زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

في الأوّل أيضا لأنّها قد تقول تجوز الزنا مع عدم الزوج للاحتياج ، وليس بواضح إذ الشبهة مطلقا تتأتّى ويسقط الجدّ إلّا أنّه قد يكون ورودها حينئذ أظهر فتأمّل ، ويمكن أن يقال لمّا كان الكلام في الإماء وتوهّم الرجم مع الإحصان صرّح بعدمه وتنصيف الجلد ويفهم الباقي من عدم القائل بالفصل والإجماع والأخبار فتأمّل.

(ذلِكَ) إشارة إلى جواز نكاح الأمة (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي الإثم الّذي يحصل بسبب الزنا لغلبة الشهوة وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر ، فاستعير لكلّ مشقّة ولا مشقّة أعظم من الإثم ، وعليه أكثر المفسّرين ، وقيل : معناه لمن خاف الحدّ بأن يهويها ويزني بها فيحدّ ، وقيل الضرر الشديد في الدنيا والدين لغلبة الشهوة والأوّل أصحّ قاله في مجمع البيان ، قيل : وهذه أيضا تدلّ على تحريم نكاح الإماء مع إمكان العقد على الحرّة ، ولكن زيد له شرط آخر ، فهنّ يحرمن بدونهما ، والجواز مشروط بهما : عدم الإمكان وخوف العنت ، وهو قول بعض أصحابنا أيضا وقد عرفت عدم الدلالة على التحريم بالشرط الأوّل ، وما ذكرناه هناك ممّا يدلّ على الجواز.

ويؤيّده قوله (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي صبركم عن نكاح الإماء واحتمال الشدّة بالصبر على العزوبة خير لكم من تزويجكم بها ، والصبر على ما يحصل لكم من معاشرتهنّ والعار وتحصيل الأولاد ، وما يلحقهم من العار بسببكم ومن جهة عدم إصلاحهنّ البيت كما دلّ عليه ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله الحرائر إصلاح البيت ، والإماء خراب البيت ، فانّ الظاهر أنّ المراد أنّ ترك التزويج بالإماء بدون الشرطين خير فيجوز حينئذ فعله وتركه إذ لو كان المراد بعد الشرطين ، لا ينبغي الترك ولا يكون راجحا بل يجب التزويج حينئذ كما قال الفقهاء إنّه يجب النّكاح إذا خاف الوقوع في الزنا ، أو يحصل به ضرر لا يتحمّل مثله ، ويستحبّ لو دعته نفسه.

بل قال الأكثر إنّه مستحبّ مطلقا فلا يكون ترك التزويج بالإماء مع عدم القدرة على الحرّة وحصول الضرر ، أو خوف الوقوع في الزنا خيرا ، بل هو خير مع عدمهما بأن يتزوّج بالحرّة لما تقدّم ، وللترغيب على النكاح في الأخبار و

٥٢١

الآيات والإجماع ، ويبعد تخصيصها بالحرّة مع عدم إمكانها أيضا ، والضرر أيضا وهو ظاهر ، ولهذا قال أكثر الفقهاء بالجواز مع الكراهة إلّا مع الشرطين ، وبها يجمع بين الأدلّة ويؤيّدها رواية محمّد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يتزوّج المملوكة قال إذا اضطرّ إليها فلا بأس ، ومرسلة ابن بكير عن الصادق عليه‌السلام لا ينبغي أن يتزوّج الحرّ المملوكة الحديث (١).

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنوب عباده تفضّلا وكرما أو بالتوبة ولعلّه إشارة إلى عدم يأس من تعدّى عن الحدود المتقدّمة من رحمة الله وأمر بالتوبة والرجاء والطمع.

(النوع الثاني)

(في المحرمات)

وفيه آيات :

الاولى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) (٢) يحتمل تحريم العقد على امرأة عقد عليها الأب وهو الظاهر من النكاح ، فإنّه حقيقة فيه على ما قيل ، ويحتمل الوطي مجازا أو بالاشتراك ، ويحتمل حمله على الأعمّ عموم مجاز أو عموم اشتراك فيحرم الوطي والعقد على الابن لمن عقد عليها الأب أو وطئها بالملك فيشمل الزوجة والسرّيّة ولكنّ الفهم مشكل لأنّه لا يخلو عن إجمال ، فالعمدة هو الإجماع والأخبار فالظاهر عدم الخلاف في جواز نظر الابن إلى امرأة أبيه وسرّيتّه و (مِنَ النِّساءِ) بيان «ما».

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يحتمل كونه منقطعا أي لا يجوز لكم نكاح ما نكح آباؤكم ولكن ما نكحتم قبل الإسلام فهو جائز. ومتّصلا باعتبار اللّازم أي تعاقبون على نكاح ما نكح آباؤكم إلّا النكاح الّذي سلف قبل نزول هذه الآية فإنّه لا عقاب على ذلك

__________________

(١) راجع الكافي كتاب النكاح باب الحر يتزوج الأمة ج ٥ ص ٣٥٩.

(٢) النساء : ٢٢.

٥٢٢

فإنّه فعل في زمن الجاهليّة فلا ينافي ما نقل في القاضي أنّه ما كان جائزا في أمّة أصلا كما يدلّ عليه قوله (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) علّة للنهي أي نكاحهنّ كان فاحشة عند الله وموجبا للمقت والبغض وما رخّص فيه امّة من الأمم (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس طريق من يقول به أو يفعله.

وقد ذكر في سبب النزول وجود ذلك فعلم تحريمه بالآية ، ويحتمل أيضا أن يكون من قبيل (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١).

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

ولا عيب فيه إلّا أنّه من قريش ، للمبالغة والتأكيد.

الثانية : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٢) الظاهر أنّ المراد تحريم نكاحهنّ لما تقدّم وتأخّر وللتبادر من مثله كتبادر الأكل في (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ولعدم تحريم الذات والنكاح أولى ما يمكن تقديره ، والام امرأة رجع نسبك إليها بالولادة بغير واسطة أو بواسطة الأب أو الأمّ (وَبَناتُكُمْ) البنت امرأة رجع نسبها إليك بالولادة بواسطة أو بلا واسطة (وَأَخَواتُكُمْ) الأخت امرأة ولدها وولدك شخص بغير واسطة (وَعَمَّاتُكُمْ) والعمّة امرأة ولدها وولد أباك أو أبا أبيك أو أبا أمّك بالغا ما بلغ شخص (وَخالاتُكُمْ) والخالة مثل العمّة إلّا أنّ النسبة هنا إلى الأمّ بمنزلة الأب هناك (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) يعلمان ممّا سبق إذ بعد العلم بالأخ والأخت والبنت يعلم بناتهما وهو ظاهر وفي الآية دلالة على أنّ إطلاق البنت والامّ والعمّة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت على هؤلاء إذا كانت بواسطة أو بلا واسطة حقيقة وهو خلاف ما اشتهر من أنّ الإطلاق على الأوّل حقيقة وعلى غيره مجاز.

