زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

يصدق عليه وأنّه خرج أقلّ من ذلك بالإجماع وبقي ما فوقه تحت الآية ولكن يدلّ على أنّ الأقلّ أيضا مثل بريد يوجب ذلك بعض الروايات الصحيحة (١) ولكن الظاهر أنّه ما قال به أحد ، وحملها على التخيير حينئذ البعض ، والبعض الآخر على عدم نيّة الإقامة ، وعلى قصد الرجوع في يومه أو ليلته فيصير بريدان في يوم ولكن تدلّ رواية صحيحة (٢) على وجوب القصر على أهل مكّة بالخروج إلى عرفة بحيث يبعّد كلّ المذكورات.

وأيضا ظاهر الآية أنّ مجرّد الخروج إلى السفر وصدق الضرب سبب للقصر ولكن حدّده أكثر الأصحاب بالوصول إلى موضع لا يسمع الأذان ولا يرى الجدران أو أحدهما وقال البعض بمجرّد الخروج عن موضعه ، ولكلّ شاهد من الروايات فتأمّل في تحقيق الحقّ.

ثمّ إنّ ظاهر الآية أيضا أنّ القصر رخصة لا عزيمة ، ولكن مذهب أصحابنا وأبي حنيفة أنّه عزيمة أي واجب معين لا يجزئ غيره ، لا جائز مخير فيه ويدلّ عليه ما روي من طرق العامّة والروايات الصحيحة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وإجماع الطائفة ، ونفي الجناح لا ينافي ذلك ، مثل وجوب السعي بل يعمّ وإن كان في الجواز أكثر استعمالا إذ لا شكّ في أنّه لا حرج في فعل الواجب.

فإذا دلّت الأخبار من الخاصّة والعامّة عليه ، مثل قول عمر صلاة السفر ركعتان تامّ غير قصر على لسان نبيّكم (٣) وقول عائشة أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين في السفر ، وزيدت في الحضر (٤) فالآية تحمل عليه ، ولا شكّ أنّ القصر أحوط وأولى ، ومجمع عليه ، فلا بدّ من المصير إليه.

قال في الكشاف : كأنّهم ألغوا الإتمام ، وكانوا مظنّة لأن يخطر ببالهم أنّ

__________________

(١) راجع الكافي ج ٣ : ٤٣٤.

(٢) الوسائل أبواب صلاة المسافر الباب ٣ الحديث ١.

(٣) أخرجه الشيخ في الخلاف عن عمر ج ١ ص ٢٠٢ وأخرجه في مشكاة المصابيح ، ١١٩ عن ابن عمر وقال : رواه ابن ماجة.

(٤) مشكاة المصابيح : ١١٩ ، الخلاف ج ١ : ٢٠٢ ، سنن ابى داود ج ١ : ٢٧٤.

١٢١

عليهم نقصانا في القصر ، فرفع عنهم الجناح بقوله «لا جناح» الآية لتطيب أنفسهم بالقصر ، ويطمئنّوا إليه.

ثمّ إنّ لصلاة القصر شرائط وأحكاما مذكورة في مظانّها فليطلب هناك وأنّه قال أصحابنا : الخوف موجب للقصر كالسفر ، فالشرط أحد الأمرين المذكورين في الآية وإن لم يفهم من ظاهرها ، بل ظاهرها أنّ كلاهما معا شرط ولكن دلّت الأخبار مع الإجماع على أنّهما ليسا بشرطين بل أحدها فقط ، ولا استبعاد في ذلك فإنّ أكثر الآيات المستنبطة منها الأحكام في غاية الإجمال ، وإنّما يفهم تفصيلها من الإجماع والأخبار ، على أنّه يمكن فهم القصر مع الخوف وحده من آية صلاة الخوف المذكورة بعد آية القصر بلا فصل ، حيث دلّت على كونها ركعتين ظاهرا وفسّرت به فتأمّل.

السادسة: (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ.) الاية (١).

إشارة إلى الصلاة حال الخوف جماعة ، وفيها كمال الاهتمام بها ، حيث لا يترك في مثل هذه الحال ، مع ارتكاب بعض الأمور في الصلاة ، للتحفّظ عليها ، وبظاهرها تعلّق من قال : إنّ ذلك مخصوص بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة الخطاب وسبب النزول ، ولكنّ الظاهر أنّه يثبت عمومها بإجماع الطائفة ودليل التأسّي وأنّ حكم الإمام حكمه ، فلا شكّ في الجواز معه ، وأمّا بدونه فإذا وجد ما يخالف القواعد فمشكل ولكن ظاهر ما مرّ ذلك ، مع أنّه ليس فيها مخالفة واضحة كثيرة للقواعد.

وتركت ذكر تفصيلها لاحتمال الاختصاص به وبالأئمّة عليه وعليهم‌السلام مع ذكر أحكام صلاة الخوف وأقسامها في الفقه ، وعدم ظهور المقصود منها ، بل هي صلاة

__________________

(١) وهي : فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وامتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ان الله أعد للكافرين عذابا مهينا ، النساء : ١٠١.

١٢٢

بطن النخل أو ذات الرقاع فتأمل (١) ويمكن أن يكون إشارة إلى صلاة شدّة الخوف كما قيل.

السابعة: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الاية (٢).

