زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

للمشاكلة بدل للمزاوجة ، وكانّ مراده بها هنا المشاكلة والحقّ عدم الاحتياج إلى عذر ، لأنّ ما وقع على الثاني عقاب له ومؤلم ، فسمّي به لذلك ، فهو مساو في الأوّل والثاني وهو ظاهر كما هو معناه فانّ المعنى : فإن أردتم معاقبة غيركم على وجه المجازات والمكافاة في النفس والطرف والمال ، فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به ولا تزيدوا عليه ولا تجاوزوا عن المثل المحدود ، من جميع الوجوه.

ومثل هذه الآية قوله تعالى (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (١) أي يبغضهم وهنا يمكن الاحتياج إلى العذر لتسمية الجزاء سيّئة مع أنّه يمكن أن يقال المراد المعنى اللّغويّ وهو حاصل بالنسبة إلى من يفعل به وباعتقاده ، فلا يحتاج ههنا (وَأَصْلَحَ) هذه مثل الّتي بعد التوبة «وعمل صالحا» فيمكن أن يكون تأكيدا للعفو بأن يكون عفوا حسنا مستديما غير ناكث له وعلى وجه حسن لا أذى معه ولا منّة.

وفيهما دلالة على جواز أخذ الحقّ من القصاص وغيره ، من غير إذن حاكم وشهود ، فلا يشترط الحاكم فيه كما قال به بعض ومنه المقاصّة في محلّها كما ذكره الأصحاب وأنّ العفو وعدم المكافاة أحسن وأولى وأكثر أجرا فينبغي اختياره إذ ليس في المكافاة إلّا تسلية النفس ، وإطفاه حرارتها ، بخلاف العفو فانّ فيه أجرا عظيما لا يعلمه إلّا الله ، فإنّه أبهم وأسند إلى الله تعالى وهو ظاهر ، وتحريم التعدّي والتجاوز عن الحدّ وظاهرهما عامّ في كلّ حقّ.

قال في مجمع البيان : إنّ الآية عامّة في كلّ ظلم كغصب ونحوه فإنّما يجازى بمثل ما عمل (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) أي تركتم المكافاة والمجازات والقصاص وتجرّعتم مرارة الصبر (لَهُوَ خَيْرٌ) وأحسن لكم منها أيّها الصابرون ، وفيه إشارة إلى أنّ أجر حسن العفو وثوابه يحصّل أجر الصّابرين أيضا الّذي هو بغير حساب. لمّا مثّلوا قتلي أحد كحمزة بن عبد المطّلب فشقّوا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة كبده ، فجعلت تلوكه وجذعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره ، قال المسلمون لئن أمكننا الله منهم

__________________

(١) الشورى : ٤٠.

٦٨١

لنمثّلنّ بالأحياء منهم فضلا عن الأموات ، فنزلت وفي هذا السبب تأمّل ، وعلى تقديره لا يخرج عن العموم كما هو المقرّر فتأمّل.

(وَاصْبِرْ) يا محمّد فيما يبلغك من الكفّار ودعوتهم وفيما تلقاه من الأذى منهم ، واصبر على ما يحثّ عليه من الطّاعات وعلى ما يحثّ عنه من المعاصي والقبائح (وَما صَبْرُكَ) وليس صبرك (إِلَّا بِاللهِ) بتوفيقه وأمره وأقداره وتيسيره ، فلا يكون ضائعا بل موجبا للأجر العظيم (وَلا تَحْزَنْ) على المشركين في إعراضهم عنك وعدم إيمانهم وبقائهم على الكفر الموجب لدخول النار وسخط الله ، وقيل : ولا تحزن على قتلي أحد حمزة وغيره فإنّهم أدركوا القرب إلى الله وثوابه وأجره والرتبة العظيمة عنده للشهادة (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا يك صدرك في ضيق ممّا يمكر بك وبأصحابك الكفّار ، فانّ الله يردّ كيدهم في نحورهم ويجازيهم بأعمالهم.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي إنّه مع المتّقين عن الشرك وسائر المعاصي والفواحش والكبائر بالنصر والحفظ والكلاءة (وَ) مع (الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) قيل الاتّقاء عن المعاصي والحسن فيما فرضه الله عليهم من الطاعات.

وفيها دلالة على أجر الصبر ، وعدم الحزن على ما يصل إلى الكفّار أو إلينا منهم ، والصبر على التقوى وحسنها ، وحسن الإحسان وحسن حال المحسنين ، وفي قوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) دلالة على عدم جواز مؤاخذة أحد بذنب آخر وأخذ شيء بسبب فعل شخص آخر إلّا ما استثني بالنصّ والإجماع ، مثل مؤاخذة العاقلة بفعل غيرها.

٦٨٢

(كتاب)

(القضاء والشهادات)

وفيه آيات :

الاولى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) (١).

أمر له صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحكم بين أحبار اليهود بما أنزل الله وعدم متابعة هو أهم فيجب علينا ذلك.

الثانية : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢) أي لا يزعموا أن الايمان يحصل بمجرّد اللّسان مع المخالفة بالقلب وعدم الرضا بحكمه ، إذا لم يوافق طباعهم ، والتحاكم إلى الطاغوت. اقسم بربّك أنّه ليس كذلك ، إنّهم لا يؤمنون حقيقة حقّ الايمان (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) حتّى يجعلونك حاكما لا غيرك فيما وجد بينهم من المخالفة في أمورهم ، (ثُمَ) إذا حكمت بينهم بشيء من الحقّ (لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) ضيقا وشكّا في أنّه الحقّ (مِمَّا قَضَيْتَ) ممّا حكمت به (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وينقادوا لك انقيادا تامّا من غير أن يشوبه شكّ وحرج وضيق خلق وعدم رضا ، فانّ ذلك عدم الايمان.