والظاهر أنّ المراد تحريم العقد لأنّه حقيقة فيه ، ويعلم الوطي بالطريق الأولى ، ويحتمل إرادتهما ، هذا هو التحريم النسبيّ والظاهر أن لا خلاف بين الأمّة فيها ، وفي كونها لشبهة أو عقد صحيح في نفس الأمر أو عند الفاعل وأمّا الحاصلة

__________________

(١) الدخان : ٥٧.

(٢) النساء : ٢٣.

٥٢٣

بالزّنا فالظاهر عدم الخلاف عند الأصحاب في ذلك أيضا ، وأنّه لا خلاف حينئذ في جواز النظر واللّمس والتقبيل بغير شهوة إلّا على العورة وكلام الأصحاب في ذلك غير مفصّل ويحتمل أن يكون كذلك بالنسبة إلى المحرّمات الغير النسبيّة أيضا كالمصاهرة ، ويحتمل الاقتصار على جواز النظر إلى الوجه وما يتعسّر التحرّز عنه مثل اليد والرجل وأمّا النظر إلى أطفال الأجانب وعورتهم ومباشرة من يباشر ذلك فكلام الأصحاب في ذلك أيضا مجمل غير مفصّل ، فيمكن جواز ذلك إلّا محلّ الشهوة والريبة ، واللذّة المطلوبة ومباشرة العورة مع الحاجة والاجتناب أحوط مهما أمكن.

(وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) إشارة إلى المحرّمات بالسبب والرّضاع أقوى سبب ، روي أنّها لحمة كلحمة النسب ، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (١) قال في الكشاف إلّا في مسئلتين : إحداهما أنّه لا يجوز للرجل أن يتزوّج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوّجها من الرضاع [لأنّ المانع في النسب وطي أمّها ، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع] والثانية أنّه لا يجوز أن يتزوّج أمّ أخيه من النسب ، ويجوز من الرضاع ، لأنّ المانع وطي الأب إيّاها وهو غير موجود في الرضاع.

ولا يحتاج إلى هذا الاستثناء بالحقيقة ، لأنّ معنى يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب أنّ كلّ من يحرم ويكون سبب تحريمه النسب وأحد أسبابه السبعة المذكورة يحرم ذلك بالرّضاع إذا وجد ذلك السبب بعينه فيه ، مثل الامّ الرّضاعيّة والأخت كذلك ومعلوم انتفاء ذلك في المسئلتين لأنّ أخت الابن إن كانت من الرجل فهي بنته وإلّا فهي ربيبته فتحريمها بالمصاهرة لا بالنسب ، وكذا أمّ الأخ فإنّها أمّ أو زوجة الأب ، ومعلوم انتفاؤهما من الرضاع وعدم تحريم ما يحرم بالمصاهرة بالرّضاع ، وكأنّه أشار إليه بقوله «لأنّ المانع إلخ فالاستثناء ظاهريّ فالّتي تحرم بالرضاع بالكتاب هي الأمّ والأخت ، وكأنّ الباقي يحرم

__________________

(١) راجع المستدرك ج ٢ ص ٥٧٢ ، سنن أبى داود ج ١ ص ٤٧٤.

٥٢٤

بالإجماع والأخبار ، والاعتبار.

ولكن للتحريم شروط : كون الرّضاع في مدّة الحولين لرضاع المرتضع ، وكون الشرب بالمصّ من الثدي والمقدار المعيّن ، وفي أكثر الأخبار أنّه ما أنبت اللحم وشدّ العظم ، ولكنّ العلم به مشكل ، وفي بعض الرّوايات ما يدلّ على أنّه يحصل باليوم واللّيلة وفي البعض بخمسة عشر رضعة وفي بعضها بعشر رضعات بشرط عدم الفصل بلبن غيرها ، وفي بعضها مرّة وتمام التفصيل في الكتب الفقهيّة.

والأصل وبعض الآيات والأخبار دليل الجواز ، فلا يعدل عنها إلّا بدليل وهذه الآية لم تدلّ على أنّ مجرّد صدق الرضاع يكفي لأنّه قيّد بكونها امّا من الرضاع وأختا ، ولم تعلم التسمية بمجرّد صدق أنّها أرضعت وارتضعت ، فاستدلال الحنفيّة ونحوها بها على أنّ مجرّد صدق الرضعة لغة كاف مدخول ، ولو كان كذلك لكان الاكتفاء بقوله (اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) أولى ، نعم يحرم ما كمل له يوم وليلة وخمسة عشر بالإجماع وبعض الأخبار ، وبقي الباقي تحت الجواز ، وهو المذهب المشهور ، وأكثر الأصحاب عليه ، ويحمل غيرها على تقدير الصحّة على العلم بالإنبات أو استحباب الاجتناب جمعا بين الأدلّة فتأمّل فيه.

(وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إشارة إلى المحرّمات بالمصاهرة ، وهي أمّ الزوجة وبنتها الّتي يربّيها الزوج والمراد بها بنت الزوجة مطلقا ، سميت بها وقيّدت بالحجر لتربيته إيّاها غالبا ، وللإشارة إلى أنّه ينبغي له تربيتها وحفظها في حجره حتّى لا تضيع ، وهما عطف على (أُمَّهاتُكُمْ) أو على ما عطف عليها ، قوله (مِنْ نِسائِكُمُ) قيد للربائب على الظاهر أي الربيبة المحرّمة هي الّتي كانت من الزوجة الّتي دخلتم بها فمن للابتداء ، فلا تحرم حينئذ بنت الزوجة إلّا إذا كانت أمّها مدخولا بها لقوله (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) ولقوله «(فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ) إلخ» وحينئذ تحرم جمعا لدليل آخر ، فإذا فارق الامّ يجوز النكاح للبنت بخلاف العكس فإنّه تحرم الأمّ أبدا لأنّه غير مقيّد بالدخول فبمجرّد العقد على البنت تحرم الامّ لعموم تحريم الامّ من دون القيد.

