زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

المحمولة على الاستحباب للجمع بين الأخبار ، فيستحبّ التّأخير عن الزّوال للاحتياط ولظاهر بعض الأخبار ، والأولى تأخير النّفر إلى الثّاني.

وأمّا الدليل على ما قلناه من عدم جواز النفر الأوّل إلّا بعد الزوال وقبل الغروب فإن أقام إلى الغروب لا يجوز الخروج فهو أيضا أخبار صحيحة صريحة في ذلك مثل صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا نفرت في النفر الأوّل فإن شئت أن تقيم بمكّة وتبيت بها فلا بأس بذلك ، قال : وقال إذا جاء اللّيل بعد النفر الأوّل فبت بمنى وليس لك أن تخرج منها حتّى تصبح (١) وأيضا صحيحة معاوية وحسنته عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا أردت أن تنفر في يومين فليس لك أن تنفر حتّى تزول الشمس وإن تأخّرت إلى آخر أيّام التشريق وهو يوم النفر الأخير فلا عليك أيّ ساعة نفرت ، ورميت قبل الزوال أو بعده (٢) إلخ وغير ذلك من الأخبار ، مثل ما في خبر أبي أيّوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : فقال لي : أمّا اليوم الثاني فلا تنفر حتّى تزول الشّمس إلخ (٣) ومثل حسنة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من تعجّل في يومين فلا ينفر حتّى تزول الشمس فإن أدركه المساء بات ولم ينفر (٤).

وأمّا ما في بعض الأخبار ممّا يدلّ على جواز النفر قبل الزّوال في النفر الأوّل أيضا مثل رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لا بأس أن ينفر الرجل في النّفر الأوّل قبل الزّوال ، ورواية أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينفر في النفر الأوّل قال له أن ينفر ما بينه وبين أن تصفرّ الشمس (٥) فليس يصلح للمعارضة لما مرّ للصحّة وعدمهما ، وقد حملهما الشيخ على المضطرّ للجمع.

وأمّا كون الأفضل التأخير فلما ذكره الأصحاب مع حصول عبادة كاملة في

__________________

(١) الكافي : ج ٤ ص ٥٢١.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٢٨٨ التهذيب ج ١ ص ٥٢٤.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٥١٨.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٢٢٤.

(٥) التهذيب ج ١ ص ٥٢٤ ، الفقيه ج ١ ص ٢٨٨.

٢٨١

منى تمام الأيّام ، ولأنّ الظاهر أنّ النفر الأوّل رخصة ، وقال المفسّرون إنّه مخيّر بينه وبين الأفضل كما يقال : إن أعلنت الصدقة فحسن ، وإن أسررت فحسن وإن كان الأسرار أحسن وأفضل ، والظاهر من الآية هو جواز النفر في الأوّل أيّ وقت أراد ، وقد عرفت التخصيص والبيان في الأخبار الصحيحة بل في إجماع الأصحاب أيضا على الظاهر والظاهر أنّ مذهب الشافعي أيضا جواز النفر بعد الزوال إذ لا يجوّز الرمي إلّا بعد الزوال ، ومعلوم عدم جواز النفر في الأوّل أيضا إلّا بعد الرمي ونقل القاضي جواز النفر في الأوّل قبل طلوع الفجر عن أبي حنيفة ، ونقل عنه أيضا جواز الرّمي قبل الزوال وبعده مثل مذهب الأصحاب ، وظاهر الآية أنّ الخروج قبل إكمال اليومين بعد الشروع فيهما لا قبله ، فقول أبي حنيفة بعيد ويلزمه أيضا ترك الرمي في اليوم الثاني إلّا أن يجوّز حينئذ الرمي في اللّيل ، وبالجملة الآية مجملة قابلة للكلّ بشرط ما يصلح أن يكون دليلا كالرّوايات الصحيحة عن الّذين قولهم حجّة.

(لِمَنِ اتَّقى) أي الّذي ذكر من التخيير أو الأحكام لمن اتّقى معاصي الله لأنّه الحاجّ على الحقيقة المنتفع به ، يعني أنّ الحجّ يقع مبرورا مكفّرا للسيّئات إذا اتّقى ما نهي عنه ، هذا أحد المعنيين في التفاسير الثلاث وفيها حينئذ إشعار بعدم قبول العبادات مع العصيان مثل قوله تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١) فتأمّل والآخر أنّ التخيير لمن اتّقى الصّيد والنساء بمعنى أنّ الّذي لا إثم عليه في التعجيل هو الّذي اتّقى الصيد والنساء يعني وطئهنّ لا سائر ما يحرم منهنّ في الإحرام للأصل ، والظاهر من دليله الّذي سيأتي من قوله عليه‌السلام «أتى النساء» ، فإنّه ظاهر في المواقعة والظاهر أنّ المراد الاتّقاء منهما مطلقا عمدا وسهوا وجهلا لظاهر عدم الاتّقاء حينئذ ، والظاهر أنّ وقت الاتّقاء هو وقت تحريمهما عليه من زمان إحرام الحجّ من غير إشكال ، وزمان إحرام عمرة التمتّع أيضا على الخلاف بناء على أنّ عمرة التمتّع هي عمرة الحجّ لدخولها فيه فتأمّل فيه ، فانّ الأصل عدم التقييد والشرط في الآية ، فكلّما نقص فهو أولى ، ونسب هذا في مجمع البيان إلى أصحابنا وابن

__________________

(١) المائدة : ٢٧.

٢٨٢

عبّاس (١) وهو المشهور بين الأصحاب بل ما رأينا فيه خلافا في كتب الفروع وظاهر الآية خلاف ذلك لعموم «من» واحتمال «لمن اتّقى» غير المعنى المخصّص لذلك المعنى المحقّق عمومه ، مع أنّ الأصل عدم التخصيص وعدم وجوب الوقوف إلى النفر الثاني ، ولذلك نقل هذا المعنى في بعض الروايات (٢) ونسب إلى العامّة.

ونقل أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أي من مات في هذين اليومين فقد كفّر عنه كلّ ذنب (وَمَنْ تَأَخَّرَ) أي من أنسئ أجله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بعدها إذا اتّقى الكبائر (٣) ويحتمل غير ذلك أيضا.