أي إذا أردتم الصلاة ـ مثل فإذا قرأت القرآن ـ فصلّوا فالذكر بمعنى الصلاة أو بمعناه ، ولكن بأن تصلّوا له ، وهو في القرآن كثير ، فحال الخوف صلّوا مهما أمكنكم على أيّ وجه يمكن قياما وقعودا ونحو ذلك ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى صلاة القادر والعاجز أي صلّوا قياما إذا كنتم أصحّاء ، وقعودا إذا كنتم مرضى لا تقدرون على القيام وعلى جنوبكم إذا لم تقدروا على القعود ، وقال في مجمع البيان (٣) عن ابن مسعود وروي عن ابن عباس أنّه قال عقيب تفسير الآية لم يعذر الله أحدا في ترك ذكره إلّا المغلوب على عقله ، وقد روي في أخبارنا أيضا هذا المعنى للآية ويفهم الترتيب بين القيام والقعود والجنوب في الصلاة ، ولم يعلم الترتيب بين الجنين والاستلقاء ويحتمل إرادة الكلّ من الجنوب من غير ترتيب ، أو مع الترتيب ولعلّ في الرواية إشارة إليه كما صرّح به بعض الأصحاب ، ولا شكّ أنّه أحوط وكأنّه يؤيّد إرادة الصلاة ، ولكن يشعر بحال الخوف ، قوله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) يعني في وقت عدم الاطمئنان صلّوا على قدر ما تتمكّنون منه من القيام والقعود والجنوب ، فإذا اطمأننتم وقدرتم على أن تقيموها بأركانها المعتبرة حال القدرة فأقيموا الصلاة أي صلّوها بحدودها وحافظوا على أركانها وشرائطها كملا كما هي

__________________

(١) موضعان : الأول في طريق البصرة قريب من المدينة ، والثاني قريب من النخيل بين السعد والشقرة وبئر أرما على ثلاثة أيام من المدينة ، راجع شرح ذلك في كنز العرفان ج ١ ص ١٨٩.

(٢) النساء : ١٠٣.

(٣) مجمع البيان ج ٣ ص ١٠٣ ، وفيه : وروى أنه قال ، والظاهر من كلامه أن القائل هو ابن مسعود لا ابن عباس.

١٢٣

وقد مضى تفسير تتمّتها أعني (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ) (١) الآية.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢).

الرجال جمع راجل ، مثل تجار وصيام وقيام والراجل هو الكائن على رجله واقفا كان أو ماشيا ، والرّكبان جمع راكب كالفرسان جمع فارس ، وكلّ شيء علا شيئا فقد ركبه ، فرجالا حال ، والتقدير فصلّوا رجالا يعني إن خفتم من عدوّ أو سبع أو غرق ونحوها ولم يمكنكم الصلاة تامّة الأفعال والشروط كما هي المقرّرة حال الأمن ، فصلّوا رجالا على أرجلكم وعلى أيّ هيئة يمكنكم ماشين أو واقفين إلى القبلة وغيرها بالقيام والركوع والسجود ، إن أمكن وإلّا فبالنيّة والتكبير والتشهّد والتسليم ، يعني تتعمّدوا المقدور من الهيئة أو على ظهور دوابّكم على أيّ جهة يتوجّه ولو تمكّن من القبلة فيها ، وإلّا فمهما أمكن ، وبالجملة في الآية الشريفة إشارة إلى صلاة الخوف على طريق الإجمال ، والتفصيل مذكور في الكتب الفقهيّة مع أدلّتها.

وفي مجمع البيان (٣) إنّ عليّا عليه الصلاة والسلام صلّى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء ، وقيل بالتكبير ، وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى يوم الأحزاب إيماء (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي فصلّوا صلاة الأمن ، وقيل اذكروا الله بالثناء عليه ، والحمد له شكرا للخلاص من الخوف والعدوّ ، فكأنّه الأولى لظهور الذكر فيه ولفهم صلاة الأمن من قبيله بقوله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) الآية ، فدلّت على استحباب الذكر شكرا لله على دفع الألم أو الخوف (كَما عَلَّمَكُمْ) أي الذكر مثل ما علّمكم من الشرائع وكيفيّة صلاة الخوف والأمن وغيرها ، أو شكرا يوازي نعمة ، فما موصولة أو مصدريّة ، و (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) مفعول علّمكم ، وما موصولة أو

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٩ فيما سبق.

(٢) البقرة : ٢٣٩.

(٣) مجمع البيان ج ٢ : ٣٤٤.

١٢٤

موصوفة ، ولم تكونوا صلة له أو صفة ، وتعلمون خبر تكونوا.

الثامنة: (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (١).

قيل : فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربّك في الدعاء ، وارغب إليه في المسألة يعطك ، وهو مرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما الصلاة والسلام (٢) وعن غيرهما أيضا و «انصب» من النصب ، وهو التعب أي لا تشتغل بعد الصلاة بالراحة مثل النوم والأكل وعدم الاشتعال بشيء بل اشتغل بالعبادة مثل الدعاء بعدها فيكون المراد التعقيب ، وهو الدعاء بعد الصلاة ، ونقل عن الصادق عليه الصلاة والسلام أنّها الدعاء في دبر الصلاة (٣) فتكون إشارة إلى استحباب التعقيب كما هو المشهور والمجمع عليه ، وهو الاشتغال بعد الفريضة بالدعاء والمسألة ، كما يدلّ عليه الأخبار من الخاصّة (٤) والعامّة ، وينبغي إيقاعها بعد الفريضة قبل الاشتغال بشيء حتّى قبل النافلة في صلاة المغرب أيضا ويدلّ عليه الأخبار بخصوصها ، فما ورد من فعلها قبل الكلام وتعجيلها ، فالمراد غير التعقيب ، كما صرّح به في الرواية في الفقيه (٥) وينبغي أيضا أن يكون على هيئة الصلاة كما يشعر به الآية ، ويدلّ عليه الأخبار وقاله بعض الأصحاب حتّى بالغ في الذكرى أنّه يضرّ بالتعقيب جميع ما يضرّ بالصلاة ، والظاهر أنّ المراد المبالغة ونقص الفضيلة ، وإلّا فالدعاء مستحبّ على كلّ هيئة وورد في الحديث بعد سؤال التعقيب بعد القيام : أنّه معقّب ما دام متطهّرا (٦) ويمكن استفادة استحباب الدوام على الطهارة من هذه الرواية.

وبالجملة الظاهر أنّه يفهم من الآية استحباب الطاعة بعد الصلاة سيّما الدعاء

__________________

(١) الانشراح : ٧ و ٨

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٥٠٩ و ٥١٠.

(٣) مجمع البيان ج ١٠ ص ٥٠٩ و ٥١٠.

(٤) الكافي : ج ٣ ص ٣٤١.