ففي هذه الآية الشريفة كمال المبالغة في الرضا بالحقّ ، وعدم إنكاره وعدم التضجّر به وأنّ ذلك مناف للايمان ، وأنّه ليس مخصوصا بحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بل الحكم الحقّ بل إنكار كلّ حكم عالم بحقّ أي عالم كان ، هو نفس إنكار حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ظاهر.

الثالثة : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٣) كانّ المراد مستهينا به. ومنكرا له ومستخفّا به (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) لاستحفافهم بالشرع ، وإنكارهم الضروريّ

__________________

(١) ص : ٢٦.

(٢) النساء : ٦٥.

(٣) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

٦٨٣

من الدين وبدون القيد (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لحكمهم بخلاف الحقّ «و (الْفاسِقُونَ)» لخروجهم عن الشرع.

الرابعة : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (١) أمر الله تعالى الحكّام أن يحكموا بالعدل ، فتدلّ على وجوب العدل بين الناس في الحكم صريحا.

الخامسة : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٢).

الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والكتاب هو القرآن «وبالحقّ» حال متعلّق بمتلبّسا وبما أراك الله أي أعلمك الله إيّاه بالوحي ، فهو من الرؤية بمعنى العلم لا الرأي والقياس ، فلا يدلّ على جواز القياس والاجتهاد له بل يدلّ على نفيه ، ويدلّ أيضا على عدم جواز معاونة المتخاصمين المتحاكمين ، فيأخذ جانب أحدهما ويصير خصما للآخر أو يعلّمه ما يغلب به على خصمه ، ونحو ذلك.

السادسة : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (٣).

كأنّه تخيير للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمن يقوم مقامه من الإمام والقاضي ، إن تحاكم إليهم الكفّار ، بين أن يحكموا بينهم بالعدل ، الّذي هو الحقّ في نفس الأمر ، وهو مقتضى الإسلام ، وبين أن يعرضوا عنهم بأن يحيلوهم إلى حكّامهم يحكمون بينهم بمقتضى شرعهم إن كان في شرعهم فيه حكم كما ذكر أصحابنا.

قال القاضي : تخيير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا تحاكموا إليه بين الحكم والاعراض ولهذا قيل : لو تحاكم الكتابيّان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم وهو قول الشافعيّ والأصحّ وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميّا لأنّا التزمنا الذبّ عنهم ودفع الظلم منهم ، والآية ليست في أهل الذمّة ، وفيه تأمّل لأنّ ظاهر الآية في أهل الذمّة

__________________

(١) النساء : ٥٨.

(٢) النساء : ١٠٥.

(٣) المائدة : ٤٢.

٦٨٤

لقوله فيما سبق هذه (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) الآية وما بعدها (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) وأيضا الظاهر أنّ دفع الظلم واجب سواء التزمنا الذبّ أم لا عن المسلم والكافر كتابيّا كان أو غيره ، وأيضا لا ظلم على ما حملناه عليه ، فلعلّ القول الأوّل للشافعيّ هو قول أصحابنا.

ويدلّ على نهي الحكّام بل المكلّف أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويداهنوا فيها فيترك ذلك خشية [ظلمهم ومراقبة كبيرهم] قوله تعالى (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (١) ولكنّ الظاهر أنّه خرج منه التقيّة في موضعها بإجماع الأصحاب وأخبارهم.

وأيضا نهى عن الرشوة قوله (وَلا تَشْتَرُوا) (٢) أي لا تستبدلوا (بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) وإن كان ملك الدنيا فإنّه قليل بالنسبة إلى الآخرة.

السابعة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٣).

لمّا أمر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الحكّام بأداء الأمانات إلى أهلها منها الإمامة والخلافة إذا كانت بيد غير أهلها وبالحكم بالعدل بين الناس ، وعدم الظلم والجور بقوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) الآية ، أمر الناس والرعيّة بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم وفي اولي الأمر خلاف قيل العلماء والمجتهدون وقيل أمراء المسلمين والحكّام ، وإن كانوا جائرين ، وذلك هو المشهور بين أهل السنّة ، فهم يوجبون طاعة حكّام الجور وإن كانوا فسّاقا غير عدول ، بل يكونون في غاية الفسق والفجور ، ولا يشترطون غير الإسلام كما يوجبون طاعة الله وطاعة رسوله.

__________________

(١) المائدة : ٤٤.

(٢) البقرة : ٤١.

(٣) النساء : ٥٩.

٦٨٥

وفيه نظر واضح وفسادها ظاهر ، كيف يأمر الله بطاعة الفسّاق ويجعل طاعتهم مثل طاعته وطاعة رسوله ، مع أنّه أمر أوّلا بأداء الأمانة ، والحكم بالعدل ، والمباينة الكلّيّة بينهم وبين الله ورسوله ، ونهى عن سماع خبر الفاسق بقوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية وأوجب مهاجرتهم في الآيات والأخبار والإجماع وتوعّد الظالم نار جهنّم ، وذمّه كثيرا حتّى قليلا مّا يوجد صفحة في المصحف الشريف خالية عنه ، ويبالغ في ذلك حتّى جعل الميل القليل إليه موجبا لمسّ النار بقوله (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) مع اشتراط العلماء العصمة في الأنبياء حال النبوّة والعدالة في الشهود والحاكم والمفتي في مسئلة واحدة ، بل في إمام الجماعة كما صرّح به في الكشّاف في تفسير قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) الآية ولأنّ حكّام الجور كثيرون ، فقد يختلفون فمتابعة أيّهم يجب ولأنّه يجب على الرعيّة منعهم إذا ارتكبوا منكرا وتركوا معروفا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكيف تجب متابعتهم.

