زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

وبين أن يسرّحوهنّ السراح الجميل الّذي علّمهم ، وعلى الثاني معناه فبعد التطليقتين فالواجب إمساك المرأة بالرجعة وحسن المعاشرة بالوجه الّذي لا ينكر عرفا وشرعا بل يكون معروفا ، أو تسريح بإحسان بأن يطلّقها التطليقة الثالثة أو بأن لا يراجعها حتّى تبين منه ، وتخرج عن العدّة ، والإمساك هو الأخذ وضدّه الإطلاق والتسريح (فَإِمْساكٌ) خبر مبتدأ محذوف ، و (بِمَعْرُوفٍ) متعلّق به ، أو بمقدّر صفة له ، و (أَوْ تَسْرِيحٌ) عطف عليه و (بِإِحْسانٍ) مثل «بمعروف».

فعلى الأوّل يدلّ على انحصار الطلاق الرجعيّ في التطليقتين كما هو المقرّر ولكن ما علم كيفيّة إيقاعهما ، فهل تجوز في مجلس واحد مرّتين بينهما رجعة ثمّ رجعة أخرى؟ فإن طلّق ثالثة تصير بائنا؟ أو لا بدّ من إيقاع كلّ واحدة في طهر على حدة كما هو مذهب الحنفيّ أو لا يكفي ذلك أيضا بل لا بدّ من الرجعة والوطي أيضا حتّى يصحّ تطليقة أخرى والكلّ محتمل ، وفي بعض الرّوايات إشارة إليه ، وكأنّ أكثر الأصحاب على الأوّل وهو مذهب الشافعيّ أيضا بل مذهبه أعمّ منه ، وظاهر صحّة الطلاق من غير شرط مع أصل عدم الاشتراط ، وصدق عموم الطلاق مثل الآية المذكورة ، وكذا الأخبار دليله والاحتياط في الفروج ، وعدم العلم بصدق الطلاق الشرعيّ عليه ، والاستصحاب حتّى يعلم المزيل دليلهما فتأمل.

نعم الظاهر أنّ اشتراط وقوعه في طهر غير طهر المواقعة دون الحيض ، إلّا أن يكون حاملا أو غائبا زوجها غيبة معتبرة عندهم ، أو يكون غير مدخول بها إجماعيّ.

وعلى الثاني تدلّ على اشتراط وقوع التطليق منفصلا بأن يقول هي طالق ثمّ يرجع ، ثمّ يطلّق اخرى ويقول هي طالق وهكذا ، لا بأن يرسل في مجلس واحد اثنين أو ثلاثة أو أكثر إمّا بأن يقول هي طالق ثلاثا أو هي طالق وطالق وطالق أو يكرّر وهي طالق كما هو مذهب الشّافعيّ فإنّه لا يقع عند الأصحاب ، ويحتمل الواحدة فقط عندهم وأمّا دلالتها على وقوع كلّ واحدة في طهر غير طهر المواقعة كما هو مذهب الحنفيّ وأصحابه على ما ذكره في الكشّاف ، فليست بواضحة إذ ليس فيها على هذا

٦٠١

إلّا نفي الإرسال إن سلّم ، وأمّا كون التطليق الثاني في طهر غير طهر المواقعة وغير طهر التطليق الأوّل فبعيد عن الفهم إلّا بمعونة الأخبار ، وقد ذكر في الكشّاف حديث ابن عمر للدلالة عليه وهو صريح فيه على ما نقله ، ولكنّه ما ثبت صحّته ومعارض أيضا بما نقله أيضا فيه من استدلال الشافعيّ بخبر العجلانيّ الدالّ على طلاق امرأته بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث طلقات في مجلس واحد وهذا لا يدلّ على صحّة الإرسال أيضا لاحتمال وقوع الفاصلة بالرجعتين كما يقوله الأصحاب ، والظاهر أنّ في أصحابنا من ذهب إلى مذهب الحنفيّ وفي رواياتهم ما يدلّ عليه ، لكنّه لا يخلو عن قصور متنا أو سندا ، ويحتمل التقيّة والاستحباب.

التاسعة : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١).

أي فان طلّق الزّوج الزوجة الّتي طلّقها مرّتين فلا يحلّ له تزويجها من بعد هذا الطلاق حتّى تنكح المرأة زوجا آخر غير المطلّق بالنكاح الدائم مع الوطي قبلا ، إمّا بحمل النكاح على الوطي المتعارف شرعا كما قيل إنّه جاء بهذا المعنى والمتبادر كونه بالعقد الدّائم أو أخذ العقد الدائم من «زوجا» بحمله على المتعارف أو من (فَإِنْ طَلَّقَها) أو من الأخبار والإجماع وإمّا بحمله على العقد وأخذ الوطي من الأخبار والإجماع من غير نظر إلى خلاف ابن المسيّب والنكاح يسند إلى الزوجة كما يسند إلى الزوج.