(٥) فقيه من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٤٣.

(٦) راجع الفقيه ج ١ ص ٢١٦ حديث هشام تحت الرقم ٩٦٣ من الباب ٤٦.

١٢٥

فإنّه ورد في الرواية حثّ عظيم ، وترغيب كثير ، وثواب جزيل في التعقيب (١) وهو مذكور مع ما ورد في محلّه فاطلبه ، وعدم الفراغ أو النوم فإنّهما يضرّان بالدين والدنيا ، كما ورد في الروايات الكثيرة خصوصا النوم بعد الغداة إلى أن تطلع الشمس فإنّه مذموم جدّا [وكذا بعد صلاة اللّيل فإنّه ورد أنّه لم يمدح صاحبه بصلاة اللّيل الّتي صلّاها] وكذا ورد ذمّ الكسل والضجر فينبغي الاجتناب عنها. الله الموفّق.

وأيضا فيها إشارة إلى أنّ الطلب والرغبة إلى الله فقطّ لا غير حيث قدّم الصلاة لإفادة الحصر وقال (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي لا غيره وهو ظاهر.

التاسعة: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٢).

الصلاة معلومة لغة وشرعا وإقامتها أداؤها بأركانها وشروطها المعتبرة شرعا والركوع لغة هو الانحناء والانخفاض ، وقيل هو الخضوع ، وهما متقاربان ، وشرعا انحناء خاصّ ، وهو الانحناء بحيث يصل يد مستوي الخلقة ركبتيه ، على ما ذكره الفقهاء وقد يطلق ويراد به الصلاة فالمعنى إيجاب الصلاة على الإطلاق والعموم ، وإيجاب الركوع فيها مع الراكعين أو الترغيب إلى الخضوع فيها أو مطلقا مع كلّ خاضع وخاشع ، ومعنى «مع» على الأوّل لا يخلو عن مسامحة إلّا أن يكون المراد الترغيب والتحريض على الجماعة ، بعد إيجاب الصلاة ، فالمعنى حينئذ صلّوا مع المصلّين أي صلّوا جماعة إماما أو مأموما ،! فيحتمل أن يكون فيما حينئذ إشارة إلى أنّ الجماعة لا بدّ لإدراكها من الركوع ، ويشعر بكون الركوع مع الإمام (٣) فلو كان الإمام راكعا وأدركه حينئذ لم يكن مدركا لعدم صدق الركوع مع الراكع ، بل بعده

__________________

(١) راجع التهذيب ج ١ ص ٢٢٧ ، الكافي ج ٣ ص ٣٤١.

(٢) البقرة : ٤٣.

(٣) يعنى ابتداء الركوع.

١٢٦

ويدلّ عليه الخبر الصحيح (١) وهو مذهب الشيخ والمشهور خلافه ويدلّ عليه بعض الأخبار مؤيّدا بالكثرة ، وبخبر انتظار الإمام راكعا للداخل (٢) وبالإجماع المنقول عليه والاحتياط يقتضي الأوّل بل الأصل أيضا.

أو يكون المراد إيجاب الصلاة الّتي يجب فيها الجماعة كصلاة الجمعة والعيدين أو يكون إشارة إلى وجوب الركوع في الصلاة حيث كان الخطاب لبني إسرائيل وما كان الركوع في صلاتهم كأنّه قال : صلّوا مثل صلاة المسلمين.

ثمّ اعلم أنّ ظاهرها أنّ الخطاب لبني إسرائيل لما سبق من قوله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) [الآية] (٣) ولكن لمّا علم عدم الفرق في الحكم ، فلا يبعد الاستدلال بها على ثبوته على كلّ المكلّفين ، مع أنّ هذا الحكم موجود في آيات وأحبار أخر كما أنّ الخطاب فيما يتلوها مخصوص بعلماء اليهود كما قال في مجمع البيان ، مع أنّ الظاهر أنّ الحكم مشترك للإجماع وغيره ، وهو قوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤) قيل : كان علماء بني إسرائيل يأمرون الناس باتّباعه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يؤمنوا به ، ولم يتّبعوه ، فنزلت الآية الكريمة ، ومضمونها النهي عن ترك النفس تاركة للخير والعمل الصالح ، مثل الايمان به صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّباعه ، وفاعلة للمعاصي والذنوب مع أمر الناس بضدّهما ، مع قراءة الكتاب الدالّ على وصفه ووجوب الإيمان به واتّباعه ، وهو التوراة مع العلم بقبح

__________________

(١) كصحيحة محمد بن مسلم ، «إذا لم تدرك تكبيرة الركوع فلا تدخل معهم في تلك الركعة» وفي أخرى «لا تعتد بالركعة التي لم تشهد تكبيرها مع الامام» راجع الوسائل أبواب صلاة الجماعة الباب ٤٣ تحت الرقم ٢ و ٣.

(٢) راجع التهذيب ج ١ ص ٢٨٥ ، الكافي ج ٣ ص ٢٨٢ ، الاستبصار ج ١ ص ٣٦.

(٣) والآية (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الاية.

(٤) البقرة ٤٤.

١٢٧

ذلك من العقل ، وبالجملة الآية تدلّ على أنّ الّذي يريد لغيره الخير ولا يريده لنفسه لا يعقل ، ففيها توبيخ عظيم لمن يفعل ذلك ، فهي تدلّ على كون النفس مذمومة بذلك عقلا ، ففيها دلالة على كون القبح عقليّا ولا يدفعه (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) كما قاله التفتازاني في حاشية الكشّاف فافهم.