وبالجملة الآية عامّة ، وتخصيص الأصحاب غير ظاهر الوجه ، والّذي رأيناه يصلح لذلك رواية محمّد بن المستنير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من أتى النساء في إحرامه لم يكن له أن ينفر في النفر الأوّل ، وفي الكافي وفي رواية أخرى الصيد أيضا (٤) ورواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. لِمَنِ اتَّقى» الصيد يعني في إحرامه فإن أصابه لم يكن له أن ينفر في النفر الأوّل كذا في التهذيب (٥) وفي الفقيه أيضا بعض الأخبار ، ولكنّها لا تصلح لتخصيص القرآن العزيز القطعيّ لعدم صحّة سندها فانّ محمّد بن المستنير غير معلوم الحال ، وفي الرواية الثانية محمّد بن الحسين المشترك مع عدم العلم بطريق الشيخ إليه ويحيى بن المبارك المجهول وعبد الله بن جبلة الواقفيّ ووجود محمّد بن يحيى الصيرفي قال في الاستبصار إنّه كان عاميّا مع قصور في الدلالة أيضا ، إذ لا دلالة في كلّ واحدة عليهما معا ، ولكن بعد ثبوتهما ذلك هيّن.

والحاصل أنّه لو لم يكن المسألة على قرّرناها إجماعيّة وليس عليها دليلا ـ البصروي هاتين ينبغي أن لا يقال بها بل يقال بظاهر الآية من ثبوت التخيير مطلقا ، والعجب

__________________

(١) راجع مجمع البيان ج ٢ ص ٢٩٩.

(٢) راجع الكافي ج ٤ ص ٥٢١.

(٣) رواه في مجمع البيان مرسلا.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٥٢٢.

(٥) التهذيب ج ١ ص ٥٢٤.

٢٨٣

من ابن إدريس أنّه قال بالتخيير لمن اتّقى النساء مطلقا والصيد كذلك أي جميع محرّماته مع أنّه ما يعمل إلّا بالمتواتر ، وما يخرج القرآن المتواتر من عمومه إلّا بدليل مثله ، وكذا عن صاحب مجمع البيان حيث قال فلا إثم عليه لمن اتّقى الصيد إلى انقضاء النفر الأخير وما بقي من إحرامه ، ومن لم يتّقه فلا يجوز له النفر الأوّل (١) فإنّ الظاهر أنّ الشرط إنّما هو الاتّقاء المتقدّم على النفر الأوّل إلى حصوله لا بعده ، وهو ظاهر ولا يدلّ عليه ما في صحيحة معاوية بن عمّار (٢) قال : ينبغي لمن تعجّل في يومين أن يمسك عن الصيد حتّى ينقضي اليوم الثالث ، ويمكن حملها على الاستحباب ويكون ذلك هو مراد مجمع البيان الله يعلم.

و (اتَّقُوا اللهَ) أي اجتنبوا معاصي الله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تحقّقوا أنّكم بعد موتكم تجمعون إلى الموضع الّذي يحكم الله بينكم ، ويجازيكم على أعمالكم ، ففيه تحريص وترغيب وترهيب وتخويف.

السابعة: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٣).

البيت في اللّغة هو المأوى والمنزل. والمراد هنا البيت الحرام أعني الكعبة والمثابة هنا الموضع الّذي يثاب إليه من ثاب يثوب مثابة ومثابا إذا رجع أو موضع الثواب أي يثابون لحجّة واعتماره كذا قال القاضي وهو صريح في نفي ما ذكره أوّلا من عدم الاستحقاق للثّواب بالعبادة ، وما يدلّ عليه من الآيات كثيرة ، فإنّ القرآن العزيز مملوّ به مثل «جزاء بما كنتم تعملون» وقلّما توجد صفحة في المصحف لم يكن فيها ما يدلّ عليه ، وكذا الأخبار النبويّة والإماميّة المتواترة ، بل العقل أيضا يدلّ عليه فتأمّل.

__________________

(١) راجع ج ٢ ص ٢٨٧ ـ ٢٨٩.

(٢) الفقيه : ج ٢ ص ٢٨٩.

(٣) البقرة : ١٢٥.

٢٨٤

والطائف : الدائر حول الشّيء ، والعاكف المقيم على الشّيء اللّازم له ، والرّكّع جمع راكع ، والسّجود جمع ساجد والبيت ومثابة مفعولا «جعلنا» «وأمنا» عطف على «مثابة» وللنّاس متعلّق بمثابة أو بمقدّر صفة لها «واتّخذوا» بتقدير وقلنا اتّخذوا. عطف على جعلنا ومصلّى مفعول اتّخذوا و «من» يحتمل التّبعيض متعلّقا به ، بمعنى اجعلوا بعض المكان القريب من المقام أو نفسه مصلّى أو للابتداء أو للتبيين ، وكونها زائدة أحسن لو جاز ، والعهد هنا الأمر كما صرّح به قال القاضي : أمرناهما.

ولعلّ المقصود كون البيت معبدا ، فيمكن فهم وجوب عبادة عنده ، ولعلّها تكون الطّواف وصلوته وباقي المناسك أيضا إذ لا قائل بغيرها ، وكونه موضع أمن ، فيمكن فهم وجوب جعله كذلك فلا يتعرّض لمن التجأ إليه من الجناة خارجا عنه ، كما قال الأصحاب وأبو حنيفة على ما نقل عنه القاضي ، ولكن فيهما تأمّل إذ يمكن كون «المثابة» بمعنى المرجع و «أمنا» بمعنى ذا أمن من العذاب في الآخرة ، فإنّ الحجّ يجبّ ما قبله على ما نقل ، وبمعنى أن لا يتعرّض له بالخراب ولا لأهله بالأذى فحمله بحيث يفهم ذلك يحتاج إلى شيء آخر ، فإنّ إسقاط حقّ مطالبة المال والدّم بمثل هذا بعيد مع أنّهم يقولون بذلك إذا التجأ إلى الحرم ولا يفهم من الآية إلّا الملتجئ إلى البيت إلّا أن يقال الملتجئ إلى الحرم ملتج إلى البيت أو يقال : إنّ المراد بالبيت هو الحرم ، لأنّه المنزل والمثابة والمرجع لكنّه بعيد إلّا أنّ للأصحاب ما يدلّ عليه من الأخبار بحيث يدلّ على أنّه المقصود من الآية ، وكأنّه لا خلاف عندهم فيه ويدلّ عليه أيضا (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (١) كما سيجيء (٢) وكذا قوله تعالى (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (٣) ولكن في الدّلالة تأمّل فتأمّل. إلّا أنّ لهم روايات مبيّنة ، وكون الصّلاة المخصوصة في المقام المخصوص

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) بل قد مر ص ٢١٦.