فان طلّقها الزوج الثاني المحلّل فلا إثم ولا حرج على الزوج الأوّل والزوجة في أن يرجع كلّ منهما إلى الزوجيّة ، بأن يعقدا بعقد ومهر جديدين إن ظنّا الإتيان بلوازم الزوجيّة من حسن الصحبة والمعاشرة ، وسائر الأمور الواجبة عليهما

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

٦٠٢

فقيّد جواز نكاحهما مرّة ثانية بظنّهما إقامة حدود الزوجيّة ، فلا يجوز ذلك بدونه وذلك غير بعيد بمعنى أنّه إن تيقّنا ، ويحتمل إن ظنّا أيضا عدم الإتيان بالواجبات وارتكاب المحرّمات لا يجوز لهما ذلك لأنّه مستلزم للحرام وإن قلنا بصحّة العقد فإنّ النهي في غير العبادات لا يستلزم البطلان ويحتمل أن لا يكون العقد أيضا حراما ويكون التقييد للإشارة إلى تأكيد حسن المعاشرة ، وعدم الخروج عن الطاعة ، وعدم حصول نفع الزوجيّة على تقدير عدم إقامة الحدود ، إذ يرجع إلى المفارقة ويبقى الإثم والعدوان ، وبالجملة المفهوم لا يكون حجّة هنا لعدم شرط حجّته أو لدفعه بأقوى منه من الإجماع ونحوه.

فإن شرطيّة ، و (فَلا تَحِلُّ) جزاء و (بَعْدُ) مبنيّ على الضمّ لنيّة ما أضيف إليه أي الطلاق و (فَلا جُناحَ) جزاء الشرط الثاني و (أَنْ يَتَراجَعا) في محلّ الخبر بحذف في و «أن يقيما» في محلّ النصب مفعول «ظنّا» وهو شرط وجزاؤه محذوف من جنس ما قبله و «يبيّنها» لا محلّ له أو صفة لحدود و (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى ما شرعه الله من حقوق الزوجيّة والطلاق والرجعة والنكاح وأحكامها (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يذكرها مبيّنة ظاهرة لأجل العلم والعمل بمقتضاه أو لمن يصحّ منهم العلم أو العلماء والفقهاء ، لأنّهم المنتفعون به دون غيرهم ، فخصّوا لذلك بالخطاب أو لأنّهم الرؤساء فاكتفي بهم.

فالآية دلّت على اشتراط المحلّل بعد كلّ طلاق ثالث كما هو المقرّر والمجمع عليه ظاهرا إلّا أنّ في الدلالة تأمّلا ، إذ الظاهر أنّ بعد الثالث الّذي بعد التطليقتين الرجعيّتين يحتاج إليه على أحد الاحتمالين ، فهذا يؤيّد الاحتمال الأخير يعني أنّ الطلاق المشروع هو الطلاق المفصّل الواقع كلّ واحد بعد الآخر ، سواء كان بعد خروج العدّة والعقد ثانيا أو في العدّة بعد العقد أو الرجعة فيها ، لا المرسل المجمل مثل هي طالق ثلاثا أو طالق وطالق وطالق كما مرّ فإذا طلّق بعد اثنين منها فلا بدّ من المحلّل.

ودلّت أيضا على أنّه لا بدّ من أن يكون التحليل بالعقد الدائم مع الوطي

٦٠٣

على بعض ما مرّ أو الأخبار والسنّة ، فلا بدّ من كون الزوجين صالحين شرعا لذلك وأمّا كونه بالغا فغير ظاهر الوجه ، إلّا أن يقال بعدم اعتبار أفعال غيره ، وهو محلّ المناقشة ، نعم في قوله (تَنْكِحَ) إشارة إلى وقوعه منها ، فتكون هي بالغة رشيدة ولهذا قيل تدلّ على عدم اعتبار الوليّ في البالغة الرشيدة [بكرا وثيّبا] لإسناد النكاح إليها ، وصدق النكاح على نكاحها بدون الوليّ.

وقد يقال إنّ نكاح الوليّ نكاحها ، وإنية قد يكون في الثيّب ، وأيضا إذا ثبت بطلان النكاح بغير إذن الوليّ تقيّد هذه وأيضا لا يمكن الاستدلال بها إلّا [مجازا] بعد تحقّق حصول شرائط العقد وفيه أنّ المجاز لا يصار إليه إلّا مع العجز ، وكذا التخصيص وظاهرها العموم فتثبت الدلالة في الجملة ، وإذا ثبت للمثبت أيضا دليل فينظر في وجه الجمع ، وهذه المسئلة جليلة وفيها اختلاف كثير ، وأدلّة كلّ من الأقوال مذكورة في مظانّها ، وذكرها يحتاج إلى التطويل ، وليس هذا محلّه.

واختلفوا أيضا في النكاح بشرط التحليل فجوّزه أبو حنيفة ، وقال بصحّته ، وقيل لا يصحّ العقد ولا الشرط ، فلا يحلّ للأوّل ولا للثاني وهو مذهب الأصحاب والشافعيّ لأنّ الشرط مناف لمقتضى العقد إذ مقتضاه بقاء الزوجيّة ، وعدم وجوب الطلاق ، وعدم صلاحيّة عقد النكاح للخيار على تقدير عدم فعل الشرط ، وعدم بطلان عقد النكاح الصحيح مع الوطي من دون طلاق وفسخ ثابت شرعا ، ومعلوم استلزام بطلان الشرط لبطلان المشروط.

