) ه (ابْنُ مَرْيَمَ) ط (وَرَبَّكُمْ) ط (النَّارُ) ط (مِنْ أَنْصارٍ) ه (ثَلاثَةٍ) لا لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار (واحِدٌ) ط (أَلِيمٌ) ه (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) ط والوصل أيضا حسن بناء على أن الواو للحال أي هلا يستغفرونه وهو غفور (رَحِيمٌ) ه (رَسُولٌ) ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف (الرُّسُلُ) ط لأن الواو للاستئناف لا للعطف (صِدِّيقَةٌ) ط لأن ما بعده لا يصلح للصفة لأن الضمير في (كانا) مثنى (الطَّعامَ) ط (يُؤْفَكُونَ) ه (وَلا نَفْعاً) ط والوصل يحسن على أن الواو للحال أي يعبدون ما لا ينفع ولا يضر والحال أن الله يسمع دعاء المضطر ويعلم رجاء المعتر (الْعَلِيمُ) ه (السَّبِيلِ) ه (ابْنِ مَرْيَمَ) ط (يَعْتَدُونَ) ه (فَعَلُوهُ) ط (يَفْعَلُونَ) ه (كَفَرُوا) ط (خالِدُونَ) ه (فاسِقُونَ) ه (أَشْرَكُوا) ج لطول الكلام والفصل بين الوصفين المتضادين (نَصارى) ط (لا يَسْتَكْبِرُونَ) ه (مِنَ الْحَقِ) ج لاحتمال ما يتلوه الحال والاستئناف (الشَّاهِدِينَ) ه (مِنَ الْحَقِ) لا لأن الواو بعده للحال. (الصَّالِحِينَ) ه (خالِدِينَ فِيها) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه (الْجَحِيمِ) ه.

٦٢٠