وليس المراد عدم جواز أمر الناس بالطاعات مع ارتكابه المعاصي كما يتوهّم إذ العدالة لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما هو الأصل والمشهور ومقتضى الدليل ، وعدم اشتراط كون الواعظ متّعظا لأنّ الأمر بالمعروف واجب (١) وفعله واجب آخر ، ولا يستلزم ترك الثاني سقوط الأوّل ، وهو ظاهر ، بل المراد إظهار قبحه وكونه أفحش وأظهر قبحا عند العقل لا زيادة عقابه ، نعم يمكن كون وعظ المتّعظ أدخل. فحينئذ يجوز لتارك الصلاة أمر غيره بها ، ولهذه المناسبة أيضا ذكرناها هنا ، وبالجملة تفهم من ظاهر الآية الحظر والتهديد العظيم ، على من ترك نفسه مع أمر غيره كما يدلّ عليه قوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٢) إن حمل على الأعمّ ، لا على خلاف الوعد فقط فيدلّ على وجوب الوفاء بالوعد.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٣) الاستعانة طلب العون والمعاونة ، والصبر منع النفس عن محابّها وكفّها عن هواها ، والمعنى إيجاب الجمع بين الصلاة والصبر ، وجعل ذلك معينا لقضاء الحوائج بأن تصلّوا صابرين على تكليف الصلاة ، متحمّلين لمشاقّها ، وما يجب فيها من إخلاص القلب وصدق النيّات ودفع الوساوس ، ومراعاة الآداب ، والاحتراس عن المكاره مع الخشية والخشوع ، واستحضار أنّه انتصاب بين يدي جبّار الأرض والسّموات فإنّه إذا فعل ذلك تقضي الحوائج فهي معينة لقضائها وقد وردت الصلاة للحاجة فيحتمل إيّاها ويحتمل أن يكون المراد بالصبر الصوم فإنّ الصائم يصبر نفسه على

__________________

(١) زاد في المطبوعة : والنهى عن المنكر ، وهو سهو.

(٢) الصف : ٣.

(٣) البقرة : ٤٥.

١٢٨

الجوع والعطش ، ولهذا سمّي شهر رمضان شهر الصبر ، والضمير راجع إلى الاستعانة أو الصلاة صابرين على مشاقّها ، وعلى الأخير حذف ضمير الصوم للظهور واكتفي بإحداهما العمدة ، ويحتمل كونه راجعا إلى جميع ما تقدّم من تكاليف بني إسرائيل من قوله (اذْكُرُوا) الآية.

ويحتمل أن يكون المعنى واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر والصلاة والالتجاء إليهما ، كما روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة ويحتمل كون الصلاة بمعنى الدعاء حينئذ فيكون الأمر بالدعاء والصبر عند البلايا [إلخ](وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) أي لشاقّة على كلّ مكلّف إلّا على المتذلّلين والمستكينين ، وثقيلة من قوله «كبر» على ما في الكشّاف وسبب عدم ثقلها عليهم توقّعهم ما وعده للمصلّين والصابرين ، بقوله (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١) الآية ، (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢) كما يفهم من وصفهم بعده بقوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي الّذين يتوقّعون لقاء ثوابه ويطمعون به كذا في الكشّاف وفي مجمع البيان الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين.

العاشرة: (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٣).

الإنصات هو الاستماع ويحتمل أن يكون مع السكوت ، قيل : كانوا يتكلّمون في الصلاة فأمروا باستماع قراءة الإمام ، بل مطلق القراءة المسموعة ، والإنصات

__________________

(١) البقرة : ١٠٥.

(٢) الزمر : ١٠.

(٣) الأعراف : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

١٢٩

إليها ، لكنّ الظاهر عدم وجوبهما بالإجماع إلّا في الصلاة للمأموم ، فيجب عليه استماع قراءة إمامه ، والإنصات إليها ، ويكون المراد وجوب ترك قراءة المأموم في الجملة أي في الجهريّة ، وما يسمع ولو همهمة في الإخفاتيّة ، وبها استدلّ عليه بعض الأصحاب ، والحنفيّة وذلك لا يخلو عن بعد ، من جهة إطلاق عامّ كثير الأفراد وإرادة فرد خاصّ قليل ، وأيضا من جهة إيجاب الإنصات والاستماع ظاهرا بل صريحا وإرادة عدم وجوبهما بل وجوب أمر آخر ، وهو ترك القراءة ، لاستلزامهما ذلك على أنّ في الاستلزام تأمّلا ، إذ يمكن القراءة مع الاستماع والإنصات إلّا أن يريد به السكوت ، فيمكن حملها على عموم رجحان الاستماع والإنصات ، بترك الكلام والتوجّه إلى سماعة ، وفهم معناه والتدبّر فيه ، ويكون التفصيل بالوجوب في بعض أوقات الصلاة ، وبالاستحباب في الباقي معلوما من غيرها ، وعلى استحبابهما للإجماع على عدم وجوبهما إلّا ما أخرجه الدليل ، ويعلم وجوب ترك قراءة المأموم في موضعه بدليل آخر ، وهو الأخبار كما تبيّن في محلّه وهي مختلفة ، والجمع بينهما لا يخلو عن تكلّف ، ولهذا اختلف الأصحاب في الحكم وتمام تحقيقه في محلّه فتأمّل.

قوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) الآية تدلّ على وجوب الإخفات في القراءة والدعاء والذكر مطلقا ، والظاهر عدم القائل به ، ويمكن حمله على موضع وجوب ذلك مثل القراءة في الإخفاتيّة وأريد بالذكر في النفس عدم الجهر العرفيّ الفقهيّ مع إسماع النفس ، وذلك لا يخلو عن بعد ، لما مرّ من بعد حمل لفظ عامّ على فرد قليل منه ، بأن يخصّص بالقراءة في بعض الصلاة ، مع جعل المراد بالذكر في النفس الإخفات المصطلح عليه في الفقه ، ويمكن حمله على الحثّ والترغيب على إخفاء الذكر والدعاء والقراءة مطلقا بحيث لا يسمع أو بمعنى عدم اطّلاع الغير عليه ، ليبعد عن الرياء ، وعدم الجهر العالي الممنوع منه شرعا ، ويؤيّده (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي الجهر العالي ، قال القاضي : أي متكلّما من الكلام فوق السرّ ودون الجهر ، فإنّه أدخل في الخشوع والإخلاص ، وذلك قد يكون

١٣٠

واجبا إذا كان موجبا لترك الرياء أو يكون قراءة واجبة فيجب إسماع النفس ، بحيث يخرج عن حديث النفس ، ولا يكون عاليا بحيث يخرج عن الحدّ ، وقد قالوا ذلك في قراءة الصلاة الفريضة ، بل يمكن ذلك في مطلق القراءة الواجبة بل مطلق القراءة والدعاء ، وفي بعض الأخبار إشارة إلى ذلك ، وإن كان في بعضها ما يدلّ على جواز حديث النفس فتأمّل وأوّل.