فلا يمكن الاستدلال على مذهب أبي حنيفة بعموم الآية ، مع أنّ الظاهر أنّ المراد من قوله (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) هو العقد المتلقّى من الشارع ، وغير معلوم كونه كذلك مع الشرط وأيضا قد قيل إنّ الاستدلال بعمومات العقود لا يمكن إلّا بعد ثبوت تحقّق شرائطها وفيه تأمّل ، وأيضا نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لعن المحلّل والمحلّل له فكأنّ المراد هذا المحلّل المشترط إذ لا شكّ في جواز فعلهما ، والحمل على الكراهة مع الشرط أو مع نيّة التحليل كما هو مذهب البعض بعيد ، إذ الظاهر من الشرع تعليق الأحكام على العقد الواقع ظاهرا بينهما ونيّة التحليل وخطوره بالبال

٦٠٤

لا دخل له ، بل الظاهر أنّه قليلا ما ينفكّ عنه فهو لا يخلو عن حرج مّا الله يعلم.

واعلم أنّ الأصحاب استدلّوا بهذه الآية على أنّ الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع ، لأنّه قال (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ثمّ الثالث إمّا بقوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) كما مرّ في الخبر أو بقوله (فَإِنْ طَلَّقَها) فانّ من طلّق ثلاثا بلفظ واحد لم يأت بالمرّتين ولا بالثالث ، كما في اللّعان ورمي الجمار بلا خلاف كذا في مجمع البيان وفيه تأمّل.

(الثاني)

(الخلع والمبارات)

وفيه آية واحدة أعني قوله تعالى :

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

قيل : نزلت في ثابت بن قيس وزوجته ، حيث كانت تبغضه وهو يحبّها وأتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت لا أنا ولا ثابت ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء ، فنزلت فاختلعت بحديقة كانت صداقها ، والخطاب للحكّام ، ولمّا كان الأخذ والإعطاء بأمرهم أسند إليهم ، فكأنّهم الآخذون والمؤتون ، فالمعنى لا يحلّ لكم أيّها الحكّام أن تأمروا بأخذ شيء ممّا حكمتم على الأزواج بإعطائه أوّلا من المهور أو لا يحلّ لكم أن تأخذوا شيئا ممّا أخذتم من الأزواج وأعطيتم النساء من مهورهنّ وتعطوه لأزواجهنّ إلّا أن يخاف الزوجان من ترك إقامة حدود الله ومواجب الزوجيّة ، لما يحدث من

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

٦٠٥

نشوز المرأة وسوء خلقها ، ولعلّ المقصود ظنّهما عدم إقامة الحدود ، بأن يظهر من المرأة النشوز والبغض ، ولو بقول : لا أغسل لك رأسي من جنابة ، والرجل يخاف حينئذ أن يخرج عن الشرع بمنعها ففاعل (يَخافا) هو الزوجان ، ويعلم من السوق و (أَلَّا يُقِيما) مفعوله بنزع الخافض وفهم المخاطب لا يخلو عن شيء سيّما في (فَإِنْ خِفْتُمْ) فإنّه الحكّام أيضا مع أنّ فاعل (أَنْ يَخافا) كان غيرهم.

أي فإن ظننتم أيّها الحكّام أن لا يقيما أحكام الله من لوازم الزوجيّة فلا جناح عليهما فيما تفتدي المرأة أي عوض الطلاق الّذي يعطيه الزوج ، وتخلّص نفسها من تحت حكمه ، فكأنّها تخلّص نفسها من الملكيّة أو القتل ، حيث تخاف موتها تحته بغضا وغيظا ، أو يقتلها لمّا فهم بغضها له ، أو من المعاصي ، أي فلا ذنب على المرأة في إعطاء عوض الخلع ولا على الرجل في أخذه ، وهذا خلاف الظاهر إذ الظاهر نفي الجناح عن الحكّام ولكن نفيه عنهما يستلزم النفي عنهم ، ويحتمل كونه للأزواج في «لكم» و «تأخذوا» و «آتيتموا» وفي «خفتم» للحكّام.

وقال في الكشّاف ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وهو خلاف الظاهر مع العدول عن الخطاب إلى الغيبة بقوله (أَنْ يَخافا) والحطاب بالخوف إلى الحكّام مع إسناده أوّلا إلى الزوجين ، ويحتمل أن يكون الخطاب في الجميع للأزواج ، ولكن عدل عن خطاب الجمع إلى غيبة التثنية أي يخافا ويقيما ، ثمّ منها إلى الخطاب بقوله (فَإِنْ خِفْتُمْ) ثمّ منه أيضا إلى الغيبة في قوله (أَلَّا يُقِيما) فتأمّل.