(٣) إبراهيم : ٣٥.

٢٨٥

كأنّ المراد به ما هو المتعارف والمعدّ للصّلاة الآن ، إذ الحقيقيّ لا يصلّى فيه ، ويدلّ عليه بعض الأخبار أيضا ، أو جملة الحرم ، فيكون «من» للتّبعيض ويكون المراد البعض المخصوص ، وهو المقام الآن ، فيفهم وجوب صلاة وكونها في المقام وهي ركعتا الطّواف فيه ، إذ لا وجوب لغيرهما ، ويدلّ عليه الإجماع والأخبار أيضا.

وإيجاب تطهير البيت على إبراهيم وإسماعيل للطّائفين حوله ، أو المتردّدين وللعاكفين المقيمين أو المعتكفين بالمعنى المتعارف للاعتكاف ، وللمصلّين ، من الأصنام والأنجاس كما قالوا ، وفهم بعض الأصحاب منه وجوب إزالة النّجاسة عن المساجد كلّها متعدّية وغيرها ، وكذا من قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ) (١) الآية ومن وجوب تعظيم شعائر الله ، ومن قوله عليه‌السلام : «جنّبوا مساجدكم النّجاسة (٢)» وفهمه مشكل ، لأنّ وجوب الإزالة عليهما من البيت على تقدير تسليم شمول التّطهير للنّجاسة فإنّ احتمال تطهيره من الأصنام بكسرها وإلقائها احتمال راجح ومذكور في التّفاسير ، لا يستلزم الوجوب على غيرهما من المساجد كلّها ، والأصل يؤيّده وقد مرّ البحث في (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ) ووجوب تعظيم شعائر الله بحيث يشمل وجوب الإزالة مطلقا غير مفهوم ، وصحّة الخبر بل سنده غير معلوم ، وكأنّ وجوب تطهيرها من النّجاسة المتعدّية لا خلاف فيه ولا دليل على غيرها.

الثامنة: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (٣).

هما كانا جبلين بمكّة قريبين من المسجد الحرام وهما الآن دكّتان معروفتان هناك ، والحجّ هو القصد لغة ، وشرعا قصد البيت على الوجه المخصوص المبيّن

__________________

(١) براءة : ٢٨.

(٢) الوسائل الباب ٢٤ ، من أحكام المساجد الحديث المرقم ٢ ، مرسلا من كتب أصحابنا الفقهية.

(٣) البقرة : ١٥٨.

٢٨٦

في الفقه ، والعمرة لغة الزّيارة ، وشرعا زيارته. كذلك أيضا ، والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة ، أي هما من أعلام مناسك الله ومتعبّداته ، والجناح هو الميل من الحقّ [إلى الباطل] والطّواف هو الدّوران حول الشّيء ، وليس هو المقصود هنا بل السّعي بينهما ، وقيل : التطوّع هو التبرّع بالنّافلة من الطّوع بمعنى الانقياد والمراد بالشّاكر هنا الّذي يجزي بالشّكر فسمّي من يجازيه شاكرا (١) مجازا كالتوّاب لقابلها ، فانّ ثناء الله وإثابته عبده على الطّاعة يشبه الشّكر ، ويعمل معاملة الشّاكر ، فكأنّه شاكر. وأصل يطّوّف يتطوّف ، قلبت التّاء طاء وأدغمت ونصب خيرا إمّا لأنّه صفة مصدر محذوف أي تطوّعا خيرا أو لأنّه قائم مقام المصدر المضاف إليه أي تطوّع خير فحذف المضاف وأقيم هو مقامه وأعرب بإعرابه أو مفعول تطوّع ، فإنّه يتضمّن معنى الفعل ، وإعراب الباقي ظاهر.

والمعنى أنّهما من معالم عباداتكم فالّذي يحجّ أو يعتمر فلا حرج ولا ميل من الحقّ إلى الباطل لو سعى بينهما على الطّريقة المنقولة من الشّارع ، ومن أتى بخير زائد على ما وجب عليه من الحجّ والعمرة أو الأعمّ فإنّ الله يجازيه ولا يضيع سعيه ، فإنّه مجاز محسن ، وعليم بالنيّات ويفعل الخيرات ، فيجازي بهما ، وأنّه لا يليق بحاله عدم إثابة من فعل خيرا طمعا لذلك لأنّه كريم.

فيمكن الاستدلال بها على جواز الزّيادة في الطّواف والسّعي على الواجب والموظّف ، بل جميع الخيرات والعبادات حتّى تكرار الصّلاة والصّيام والحجّ كما هو العادة في الحياة وبعد الممات فتأمّل ، وعلى كون السّعي بينهما عبادة لأنّه قال (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي محلّ العبادة ، والّذي يظهر من السّوق أنّ تلك العبادة هي الطّواف والسّعي بينهما ، ونفي الحرج والإثم لا ينافي الوجوب ، إلّا أنّه لا يثبته أيضا ولكنّه ثابت بغيره.

واختيار هذا اللّفظ المشعر بالإباحة لعدّ المسلمين ذلك كذلك ، على ما روي أنّه كان عليهما أصنام في الجاهليّة ، وأهلها كانوا يطوفون بهما ، ويمسحون تلك

__________________

(١) الذي يحزى فسمى جازيه شاكرا خ.