٥٢٥

والدليل على أنّ (مِنْ نِسائِكُمُ) قيد للربائب لا لنسائكم ما ثبت في الأصول أنّ ما يعقب الجمل من الصفة والاستثناء وغيرهما قيد للأخيرة ، وظهور كونه قيدا لها وعدم ظهور كونه قيدا للأولى ، مع وجود التحريم ، وتقييده بلا دليل غير جائز ، ومجرّد صلاحيته واحتماله له ليس بموجب لذلك وهو ظاهر ، وعدم إمكان كونه قيدا لهما إذ يلزم تعليقه بالموضعين ، وجعله بالمعنيين البيانيّة والابتدائيّة ، وهو غير ممكن وإن أمكن استعمال لفظ مشترك بمعنيين مجازا ، أو حقيقة لعدم إمكان تعليقه بالموضعين وجعله قيدا لهما في التركيب إلّا بالحذف وهو خلاف الأصل والظاهر ، والحاصل أنّه لا شكّ في أنّ تقييد الاولى خلاف الأصل والظاهر ، فلا بدّ له من دليل موجب وليس في الآية ، نعم في بعض الروايات الصحيحة دلالة صريحة على ذلك فلا بدّ إمّا تأويله أو ردّه ، حيث إنّه معارض بمثله وظاهر الآية ، أو تقييد الآية وتخصيصها بتلك الأخبار لعدم صحّة معارضها من الأخبار وجواز تخصيص القرآن بالخبر الصحيح [الصريح] فالمسئلة مشكلة ، وتمام التفصيل في الكتب الفقهيّة.

وفي قوله تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) (١) أي البلّغ من غير أهل البيت فلا يردّ أبوّته لهم ، دلالة على أنّ ما ثبت بين الأب والولد من تحريم المصاهرة وغيره ليس بمتحقّق بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أمّته ، بل له حقّ الأبوّة وأعظم ، نعم ثبت بين زوجاته فقط والمسلمين التحريم بقوله (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وغيره من الإجماع والأخبار حتّى لا يحرم بناتهنّ على المسلمين فليست الأمومة أيضا حقيقيّة بل المراد مجرّد التحريم وهو ظاهر ، وإلّا يلزم التعدّي في جميع الأفراد وفي قوله (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) دلالة مّا على عدم اعتبار مفهوم القيود فافهم.

والظاهر أنّ المراد بالنساء هو المعقود عليهنّ مطلقا ، فلا يشمل السرّيّة فكأنّ تحريم أمّها وبنتها بغير الآية من الإجماع والرواية والقياس ، والظاهر أنّ المراد بالأمّ والربيبة أعمّ من أن يكون بواسطة أو بغير واسطة فيشمل الجدّة وبنت

__________________

(١) الأحزاب : ٤١.

٥٢٦

البنت بل بنت الابن أيضا لأنّها بنت للمرأة كبنت البنت كما تقدّم ، وكما يدلّ عليه أيضا قوله (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) فإنّ الظاهر أن لا خلاف في أنّ المراد بالابن هنا أعمّ منه ومن ابن الابن ، ومن ابن البنت أيضا ، والحلائل جمع حليلة وهي الّتي حلّ وطئها فيشمل المعقود عليها مطلقا والسرّيّة أيضا ولكنّ الظاهر أنّها مقيّدة بوطئها ، ويحتمل بالنظر إلى العورة أو فعل ما يحرم على غير المالك من القبلة ولمس الجلد بشهوة كما في الابن ولا يكفي مجرّد جواز الوطي فإنّ للأب وطئ مملوكة الابن كالعكس ، ويحتمل العدم إذا كانت متّخذة للتسرّي دون الخدمة ، ولعلّ ظاهر الآية يشملها فتأمّل.

فدلّت هذه على أنّ الابن بواسطة هو ابن الصلب ، فالاحتراز بقيد الصلب عن الولد المتبنّي الّذي يأخذه الإنسان ابنا ويسمّيه به للشفقة والمحبّة ، ولكونه ابن زوجته ، ونحو ذلك ، فإنّه لم يصر بذلك ابنا حقيقة.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أيضا عطف على المحرّمات وفائدة زيادة الجمع أنّ التحريم هو الجمع لا الافراد ، فمع مفارقة إحداهما يجوز أخذ الأخرى ووجه (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) سلف (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) إشارة إلى عدم يأس من تعدّى عن حدود الله من رحمة الله ، فانّ الله كان غفورا رحيما من قبل وبعد ودائما ، فيتجاوز عنه بالتوبة والعفو والكرم.

الثالثة : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) (١) النكاح لغة الوطي والعقد أيضا فقيل بالاشتراك اللّفظيّ ، وقيل حقيقة في الثاني ومجاز في الأوّل ، وقيل بالعكس والأكثر على أنّه بمعنى العقد ، وقال في الكشّاف إنّه ما جاء في القرآن إلّا بمعنى العقد ، وأوّل ما يدلّ عليه ، أي لا تتزوّجوا وقرئ بضمّ التاء ، أي لا تزوّجوا يا معشر المسلمين المشركات أي الكافرات مطلقا كتابيّة وغيرها ، فإنّ الكتابيّ يقال له أيضا مشرك بدليل قوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢) كذا في الكشّاف والقاضي وغيرهما ، وفي

__________________

(١) البقرة : ٢٢١.

(٢) براءة : ٣١.

٥٢٧

الدليل نظر تقدّم وسيجيء ، ويمكن أن يستدلّ كما قيل بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) فافهم.

وقال في الأوّل : هي منسوخة بقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وسورة المائدة ثابتة لم ينسخ منها شيء قطّ وهو إشارة إلى ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّها آخر ما نزلت فحلّلوا حلالها وحرّموا حرامها ، وفيه نظر فانّ التخصيص خير من النسخ على تقدير التنافي والإمكان وهو ظاهر ولأنّها ليست بمرفوعة بالكلّيّة حتّى تكون منسوخة ولهذا قال القاضي : ولكنها خصّت بقوله «وَالْمُحْصَناتُ إلخ» وأما أصحابنا فبعضهم موافق للقاضي وبعضهم لا يجوّز نكاح الكتابيّات مطلقا ، ويؤوّل آية المائدة كما في مجمع البيان ، وأسند ذلك إلى الأصحاب ، وقال هو مذهبنا وسيجيء في محلّه وبعضهم يخصّ جواز نكاح الكتابيّات بالمنقطع دون الدّوام ، وسيجيء البحث عن ذلك في تفسير آية المائدة.