وبالجملة يعلم من تفسير هذه الآية عدم قصور الانتقال في خطاب واحد وكلام واحد من ذكر حال شخص إلى آخر ، وأنّ ما نجد غير حسن على سليقتنا ليس بمعتبر ، فلا بعد في كون آية التطهير في شأن من يقوله الأصحاب ، ولا تكون مقصورة على الزوجات كما يدّعيه غيرهم ، ويقولون خلاف سوق الآية إذ ما قبلها وما بعدها في الزوجات ، سيّما على القول بدخولهنّ أيضا إلّا ما أخرجه دليل خارج.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى ما حدّ من الأحكام السابقة من العدّة والرجعة

٦٠٦

والطلاق والخلع وأحكامها أي أوامر الله ونواهيه (فَلا تَعْتَدُوها) فلا تجاوزوها بالمخالفة والعمل بخلافها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) فإنّ من يتجاوزها (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي يظلمون أنفسهم بأن يوقعوها في العذاب الشديد من الله تعالى في الآخرة بل في الدنيا أيضا بالحبس والتعزير والحدود ، إذا كان ممّا يوجبها.

ثمّ اعلم أنّ صريح الآية عدم أخذ شيء من مهورهنّ بل جميع ما أعطين من المهر والنفقة والعطايا ، فدلّت على لزوم الهبة للزوجة ، وعدم استرجاع الثياب الّتي أعطوها للكسوة ، وإن بقيت جددا وطلّقن ، إلّا عوض الخلع فتأمّل.

ثمّ إنّ ظاهرها يفيد جواز الأخذ بحصول خوف عدم إقامة الحدود من الجانبين فيكون التباغض من الجانبين ، وليس ذلك بشرط في الخلع بل في المبارأة إلّا أن تحمل على أنّه يخاف الزوج من أنّها لو خرجت عن موجبات الزوجيّة والشرع يخرج هو أيضا ولكن ذلك أيضا غير شرط في الخلع عند الأصحاب كما هو المذكور في محلّه ، بل الشرط ظهور بغض الزوجة فقط ، مثل أن تقول لا اغتسل لك من جنابة أو لأدخلنّ على فراشك من تكرهه ، وأمثاله فتحمل حينئذ على المبارات لا الخلع.

ثمّ إنّ ظاهرها عدم إثم المرأة أيضا مع أنّها آثمة لو لم يكن من جانب الزوج ما يوجب بغضها من الإخلال بلوازم الزوجيّة ، ويمكن أن يقال إنّما نفى الإثم في إعطاء المهر لتخليص نفسها من الإثم ، وهو لا يستلزم عدم تحريم إظهار الكراهة والخروج عن لوازم الزوجيّة ، وجواز التكلّم بمثل ما مرّ ، وذلك الإعطاء أيضا مشروط بخوفها وظنّها أنها ما تقدر على ضبط نفسها فتخرج عن الشرع فلا يبعد الجواز حينئذ بل الوجوب تخييرا إمّا الترك أو الإعطاء والخلاص من الذنب ولمّا عرفت من نفسها عدم الأوّل تعيّن الثاني ، بل لا يبعد جواز إعطاء المال لا خراج النفس عن المشقّة لها بالمعاشرة ، لأنّه غير موافق لها طبعا وعرفا وإن كان موافقا لها شرعا ، فيكون إخراج المال في فراغة النفس ولذّتها وتخليصها عن الكراهة جائزا.

٦٠٧

قال القاضي : واعلم أنّ ظاهر الآية يدلّ على أنّ الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق ، ولا بجميع ما ساق الزّوج إليها فضلا عن الزائد ، ويؤيّد ذلك قوله عليه الصّلاة والسلام : أيّما امرأة سألت زوجها طلاقا في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنّة وما روي أنّه عليه الصلاة والسلام قال لامرأة ثابت بن قيس أتردّين عليه حديقته؟ فقالت أردّها وأزيد عليها ، فقال عليه‌السلام أمّا الزائد فلا (١) والجمهور استكرهوه ، ولكن نفّذوه ، فانّ المنع عن العقد لا يدلّ على فساده وأنّه يصحّ بلفظ المفاداة فإنّه سمّاه افتداء.

وفيه تأمّل لأنّها تدلّ على أنّ الأخذ من المرأة لتخليص نفسها لا يجوز إلّا مع الخوف لا عدم جواز العقد المثمر لذلك إلّا مع الكراهة وأيضا معلوم عدم الجواز من غير شقاق بل وقوعه أيضا في الخارج ، إنّما كان عليه أن يبين دلالتها على حصوله من الجانبين أو المرأة فقطّ أو الرجل وأيضا لا يعلم عدم جوازه بجميع ما ساق بل تدلّ على جواز الزائد فضلا عن الجميع لعموم (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) والأصل عدم تقييده وتخصيصه بشيء ممّا آتيتموهنّ وإن سبق ذلك وهو ظاهر ، والحديث الأوّل مؤيّد لعدم جواز سؤال الطلاق من غير بأس ، والحديث الآخر ، يدلّ على جوازه بجميع ما أخذت منه وعلى نفي الزائد [وهو مجمل] فان حمل على عدم الجواز فيدلّ على عدم إعطاء الزائد ، وأمّا إن حمل على عدم الاحتياج لأنّه كان راضيا بغير ذلك وهو الأولى للأصل والسوق فلا يدلّ ، وعلى تقديره قد يصحّ العقد ويملكه كما قال به ، وأيضا المنع على تقدير وقوعه وقع عن الجميع والزائد لا عن العقد.