٢٨٧

الأصنام ، وكان ذلك إثما وميلا من الحقّ إلى الباطل ، والمسلمون كانوا يعدّونه كذلك ، ولمّا انكسرت الأصنام زال ذلك ، ولكن ما كان للمسلمين علم بذلك فيتحرّجون منه كما كانوا. فنزلت ليدفع عنهم ذلك وأشار بقوله : «شاكر وعليم» إلى أنّه يعلم أنّ نيّتكم الخير ، وأنتم الشّاكرون المتعبّدون ، فيعاملكم معاملة الشّاكرين بخلاف أهل الجاهلية ، فيمكن معنى كون من تطوّع : من فعل السّعي الّذي هو الطّاعة ، يعني إن فعلتم ذلك فعلتم خيرا وإحسانا ، والله لا يضيع أجركم ، لعلمه وقدرته على ذلك ، فيكون حينئذ التطوّع بمعنى الطّاعة مطلقا واجبة أو مندوبة لا النّافلة خاصّة فإنّه في الأصل من الطوع ، وهو الانقياد كما مرّ ، وهو متحقّق في النّفل والواجب.

وأمّا وجوبه وركنيّته وكيفيّته كما يقول به أصحابنا في الحجّ والعمرة مطلقا فبانضمام البيان بالسنّة الشريفة من النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ولعلّه بإجماع الطائفة أيضا. واحتجّ مالك والشافعيّة على الركنيّة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله اسعوا! فانّ الله كتب عليكم السعي أي فرض عليكم السعي بينهما كذا في تفسير القاضي والكشاف وأنت تعلم أنّه لم يدلّ على سوى الوجوب ، وأمّا كونه ركنا بحيث لو ترك عمدا يبطل الحجّ والعمرة ، فلا دلالة فيه عليه ، نعم يدلّ على أنّه واجب لا بدل له ، فقول أبي حنيفة أنّه واجب له بدل باطل ، لأنّه يقال علم الوجوب من الخبر والأصل بقاؤه ، وعدم إجزاء غيره ، عنه فيدلّ عليه الخبر والآية أيضا للخبر.

ثمّ إنّ الظاهر من الخبر أنّه فرض بالقرآن فيكون المراد بأنّهما من شعائر الله أنّهما من علامات العبادة الواجبة وهي السعي بينهما ، وبأنّه لا جناح : أنّه صدقة واجب عليكم قبولها كما روي في آية القصر أنّ القصر صدقة عليكم فاقبلوها ، وهل يحبّ أحدكم أن يردّ عليه صدقته؟ أي لا يحبّ بل يغتاظ فيحرم عدم القبول فيجب بالآية ، وإن لم نقل بوجوبه بالآية فلا يضرّ ، لما أشرنا إليه من أدلّة الوجوب وهي كثيرة ومن جهة عدم الخلاف عندنا لم ننقلها.

ونقل في مجمع البيان عن ابن عبّاس وأنس وأبي حنيفة أنّه تطوّع و

٢٨٨

الطاعة بمعنى السنّة ، لكن يفهم من الكشّاف وتفسير القاضي أنّه واجب عند أبي حنيفة أيضا وسنّة عندهما ، حيث نقل فيهما عن أحمد أنّه سنّة وكذا عن أنس وابن عبّاس محتجّا بقوله (فَلا جُناحَ) فإنّه يفهم منه التخيير ، هذا كلامهما وأنت تعلم عدم دلالة التخيير على السنّة ولعلّ وجهه أنّ الظاهر من نفي الحرج هو التخيير عرفا ، بمعنى جواز الفعل والترك ، وعلم الرجحان من كونه شعائر الله ، وغير ذلك ، فيكون سنّة أو أنّه علم عدم التحريم من نفي الحرج والأصل عدم الوجوب والكراهة ، وقد علم كونه عبادة ، فيثبت الاستحباب ، وهو المراد بالسنّة المستدلّ عليها ، أو أراد من أنّه سنّة ، أنّه ليس بواجب ، وأنّه ما يرد على الاحتجاج ما أورده القاضي بقوله وهو ضعيف لأنّ نفي الجناح يدلّ على الجواز الداخل في معنى الوجوب فلا يدفعه وهو ظاهر وقد فهم ممّا ذكرناه أيضا فافهم.

التاسعة: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (١)].

مضمونها تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رؤياه الّتي حكاها لأصحابه دفعا لتوهّم من توهّم خلافه حيث تأخّرت بالحقّ أي الثابت الكائن لا محالة ، وهو نقيض الباطل (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ) جواب قسم محذوف والحقّ متعلّق الرؤيا أي رؤيا متلبّسا بالحقّ أو صفة لمصدر صدق أي صدقا متلبّسا بالحقّ.

ويحتمل أن يكون قسما إمّا اسم الله تعالى أو نقيض الباطل (لَتَدْخُلُنَّ) جواب قسم محذوف على الأوّلين وعلى الأخير جواب بالحقّ (إِنْ شاءَ اللهُ) معترض تعليما للعباد ، وليعلّقوا مواعيدهم بالمشيّة ، حتّى لا يحصل الخلاف ، والخطاب له صلوات الله عليه وآله ولأصحابه (آمِنِينَ) حال عنهم أي غير خائفين (مُحَلِّقِينَ) حال أخرى (رُؤُسَكُمْ) مفعوله (وَمُقَصِّرِينَ) عطف عليه ، وظاهرها تدخلون بعضكم محلّق و

__________________

(١) الفتح : ٢٧.

٢٨٩

بعضكم مقصّر فتأمّل ، وهي تدلّ على جواز الحلق والتقصير في الجملة ، حين دخول المسجد الحرام ، لعلّ المراد الإحلال بأحدهما في منى في الحجّ مطلقا ثمّ دخوله للطّواف ، ولا يفهم الإحلال عن العمرة مطلقا بهما ، ولا وجوب أحدهما على سبيل التخيير مطلقا كما هو المشهور ، ومذهب الأكثر ، لعموم الرّوايات والأصل ولا التفصيل كما هو مذهب البعض ، وهو تعيين الحلق للملبّد والضرورة والتخيير لغيرهما احتجاجا ببعض الروايات وحمل غيرها من العمومات على التفصيل ، وحمل الأكثر ما يدلّ على التعيين على الاستحباب وتحقيقه في الفقه فارجع إلى كتب الاستدلال فيه.

(النوع الثالث)

(في أشياء من أحكام الحج وتوابعه)

وفيه آيات :

الاولى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (١).