ولأنّ الّذي يأمرون به إن كان ممّا أن يؤمر فلا خصوصيّة له بهم وإلّا لم يجب متابعتهم وهو ظاهر وبالجملة فساد هذا القول أوضح من أن يذكر.

قال في الكشّاف : المراد بأولى الأمر منكم أمراء الحقّ لأنّ أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم ، وإنّما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار مرّ العدل واختيار الحقّ والأمر بهما والنهي عن أضدادهما إلى قوله وقد جنح أي جعل له جناح الأمر بطاعة اولي الأمر ممّا لا يبقى معه شكّ وهو أن أمرهم أوّلا بأداء الأمانات ، وبالعدل في الحكم وأمرهم آخرا بالرجوع إلى الكتاب والسنّة فيما أشكل ، وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بالعدل ولا يردّون شيئا إلى كتاب ولا إلى سنّة ، وإنّما يتّبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم ، فهم منسلخون عن صفات الّذين هم اولي الأمر عند الله وعند رسوله ، وأحقّ أسمائهم اللصوص المتغلّبة.

وقد بالغ أيضا في ذمّ حكّام الجور وعدم استحقاقهم الحكم ، ووجوب الطاعة

٦٨٦

في مواضع مثل تفسير قوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) حتّى نقل عن أبي حنيفة أنّه قال لو دعاني ظالم مثل اللصّ المتغلّب المنصور الدوانقىّ إلى عدّ آجر لبناء مسجد أراد بناءه لما أجبته ، وهذا منقول في التهذيب عن الصّادق عليه‌السلام.

وقال في مجمع البيان : أمّا أصحابنا فقد رووا عن الباقر عليه‌السلام أنّ اولي الأمر الأئمّة المعصومين وآل محمّد أوجب الله طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبت عصمته وعلم أنّ باطنه كظاهره ، وأمن من الغلط والأمر بالقبيح ، وليس ذلك بحاصل في العلماء والأمراء وجلّ الله سبحانه وتعالى عن أن يأمر بطاعة من يعصيه ، أو بالانقياد للمختلفين بالقول والفعل.

والحاصل : بطلان غير هذا القول ظاهر ، والدليل عليه من العقل والنقل والأخبار خصوصا من طرق أهل البيت عليهم‌السلام كثيرة جدّا وممّا يؤيده أنّ الله ما قرن بينه وبين الرسول للتفاوت العظيم ، وقارن بين الرسول واولي الأمر للقرب ، فلا بدّ أن يكون بينهما قربا ولا قرب بين الرسول وبين غير أهل البيت عليهم‌السلام وهو ظاهر.

ثمّ اعلم أنّ في تعلّق الردّ إلى الله بالاختلاف ونحو ذلك ممّا يستفاد منه عدم الردّ والخلاف ، وعدم خفاء الحقّ مع الاجتماع دلالة على حجّية الإجماع ، وهو ظاهر ومسلّم لدخول المعصوم فتأمّل.

ثمّ أكّد الله تعالى على الرعيّة التسليم لحكم الله ورسوله بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (١) أي ألم تعلم يا محمّد أو ألم تعجب من صنع هؤلاء الّذين يزعمون أنّهم مؤمنون بما أنزل إليك من القرآن وبما انزل من قبلك من الكتب مثل التوراة والإنجيل ، ومع ذلك يريدون التحاكم إلى الطّاغوت وقد أمرناهم أن يكفروا بها في قوله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) (٢) يعني لا يمكن زعم الايمان وإرادة التحاكم إلى الطاغوت

__________________

(١) النساء : ٦٠.

(٢) البقرة : ٢٥٦.

٦٨٧

ففيه كمال المبالغة في المنافاة بين الايمان و [إرادة] التحاكم إلى الطاغوت.

وقد اختلف في معنى الطّاغوت قال في مجمع البيان وروى أصحابنا عن السيّدين الباقر والصّادق عليهما‌السلام أنّ المعنيّ بالطّاغوت كلّ من يتحاكم إليه ممّن يحكم بغير الحقّ ، ويريدون مفعول ثان لألم تر ، ويحتمل كونه حالا «ولم تر» بمعنى لم تنظر «وقد أمروا» جمليّة حاليّة فالآية دالّة على تحريم التحاكم بل كفره وكأنّه يريد مع اعتقاد الحقّية والعلم بتحريمه إلى حكّام الجور الّذين لا يجوز لهم الحكم سواء كان جاهلا أو عالما وفاسقا ، مؤمنا أو مخالفا يحكم له أو عليه ، أخذ أو لم يأخذ بل بمجرّد التحاكم والحكم ، سواء كان موافقا لنفس الأمر أم لا ، ويدلّ عليه الأخبار أيضا فليطلب من موضعه.

ولا يبعد كون أخذ الحقّ أو غيره بمعونة الظالم القادر يكون مثل التحاكم إلى الطاغوت ولا يكون مخصوصا بإثبات الحكم لوجود المعنى ، وإن كانت الآية مخصوصة به ، وله مزيد قبح فإنّه يرى أنّه أخذ بأمر نائب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه حقّ [التحاكم] والظاهر أنّ تلك المبالغة مخصوصة به.