فدلّ على عدم صلاحيته للعوضيّة وعدم ملكيّته للزوج عوضا عن الطلاق فلا معنى لصحّة العقد كما أنّ المنع في بعض المعاملات راجع إلى أحد الطرفين مثل عدم جواز بيع المجهول وحبل الحبلة والحصا وبيع السّفيه والطفل والربا وغير ذلك ، ويدلّ على الفساد وأيضا كون الخلع طلاقا كما قال ، والأظهر أنّه طلاق لأنّه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض غير ظاهر ، ودليله قياس في اللّغة

__________________

(١) راجع مشكاة المصابيح ص ٢٨٣ ، سنن أبى داود ج ١ ص ٥١٦.

٦٠٨

وهو على تقدير صحّته لا يصحّ في اللغة ، فالأظهر أنّه فسخ إذ الأصل عدم ثبوت أحكام الطلاق مثل الاحتياج إلى المحلّل وتحريم الأبد [يّ] وتنصيف المهر وغير ذلك وعلى تقدير عدم دلالة النهي على الفساد لا يلزم دلالته على الصحّة ، فلا بدّ لصحّته من دليل ، فإنّ الآية دلّت على صحّته حال الشقاق فقطّ ودلّت على تحريم غيره مع إشعارها بعدم الصحّة ، فإنّ الظاهر من حال الشارع عدم ترتيب الأحكام إلّا على ما رضي به ، إلّا أن ينصّ على خلافه ، فتأمّل ، وأيضا وقوع الخلع بلفظ المفاداة غير ظاهر ، فانّ مجرّد تسمية إعطاء الزوجة شيئا لتخليص نفسها من قيد الزوجية لا يقتضي ذلك ، وهو ظاهر فتأمّل وأنصف.

(الثالث الظهار)

وفيه ثلاث آيات (١) هنّ :

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ) أيّها المؤمنون (مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أي لسن أمّهاتهم (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) إن نافية (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) فلذلك لم يصيّرهنّ امّا لا حقيقة ولا تشبيها (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) قول ذلك وكونهنّ كالأمّ قول منكر تنكره اللّغة والعرف والشرع وكذب وباطل (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عنهم ويغفر لهم إن تابوا أو تفضّلا وإحسانا ، والظهار الّذي يظاهرون به النساء ويترتّب عليه أحكامه أن يقول الزوج لزوجته أنت علىّ كظهر أمّي فمع تحقّق شرائطه الّتي اعتبرها الفقهاء تحرم عليه إلّا بعد الكفّارة فإذا أراد العود إليها والدخول فلا بدّ من تقديم الكفّارة حتّى يحلّ الدخول وإليه أشار بقوله (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) وقيل أي الّذين كان عادتهم ذلك في الجاهليّة (ثُمَّ يَعُودُونَ) في الإسلام (لِما قالُوا) ويأتون بالظهار مثل الأوّل (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فعليهم أو الواجب أو يجب تحرير رقبة ثمّ العود إلى الدخول إن شاء وفيه أنّه ليس بشرط كون ذلك في الجاهليّة وأنّه لم يفهم حينئذ العود إلى الدخول فيكون معناه الّذين يظاهرون

__________________

(١) المجادلة ١ ـ ٣.

٦٠٩

منهنّ ثمّ يتداركون ما قالوه لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه ، ومنه المثل عاد الغيث على ما أفسد أي تداركه بالإصلاح والمعنى أنّهم يتداركون هذا القول ويصلحونه بالكفّارة حتّى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار من التزويج الحلال ، أو يراد بما قالوه ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، ويكون المعنى ثمّ يريدون العود للتماسّ والمماسّة أي الاستمتاع بالجماع (ذلِكُمْ) الحكم (تُوعَظُونَ بِهِ) لأنّ الحكم بالكفّارة دليل ارتكاب الجناية فيجب أن يتّعظوا بهذا حتّى لا يعودوا إلى الظهار فتجب الكفّارة أو يخافوا عقاب الله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وعد بل وعيد.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة ولا ثمنها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي فالواجب عليه ذلك (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي من قبل أن يستمتع كلّ من المظاهر والمظاهر منها بالآخر (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) ذلك الصّيام (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) فالواجب ذلك ، الظاهر أنّ هذا أيضا قبل المسيس ، وترك اكتفاء بما تقدّم.

فتدلّ على عدم صيرورتها امّا بالظهار وتحريمه وأنّ الله يعفو عنه ، ووجوب الكفّارة قبل المسّ بل اشتراط حلّها بتمام الكفّارة وعدم الكفّارة مع عدم العود فتسقط بالطلاق والمفارقة ، وأنّها لم تحرم مؤبّدا بل تحلّ بعد الكفّارة ، وللظهار أحكام وفروع كثيرة مذكورة في الفروع مثل تحقّقه بغير الظّهر أو بغير الأمّ أو بغير لفظ أنت أم لا ، وهل لا بدّ من كون تمام الكفّارة قبل المسيس فلو دخل قبله استأنف أم لا وغير ذلك.

(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فرض ذلك البيان والتعليم للأحكام لتصدّقوا بالله ورسوله في قبول شرائعه ، وتلك أحكام الله لا يجوز تعدّيها ولمن لا يقبلها عذاب أليم ، فهو مثل قوله (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (١).