(حَتَّى يُؤْمِنَّ) أي يصدّقن بالله ورسوله ويسلمن (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) أي لامرأة مسلمة حرّة كانت أو مملوكة (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) وكذا (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) فانّ الناس كلّهم عبيد الله وإماؤه ، كذا في تفسير الكشّاف والقاضي ، وهو خلاف الظاهر إذ الظاهر المعنى العرفيّ من الأمة والعبد ، وأيضا لا مبالغة فيه حينئذ والظاهر أنّها المقصود والأولى (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) وإن كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبّونها لمالها أو لجمالها وخلقها وحسنها ونسبها ، فلو بمعنى إن كما قاله القاضي والجملة حاليّة ، والغرض الحثّ على المنع من المخالطة وإنكاح المشركات ، وكذا الكلام في الجملة الثانية وهي قوله تعالى (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) ولهذا علّله بقوله (أُولئِكَ) فإنّه بمنزلة التعليل بأنّ المشركين والمشركات (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) فلا ينبغي مخالطتهم ، فلا يجوز مناكحتهم فإنّه قد يأخذ أحد من دين صاحبه ، فإنّه دائما يدعوه إلى سبب دخول النّار وهو الكفر والمعاصي ، والشيطان يعينه على ذلك ويروّجه ، وأولياء الله وهم المؤمنون

__________________

(١) النساء : ٥١.

٥٢٨

يدعونه إلى سبب دخول الجنّة والمغفرة ، وهو الايمان والطاعة ، فهم الّذين تجب مودّتهم ومواصلتهم ومصاهرتهم ، فالمضاف محذوف كما قالا فيهما.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) يعني بين دعوتهم ودعوة الله منافاة فلا ينبغي أن يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلّا القتال والعداوة لا المحبّة اللّازمة بين الزوجين ، فلا يحتاج إلى حذف كما فعله في مجمع البيان. (بِإِذْنِهِ) أي بتيسير الله وتوفيقه للعمل الّذي يستحقّ به الجنّة والمغفرة «وَيُبَيِّنُ الله آياتِهِ» أي حججه وقيل أوامره ونواهيه ، وما أباحه وما حرّمه (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لكي يتعلّموا ويتذكّروا ويتّعظوا ، وليكونوا بحيث يرجى منهم التذكير لما تقرّر في العقول من الميل إلى الخير ، ومخالفة الهوى ، قاله القاضي وهو مناسب للحسن العقليّ لا الشرعيّ.

ثمّ اعلم أنّ الكلام في استنباط الأحكام أن يقال : ظاهرها دالّ على تحريم التناكح بين المسلم والكافر الّذي هو المشرك الحقيقيّ وشمول المشرك للكتابيّ الّذي يقول بوحدانيّة الواجب غير ظاهر لغة وعرفا ، لكون القول بأنّ لله ابنا لا يستلزم الشرك الحقيقيّ ، وإطلاقه عليهم في الآية السابقة لا يستلزم كونه حقيقة فيهم أيضا حتّى يرادوا منه مطلقا ، وأيضا لا تشمل جميع غير المشرك الحقيقي من أصناف من يحكم بكفره ، والأصل وعموم أدلّة النكاح يدلّ على الجواز ولا يمنعه عدم جواز تزويج المسلمة بالكافر مطلقا إجماعا ولا يستلزم ذلك كونه مستفادا من هذه الآية وعلى تقدير التسليم لا يستلزم عموم المشركات ، وآية المائدة ظاهرة في الجواز فانتظر زيادة التحقيق هناك.

وأن يقال : إنّها تدلّ على عدم جواز نكاح المشركة لو صارت كتابيّة لقوله (حَتَّى يُؤْمِنَّ) حيث جعل غاية التحريم الايمان ، فلو كان تلك أيضا غاية فلا تصير الغاية غاية ، ولا يبعد دلالتها على عدم تقرير الوثنيّة على دين الكتابيّ ، وإلّا لكان ينبغي جواز نكاحها على تقدير جواز نكاح الكتابيّة ، وأنّها تدلّ على جواز نكاح المخالفة من أنواع المسلمين لكون الإيمان بمعنى الإسلام على ما يظهر من التفاسير

٥٢٩

وهو الظاهر ، ولعدم التكليف بأكثر من الإسلام في أوائل الإسلام ، وكذا تزويج المؤمنة بالمخالف لما مرّ ، ويدلّ عليه أيضا بعض الرّوايات ومنعه أكثر الأصحاب ويدلّ عليه بعض الرّوايات ويمكن الجمع بحمل أخبار المنع على تقدير المنافاة على الكراهة أو على الناصب الكافر ، وأنّها تدلّ على جواز تزويج الأمة مطلقا كما تدلّ على عدم جواز وطي الكافرة بالملك أيضا إذا حمل النكاح على الوطي ولكن ذلك بعيد ، وخلاف الظاهر ، فالاقتصار عليه بعيد ، وإن أمكن وحصل منع وطي الكافرة مطلقا لكن ما يحصل منع العقد وإطلاقه عليه وعلى العقد أيضا بعيد مع عدم ظهور معنى مشترك بينهما يصلح للإرادة هنا ، وأنّها تدلّ على تحريم التزويج لنفس الزوج والزوجة ولوليّهما.

(النوع الثالث)

(في لوازم النكاح)

وفيه آيات :

الاولى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) (١) أي إن أردتم مفارقة زوجة وتزويج اخرى (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ) الّتي تريدون مفارقتها ، الضمير للزوج ، وهو الزوجة أي الجنس فيصحّ إرجاع ضمير الجمع إلى الجنس باعتبار المعنى (قِنْطاراً) مالا كثيرا قيل : إنّه مسك ثور ذهبا أو دية إنسان (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) استفهام إنكار أي لا تأخذوه باهتين وآثمين أو للبهت والإثم فإنّ أخذه ظلم وباطل ، وإثم واضح ، والبهتان هو الكذب المواجه به صاحبه على وجه المكابرة له ، وأصله التحيّر من قوله (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي تحيّر لانقطاع حجّته فالبهتان كذب يحير صاحبه لعظمه (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) إنكار وتعجّب وتعظيم لما فعلوا ، والإفضاء الوصول إلى شيء بالملامسة ، قيل هنا كناية عن الوطي وقيل المراد به الخلوة الصحيحة ، وقال في مجمع البيان : كلاهما

__________________

(١) النساء : ٢٠.