ويحتمل أن يكون المراد استحباب إخفات الذكر والدعاء والقراءة ، دون المقدار الواجب ليبعد عن الرئاء كما قيل في استحباب السرّ في التصدّق المندوبة واستحباب فعل النافلة في المنزل دون المسجد ، وإن كان ذلك غير ظاهر ، وكذا سائر العبادات ، فإنّ الإخلاص فيها هي العمدة ، فكلّما بعدت عن شبهة الرياء كانت أولى ، فيكون المستحبّ في مطلق الذكر أوصاف التضرّع والخوف والإخفات والذكر بالقلب واللسان ، لا بمجرّد اللّسان والتلفّظ به ، فيكون (فِي نَفْسِكَ) إشارة إلى اعتبار القصد لا إلى السرّ ويؤيّده قوله (وَدُونَ الْجَهْرِ) حتّى لا يلزم التكرار ، فالمعنى اذكروا الله متكلّما قاصدا ومتضرّعا ومخافة وخائفا من عدم الإجابة ، وطامعا لها ، كما يدلّ عليه قوله تعالى (خَوْفاً وَطَمَعاً) (١).

وهذا آداب القراءة في نفسها ، وأمّا من حيث الوقت فينبغي أن يكون بالغدوّ والآصال ، أي أوقات الغدوات والعشيّات أوّل النهار وآخره وقت العصر كأنّهما اختصّا لفضلهما ، ولبعد العبادات فيهما عن الرئاء ، لعدم اطّلاع الناس لأنّ أكثر الناس فيهما في منزلهم مشغولون بحالهم فتأمّل.

ثمّ رغّب في الذكر وعدم تركه ونسيانه والعفلة عنه بقوله تعالى (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ويحتمل التحريم كما هو ثابت في بعض الأوقات ، وعموم الترغيب على عدم الغفلة ، والتذكر للعبادة والاشتغال بذكر الله تعالى كما مرّ أو استعمال أوامره ونواهيه بأن يذكر الله وثوابه الموعود وعقابه عند أوامره فيفعل ولا يترك وعند النواهي فيترك ولا يرتكب.

__________________

(١) السجدة : ١٦.

١٣١

ثمّ إنّهم ذكروا استحباب السجدة في آخر هذه السورة ، ولعلّ في قوله (إِنَّ الَّذِينَ) الآية إشارة بعيدة إلى ذلك ، وكذا في غيرها والمجموع أحد عشر : آخر الأعراف ، والرعد ، والنحل ، وبني إسرائيل ، ومريم ، والحجّ في موضعين والفرقان ، والنمل ، وص وإذا السماء انشقّت وفي أربع مواضع واجب الم السجدة عند قوله (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١) وكذا في سورة حم عند قراءة (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) (٢) الآية ويحتمل عند قوله (لا يَسْأَمُونَ) (٣) ولعلّ الأخير أولى ، والأحوط السجدة فيهما ، وفي آخر والنجم [فَاسْجُدُوا لِلَّهِ] «وَاعْبُدُوا (٤)» وآخر اقرأ (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (٥).

ولعلّ دليل الأصحاب على الوجوب في السور الأربع والاستحباب في الباقي هو الإجماع ، وبعض الأخبار ، مثل ما نقل عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عزائم السجود أربع (٦) وقول الصادق عليه الصلاة والسلام : إذا قرئ شيء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد ، وإن كنت على غير وضوء وإن كنت جنبا ، وإن كانت المرءة لا تصلّي ، وسائر القرآن أنت فيها بالخيار (٧) ولا يستدلّ على الوجوب بأنّها واردة بصيغة الأمر الدالة على الوجوب لأنّه منقوض (٨) وممنوع إذ لا دلالة

__________________

(١) الم السجدة : ١٥.

(٢) فصلت : ٣٧.

(٣) فصلت : ٣٨.

(٤) النجم : ٦٢.

(٥) العلق : ١٩.

(٦) رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد ج ٢ ص ٢٨٥ وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة كما في الدر المنثور ج ٥ ص ١٧١.

(٧) راجع الكافي ج ٣ : ٣١٨

(٨) لانه لو كان وجوبها بصيغة الأمر فينبغي أن يكون واجبا في المواضع التي ورد الأمر فيها وأنتم لا تقولون به ، فعلى هذا لا يرد النقض على الشافعي لوجوب السجدة عنده في المواضع كلها ، منه رحمه‌الله في هامش نسخة عش.

أقول : من المواضع التي ورد الأمر فيها ولم يقولوا به ما في سورة الحج : ٧٧ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَ (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ) افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقد حملت على الركوع والسجود في الصلاة ، وكذا منقوض طردا بما في سجدة الم السجدة ، لأنها انما تعير المشركين على عدم السجدة وتمدح المؤمنين على فعلها من دون أمر.