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٦١٠

(الرابع الإيلاء)

وفيه آيتان :

الاولى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

الثانية : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢).

أي للّذين يحلفون على عدم وطي نسائهم بالله ، وقال في مجمع البيان : أو بأسمائه المختصّة ، وهو محلّ التأمّل ، وكذا تقييده بقوله على وجه الغضب والإضرار فإنّ الظاهر انعقاده مطلقا ما لم يصل في حال الغضب إلى أن يسلب قصده ، ولم يكن القصد دفع ضرر بالوطي عنه أو عنها أو ولدها ، فضمّن هذا القسم من الحلف معنى البعد ، وعدّي بمن ، فكأنّه يقول : يبعدون من نسائهم مولين ومقسمين.

«تربّص» مبتدأ و «للّذين» خبره والمعنى للمولي حقّ التربّص ، والتلبّث والمهلة في هذه المدّة ، وابتداء هذه المدّة من حين الحكم لا من وقت الإيلاء عند بعض الأصحاب فلا يطالب في هذه المدّة بشيء ولا يكلّف ولا يحبس ، فان رجع عن اليمين بالحنث بأن جامع مع القدرة أو فعل فيئه العاجز على تقديره أو عزم على الوطي حين القدرة ، وأظهر ذلك للمرأة ، فإنّ الله يغفر له إثم حنثه وخلفه ، فإنّه غير مشروع ، وذلك أعمّ من أن يقع في هذه المدّة أو بعدها على ما ذكره الأصحاب فتقييد الكشّاف بفي هذه المدّة على أنّه مذهب الحنفيّ ، وبعدها كما هو مذهب الشافعيّ غير سديد.

واعلم أنّ الظاهر أنّه في الحقيقة لا يمين منعقدة هنا ، فلا كفّارة لها ، بل إنّما هي عقوبة للحلف ، ولهذا يجب حنثها والكفّارة مع الفيئة في المدّة عند الأصحاب

__________________

(١) البقرة : ٢٢٦.

(٢) البقرة : ٢٢٧.

٦١١

وبعدها أيضا على الخلاف ، ولو كانت يمينا وكفّارة حقيقيّتين لما كان كذلك وهو ظاهر ، وأيضا هذا اليمين غير مشروعة ، وشرط الصحّة المشروعيّة وإن قصدوا الطلاق وصمّموا قصده (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع طلاقهم (عَلِيمٌ) يعلم ضميرهم يعني لا بدّ من إيقاعه لفظا وقصدا حتّى يخلص ففيه إشارة لطيفة إلى اعتبار اللفظ والقصد في الطلاق فافهم.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر الآية عدم الكفّارة سيّما بعد المدّة كما هو مذهب بعض الأصحاب ، ولكن نقل الإجماع على وجوب الكفّارة في المدّة ، وأنّ ابتداء المدّة من حين الإيلاء كما هو مذهب بعض الأصحاب أيضا وأنّ الظاهر عدم انعقاد الإيلاء الّذي يترتّب عليه حكم الإيلاء المشهور في أربعة أشهر وما دون ، بل يكون إمّا دائما أو مقيّدا بأكثر من أربعة أشهر ، بحيث يسع الرجوع إلى الحاكم وإلزامه بأحد الأمرين كما هو مذهب الأصحاب فمذهب الحنفيّ وهو انعقاده في الأربعة وما دون كما هو في البيضاويّ وأربعة وما فوقه كما هو في الكشاف غير ظاهر.

وأمّا إذا لم يفعل أحد الأمرين فتطلّق الزوجة طلقة واحدة بائنة عند الحنفيّ وتطلّق عند الحاكم عند الشافعيّ وكلاهما غير واضح الدليل ، إذ حلّ عقد شخص بغير شيء وبغير رضاه غير جائز حتّى يثبت الدليل الّذي يصلح لتخصيص الأدلّة العقليّة والنقليّة ولا يبعد كون دليل الشافعيّ لا ضرر ولا ضرار ونحوه ، ويشكل جعل مثله دليلا لمثلها مع ثبوت التخيير ، ويحبس ويتضيق عليه الطعام والشراب عند الأصحاب حتّى يطلّق أو يرجع ويكفّر ، كما يحبس ويعاقب إذا امتنع عن سائر الحقوق الواجبة عليه ، وإن جوّزوا في بعضها تصرّف الحاكم ، وكأنّ عدم تجويزهم هنا بنصّ أو احتياط في الفروج.

وأمّا سائر أحكام الإيلاء والشروط فيطلب من الكتب الفقهيّة مثل اشتراط خلوّ الإيلاء عن الشرط ، وكونها منكوحة دائمة ومدخولا بها ، وعموم الآية تدلّ على العدم إلّا الدوام لذكر الطلاق ، وكذا يدلّ على عدم الفرق بين العبد والحرّ والحرّة والأمّة في الانعقاد ومدّة التربّص وعلى عدم اعتبار البلوغ والعقل والرشد

٦١٢

إلّا من جهة العقل فانّ كلام بعضهم لا اعتبار به ، فيعتبر التمييز والعقل ولا يحتاج إلى الرشد وأما الصبيّ المميّز فلعلّ الأصحاب صرّحوا بعدم اعتبار كلامه لعدم التكليف فليس ذلك بدليل إذ قد يكون من قبيل الأسباب أو يتوجّه التكليف إلى الأولياء إلّا أنّ ظاهرها تكليف المولى ، وأنّه يجب عليه الفيئة أو الطلاق ، ومعلوم عدم وجوب شيء عليه وعدم صحّة طلاقه عندهم ، لكنّه يمكن كونه غير بالغ حين الإيلاء وبالغا حين التربّص ، لكنّه بعيد ولعلّ عندهم إجماعيّ.