٥٣٠

مرويّان عندنا ، والمراد تقدير المهر ولزومه بحيث لا يرجع إليه شيء ، وذلك لم يكن إلّا بعد الوطي على المشهور (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي أخذت الزوجات منكم عهدا وثيقا بالعقد وأحكم لوازمها بالوصيّة مرارا ، مثل قوله (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) و (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (١) وعدم التجاوز عن مطلق حدود الله وارتكاب المأمورات واجتناب المعاصي.

فالآية دلّت على لزوم المهر بالوطي دون غيره بمعنى أنّه لا يرجع إلى الزوج منه شيء أصلا بالطلاق والفسخ ، وعلى الرواية الأخرى الخلوة مثل الوطي ، والأوّل أشهر ، فلا ينافي ما تقدّم من أنّ المهر لازم بمجرّد العقد ، وفيها دلالة ما على رجوع الشيء إلى الزوج بالطّلاق قبل الوطي والإفضاء ، ويحتمل دلالتها على عدم جواز الرجوع في الهبة وغيرها للزوج لعموم الآية وتدلّ على جواز الغلافي المهر مهما وقع عليه التراضي كما دلّ عليه السنّة ، وكأنّه على غير المهر حملها السيّد حيث ذهب إلى عدم جواز الزيادة عن مهر السنّة ، وهو بعيد عنه ، لأنّه خلاف ظاهر الاية ، والسنّة الشريفة ، والعقل ، أو أنّه يقول لا يجوز ولكن يلزم بالعقد والوطي وهو أيضا بعيد ، ويمكن حمل كلامه على الاستحباب.

فمنع عمر من غلاة وجعل الزائد في بيت المال لا وجه له ، وإن كان للأوّل وجه كما قلنا للسيّد ، ولكن لا وجه للثاني وكأنّه لذلك جعل من مطاعنه ، أو لكونه خليفة وإماما ففرق بينه وبين السيّد ولقبوله اعتراض المرأة ولقوله كلّ الناس أفقه من عمر قال في الكشّاف : وعن عمر أنّه قام خطيبا فقال أيّها النّاس لا تغالوا بصدق النساء إذ لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشر أوقية فقامت إليه امرأة فقالت له لم تمنعنا حقّا جعله الله لنا ، والله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) الآية فقال عمر : كلّ أحد أعلم من عمر ، ثمّ قال لأصحابه تسمعونني أقول مثل هذا فلا تنكرونه عليّ حتّى تردّ

__________________

(١) البقرة ٢٣١ و ٢٢٩.

٥٣١

علىّ امرأة ليست من أعلم النساء (١).

ثمّ إنّه لا شكّ في عدم جواز أخذ ما أعطى من المهر بعد الدخول بوجه ، سواء أراد الزوج الاستبدال أم لا ، فذكر الاستبدال يحتمل لكون العمل ذلك وقت نزولها ولكونه محلّ الأخذ حيث آتاها مهرا وقد طلقها ، وأراد بدلها اخرى ، وهي تحتاج إلى مهر ، والمهر إنّما يكون لدوام الاستمتاع ، وما استمتع إلّا في بعض الزمان ، ولكونه يلزم منه عدم الجواز مع عدم الإخراج والاستبدال بالطريق الأولى وبالجملة هنا لا يتوهّم اعتبار المفهوم لعدم شرط حجّيته والعمل به ، وهو ظاهر فتأمّل.

الثانية : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) (٢).

أي لا تبعة عليكم في مهر وما وجب عليكم ـ بقرينة وجوبه فيما يقابله وهو قوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) حيث أوجب نصف المهر فدلّ على أنّ المنفيّ أوّلا هو المثبت ثانيا ـ إن طلّقتم النساء قبل المسّ والوطي وقبل فرض المهر فيكون «أو» بمعنى الواو ، وقد يدلّ عليه (وَقَدْ فَرَضْتُمْ) أو يكون «أو» بمعنى «إلّا أن» أو «حتّى» كذا في التفسيرين ، وفيه تأمّل إذ على الأوّل المناسب فرضتم وعلى الثاني يلزم تجويز الفرض ولزوم شيء به بعد الطلاق قبل المسّ وهو باطل ، ويحتمل أن يكون المراد نفي الإثم كما في قوله تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) مع تأويلات ، أو تفرضوا وبدونها ويحتمل حينئذ أن يكون عديل «أو» محذوفا ، فالتقدير إن لم تفرضوا لهنّ فريضة أو تفرضوا وهو أيضا خلاف الظاهر مع عدم ظهور فائدة التقييد بقبل المسّ فإنّه بعده أيضا لا إثم إلّا أن يقال إنّه لا إثم حينئذ مطلقا بخلاف ما بعد المسّ أو يقال إنّه لدفع تخيّل أنّه لمّا لم يحصل فائدة النكاح لم يجز الطلاق

__________________

(١) راجع الدر المنثور ج ٢ ص ١٣٣.

(٢) البقرة : ٢٣٦.

٥٣٢

ويمكن الحمل على الأعمّ وارتكاب خلاف الظاهر في القرآن لدليل غير عزيز.

والمراد بالفرض تعيين المهر قبل الدخول والطلاق (وَمَتِّعُوهُنَّ) كأنّه عطف على محذوف أي فطلّقوهنّ ومتّعوهنّ (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) بفتح الدال وسكونها المقدار الّذي يليق بحاله والموسع الغنيّ الّذي وسّعت معيشته عليه وحاله (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أي الفقير الّذي تضيق معيشته أي الواجب عليهما ما يناسب حالهما (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) يعني تمتيعا بالوجه المعروف شرعا وعرفا بحسب المروّة (حَقًّا) يعني تمتيعا حقّا واجبا ثابتا أو حقّ ذلك حقّا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي الّذين يريدون أن يحسنوا إلى أنفسهم بإخراجها عن المعاصي بفعل الواجبات ، وترك المحرّمات أو إلى المطلّقات بإعطائهنّ حقوقهنّ ، سمّى الأزواج المطلّقون محسنين ترغيبا وتحريضا على المأمور به والمسارعة إليه فجزاء الشرط محذوف من جنس ما سبق وهو رفع الجناح ، و «ما» بمعنى المدّة أي زمان ترك المسّ و «متاعا» مفعول مطلق و «حقّا» صفة أو مفعول مطلق.