١٣٢

فيها على وجوب لسجدة عند [سماع قراءة السجدة وكذا] قراءة الآية الّتي هي فيها ، وهو ظاهر ، فلا بدّ من انضمام مثل : إنّه يدلّ على الوجوب ولا وجوب في غير قراءة هذه الآية والصلاة بالإجماع ، وليست سجدة الصلاة بالإجماع وفيه أنّه ينبغي أن يدّعي الإجماع في المدّعى ، وعند الشافعيّ كلّها مستحبّة وأسقط سجدة ص وعند أبي حنيفة كلّها واجبة ، وأسقط السجدة الثانية عن الحجّ (١) قال في الكشّاف لأنّ المراد بالسّجدة فيه ، هو سجدة الصلاة بقرينة مقارنتها بالركوع ، وفيه أنّه ما استدلّ الشافعيّ على استحبابها عندها بهذه الآية ، بل بالحديث كما نقل في الكشّاف أيضا وغيره وبالجملة لا بدّ من الدليل وذلك خارج عن نفس آية السجدة ، وهو ظاهر ثمّ إنّ الظاهر من السجود هنا هو وضع الجبهة فقطّ ، فلا يجب وضع الباقي مع احتماله ، وكذا الطهارة والذكر ، وغير ذلك ممّا يجب في سجدة الصلاة ، والتشهّد والتسليم ، ويستحبّ التكبير بعد الرفع والذكر لما روي في الكافي (٢) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا قرأت شيئا من العزائم الّتي يسجد فيها فلا تكبّر قبل سجودك ، ولكن تكبّر حين ترفع رأسك وفي الصحيح عنه عليه‌السلام أيضا قال : إذا قرأ أحدكم السجدة من العزائم فليقل في سجوده سجدت لك تعبّدا ورقّا لا مستكبرا عن عبادتك ولا مستنكفا ، ولا مستعظما ، بل أنا عبد ذليل ، خائف مستجير (٣).

ولنتّبع الكتاب بذكر آيات :

الاولى: (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) (٤).

في مجمع البيان : أي فمن يطمع في لقاء ثواب ربّه ويأمله ، ويقرّ بالبعث إليه والوقوف بين يديه ، وقيل : معناه فمن كان يخشى لقاء عذاب ربّه وقيل إنّ الرجاء يشتمل على المعنيين : الخوف والأمل ، وأنشد في ذلك قول الشاعر :

__________________

(١) الحج : ٧٧.

(٢) راجع الكافي ج ٣ ص ٣١٧.

(٣) المصدر ج ٣ ص ٣٢٨.

(٤) وصدرها : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان ، الاية ١١٠ من سورة الكهف وهي آخر آية منها.

١٣٣

فلا كلّ ما ترجو من الخير كائن

ولا كلّ ما يرجو من الشرّ واقع

(فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) أي خالصا لله يتقرّب إليه (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) غيره من ملك أو بشر أو حجر أو شجر عن الحسن ، وقيل : معناه لا يرائي في عبادته أحدا عن سعيد بن جبير ومجاهد ، وقال : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّي أتصدّق وأصل الرجم ، ولا أصنع ذلك إلّا لله فيذكر ذلك منّي وأحمد عليه فيسرّني ذلك وأعجب منه ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يقل شيئا فنزلت الآية قال عطاء عن ابن عباس إنّ الله تعالى قال (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ولم يقل ولا يشرك به لأنّه أراد العمل الذي [يعمل] لله ويحبّ أن يحمد عليه ، قال : ولذلك يستحبّ للرّجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كيلا يعظّمه من يصله بها ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : قال الله عزوجل : أنا أغنى الشركاء عن الشركة فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ، فأنا منه بريء فهو للّذي أشرك أورده مسلم في الصحيح وروي عن عبادة ابن الصامت وشدّاد بن أوس قالا : سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من صلّى صلاة يرائي بها فقد أشرك ، ومن صام صوما يرائي به فقد أشرك ، وقرأ هذه الآية ، وروي أنّ أبا الحسن الرضا عليه‌السلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضّأ للصلاة والعلام يصبّ على يده الماء فقال (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) فصرف المأمون الغلام وتولّى إتمام وضوئه بنفسه ، وقيل إنّ هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن روي الشيخ أبو جعفر بن بابويه رضي‌الله‌عنه بإسناده عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام قال ما من عبد يقرء (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلخ إلّا كان له نورا في مضجعه إلى بيت الله الحرام ، وإن كان من أهل البيت الحرام كان له نورا إلى بيت المقدس وقال أبو عبد الله عليه‌السلام ما من أحد يقرء آخر الكهف عند النوم إلّا تيقّظ في الساعة الّتي يريدها (١).

ثمّ اعلم أنّ هذه الآية الشريفة بالتفسير المتقدّم يدلّ على وجوب الإخلاص واشتراطه في العبادة بحيث لا يلحقه بعد ذلك أيضا عجب وسرور بعمله ، ويدلّ عليه

__________________

(١) انتهى مجمع البيان ج ٦ ص ٤٩٩.

١٣٤

أيضا قوله تعالى (يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) الآية (١) وهو في غاية من الاشكال والصعوبة الله يعين ويعفو ، ويفهم التأويل ممّا سيجيء من الكشاف وأيضا يدلّ على اشتراط الاستقلال بالعبادة فلا يصحّ التولية والاستعانة فيها ، ويدلّ عليه أيضا ما روي عن الرضا عليه‌السلام حين (٢) سئل أن يصبّ الماء عليه ومنعه ، فقال السائل ما تحبّ أن أوجر؟ فقال : تؤجر أنت وأعاقب أنا ، ولكن هذه مع ما تقدّم من حكاية المأمون يدلّان على صحّة ذلك الفعل ، وحصول الثواب للمعين والعقاب للمعان ، وهو مشكل فإنّه ينبغي بطلان العبادة ، فكان يجب على المأمون إعادة الوضوء ، وعلى الإمام الأمر بها لا الإتمام ، والعقاب على المعين أيضا ، فإنّه يصير معينا على الحرام إلّا أن يحمل على الكراهة مع الطلب ، ويكون مقصوده عليه‌السلام بقراءة الآية إشارة إلى المبالغة في المنع لا الحقيقة ، أو يكون ما فعله المأمون من مندوبات الصلاة (٣) أو ما تمكّن عليه‌السلام من أكثر من ذلك ، ويكون المعين جاهلا وقصد القربة فيثاب ، فيكون هذا دليلا لكون الجاهل معذورا.