وقد استثنى أكثر الأصحاب من ذلك صورة التعذّر بأن يكون الحقّ ثابتا بينه وبين الله ، ولا يمكن أخذه إلّا بالتحاكم إلى الطّاغوت وكأنّه للشهرة ، ودليل العقل والرواية ، ولكنّ الاحتياط في عدم ذلك للحلاف وعدم حجّية الشهرة وعدم استقلال العقل ، وظهور الرواية ، واحتمال اختصاص ذلك بعدم الحاكم بالحقّ مع إمكان الإثبات لو كان ، كما يشعر به بعض العبارات ، وأمّا إذا كان الحاكم موجودا بعيدا أو قريبا ولا يمكن الإثبات لعدم البيّنة ونحو ذلك ، ويكون منكرا فلا ، وإلّا انتفى فائدة التحاكم إلى الحقّ ونصب الحاكم ، فيكون لكلّ ذي حقّ أن يأخذ حقّه على أيّ وجه أمكنه بنفسه ، وبالظّالم ، وهو مشكل إذا كان المال أمرا كليّا غير معيّن ، كيف يجوز أخذه من المدّعى عليه ، بغير رضاه ، وبغير الثبوت عليه شرعا نعم لو كان عينا موجودة يمكن جواز أخذها له إن أمكن بغير مفسدة ويتحرّى ما هو الأقلّ مفسدة فتأمّل.

٦٨٨

وبالجملة لا يخرج عن ظاهر هذه الآية المحكمة إلّا بمثلها في الحجّيّة مع زيادة المبالغة بقوله (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ) إشارة إلى أنّ إرادة ذلك إرادة من الشيطان إضلالهم من الحقّ والهدى والايمان (ضَلالاً بَعِيداً) ثمّ بقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) بأنّ هؤلاء منافقون ، وليسوا بمؤمنين حقيقة ، وأنّهم إذا أمروا بالعمل إلى ما أنزل الله وإلى الرسول تراهم يعرضون عنه وعن المصير إليه ، وعن العمل بما أمروا من متابعته إلى غيره ممّا هو موافق لطبعهم ورأيهم.

ثمّ أكّد ذلك بقوله (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) أي فكيف صنع هؤلاء إذا نالتهم نكبة وعقوبة من الموت وغيره ، بسبب ما فعلوا من التحاكم إلى الطاغوت ، والنفاق وعدم الرضا بحكم النبيّ بينهم بالحقّ ، ثمّ جاؤا النبيّ يعتذرون إليه ويقسمون بالله أنّهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت إلّا إحسانا إلى النبيّ وهو التخفيف عنه ، وعدم تصديعه برفع الصوت والخصومة عنده وإلّا توفيقا بين الخصمين بالتماس واسطة يصلح بيننا دون الأخذ بالحكم المرّ الحقّ.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النّفاق وعند ذلك (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تعاقبهم بذلك النفاق والكذب بعد التحاكم (وَعِظْهُمْ) خوّفهم من العقوبات وعده هم بالثواب إن رجعوا وتابوا (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) خاليا بهم أو مؤثّرا في أنفسهم إن لم تعودوا تصبكم من المصائب أكثر وأعظم (قَوْلاً بَلِيغاً) ملائما موافقا للمطلوب ، يبلغ إلى أنفسهم ويؤثر فيها.

وفيها دلالة على نزول المصائب بالذنوب ، والحثّ على استعمال حسن الخلق والملايمة ، وعدم الخشونة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولو كان الفاعل كافرا مثل قوله لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ) أي لفرعون (قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) فيفهم كمال المبالغة في استعمال حسن الخلق وعدم الغلظة والغضب. ثمّ أشار فيما بعدها إلى أنّ الله تعالى ما يرسل رسولا إلّا ليطاع لا ليعصى ، ومع العصيان

٦٨٩

لو رجعوا (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) قابلا لتوبتهم وراحما لهم بعدم تعذيبهم بما صدر منهم.

ثمّ أكّد الرضا بالحكم الحقّ المرّ وعدم الميل إلى غيره بقوله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ) الآية.

الثانية عشر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (١).

الفسق الخروج عن الطاعة والحقّ ولعلّ المراد هنا ما يخرج به صاحبه عن العدالة فيكون المراد الكبيرة ، والنبإ الخبر ، وتنكيرهما يدلّ على العموم أي إذا جاءكم أيّها المؤمنون أيّ فاسق كان بأيّ خبر كان ، فتوقّفوا فيه وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقّ ولا تعتمدوا قول الفاسق ولا تعملوا به ، فإنّ الفسق مانع كراهة أن تصيبوا قوما جاهلين ، فتقبلوا كلامهم ، فتصيروا نادمين على ما فعلتم من قبول قولهم.

فقد ظهر تركيبها ومعناها ، ويمكن أن يستدلّ بمنطوقها على عدم جواز قبول خبر الفاسق فلا يجوز أن يقال صادق ولا كاذب لفسقه ، فخبر الواحد مقبول وبمفهومها على قبول خبر غير الفاسق ، فلا يشترط في قبول الخبر المروّة ونحو ذلك من عدم العداوة ولا التعدّد والقرابة والصداقة وعدم التهمة إلّا أن يثبت بدليل ، ويمكن أن يستدلّ أيضا على قبول خبر مع انضمام القرائن فيقبل الخبر المحفوف بالقرائن وعلى عدم قبول مجهول الحال إن جوّزت الواسطة بين الفاسق والعادل كما هو الظاهر : بأنّها تدلّ بظاهرها على أنّ الفسق مانع وعدمه شرط للقبول ، فما لم يعلم رفع المانع وتحقّق وجود الشرط لا يعمل به وهو ظاهر ، ولا يكفي أنّ الأصل عدم الفسق وظاهر حال المسلم ، وذلك لأنّه معارض بأصل عدم فعل الطاعات ، وأنّ الوقوع كثير وعدمه أكثر فلا يبقى الاعتماد فتأمّل.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٦٩٠

وقد استدلّ في الأصول والتفاسير بمفهومها مثل القاضي بأنّ تعليق الأمر بالتبيين على قول المخبر يقتضي جواز قبول قول العدل من حيث إنّ المعلّق على شيء عدم عند عدمه ، وذلك فرع حجّيّة المفهوم وفيه بحث في الأصول ، وأنّه بهذا الوجه يدلّ على قبول خبر مجهول الحال أيضا وهو ظاهر فتأمّل.