وأمّا قدر المتاع فظاهر الآية ما يقتضيه العرف ويسمّى تمتيعا بحسب حال الغنيّ وغيره. وقد عين بخادم أو ثوب أو ورق في مجمع البيان ، وقال : إنّه مرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام وغيرهما ، وهو مذهب الشافعيّة أيضا وظاهر مذهب الأصحاب خلافه ، فإنّهم قالوا إنّ الغنيّ يمتّع بالدابّة أو الثوب المرتفع أو عشرة دنانير والمتوسّط بخمسة أو الثوب المتوسّط والفقير بالدينار أو الخاتم وما شاكله وما رواه الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه إذا كان موسّعا عليه متّع امرأته بالعبد والأمة ، والمعسر يمتّع بالحنطة والزبيب (١) والثوب والدراهم ، لا ينافي انقسامه إلى ثلاثة أقسام ، ولا ما ذكر في كلّ قسم منها ، لأنّ مرجعها إليهما والعرف اقتضى تعيين كلّ مرتبة ، وقريب من الدابّة الّتي هي الفرس العبد والأمة وقريب منها البغل والبعير المقارب لها في القيمة لأنّ المحكم في ذلك العرف لا التحديد فتأمّل وعلى مذهب أبي حنيفة درع وخمار وملحفة على حسب الحال ، إلّا أن يكون مهر

__________________

(١) والزيت خ.

٥٣٣

مثلها أقلّ من ذلك فلها حينئذ الأقلّ من نصف مهر المثل والمتعة ، ولا ينقص من خمسة دراهم لأنّ أقلّ المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها ، وذلك خلاف ظاهر الآية ، وكذا تعيين أقلّ المهر خلاف الظاهر (١).

فدلّت الآية على جواز الطلاق ، وعدم وجوب المهر للمرءة المطلّقة قبل الدخول وقبل تسمية المهر لها ، ووجوب المتعة لها بالمنطوق وعلى عدمها لغيرها بالمفهوم ، وهو مذهب الأصحاب والحنفيّة وألحق الشافعيّ بها في أحد قوليه الممسوسة المفوّضة وغيرها قياسا ، لأنّه مقدّم على المفهوم كذا في تفسير القاضي وهو خلاف الظاهر والأصل وإيجاب الشيء بمثل هذا القياس الّذي لا علم بعلّته مع مخالفته ظاهر القرآن اليقينيّ بعيد ، إذ قد يكون العلّة الطلاق مع عدم الفرض وعدم المسّ كما هو الظاهر ، وأيضا يلزم اللّغو وهو دليل القائل بالمفهوم وأنّ إلحاق الممسوسة الغير المفوّضة أبعد ولعلّه لذلك ما قال به في قوله الآخر ، وبالجملة من سوقهما يفهم تخصيص المتعة بالمذكورة في الآية كما هو مذهب الأصحاب فافهم.

الثالثة : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) (٢).

بين في السّابقة حال المطلّقة المفوّضة قبل المسّ والفرض ، وبيّن في هذه حالها بعد الفرض وقبل المسّ وترك المطلّقة بعدهما ، فانّ حكمها لزوم المسمّى وكذا المطلّقة بعد المسّ وقبل الفرض فحكمه عند الأصحاب مهر المثل (وَقَدْ فَرَضْتُمْ) جملة حاليّة عن فاعل فعل الشرط أي طلّقتموهنّ (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) جوابه مرفوع إمّا بأنّه مبتدأ خبره محذوف أو عكسه والتقدير : فالواجب أو فالّذي عليكم نصف ما فرضتم ، أو فلهنّ نصف ، أو عليكم نصف ، أو نصف ما فرضتم واجب عليكم (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فالاستثناء كأنّه من مقدّر أي الواجب نصف على جميع التقادير والحالات ، إلّا على تقدير حصول العفو من

__________________

(١) خلاف الأصل خ.

(٢) البقرة : ٢٣٧.

٥٣٤

المطلّقات عن الكلّ أو عن شيء من المهر ، فليس هنا حينئذ في هذه الحال النصف واجب ، بل إمّا لا واجب أصلا أو الواجب أقلّ من النصف «ويعفو» عطف على محلّ «يعفون» فإنّه مبنيّ على النصب بأن «و (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)» قيل هو وليّ المطلّقة المذكورة ففي الأوّل العفو منهنّ بشرط البلوغ والرشد وفي الثاني من أوليائهنّ على تقدير عدمهما وللولي أيضا العفو وهو مذهب الشافعيّ والأصحاب ، ولكن يكون منوطا بالمصلحة ، وبشرط عدم العفو عن الجميع ، فإنّهم ما يجوّزون للوليّ العفو عن الكلّ ، ويبعد ذلك عن الآية ، وأيضا يبعد وجود المصلحة للعفو بعد حصول الطلاق إلّا أن يكون دفع ضرر ، وحينئذ ليس بعفو ولعلّ دليلهم أخبار أو إجماع ، قال في مجمع البيان : وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ويحتمل أن يكون «الّذي» عبارة عن الزوج ، يعني المأخوذ هو النصف (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) فيقلّ أو يعدم أو يعفو الزوج عن الباقي فيصير أكثر من النصف ، إمّا الكلّ أولا ، وهو مذهب أبي حنيفة وقال في مجمع البيان : رواه بعض أصحابنا وهو بعيد أيضا إذ مقابلة الّذي بيده عقدة النكاح للمرأة لا يناسب فانّ العفو حينئذ ليس بمناسب فكأنه سمّي للمشاكلة إلّا أن أدّاه إلى الزوجة ، فيعفو عن النصف ولم يأخذه ، فيصحّ كونه عفوا حقيقة وأيضا إنّه كان المعنى «الواجب نصف» ومع استثناء العفو منه لا يصير الواجب غيره ، والأوّل أظهر بحسب اللّفظ والثاني بحسب المعنى ، ولا استبعاد في جواز العفو للوليّ بالنصّ ، ولكن لا بدّ لعدم تجويز الكلّ من دليل ، ولعلّ لهم دليلا عليه ، وعلى الحمل على المعنى الأوّل أيضا ، وهو الرّوايات كما أشير إليه أو الإجماع.