واعلم أنّا قد جرّ بنا الانتباه في وقت أردناه بقراءة الآية المتقدّمة ، وقد وجدناه كما روي غير مرّة وأخبرنا بعض من يوثق به من الأصحاب أيضا بذلك ، فالخبر صحيح فيكون وجود النور من المضجع إلى البيت الحرام كذلك صحيحا فإنّهما مرويّة في رواية واحدة ، ولا معنى لصدق بعضه وكذب البعض ، ولكن مع حشو ذلك النور من الملائكة ويدعون للقارئ إلى أن يستيقظ كما رأيته في غير مجمع البيان مثل التهذيب (٤) وسيجيء في الكشّاف كذلك فلعلّ في مجمع البيان غلطا ونقصا ويؤيّده ما رواه أبو جعفر بن بابويه في الفقيه (٥) في باب ما يقول الرجل إذا أوى

__________________

(١) وهي (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، آل عمران ١٨٨.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٦٩ ، والسائل هو الحسن بن على الوشاء.

(٣) أى كان الوضوء للصلوات المندوبة ، وفي بعض النسخ : من مندوبات الوضوء خ ل.

(٤) التهذيب ج ١ ص ١٨٥.

(٥) الفقيه ج ١ ص ٢٩٧.

١٣٥

إلى فراشه قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قرأ هذه الآية عند منامه (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ) الآية سطع له نور إلى المسجد الحرام حشو ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتّى يصبح. أو يكون في غير هذا المحلّ وأيضا يكفي للعمل وحصول ذلك الثواب الإجماع والأخبار من العامّة والخاصّة المنقولين في حصول الثواب لعامل عمل بما روي عنه عليه‌السلام وإن لم يكن كما روي ، وهو ينفع هنا وفي غيره من الأعمال الكثيرة وفّقنا الله وإيّاكم للعلم والعمل الخالصين.

وفي الكشاف : فمن كان يأمل حسن لقاء ربّه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول ـ وقد فسّر اللقاء ـ أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربّه ، والمراد بالنهي عن الإشراك بالعبادة أن لا يرائي بعمله ، وأن لا يبتغي به إلّا وجه ربّه خالصا ، لا يخلط به غيره ، وقيل نزلت في جندب بن زهير قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّي أعمل العمل لله فإذا اطّلع عليه سرّني ، فقال إنّ الله لا يقبل ما شورك فيه ، وروي أنّه قال له : لك أجران أجر السرّ وأجر العلانية ، وذلك إذا قصد أن يقتدى به وعنه عليه‌السلام اتّقوا الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر قال الرياء. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ، ومن قرأها كلّها كانت له نورا من الأرض إلى السماء وعنه عليه‌السلام من قرأ عند مضجعه (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كان له في مضجعه نورا يتلألأ إلى مكّة حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يقوم ، وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور وحشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ ، فالخبر في ثواب قراءة هذه وتفسيرها ما وافق عليه العامة والخاصّة (١).

الثانية: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) اى احبس نفسك يا محمد (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) (٢).

__________________

(١) وفي الدر المنثور ج ٤ ص ٢٥٦ ـ ٢٥٨ روايات في ذلك.

(٢) الكهف : ٢٨.

١٣٦

يداومون على الصلاة والدعاء عند الصباح والمساء لا شغل لهم غيره ، فيفتتحون يومهم بالدعاء ، ويختمونه به ، ويحتمل عموم العبادة وما يتقرّب به (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) رضوانه أو يريدون تعظيمه والقربة إليه ، دون الرياء والسمعة (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ) لا تتجاوز عيناك (عَنْهُمْ) بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي تريد مجالسة أهل الشرف والغنى وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حريصا على إيمان العظماء طمعا في أيمان أتباعهم ، أولا تمل إلى الدنيا وزينتها قطّ ، ولا إلى أهلها ، ولمّا كان بعض الأحيان يميل إلى إيمان الرؤساء عوتب بهذه الآية ، وأمر بالإقبال على فقراء المؤمنين ، وأن لا يرجع بصره عنهم إرادة مجالسة الأشراف (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا بتعريضه للغفلة هكذا في مجمع البيان (١) ويفهم منه الترغيب والتحريض بمجالسة الفقراء والصلحاء والعبّاد دون أهل الدنيا والأغنياء ، وهو ظاهر. قيل نزلت في سلمان وأبي ذرّ وصهيب وخبّاب وذويهم من فقراء أصحابه وذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاؤا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عيينة بن حصين والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا يا رسول الله إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم وكانت عليهم جباب الصوف جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك ، فلا يمنعنا عن الدخول عليك إلّا هؤلاء فلما نزلت الآية قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله عزوجل فقال الحمد لله الذي لم يمتني حتّى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمّتي ، معكم الحياة والممات ، كذا في مجمع البيان (٢) أيضا.

الثالثة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٣).

الآيات منصوب بأنّه اسم إنّ وخبره الظرف المقدّم عليه ، أي في إيجاد الله تعالى السموات والأرض وجعله اللّيل والنهار مختلفين باعتبار الخواصّ والأحوال

__________________

(١) المصدر : ج ٦ ص ٤٦٥.

(٢) المصدر : ج ٦ ص ٤٦٥.

(٣) آل عمران : ١٩٠.

١٣٧

بل اختلاف كلّ واحد منها : تارة بارد ، وتارة حارّ وتارة قصير وتارة طويل لدلالات وأدلّة على وجود الله وتوحيده ، وصفات الله العليا من الوجوديّة والسلبيّة لذوي البصائر والعقول ، واللّب هو الخالص وسمّي العقل به ، لأنّه أشرف وأخصّ ما في الإنسان فدلّت على الترغيب بعلم الكلام بل الهيئة أيضا (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في محلّ الجرّ بأنّه صفة أو عطف بيان أو تأكيد لاولي ، ويحتمل أن يكون مرفوعا أو منصوبا على المدح ، وهو إشارة إلى أنّ ذوي العقول ، هم الّذين يذكرون الله دائما وعلى كلّ حال ، ولهذا ورد التحريص والترغيب بذكر الله كثيرا مثل ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر من ذكر الله ، يا موسى ذكري حسن على كلّ حال (١) فدلّت على الترغيب بذكر الله دائما وعلى كلّ حال ، صحيحا أو مريضا قائما أو قاعدا أو مضطجعا ، وعلى أيّ حال كان من غير مانع بوجه من الوجوه عن ذلك ، ويحتمل أن يكون معناه يصلّون على هذه الهيئة على حسب طاقتهم كما روي عن الخاصّة والعامّة روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعمران بن الحصين صلّ قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء ، وهذه حجّة الشافعيّ على أنّ المريض يصلّي مضطجعا مستقبلا بمقاديم بدنه ، وعلى بطلان مذهب أبي حنيفة أنّه يستلقي ومذهب الشافعيّ موافق لمذهب أصحابنا ، ولكن في بعض الروايات الترتيب بين الجنبين اليمين ثمّ اليسار فيكون المراد حينئذ بالذكر الصلاة قاله البيضاويّ (٢) ورواه علىّ بن إبراهيم في تفسيره ولا تنافي بين التفسيرين فإنّه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال ، وهم في الصلاة ، وهي تدلّ على هيئة لصلاة في المرض كما ذكره أصحابنا ودلّت عليه الروايات.