الثالثة عشر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (١) أمر سبحانه المؤمنين بمواظبتهم بالقسط أي العدل والجدّ والاجتهاد على إقامته (شُهَداءَ لِلَّهِ) خبر ثان لكونوا ، أو حال عن اسمها أي كونوا شهداء بالحقّ تقيمون شهاداتكم لوجهه ومرضاته وامتثال أمره ، ولا يكون منظورا لكم شيء سواء (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقرّوا عليها لأنّ الشهادة بيان الحقّ سواء كان على الشاهد أو على غيره (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي ولو كانت عليهم (إِنْ يَكُنْ) المشهود أو كلّ واحد منه ومن المشهود له (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) بالغنيّ والفقير ، وبالنظر في أمورهما ومعاشهما ، فلو لم يكن في الشهادة صلاح لهما لما شرّعها لهما ، فهو علّة الجزاء أقيم مقامه كما في قوله (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

هكذا في تفسير القاضي والكشّاف والظاهر أنّ ضمير «يكن» للمشهود عليه فقطّ لعدم ذكر المشهود له ، ودلالة السوق ، والمقصود أنّه لا بدّ من الشهادة إن كانت بالحقّ ولا يجوز تركها لجرّ نفع نفسه والترحّم والتعظيم للوالدين والأقربين فغيرهم بالطريق الأولى ، وملاحظة الفقر والغنى في أدائها ، وأنّه يشهد على الثاني للغنى دون الأوّل فإنّه وإن كان فقيرا فالله له كما هو للغنيّ ولو كان تركها أصلح له لم يكن يأمر بالشهادة عليه فلا فرق بين الغنيّ والفقير ، فإنّ الضرر والنفع بيد الله فكما هي تصلح على الغنيّ تصلح على الفقير أيضا لأنّ غناء الأوّل من الله ، فالله للفقير كما هو له.

ففي الآية دلالة على كمال المبالغة في وجوب الحكم بالعدل ، بل عدم فعل إلّا لله

__________________

(١) النساء : ١٣٥.

٦٩١

وفي وجوب الإقرار بما عليه ، وفي إقامة الشهادة لله ، وعلى جواز الشهادة على الوالدين بل وجوبها فمنع البعض بعيد ، وكذا يعلم وجوبها على المملوك والحرّ فيعلم جواز شهادته على سيّده أيضا بل وجوبها ، فالمنع هنا أيضا بعيد.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المقصود من الشهادة والأمر بها والإيجاب والمبالغة هو القبول فدلّت على قبول إقرار المؤمنين على أنفسهم كما هو مجمع عليه ، ومدلول الأخبار ، والظاهر أنّه لا قائل بالفرق ، فغيرهم كذلك ، وعلى قبول شهادة الولد على الوالدين والأقربين والعبد على سيّده وللسيّد للعموم ، ففيها إشعار بأنّ الايمان يكفي للقبول ، ولا يشترط غيره فتأمّل إلّا أن يدلّ دليل على اعتبار العدالة أو اعتبار عدم ظهور الفسق فافهم.

ثمّ أكّده بقوله (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) أي ارعوا أمر الله كما أمركم به ، ولا تقصدوا غير مقصوده تعالى ، فإنّه أعلم بمصالح العباد منكم فلا تتّبعوا هوى أنفسكم في إقامة الشهادة فتشهدوا على الغنيّ دون الفقير ، ملاحظة للمصلحة ، أو على من كان بينكم وبينه عداوة دون الصديق ، وتمتنعوا عن الشهادة للأعداء وأيضا لا بدّ أن يكون الشهادة امتثالا لأمر الله لا لاتّباع النفس والهوى كما مرّ (أَنْ تَعْدِلُوا) أي لأن لا تعدلوا أو لأجل أن تعدلوا في الشهادة ، قال الفرّاء هذا كقولهم لا تتّبع هواك لترضي ربّك ، أي كيما ترضي ، قاله في مجمع البيان.

(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) أي إن تميلوا في أداء الشهادة أو تعرضوا عن أدائها قيل الخطاب للحكّام أي إن تميلوا أيّها الحكّام في الحكم لأحد الخصمين على الآخر ، أو تعرضوا عن أحدهما إلى الآخر ، وقيل معناه : إن تلووا أي تبدلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام فيجازيكم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) معناه أنّه كان عالما بما يكون منكم من إقامة الشهادة أو تحريفها ، والاعراض عنها ، وقد روي عن ابن عبّاس في معنى قوله (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) أنّهما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر هكذا في مجمع البيان.

٦٩٢

الرابعة عشر : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١).