«حرم» جمع محرم فنهى المؤمن المحرم ، إذ ليس غير المؤمن بمحرم لعدم انعقاد إحرامه ، والمراد بالصّيد هنا كلّ حيوان برّي ممتنع بالأصل ، فيخرج منه البحريّ لما سيجيء وغير الممتنع فإنّه لا يقال صيد عرفا بل لغة أيضا وما يجوز قتله من البرّي الممتنع بدليل مثل «خمسة يقتلن في الحلّ والحرم ، كان

__________________

(١) المائدة : ٩٥.

٢٩٠

المقصود جواز قتلها مطلقا للمحلّ والمحرم : الحدأة والغراب ، والفارة ، والعقرب ، والكلب العقور (١) وفي رواية الحيّة بدل العقرب ، وقيل برّيّ محلّل ممتنع لأنّه الأكثر والمتبادر إلى الذهن وفيه تأمّل لتحريم بعض غير المحلّل مثل الأسد والثعلب والأرنب والضبّ واليربوع والقنفذ بالأخبار (٢) بل الإجماع ويشعر به قيد الخمسة في الرّواية السابقة وتمام تحقيقه في الفقه ، ثمّ إنّه يحتمل أن يراد بالقتل ما هو المزيل للرّوح أو الأعمّ منه ومن الضرب ، وقد ثبت تحريم الصيد مطلقا قتلا واصطيادا ، وإغلاقا وإشارة ودلالة بالإجماع والأخبار ويمكن إدخالها في الآية بتكلّف بعيد.

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ذاكرا أنّه محرم ويحرم عليه قتل الصيد (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أي فعليه أو فالواجب عليه أو فوجب عليه جزاء.

فجزاء مرفوع بالابتدائيّة أو الخبريّة أو الفاعليّة مضاف إلى مثل ، ومثل إلى «ما» وقتل صلته ، والعائد مفعوله المحذوف وفاعله ضمير من ، و (مِنَ النَّعَمِ) بيان مثل أي كفّارة قتله ما يماثل ما قتله من الصيد من النعم ، وقرئ مثل بالرّفع وجزاء بالتّنوين ، فهو صفة جزاء لإبهامه ولم يكتسب التعريف بالإضافة إلى ما كغير و (يَحْكُمُ بِهِ) صفة مثل ، وظاهر أنّ المراد بالمثليّة في الهيئة والجثّة في الجملة ، لبيان المثل بالنّعم لا في القيمة ، كما هو مذهب أبي حنيفة ولا يدلّ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) على كون المراد القيمة لأنّ المماثلة الخلقيّة ظاهرة للحسّ فلا يحتاج إلى حكم العدول ، لأنّ الأنواع قد يشتبه ويماثل بعضها بعضا ، فيحتاج التميز إلى حكم العدول وأيضا قد يراد «يحكم ذوا عدل» على تقدير الاشتباه مثل أن قتل صيدا وما علم مثله لعدم العلم به ، فيعلم بحكم العدول ، وبالجملة دلالة المثليّة والبيان بالنّعم وتتمّة الآية على كون المراد المثليّة في الخلقة والهيئة أقوى من دلالة

__________________

(١) الخصال ج ١ ص ١٤٢ ، الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج ٢ ص ٢٥٦ صحيح البخاري ج ١ ص ٣١٤.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٣٨٥.

٢٩١

(يَحْكُمُ بِهِ) على كونها في المقدار والقيمة ، ولأنّه يلزم التخيير بين الأمرين الأخيرين فقط على تقدير عدم بلوغ قيمة ما قتل قيمة هدي كما هو مذهبه ، فيلزم إسقاط قوله (فَجَزاءٌ) حينئذ وهو ظاهر.

ولهذا ذهب إليه أكثر الفقهاء ، ويؤيّده (هَدْياً) إذ غالب إطلاقه على الحيوان و (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) فإنّه كالصريح في أنّ اعتبار الأوّل هو نفس الجزاء والمثل في الخلقة ، لأنّهما قيمة ، ولأنّها صريحة في التخيير مطلقا ، وليس على مذهبه كذلك إذ قد لا يوجد نعم يكون قيمته قيمة الصيد المقتول بل الوجود نادر ، وفيه تنبيه على اعتبار العدالة في الشهود والراوي وأنّه لا بدّ من أن يكونا من المسلمين ، ولا يكفي العدل في مذهبه ، فافهم ، ولفظ الحكم يدلّ على أنّ المراد الحاكم ، ولكن اعتبار التعدّد يأباه ، والظاهر أنّه يكفي الشهود بدون الحاكم ، وإطلاق الحكم على الشهادة غير بعيد ، ففيه تنبيه على عدم اعتبار حكم الحاكم مع الشهادة ، بل يكفي مجرّد الشهادة ، فاعتباره في مواضع مع الشهود يحتاج إلى دليل ، كاعتبار اليمين معها في مثل الدعوى على الميّت فافهم (هَدْياً) حال من جزاء أو ضمير به «و (بالِغَ الْكَعْبَةِ») صفة هديا لأنّ إضافته لفظيّة ، ومعنى بلوغه ذبحه بمكّة بالحزورة بفناء الكعبة للرواية إن كان في كفّارة العمرة ، ويشعر به آية العمرة ، وبمنى إن كان في كفّارة الحجّ للرواية بل للإجماع والظاهر أنّ مجرّد الذّبح لا يكفي بل لا بدّ من التصدّق به لأنّه عوض ما قتل ، فلا يحصل العوض بمجرّد القتل والذّبح ، ولأنّ المتبادر ذلك ، ولوجوب الإطعام ، وللخبر وكأنّه لا خلاف عندنا وعند الأكثر ، وعند أبي حنيفة يكفي مجرّد الذبح أخذا بظاهر الآية المتيقّن مع البراءة الأصليّة.

(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) عطف على «جزاء» على تقدير الإضافة البيانيّة وعدمها ، وكون طعام بدلها أو خبر مبتدأ محذوف ، وبيّن ذلك بأن يقوّم الجزاء الّذي هو المثل ، ويفضّ ثمنها على الأوسط ممّا يطعمون وهو البرّ مثلا ، ويعطى لكلّ مسكين مدّ ، ولو نقص من ستّين لا يكمل ، ولو زاد لا يعطي ، هكذا قاله

٢٩٢

الأصحاب والأوّل ظاهر ، والثاني كأنّه للإجماع والأخبار.

(أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) مصدر أي ما ساوى طعام مساكين من صيام يوم لكلّ مدّ بعد التقويم والفضّ على البرّ ، فيصوم عن إطعام كلّ مسكين يوما (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) كأنّه متعلّق بمحذوف أي ذلك الحكم من الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق من فعل ذلك ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه حرمه الإحرام (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد محرما عالما عامدا مع الكفّارة أو مع التوبة فقط مع العجز في المرّة الأولى وقيل أي عمّا سلف في الجاهليّة أو قبل التحريم ، فيه أنّه لا يحتاج إلى العفو لعدم المنع.

(وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي من عاد إلى قتل الصيد عمدا بعد أن قتل كذلك ينتقم الله منه يعني ليس شيء معفوا عنه بكفّارة وغيرها بل لا بدّ له من الانتقام فهو مقابل لقوله (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) فالظّاهر عدم سقوط الكفّارة حينئذ لعموم قوله (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) إذ لا شكّ في دخوله تحته ، وليس ما يصلح أن يخرجه عنه إلّا قوله (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وهو لا ينافيه ، إذ يمكن الجمع بين الانتقام ووجوب الكفّارة لعظم الذنب.

وبالجملة ظاهرها العموم حتّى يعلم المخصّص وليس (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) لعدم المنافاة ، ولكن قد يتبادر من الآية كون الانتقام مقابلا للكفّارة ، وأيضا صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه ، ويتصدّق بالصّيد على مسكين ، فان عاد فقتل صيدا آخر ، لم يكن عليه جزاؤه ، وينتقم الله منه ، والنقمة في الآخرة ويحمل على العمد بقرينة الآية.

والرواية ورواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا أصاب المحرم الصيد خطاء فعليه كفّارة ، فإن أصابه ثانية خطاء فعليه الكفّارة أبدا إذا كان خطأ فإن أصابه متعمّدا كان عليه الكفّارة ، فإن أصابه ثانية متعمّدا فهو ممّن ينتقم الله منه ، ولم يكن عليه الكفّارة (١) تدلّان على السقوط حينئذ وكذا

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٣٩٤.

٢٩٣

رواية حفص الأعور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا أصاب المحرم الصيد فقولوا له هل أصبت صيدا قبل هذا وأنت محرم؟ فان قال نعم ، فقولوا له إنّ الله منتقم منك فاحذر النقمة ، فإن قال لا ، فاحكموا عليه بجزاء ذلك الصيد (١) ولا يضرّ الجهل بحال حفص ، فتأمّل.

وقد أشار إلى تخصيص الصيد بصيد البرّ بقوله (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) (٢) أي أحلّ ما صيد من البحر أو الاصطياد منه لكم ، وأنتم حرم أو الأعمّ وصيد البحر هو الذي لا يعيش إلّا فيه ، وهو حلال كلّه إلّا ما خرج بدليل ، مثل ما ليس له فلس من السمك بالإجماع والنصّ في الحلّ والحرم للمحلّ والمحرم (وَطَعامُهُ) أي طعام البحر يحتمل أن يكون المراد بالصّيد الاصطياد وهنا أكل ما صيد بالاصطياد والانتفاع به ، أو بالأوّل الجديد ، وبالثّاني اليابس القديد ويؤيّده (مَتاعاً لَكُمْ) تمتّعا لحاضريكم فنصبه لأنّه مفعول له (وَلِلسَّيَّارَةِ) عطف على «لكم» أي ولمسافريكم يتزوّدون قديده كما يأكلون جديده (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) أي ما صيد أو الاصطياد ، قال القاضي فعلى الأوّل يحرم على المحرم أيضا ما صاده الحلال وإن لم يكن فيه مدخل ، والجمهور على حلّه لقوله عليه‌السلام لحم الصيد حلال لكم ما لم تصطادوه أو يصد لكم ، وأصحابنا على التحريم مطلقا لإجماعهم وأخبارهم ، وكذا ما قتله المحرم حرام على الكلّ لأنّه بمنزلة الميّت عند الأكثر فتأمّل (ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي محرمين وقد علم أنّ الصيد هو صيد البرّ لا مطلقا فكانت الأولى مجملة بيّنت بقوله (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) وبمفهوم قوله (صَيْدُ الْبَرِّ) للتقييد.

وللصّيد أحكام وتفاصيل في غير هذا المحلّ.

ثمّ أشار إلى التقوى والخوف من الله الّذي إليه المرجع والحشر ، وإلى تعظيم البيت بأنّه البيت الحرام ، وأنّه قيام للنّاس انتعاشا لهم ، وسببا لمعاشهم ومعادهم ، يلوذ به الخائف ، ويأمن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجّار ، ويتوجّه

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٨ الحديث ٣ من أبواب كفارات الصيد.

(٢) المائدة : ٩٦.

٢٩٤

إليه الحاجّ ، وكذا الشهر الحرام والهدي والقلائد بقوله تعالى «وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] وتفسيرها سيأتي.

الثانية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (١).

أي لا تجعلوا محرّمات الله حلالا ومباحا ولا العكس يعني لا تتعدّوا حدود الله ، فعلى هذا يحمل الشعائر على المعالم ، أي حدود الله وأوامره ونواهيه وقيل هي فرائضه وقيل هي جمع شعيرة ، وهي أعلام الحجّ ومواقفه ، يعني لا تجعلوا ترك مناسك الله حلالا فتتركوها وقيل المراد دين الله لقوله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي دينه (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي لا تحلّوا الشهر الحرام بالقتل فيه أو بالسبي كأنّه يريد جميع الأشهر الحرم (وَلَا الْهَدْيَ) أي لا تحلّوا ما اهدي إلى الكعبة أو مطلقا جمع هديّة كجدي في جمع جديّة السرج (وَلَا الْقَلائِدَ) أي لا تحلّوا ذوات القلائد من الهدي جمع قلادة ، وهي ما يعلّق على عنق الهدي علامة لكونه هديا من النعل وغيره ، وذكر الهدي ذي القلائد بعد ذكر الهدي لأنّها أشرف الهدي فنهى عن القلائد أوّلا في ضمن الشعائر ثمّ في ضمن الهدي ثمّ صرّح بالنّهي عنها بخصوصها تأكيدا ، ويحتمل أن يكون المراد نفس القلائد وجعلها غير حلال ، بمعنى عدم اعتقاد مشروعيّتها واستحبابها ، أو عدم أخذها والتصرّف فيها إن كان ممّا يتملّك وله قيمة

__________________

(١) المائدة : ٢.