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) كأنّه خطاب للزوج والمرأة ، وغلّب المذكر أو يكون للزوج ، والجمعية باعتبار الأفراد ، وهو مؤيّد لكونه العافي من جهة إسناد العفو إليه ، وكون العفو من الوليّ أقرب غير معلوم ، ولكنّ المناسب لحصر العافي فيها وفي الوليّ كون الخطاب لهما ، وقد يقال مع المصلحة يكون أقرب من الوليّ أيضا ، ويحتمل أن يكون المخاطب الناس والغرض أنّ العفو أقرب من أيّ

٥٣٥

أحد كان ، ولا يكون الغرض كونه من شخص بل مجرّد حسن العفو.

(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي لا تنسوا أن يتفضّل بعضكم على بعض ، وقد نقل أنّ جبير ابن مطعم تزوّج وطلّق قبل المسّ وأعطى جميع المهر ، فقيل له في ذلك فقال : أنا أحقّ بالعفو وعدم نسيان الفضل (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم بأعمالكم من العفو فيعوّضكم عليه ، وهو ترغيب عليه ، ويحتمل الترهيب أيضا لزيادة طلب الحقّ ظلما ويحتمل أن يكون الخطاب هنا أيضا عامّا.

فدلّت على وجوب نصف المهر المسمّى بعد الطلاق قبل المسّ وبعد الفرض وظاهرها التشطير بالطلاق ، لا أنّه يجب النصف حينئذ لقوله (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) فعلم أنّ الجميع فرض ووجب بالعقد ، وشطّر بالطلاق ، وعلى استحباب العفو مطلقا من غير شرط الاستغناء ، وعلى استحباب التفضّل والإحسان ، وعلى استحباب العفو للوليّ ، وعلى استقلال المرأة في العفو ، فيلزم في العقد أيضا ، بل على استقلال الوليّ حيث أسند العقد إليه إلّا أنّه مجمل غير مبيّن من (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

الرابعة : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) :

يقومون بأمورهنّ ويسلّطون عليهنّ كقيام الولاة على رعيّتهم بسبب تفضيل الله تعالى إيّاهم عليهنّ بكمال العقل وغيره وبسبب ما ينفقون عليهنّ من أموالهم (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ) أي الزوجات الّتي تخافون أيّها الأزواج عصيانهنّ وترفّعنّ عنكم وعن مطاوعتكم فيما يجب عليهنّ بظهور أمارات العصيان والنشوز والأولى حمل الخوف على العلم كما نقل في مجمع البيان عن الفرّاء ، قال : معناه تعلمون نشوزهنّ قال : وقد يكون الخوف بمعنى العلم كما قالوا في قوله تعالى (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) الآية لأنّ خوف النشوز لا يوجب الهجر والضرب (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) أي فعظوهنّ بالقول والنصيحة فان لم ينفع الوعظ

__________________

(١) النساء : ٣٤.

٥٣٦

والنصيحة ولم يتركن النشوز به ، فاهجروهنّ في المراقد والمبايت ، فلا تدخلوهنّ تحت اللحف بأن تعزلوا فراشها أو حوّلوا إليهنّ ظهوركم في الفراش كما يدلّ عليه ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام يحوّل ظهره إليها ، أو لا تجامعوهنّ فكنى بالمضاجعة عن الجماع كما في المباشرة أي لا تجامعوهنّ حتّى يتركن النشوز ، وإن لم يتركن فاضربوهنّ قيل : فعظوهنّ بكتاب الله أوّلا وذلك أن يقول الزوج اتّقي الله وارجعي إلى طاعتي فإن رجعت وإلّا غلّظ عليها القول ، فان رجعت وإلّا ضربها ضربا غير مبرّح ، قيل : معناه أن لا يقطع لحما ولا يكسر عظما ، وقيل أن يكون شديدا وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام الضرب بالسواك.

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي رجعن إلى طاعتكم بالايتمار بأمركم (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي لا تطلبوا عليهنّ تسلّطا وعلوّا بالباطل ، وسبيلا للضرب والهجران والوعظ ، ممّا أبيح لكم فعله عند النشوز ، بل ينبغي أن تجعلوا ما كان منهنّ كأن لم يكن فإنّ التائب عن الذنب كمن لا ذنب له على ما روي ودلّ عليه القرآن العزيز فينبغي الأخذ به ، فينبغي الكون معهنّ مثل ما كانوا معهنّ قبل النشوز ، بل ينبغي ذلك مع كلّ تارك ذنب ، فالآية تدلّ على عدم جواز الهجران والضرب بالمفهوم بدون النشوز والجواز معه بالمنطوق ، فالأمر هنا للإباحة لا الوجوب والاستحباب بل يمكن أن يكون مرجوحا فانّ العفو حسن إلّا أن يعلم الفساد في الترك فيمكن الاستحباب بل قد يجب فيجري فيه الأحكام الخمسة.

الخامسة : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) (١) أي لا تقدروا على العدل والتسوية بينهنّ بحيث لا يقع منكم أصلا ميل قلبيّ إلى إحداهنّ أكثر من غيرها ويكون الميل والمعاشرة متساوية بينهنّ من غير زيادة لإحداهنّ على الأخرى ولهذا نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقسم بين النساء فيعدل ويقول : هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تأخذني فيما تملك ولا أملك. (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على ذلك وبذلتم جهدكم الّذي هو مقتضى الحرص والميل فرفع الله ذلك عنكم ولم يكلّفكم به لقبحه ، ولكن

__________________

(١) النساء : ١٢٩.

٥٣٧

ينبغي الملاحظة بحسب المقدور والتساوي مهما أمكن (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي لا تجوروا على المرغوب عنها الّتي لا ميل لكم إليها كلّ الجور ، فتمنعوها عن قسمتها من غير رضاها ، يعني لا بدّ من اجتناب كلّ الميل فإنّه مقدور والتكليف به واقع ، فلا تفرّطوا فيه ، وإن وقع منكم تفريط في العدل كلّه حيث ما كان مقدورا فلا يقع في الميل كلّه.

ولعلّ فيه توبيخا على وقوع التفريط في العدل مع إمكان عدمه ، وإن لم يكن واجبا ، ولهذا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقّيه مائل (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) وهي الّتي لم تكن بذات بعل ولا بغير بعل ولا يميل إليها ، ولا يعاشرها معاشرة الأزواج ، ولا يطلّقها بل يجعلها كالمعلّقة بين الأمرين : لا إلى هذه ولا إلى ذلك ، وبالجملة يجب (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ففيها دلالة على النهي من جعلها كالمعلّقة ، وتعطيلها ، ووجوب الإمساك بالمعروف أو الطلاق ، وتحريم الميل [إلى إحداهنّ] كلّ الميل وعدم التكليف بالتسوية واستحباب المساواة في الأمور كلّها مهما أمكن.