أي ما يوجد أظلم من كاتم شهادة حاصلة عنده من الله ، أو يكتمها من الله بحيث لا يقولها عند الطلب ، فكأنّه يريد يخفيها من الله ، إذ لو كان يعلم أنّ الله يعلم فلا فائدة له في الكتمان ، بل يعلم أنّه يضرّه فلا يكتمها أو يكتمها من عباد الله فيكون المضاف محذوفا ، والحال أنّ الله تعالى عالم به وبغيره من أعماله الحسنة والقبيحة ففيها ترغيب وترهيب فاعملوا وكونوا على حذر من الله.

كتم الشهادة إخفاؤها ، و «من الله» متعلّق بكتم أو صفة أخرى للشهادة ، والأوّل أولى ، والباقي ظاهر ، ويمكن الاستدلال بها على تحريم كتمان الشهادة ، وبقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢).

تفسيرها ظاهرا أنّ كلّ شخص يخفى ولم يبيّن ما أوجده الله من الدلائل المبيّنات والّذي يهدي إلى المطلوب بعد أن بيّنه الله له ولغيره من الناس في الكتاب المنزل أيّ كتاب كان ، بل لا يبعد إطلاقه على كتب الأخبار أيضا بل جميع ما يمكن فيه البيان كتابا كان أولا ، مجازا وتغليبا (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) فهم ملعونون يلعنهم الله أي يحكم بلعنهم ويبعدهم عن رحمته ، ويلعنهم أيضا من يتأتّى منه اللعن ، بأن يدعو عليهم بالبعد عن رحمة الله تعالى والّذين يتأتّى منهم اللّعن المسلمون أنسا وجنّا أو الكفّار أيضا باعتبار لعنهم ذلك الشخص في الآخرة كما ورد أو البهائم أيضا بأن يلهمهم بالدعاء عليهم باللعنة ، بل كلّ مخلوق كما قيل.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) وهذا اللعن ثابت للكلّ دائما إلّا بعد التوبة لمن تاب أي

__________________

(١) البقرة : ١٤.

(٢) البقرة : ١٦٠.

٦٩٣

ندم عمّا فعل وأصلح ما أفسد بالكتمان أو أخلص واستمرّ على التوبة أو ضمّ العمل الصالح إليه ، وبيّن : أي أظهر توبته ليعلم أنّه تائب وأعلم الناس أنّ ما فعله كان قبيحا أو بيّن ما كتمه وأرجع عن الجهل الجاهل بذلك.

ولا يبعد أن يكون (أَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) وما وقع في مواضع أخر مثل (وَعَمِلَ صالِحاً) بعد التوبة إشارة إلى كمال التوبة بالندم عن جميع المعاصي والعزم على تركه ، فيخلّص من حقوق الله بالتوبة ، وعن حقوق الناس بإبراء الذمّة ، من كلّ محرّم يحتاج إلى إبراء الذمّة ، وإذا فعل ذلك يقبل الله توبته ، وتوبة كلّ تائب ولو كان بعد نقض التوبة مرارا ، فانّ الله هو التوّاب إذ قابل التوبة منحصر فيه ، وأنّه في نهاية القبول كما يفهم من صيغة المبالغة ، والحصر ، وأنّه كثير الرحمة والتلطّف أو العامل ما يعمله ذوا الرحمة بالنسبة إلى محتاج الرحمة.

وقد عرفت ممّا ذكرناه من التفسير إعرابهما ولغتهما ، فيمكن الاستدلال بالأولى على تحريم كتمان الشهادة وكتمان العلوم الدينيّة عن أهله المحتاجين أصولا وفروعا ، بل مطلق العلوم على ما ورد في الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا أنّه من سئل عن تعلّمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار ، كذا في مجمع البيان فيدخل فيه كتمان المجتهد الحكم والفتوى سيّما عند السّؤال ، وكذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع الشرائط.

بل لا يبعد إدخال تحريم فعل بعض المحرّمات ، وترك بعض الواجبات ، بحيث يؤدّيان إلى جوازهما فانّ ذلك حينئذ إظهار للباطل ، فيكون سترا للحقّ فيكون كبيرة إلّا ما ثبت عدمه بدليل ، ولا يبعد أيضا الاستدلال بها على جواز لعن ذلك الشخص المرتكب للكتمان ، وإن كان مؤمنا لأنّ الله لعنه ، وقال إنّه يستحقّ اللّعن من الناس وغيرهم ، وبالثانية على وجوب التوبة لأنّها مخلّصة من استحقاق اللّعن وغيره ، وعدم تجويز لعن التائب ، ويفهم وجوب قبولها على الله سمعا ، وكذا يفهم أيضا من كثير من الآيات والظاهر أنّه لا نزاع في ذلك ، وإنّما النزاع في قبولها

٦٩٤

عقلا فإنّ المعتزلة قائلون به ، ولعلّ وجهه أنّ الكريم الغنيّ الّذي لا يتصوّر أكرم منه مع عدم تصوّر ضرر ونفع بالنسبة إليه من أحد ، مع كمال احتياج النادم إليه بحيث لا يمكن التجاؤه إلى غيره فيقبح عقلا ردّه ، وعدم قبول عذره ، وعذابه مع عدم نفعه بعقابه.

وقد يردّ بأنّه مكافأة فلا قبح كما لا قبح في الشاهد الانتقام للتسلية ، ودفع الغصّة والألم ، والأوّل لا يبعد ، والقياس سيّما مع الفارق ظاهر البطلان مع أنّه لا ثمرة في هذا البحث ، فقد تحقّق الإجماع بقبول توبته ، ودليل السمع. أيضا ، قال في مجمع البيان في تفسير (فَتَلَقَّى آدَمُ) الآية أجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها أيضا ، وسقوطه تفضّل من الله غير واجب عليه عندنا ، وعند جميع المعتزلة واجب وقال في هذا المحلّ : ووصف نفسه بالرحيم عقيب قوله «التوّاب» يدلّ على أنّ إسقاط العقاب عند التوبة تفضّل من الله سبحانه ورحمة من جهته ، على ما قاله الأصحاب ، وأنّه غير واجب عقلا كما يذهب إليه المعتزلة.