(الخامس اللعان)

وفيه آيات أربع هنّ :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١).

للّعان أحكام وشروط مذكورة في محلّها وليس هذا محلّ ذكرها ، فلنذكر معنى الآية وتركيبها ، «والّذين» مبتدأ و «فشهادة أحدهم» مبتدأ ثان و «أربع» خبرها ، والجملة خبر الأوّل أي فالشهادة الّتي تدرء عنه الحدّ هي أربع فيمكن أن يكون «فشهادة» فاعلا لفعل مقدّر ، وهو نحو يدرأ ، والجملة الفعلية خبر «الّذين» وعلى تقدير النصب يحتمل أن يكون «فشهادة» مبتدأ أيضا محذوف الخبر تقديره فشهادة أحدهم أربع شهادات واجب ولازم ، ونحو ذلك و «أربع» مفعول

__________________

(١) النور : ٦ ـ ٩.

٦١٣

شهادة فإنّها مصدر ، وأنفسهم مرفوع بالبدليّة من شهداء فإنّه في كلام غير موجب و (الْخامِسَةُ) مبتدأ و (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ) إلخ خبره وهو ظاهر كالباقي.

والمعنى : والّذين يرمون أزواجهم لا الأجنبيّات فإنّها مضت حكمها ، بالزنا إمّا بالقذف مثل أنت زانية أو زنيت أو بنفي الولد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون لهم على صحّة ما يدّعونه أي الشهود الأربع المعتبرة في ثبوت الزنا وإلّا يلزم المقذوفة الحدّ كما في الأجنبيّات ، فهذه مخصّصة لآية القذف ، فإنّ الزّوجة الّتي قذفها زوجها وليس عنده الشهود المعتبرة ، داخلة فيها كالأجنبيّات كلّها ، لا أنّها في الأجنبيّات فقطّ ، وهذه في الزوجات ، كما يظهر من مجمع البيان (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) مبالغة في نفي الشاهد فإنّ أنفسهم مدّعية ، فالّذي يخلّصه من حدّ القذف وإن لم يثبت مدّعاه هو أربع شهادات بالله ، إنّه لمن الصادقين بأن يقول أربع مرّات أشهد بالله أنّي لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ، ويقول في المرتبة الخامسة (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) كناية ، وإلّا هو يقول بياء المتكلّم أي عليّ (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزنا ، وهو مثل عليه ، وإلّا يقول إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا.

فتقوم هذه الشهادات مقام الشهود الأربع في إسقاط حدّ القذف عنه ، ولهذا لو لم يفعلها يحدّ ذلك الحدّ ، ويدفع عن المرأة أيضا أي حدّ القذف أن تشهد هي أيضا أربع شهادات بالله أنّ الرجل الّذي قذفها من الكاذبين فيما قذفها به من الزنا بأن تقول أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وفي المرّة الخامسة تقول أنّ غضب الله عليها إن كان زوجها من الصّادقين فيما رماها به من الزنا ، ووجه الغيبة مرّ ، واختيار الغضب هنا للتغليظ عليها ، لأنّها أصل الفجور ومنبعه ، ولهذا قدّمت في آية الجلد.

ثمّ من أحكام اللّعان التفرقة بينهما. ولا تحلّ له أبدا وعليها العدّة من وقت اللعان إن كانت من ذواتها وإن كان لنفي الولد ينفى عنه ولا توارث بينهما ، ولا محرميّة أي لا نسب بالكلّية ويثبت بينه وبين امّه النسب وما يقتضيه ، وأمّا بينه وبين

٦١٤

من يتقرّب بالأب ، ففيه تأمّل مذكور في محلّه ، ويمكن ثبوته مع إقرارهم وينبغي الرجوع إلى محلّه.

وأمّا سبب نزول الآية فمشهور مع ما فيه من الحكم بثبوت الزنا وبأنّ الولد من الّذي زنا بالمشابهة (١) مع أنّ القيافة باطلة فتركته لذلك.

(السادس)

(من روافع النكاح الارتداد)

نعوذ بالله منه ، وهو قطع الإسلام بقول أو فعل ، وقد استدلّ عليه بآيات

تحريم المشركين والمشركات (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (٢) وقد ذكرت في محلّها فتأمّل.

__________________

(١) راجع مجمع البيان ج ٧ ص ١٣٨ ، سنن أبى داود ج ١ ص ٥٢٠ ـ ٥٢٥ ، الدر المنثور ج ٥ ص ٢١ وغير ذلك من التفاسير والكتب الفقهية.

(٢) الممتحنة : ١٠.