٢٩٥

أو يكون النهي عنها للمبالغة عن النهي عن ذي القلائد من الهدي ، ونظيره (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) (١).

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ولا يحلّ التعرّض لقاصدي البيت والحال أنّهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) يطلبون من الله الثواب والفضل ورضاه عنهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون المراد بالفضل الرزق بالتّجارة في الدنيا ، وبالرّضوان رضاه في الآخرة ، أو كلاهما في الدنيا ، وعلى الأوّلين فائدة الحال الإشارة إلى علّة المنع ، والمبالغة فيه ، فمع عدمها يحتمل جواز التعرّض لهم فتأمّل فيه ، وعلى الثالث كونها تلك غير ظاهر.

ويحتمل أن يكون للإشارة إلى أنّه وإن كان قصدهم مجرّد الدّنيا لا الآخرة لا يحلّ التعرض لهم حرمة للبيت ، فكيف إذا كان مقصودهم الآخرة فهو أبلغ. ويؤيّده أنّه قيل : نزلت في المشركين وحجّاج اليمامة الّذين يحجّون مع المسلمين لمّا همّ المسلمون أن يتعرّضوا لهم بسبب أنّه كان فيهم الحطم شريح ابن ضبيعة وكان قد استاق سرح المدينة ، وكان قصدهم مجرّد الدّنيا.

هكذا فهم من تفسير القاضي والكشّاف ، ولكن قالا : «فالآية منسوخة بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) (٢)» أي احبسوهم وحيلوا بينهم وبين المسجد الحرام ، ممّا يدلّ على منع الكفّار عن دخول المسجد الحرام ، مثل (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) (٣) و (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ) (٤) الآية.

وفيه أنّه يحتمل أن يكون المراد عدم التعرّض من جهة أنّ قصدهم بيت الله الحرام إلى أن يصلوا البيت ، والحرم : الموضع الّذي لا يجوز دخول الكفّار فيه فيكون نحو «اقتلوا» مخصّصة لا ناسخة ، أو يكون المراد المسلمين فتكون هذه الآية مخصوصة لا منسوخة ، ويؤيّده ما هو المشهور بين العامّة والخاصّة من

__________________

(١) النور : ٣١.

(٢) براءة : ٥.

(٣) براءة : ١٧.

(٤) براءة : ٢٨.

٢٩٦

المفسّرين أنّ المائدة آخر ما نزلت ، فليس شيء منها منسوخا فتأمّل.

وبالجملة الظّاهر تحريم التعرّض لقاصدي البيت الحرام مطلقا إلّا ما خرج بالدّليل ، مثل ما تقدّم ، فالحال المذكورة إمّا لكون الواقع ذلك أو أنّه كذلك في الأكثر ، لا أنّه يجوز التعرّض إذا لم يكن ذلك ، وكذلك إذا كانت جملة (يَبْتَغُونَ) صفة فتأمّل.

نعم إذا وصل الكفّار إلى موضع لا يجوز لهم الدّخول ، يتعرّض لهم بمنعهم عن الدّخول فقط فيكون المنع حينئذ خارجا لدليله ، فتخصّص هذه الآية.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) إذن وإباحة للاصطياد بعد زوال الإحرام المانع منه ، الدالّ على التّحريم بقوله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وهذا لا يدلّ على كون الأمر بعد الحظر مطلقا للإباحة والجواز ، لا الوجوب ، لأنّ هذه قد يكون لخصوص المادّة أو للإجماع ونحوه فتأمّل (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) أي لا يحملنّكم أو لا يكسبنّكم شدّة بغض قوم وعداوته ، شنآن بفتح النّون وسكونها مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل ، والأخير أوضح لقوله (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي لأن صدّوكم عام الحديبية ، وحذف حرف الجرّ قياسا ، وهو علّة للشّنآن وبيان له ، وقرئ بكسر الهمزة على أنّه شرط واغني عن جوابه قوله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ). وليس المراد الماضي في الجواب أي إن فعلوا بكم في الزمان الماضي كذا ، فأنتم لا تفعلوا في المستقبل بهم كذا (أَنْ تَعْتَدُوا) للانتقام منهم لما فعلوا بكم ، فهو ثاني مفعول يجرمنّكم فإنّه يتعدّى إلى واحد ، وإلى اثنين ككسب.

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي اعملوا بالعفو ومتابعة الأمر بالإحسان ومخالفة الهوى ، فليعاون بعضكم بعضا على الإحسان ، واجتناب المعاصي وامتثال الأوامر ، ويحتمل أن يكون أمرا بالتّعاون مطلقا من غير أن يكون تتمّة ليجرمنّكم (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) للتشفّي والانتقام ، والظّاهر أنّ المراد الإعانة على المعاصي مع القصد أو على الوجه الّذي يقال عرفا أنه كذلك مثل أن

٢٩٧

يطلب الظّالم العصا من شخص لضرب مظلوم ، فيعطيه إيّاها ، أو يطلب منه القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه ، ونحو ذلك ممّا يعدّ ذلك معاونة عرفا ، فلا يصدق على التّاجر الّذي يتّجر لتحصيل غرضه أنّه معاون للظّالم العاشر في أخذ العشور ولا على الحاجّ الّذي يؤخذ منه بعض المال في طريقه ظلما وغير ذلك ممّا لا يحصى ، فلا يعلم صدقها على شراء من لم يحرم عليه شراء السّلعة من الّذي يحرم عليه البيع ولا على بيع العنب ممّن يعمل خمرا ، والخشب ممّن يعمل صنما ، ولهذا ورد في الرّوايات الكثيرة الصّحيحة جوازه وعليه الأكثر ونحو ذلك ممّا لا يحصى فتأمّل.