فكان معنى قول سلطان المحقّقين خواجه نصير الدين قدّس الله روحه في التجريد بعدم وجوب سقوط الذنب عند التوبة أنّه ليس بواجب عقلا إذ نقل إجماع المسلمين على ذلك وأدلّة النقل متظافرة عليه ، ثمّ الكلام في أنّه هل يتحقّق التوبة عن بعض الذنوب أم لا؟ ، والظاهر الأوّل لأنّ الّذي يظهر أنّها عبارة عن الندم على القبيح وعدم العزم على العود ، وهي أعمّ من الكلّ والبعض ، ودليل القبول العقليّ والنقليّ مشترك ، واشتراطها بكونها مقيّدة بالندامة والعزم ، من حيث كون القبيح قبيحا فلا يمكن التحقّق عن البعض دون البعض ، وإلّا لم يتحقّق الشرط كما يفهم من أوّل كلام المحقّق المذكور ، على تقدير تسليم الشرطيّة الّتي هي منفيّة بالأصل لا نسلّم عدم تحقّقه إذ لا منافاة بين كون القبيح سببا للترك والندامة في البعض ، وبين عدمه في البعض كما في فعل بعض الواجبات لحسنة دون البعض مع الاشتراك فيه.

وأيضا تراهما واقعين بين الناس ، مع أنّه غير مناسب للشريعة السهلة ولهذا رجع عنه المحقّق في آخر كلامه حيث قال : والتحقيق أنّ ترجيح الداعي إلى

٦٩٥

الندم عن البعض يبعث عليه ، وإن اشترك الدواعي في الندم على القبيح لقبحه ، وهذا كما في الداعي إلى الفعل وكذا قوله رحمه‌الله أنّه لا بدّ أن لا يكون التوبة لخوف العقاب ، وطمع الثواب ، بل بمحض القبح ، بعيد. فإنّها واجبة وهما داخلتان في الوجوب ، وأيضا لا فرق بينهما وبين سائر الواجبات فينبغي الاختصار فيها على نيّة القربة ، مع باقي القيود لو ثبت ، لا اشتراط ما يزيد عليه ، وأيضا بأنّه لا يناسب هذه الشريعة بل ما نجد في أنفسنا مثله.

نعم قد يكون موجودا في الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام كما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما عبدتك طمعا في جنّتك ، ولا خوفا من نارك ، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ، فتكون مخصوصة بهم عليهم‌السلام.

ثمّ اعلم أنّه قال في الكشاف والقاضي : المراد بالّذين أحبار اليهود الّذين جحدوا نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله [وهم يجحدونه] مع كونها مثبتة في التوراة ، وقال في مجمع البيان : المعنى بالآية اليهود والنصارى الّذين كتموا أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في نبوّته وهم يجحدونه مع كونه مكتوبا في توراتهم وإنجيلهم.

أقول : على تقدير التسليم ، إنّهم كانوا سبب النزول لا أنّها مقصورة عليهم فإنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب ، كما بيّن في الأصول ، ولهذا حملناها على العموم كما فعله في مجمع البيان أيضا فيستخرج الأحكام المذكورة فكأنّ سبب ترك هذه الآية في آيات الأحكام في كنز العرفان سبب النزول وكونها مقصورة عليهم كما فعله في الكشّاف والقاضي ، وأنت عرفت أنّه ليس بجيّد ومثل هذا فعل في كثير من الآيات ، حيث عمّمت مع كون سبب النزول خاصّا لما مرّ ، ثمّ على تقدير التخصيص أيضا لا يبعد التعميم لفهم العلّة فيستخرج الباقي فتأمّل.