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف على (يَذْكُرُونَ) فتدلّ على أنّ من كمال العقل والبصيرة التفكّر في خلقهما للاستدلال به ، من جهة

__________________

(١) الوسائل أبواب الذكر.

(٢) أنوار التنزيل : ٨٨.

١٣٨

اختراع هذه الأجرام وإبداع أوضاعها ، وما دبّر فيها ممّا يتحيّر فيه العقول عن إدراك بعض عجائبها كما يظهر بالتأمّل خصوصا مع ملاحظة علم الهيئة على عظم شأن الصانع ، وكبرياء سلطانه ، وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة ، وكمال قدرته الّتي تعجز عن تخيّله العقل فيتحقّق أن ليس لها صانعا إلّا الله الّذي لا إله إلّا هو ، ولا يشبه شيئا ولا يقدر القادرون قدره. وعن سفيان الثوريّ أنّه صلّى خلف المقام ركعتين ثمّ رفع رأسه إلى السماء فلمّا رأى الكواكب غشي عليه ، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته.

وفي الآية دلالة على عظم شأن علم أصول الدين وفضله والتفكّر في خلق الله مستدلا به على وجود الله وصفاته ، حيث جعل كذكر الله ومن لوازم العقل وشرطه على الظاهر ، ولهذا روي في أخبار الخاصّة والعامّة (١) ما يفيد ذلك مثل ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لا عبادة كالتفكّر ، وأنّ ذلك مفيد للعلم ومعلوم شرف العلم بذات الله على غيره من العلوم والأعمال ، فإنه شرط للكلّ ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أنّ لك ربّا وخالفا اللهمّ اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له ، وعن ابن عمر قال قلت لعائشة أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبكت وأطالت ثمّ قالت : كلّ أمره عجيب أناني في ليلتي ودخل لحافي حتّى ألصق جلده بجلدي ثمّ قال : يا عائشة هل لك أن تأذن لي اللّيلة في عبادة ربّي؟ فقلت يا رسول الله إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك ، قد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضّأ ولم يكثر من صبّ الماء ثم قام يصلّي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتّى بلغ الدموع حقويه ثمّ جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثمّ رفع يديه وجعل يبكي حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض فأتاه بلال يؤذنه لصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له : يا رسول الله أتبكي؟ وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟ ثمّ قال : ومالي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه اللّيلة (إِنَّ فِي

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ١١٠ ـ ١١١.

١٣٩

خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ثمّ قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها ، وروي ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّلها.

وفي هذه دلالة على أنّ العبد الشكور هو الّذي يبكي كثيرا وأنّه ينبغي الاذن من الزوجة إن أراد القيام للعبادة في ليلتها ، فكأنّه تجب المضاجعة طولها وأنّه لا يضرّ البكاء والدعاء بحضور الزوجة والأصحاب ، ولا ينافي الخفية الّتي هي مطلوبة في الدعاء ، وعلى الوعيد في عدم التأمّل في معنى الآية ، وعدم التفكّر فيما يدلّ على صفاته ، وكأنّه يشعر بوجوب المعرفة بالدّليل ولا يضرّ عدم العلم بسند الرواية فتأمّل.

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) كأنّه حال عن فاعل (يَتَفَكَّرُونَ) أي يتفكّرون قائلين ربّنا و «هذا» إشارة إلى المخلوق المذكور من السموات والأرض أو الخلق بمعناه (١) أو إليهما يعني ليس ما خلقت عبثا لا حكمة ولا فائدة ولا غرض فيه ، بل فيه حكمة عظيمة ، ومصالح كثيرة ، من جملتها كونها دليلا على التوحيد والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات ، وكون الأرض مبدءا لوجود الإنسان وسببا لاستقراره ، وترتّب الفوائد الّتي يراها يترتّب على خلق الأرض والسماء واختلاف الليل والنهار ، الّتي لا يحصيها إلّا الله ، فيمكن أن يستدلّ بها على أنّ أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض الحاصلة للعباد ، فلا يجب عود الغرض من الفعل إلى فاعله ، وهو ظاهر ، وفيها حكم ومصالح ، وأنّ الباطل والعبث محال عليه وأنّه مذموم وقبيح ، وأنّه منزّه عنه كما أشار إليه بقوله (سُبْحانَكَ) أي ننزّهك تنزيها من العبث والباطل.

(فَقِنا عَذابَ النَّارِ) إشارة إلى أنّ مجرّد العلم بفائدة الخلق ، يدلّ على استحقاق العبادة وحسن التكليف والعقاب بتركها ، والتقصير في التفكّر وغيره ممّا يستحقّ وأنّ له المغفرة والعفو ، وأنّه قادر على ذلك ولا قبح فيها ، وأنّه لا بدّ لطلبها من العلم بما تقدّم ، فلا بدّ من الايمان والعلم بأنّه لم يفعل عبثا وباطلا و

__________________

(١) اى بمعنى المخلوق كما في أنوار التنزيل : ٨٨.

١٤٠