والآية دلّت على أنّ المعاون على الشّيء كالفاعل في الخير والشّرّ كما هو المشهور في الخبر أنّ الدّالّ على الخير كفاعله ، وفيه أيضا أنّ التّصدّق لو تعاقبت عليه كثرة الأيدي ثمّ وقع بيد المتصدّق يكتب للكلّ ثواب التصدّق من غير نقصان شيء عن صاحبه فتأمّل.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيجب الخوف عنه باجتناب جميع مناهيه من المعاونة على الإثم وغيره ، وبترك الانتقام بغير ما استحقّ.

الثالثة: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١).

فيها دلالة على جواز الدّعاء بل كونه مرغوبا فيه ومندوبا إليه ، إذ الظّاهر أنّ إبراهيم عليه‌السلام لا يفعل الدّعاء بكون البلد آمنا وبالرّزق للمؤمن بالله واليوم الآخر ـ حيث جعل من آمن بدل أهله مطلقا فاسقا كان أو غيره ـ إلّا إذا كان كذلك ، بل لا يبعد الفهم كافرا أيضا مطلقا كما يشعر به قوله بعده (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) أي زمانا قليلا ، وهو مدّة بقائهم في الدّنيا أو متاعا قليلا ، وهو متاع الدّنيا ، وكلّ ذلك قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة فكيف ما وصل منها إلى

__________________

(١) البقرة ، ١٢٦ ،

٢٩٨

الكفّار ، ويفهم منه سقوط اعتبارها عند الله ، وفيه إشعار بعدم حسن التّخصيص فيجوز طلبه مطلقا فيمكن إعطاؤهم سوى ما ثبت منعه من الزكاة الواجبة ، ويدلّ عليه الأخبار وما ذكر في باب الوقف والوصايا ، وليس هنا محلّ ذكره ، فإن أردت فارجع إليه ، وتأمّل ، فمنع ابن الجنيد إعطاء غير أهل الحقّ المستفاد من الدروس بعيد.

واعلم أيضا أنّ في الآية الّتي بعدها أعني (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي يقولان ربّنا وقد قرئ به جملة حاليّة أي قائلين وإنّما قدّرنا الفعل لا الصفة تبعا لما قرئ به أي ربّنا أثبنا على هذا البناء إنّك أنت السميع لدعائنا العليم بمصالحنا ، ونيّاتنا أنّ هذا البناء ما كان إلّا لك ، دلالة على كونه مندوبا ومرعوبا عند الفراغ من العبادة كما قاله في مجمع البيان ، فيمكن فهم استحباب التعقيب وغيره من الأدعيّة عند الفراغ من جميع العبادات.

وأيضا في الآية الّتي بعدها أي (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تنبيه ودلالة على جواز التوبة وطلب قبولها من غير ذنب ، لأنّهما معصومان ، وقد طلبا الاستجابة ودلالة على جواز الدّعاء للمسلم بأن يجعله مسلما أو باعتبار الزيادة كما قاله في الكشاف والمعنى زدنا إخلاصا وإذعانا لك أو باعتبار الاستمرار والاستقبال أي قالا ربّنا واجعلنا مسلمين مستقبل عمرنا كما جعلتنا فيما مضى بأن توفّقنا وتفعل بنا الألطاف الّتي تدعونا إلى الثبات على الإسلام كما قال في مجمع البيان.

ثمّ قال فيه أيضا (١) هو أي الإسلام الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع والإقرار بجميع ما أوجب الله ، وهو أي الإسلام والايمان واحد عندنا ، وعند المعتزلة.

واستدلّ بقوله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢) «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٢٠٧.

(٢) آل عمران : ١٩.

٢٩٩

يُقْبَلَ مِنْهُ (١) وفيه تأمّل إذ يلزم دخول العبادات في الإسلام والايمان عند أصحابنا أيضا مع أنّه ليس كذلك كما ذكر صاحب مجمع البيان في تفسير (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) لأنّ عند المعتزلة الأعمال داخلة في الايمان ، وقد قال هما واحد عندهم وعند أصحابنا وقد ذكر ذلك أيضا في تفسير (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فتأمّل. وكذا على جواز الدعاء للذرّيّة.

وقال القاضي (٢) ووخصّا بعضهم أي بعض الذريّة على تقدير جعل من في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) للتبعيض لما اعلما أن في ذرّيتهما ظلمة ، وعلما أنّ الحكمة الإلهيّة لا يقتضي الاتّفاق على الإخلاص ، والإقبال الكلّي على الله ، فإنّه ممّا يشوّش أمر المعاش ، ولذلك قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا انتهى وفيه تأمّل إذ يفهم من قوله ظلمة أنّه أخذ الإسلام خلاف الظلم ، وهو الكفر أو الفسق فيقابلهما الايمان أو العدالة ، ومن قوله وعلما أنّ الحكمة إلخ أنّه الإخلاص وغايته الإقبال الكلّي ، بحيث لا يمكن مع الاتّفاق عليه المعيشة ، فليست بمطلوبة لله تعالى من الكلّ مع بعد هذا المعنى من الفهم ، ويمكن أن يكون مطلوبا من الكلّ في كلّ أحد شيء. مثلا ممّن يزرع ، التوجّه الكليّ على وجه يجتمع مع شغله ، وقصد التقرّب بذلك الشغل بأن يقصد معيشته ومعيشة عياله وبقاء النوع ، وكذا من الحمّامي وغيره فيقصدون بقاء النوع ومعاونة بعضهم بعضا ليفرغ بعضهم لعبادة غير هذه الأعمال مثل طلب العلم وغيره ، فيكون الإخلاص والإقبال الكلّي من الكلّ مطلوبا على سبيل التخيير والتبعيض ، إذ يبعد عدم طلب الإقبال الكلّي عن الكلّ بل لا وجه له ، وأيضا الظاهر أن يقول يقتضي عدم الاتّفاق ولعلّ النزاع معه لفظيّ وليس في هذه الآيات من الأحكام ما يتعدّ به وإنّما ذكرت تبعا.

__________________

(١) آل عمران : ٨٥.

(٢) أنوار التنزيل : ص ٤١.

٣٠٠