٦٩٦

فهرس من أهم المطلب

العنوان 

صفحة

العنوان

صفحة

مقدمة الكتاب

٢

الخشوع في الصلاة

٥٣

كتاب الطهارة

مواقيت الصلاة

٥٥

تفسير سورة الفاتحة

٤

القبلة

٦٣

بحث فيما يتعلق بالايمان

٧

قبلة المتحير

٦٨

الوضوء

١٤

مقدمات أخر : الستر والساتر

٧٠

التيمم

١٩

أحكام المساجد

٧٦

دخول المساجد جنبا وسكران

٢٣

مقارنات الصلاة

٨٠

المراد بالصعيد

٢٧

الركوع والسجود

٨١

النية والاخلاص فيه

٢٨

الجهر والاخفات

٨٢

الاستنجاء بالماء

٣١

التشهد والصلوات فيه

٨٥

أحكام الحيض

٣٢

الصلوات على آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

٨٦

نجاسة المشرك

٣٧

رفع الأيدي عند التكبيرات

٨٩

نجاسة الخمر

٤٠

الاستعاذة

٩١

تطهير الثياب

٤٢

صلاة الليل

٩٢

مستحبات الطهارة

٤٤

بحث في الترتيل

٩٩

بحث في شرائط الإمامة

٤٧

رد التحية في الصلاة

١٠١

كتاب الصلاة

الاخلاص في النية

١٠٦

المحافظة على الصلاة

٤٩

جواز التصدق في الصلاة

١٠٧

الاصطبار على الصلاة

٥١

٦٩٧

العنوان 

صفحة

العنوان

صفحة

قضاء الفوائت

١١٠

الاعتكاف

١٧١

مكان المصلي

١١٢

كتاب الزكاة

صلاة الجمعة

١١٥

وجوب الزكاة ومحلها

١٧٦

التقصير في الصلاة

١١٩

قبض الزكاة وأعطائها المستحق

١٨٢

صلاة الخوف والمطاردة

١٢٣

بحث في الاحباط والتكفير

١٩١

صلاة الجماعة

١٢٧

في أمور تتبع الاخراج

١٩٣

الانصات عند القراءة

١٣١

المن والأذى يبطلان الصدقات

٢٠٣

سجدة العزائم

١٣٣

كتاب الخمس

بحث في الرياء والسمعة والعجب

١٣٥

وجوبه ومعنى غنائم دار الحرب

٢٠٨

الصلاة قائما وقاعدا

١٣٩

الغنيمة هي الفائدة يوما بيوم؟

٢١١

بعض ما يتعلق بذكر الله

١٤٠

الأنفال وقسمتها

٢١٣

كتاب الصوم

كتاب الحج

معنى الصوم وكتابته

١٤٦

وجوب الحج

٢١٦

وجوب الافطار في السفر

١٤٩

معنى من دخل الحرم كان آمنا

٢١٨

جوز الافطار لمن يضعف عن الصوم

١٥١

العاكف والبادي في سكنى الحرم سواء

٢٢١

وجوب الافطار للمريض والمسافر

١٥٣

عقاب الالحاد بظلم في الحرم

٢٢٣

تسمية شهر رمضان وتفسير الآية الأخرى

١٥٧

فيما يتعلق بالنحر

٢٢٧

جواز السفر في شهر رمضان

١٦١

أنواع الحج وأفعاله وشيء من أحكامه

٢٣١

دعوة الصائم لا ترد

١٦٥

أبحاث في الصد والاحصار

٢٤١

مفطرات الصوم

١٦٨

مسألة فيمن أفسد حجة ثم صد

٢٥٣

٦٩٨

العنوان 

صفحة

العنوان

صفحة

كفارة التقصير

٢٥٥

مباحث أخرى متطفلة

٣٤٧

تتمة البحث في أنواعه وأفعاله

٢٥٩

كتاب المكاسب

الإفاضة من المشعر

٢٧٣

في البحث عن الاكتساب بقول مطلق

٣٦١

التكبير أيام التشريق

٢٧٩

أشياء يحرم التكسب بها

٣٦٢

النفر الأول والنفر الثاني

٢٨١

كتاب البيع

ركعتي الطواف

٢٨٥

التجارة عن تراض

٤٢٧

السعي والطواف

٢٨٧

آيات في تحريم الربا

٤٢٨

كفارة الصيد

٢٩٠

إيفاء الكيل والميزان

٤٣٧

أشياء من أحكام الحج وحرمة الحرم

٢٩٦

كتاب الدين وتوابعه

كتاب الجهاد

أحكام الاستدانة

٤٤١

وجوب الجهاد

٣٠١

أحكام الاستقضاء

٤٤٩

القتال في الشهر الحرام

٣٠٢

توابع الدين

آيات في وجوب الجهاد

٣٠٦

أحكام الرهن

٤٥٥

في وجوب الهجرة

٣١٣

أحكام الضمان والصلح

٤٥٨

قتال الفئة الباغية

٣١٩

أحكام الوكالة

٤٦١

كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

كتاب فيه جمل من العقود

في أن وجوبها كفائي

٣٢١

مقدمة ـ الوفاء بالعقود

٤٦٢

مباحث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

٣٢٢

أحكام الإجارة

٤٦٣

بحث في الاجتهاد والتقليد

٣٤٤

أحكام الشركة والمضاربة

٤٦٦

٦٩٩

العنوان 

صفحة

العنوان

صفحة

أحكام الابضاع والايداع والعارية

٤٦٥

أحكام العدة وأنواعها

٥٩٣

أحكام السبق والرماية والشفعة واللقطة

٤٦٦

في الطلاق الثلاث

٦٠١

أحكام الغصب والاقرار

٤٦٧

أحكام الخلع والمبارات

٦٠٥

أحكام الوصية

٤٦٨

أحكام الظهار

٦٠٩

الاشهاد على الوصية

٤٧٤

أحكام الايلاء

٦١١

أحكام الحجر

٤٧٩

أحكام اللعان

٦١٣

العطايا المنجزة

٤٩٢

أحكام الارتداد

٦١٥

أحكام النذر

٤٩٣

كتاب المطاعم والمشارب

أحكام العهد

٤٩٥

في أصل الإباحة

٦٤٢ ـ ٦١٧

أحكام اليمين

٤٩٦

بحث في العمل بالظن

٦١٩

أحكام العتق

٥٠١

في تحريم أشياء على التعيين

٦٢٤

كتاب النكاح

تحريم الخمر والميسر

٦٢٩

في شرعيته وأقسامه

٥٠٤

في أشياء من المباحات

٦٣١

نكاح المتعة

٥١٤

كتاب المواريث

في المحرمات

٥٢٢

فرائض الإرث

٦٥٦ ـ ٤٦٦

في لوازم النكاح

٥٣٠

طعمة الأقرباء واليتامى

٦٥٧

في أشياء من توابع النكاح

٥٤١

كتاب الحدود

مباحث في نكاح النبي وأزواجه

٥٦٥

الأول حد الزناء

٦٥٨

كتاب الطلاق

الثاني حد القذف

٦٦٠

أحكام الطلاق الرجعي

٥٧٩

الثالث حد السرقة

٦٦٣

الرابع حد المحارب

٦٦٤

٧٠٠