السادسة : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) (١) أي علمت وقيل ظنّت (مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) أي استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها إمّا لبغضه لها أو لكراهته منها شيئا كعلوّ سنّها وغيره (أَوْ إِعْراضاً) يعني انصرافا بوجه أو ببعض منافعه الّتي كانت لها منه (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي لا حرج ولا إثم على كلّ من الزوج والزوجة (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) بأن تترك المرأة له يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك تستعطفه بذلك فتستديم المقام في حباله كذا فسّر ، وفيه تأمّل لأنّه يلزم إباحة أخذ شيء للإتيان بما يجب عليه وبترك ما يحرم عليه ، وقد مرّ في الصلح فتذكّر وتأمّل.

__________________

(١) النساء : ١٢٨.

٥٣٨

السابعة : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) (١).

إشارة إلى بيان سكنى الزوجة الّتي تستحقّ ذلك يعني يجب إسكان الزوجة حال الزوجيّة أو بعد الطلاق الرجعيّ في العدّة ودلّ إجماع علماء أهل البيت وأخبارهم مع الأصل على تخصيص السكنى والنفقة بهما إلّا الحامل وسيجيء. أسكنوهنّ من الأمكنة الّتي تسكنونها ممّا تطيقونه وتقدرون على تحصيله بسهولة لا بمشقّة وهو معنى قوله (مِنْ وُجْدِكُمْ) أي وسعكم ، قيل : هو عطف بيان لقوله : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) فانّ معناهما واحد ، وهو المكان الّذي يليق لهم السكنى ولا تسكنوهنّ فيما لا يسعهنّ ولا مع غيرهنّ ممّا لا يليق بهنّ فيتعين ، وقد يلجأن إلى الخروج مع تحريمه عليهنّ أو طلب الطلاق بالفداء.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.)

إشارة إلى وجوب النفقة المقرّرة للزوجة الحامل بعد الطلاق البائن أيضا إذ الزوجة والرجعيّة يجب نفقتهما حاملا كانتا أم لا ، وللمسئلة فروع كثيرة مثل كونها للحمل أو الحامل مع ظهور الفائدة مذكورة في محلّها ، ولي فيها بحث ، وينبغي السكوت عمّا سكت الله منه ، وقطع النظر عن كونها للحمل أو الحامل والاقتصار على ظاهر القرآن وهو وجوب النفقة للحامل المطلّقة ، ويمكن فهم عدم وجوب الإنفاق على غير الحامل بالمفهوم ، فالقول بوجوبها للمطلّقة حاملا كانت أم لا ، كما ذكره في الكشاف غير جيّد ، ويؤيّده الأصل والأخبار والإجماع.

والظاهر أنّ الآية إن كانت عامّة في الرجعيّة والبائنة تخصّص الاولى بالأدلّة الدالّة على أنّ حكمها حكم الزوجة ، وبالآية السّابقة الدالّة على إيجاب سكناها والنفقة تابعة وبالطريق الأولى لأنّها أكثر احتياجا إليها ، ولهذا لا سكنى للحامل المتوفّى عنها زوجها ، وإن قلنا بالنفقة لعدم النصّ ، وصحّة القياس وفي

__________________

(١) الطلاق : ٦.

٥٣٩

ثبوتها لها تأمّل ، والظاهر العدم للأصل مع عدم الدليل.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) إشارة إلى عدم وجوب الإرضاع على الامّ كما هو مذهب الأصحاب والشافعيّ ومنع الحنفيّ عن الإجارة حال الزوجيّة نقله في الكشاف بل يجب الأجرة لها على الأب ، وظاهرها كونها بعد انقطاع عقدة النكاح بالطلاق ويحتمل العموم أيضا ولعلّ وجوب الأجرة على الأب من جهة وجوب نفقة الولد عليه وحينئذ يكون مشروطا بفقر الولد وغنى الأب ، فإن كان للولد مال يعطى للامّ الأجرة منه ، ويؤيّده أنّ الآية ليست بصريحة في كون الأجرة من مال الأب ، فإنّه لو كان من الولد أيضا يجب الإعطاء على الأب ، وإن لم يكن له مال مع فقر الأب يمكن الإيجاب على الامّ بلا اجرة مطلقا لأنّه يجب نفقته عليها مع قدرتها ، ويحتمل اشتراط غناها عن اجرة الإرضاع فإنّها بمنزلة مالها فتقدّم نفسها على من يجب نفقته عليها فيكون من بيت المال كما إذا لم يمكن إرضاع الأمّ.

(وَأْتَمِرُوا) اصنعوا واعملوا (بَيْنَكُمْ) في الإرضاع والإنفاق والإسكان وإعطاء الأجرة وغيرها (بِمَعْرُوفٍ) الأمر الشرعيّ واقبلوه فتكونون مؤتمرين حاملين للأمر بوجه حسن جميل من غير تعاسر وتضايق ، وفي القاضي : وليأمر بعضكم بعضا بجميل في الإرضاع والأجر ، وفيه تأمّل وفي الكشاف الايتمار بمعنى التآمر كالاشتوار بمعنى التشاور ، يقال ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضا إن صحّ فهو نادر و «إِنْ تَعاسَرْتُمْ» أي تضايقتم وما رضي بعضكم بما قاله الآخر (فَسَتُرْضِعُ لَهُ) امرأة (أُخْرى) غير الامّ وكأنّ فيه إشارة ما إلى معاتبة الامّ على المعاسرة فانّ المساهلة من جانبها أنسب لأنّها أشفق ولأنّه ولدها ، فلو نقص من أجرتها المتعارفة لا يضيع ولأنّه ما ينقص عنها بالحقيقة شيء بخلاف الأب ، فإنّه يخرج الأجرة من ماله ، وإن كان من مال الولد فعدم المعاسرة أولى ، ويمكن فهم عدم جواز الإرضاع لغيرها مع عدم معاسرتها ورضاها كما قاله الفقهاء كعدم وجوبه عليها وجواز إرضاع غيرها على تقدير المعاسرة ، ويدلّ عليها الأخبار ، ولعلّه لا خلاف فيها.

٥٤٠