٦١٥

(كتاب)

(المطاعم والمشارب)

الآيات المتعلّقة به على أقسام الأوّل ما يدلّ على أصالة إباحة كلّ ما ينتفع به خاليا عن مفسدة وهو آيات :

الاولى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١).

الثانية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢).

قد مرّ تفسيرها في المكاسب فتذكّر ، وأمّا عجزها أعني قوله تعالى (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) معناها ظاهرا بيان العداوة ، وحصر دعاء الشيطان للإنسان في السوء والفحشاء وأنّه لا يطلبه إلى الخير ، بل إنّما يطلبه إلى المعاصي ، والّذي يسوء الإنسان أي يضرّه في دينه أو دنياه ، وكأنّه شبّه تزيينه بأمر الآمر بالسوء والفحشاء كما تقول أمرتني نفسي بكذا ، والفحشاء قيل المراد منها الزنا ، وقال البيضاويّ : ما أنكره العقل واستقبحه الشرع والعطف لاختلاف الوصفين لأنّه سوء لاغتمام العاقل به والفحشاء لاستقباحه إيّاه ، وقيل السوء يعمّ القبائح والفحشاء ما تجاوز الحدّ في القبح من الكبائر ، وقيل الأوّل ما لا حدّ فيه والثاني ما شرع فيه الحدّ ، وأنت تعلم أنّ كلامه يدلّ على القبح العقليّ مع أنّه أشعريّ يمنع ذلك ، كما هو المبيّن في الأصولين ، وهذا أيضا ممّا مرّ.

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) البقرة : ١٦٨.

٦١٦

ومعنى (أَنْ تَقُولُوا) إلخ أنّ الشيطان يدعوكم إلى أن تقولوا على الله ما لا تعلمون ، وهو مثل قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم وتحريمكم على أنفسكم ما أحلّه الله ، وتحليلكم ما حرّمه الله اشتهاء وهواء أنفسكم.

فيفهم منه تحريم القول على الله سواء كان إطلاق الأسماء عليه أو وصفه بصفة من غير علم ، بل لا يبعد تعميم اعتقادهما أيضا أو بيان الأحكام الشرعيّة بأن يقول هذا حلال أو حرام أو مكروه أو مندوب أو واجب من غير علم يجوّز له ذلك بأن لا يكون مجتهدا ويقول ذلك من غير أن يكون ناقلا عن الكتب أو المشايخ كما هو الواقع كثيرا ، فيكون ما هو المتداول الآن بين الطلبة حراما إلّا أن يكون هناك قرينة تدلّ على أنّه ناقل ، ومع ذلك الاحتياط يقتضي الاجتناب إلّا مع التصريح بالإسناد إليهما.

وأمّا المجتهد فيجوز له ذلك بشرط بذل الجهد الواجب عليه مع حصول ظنّ شرعيّ له إما لأنّه عالم بذلك والظنّ وقع في الطريق كما بيّن في الأصول وأشار القاضي إليه هنا كما سننقله عنه ، ولعلّ وجهه أنّه يقول هذا مظنوني مجتهدا وكلّ ما هو كذلك فهو واجب العمل ، والأولى وجدانيّة ، والثانية إجماعيّة كذا في الأصول أو أنّ المراد بالعلم ما يجوز القول به وإن كان ظنّا فيكون العلم أعمّ وذلك كثير فلا يبعد جواز إسناد الأحكام إلى الله ونحو ذلك ممّا مرّ للمقلّد أيضا إذا أخذ عن شيخه المجتهد مع الشرائط ولكنّ الاسناد أولى.

قال القاضي : وفيه دليل على المنع من اتّباع الظنّ رأسا ، وأمّا اتّباع المجتهد لما أدّى إليه ظنّ مستند إلى مدرك شرعيّ فوجوبه قطعيّ والظنّ في طريقه كما بيّناه في الكتب الأصوليّة ، وقد ذكرت الوجه الّذي بيّنوه في الأصول بقولي ولعلّ وجهه إلخ وأنت تعلم أنّه لا يكفي الوجه المذكور لإسناد القول إلى الله بأن يقول إنّه واجب أو حرام مثلا ، مع أنّ له أن يقول ذلك وهو المطلوب منه ، وهو العلم بالأحكام الّذي هو وظيفة المجتهد ، لا أنّه واجب العمل لي ولمن يقلّدني فينبغي أن يقال حصل العلم أيضا من تلك المقدّمتين ، مثل أن يقول هذا مظنوني مجتهدا

٦١٧

وكلّ ما هو كذلك فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي.

فحصل العلم بأحكام الله تعالى ولا يحتاج إلى قيد ذلك لظهوره ، فيصحّ له أن يقول : هذا حكم الله ، وهذا حلال ، وحرام ، ونحو ذلك. نعم ينبغي التقييد مع أنّ الظاهر أنّ أحدا ما منع ذلك ، والكتب مشحونة بذلك ، فعلم أنّه لا بدّ من الاكتفاء بالقرائن ، فيجوز ذلك للمقلّد أيضا للقرينة بل يمكن أن يقال إذا حصل للمقلّد أيضا علم بل ظنّ يجب عليه اتّباعه شرعا مثل أن سمع فتواه من عدل بمذهب شيخه يحصل له العلم بأن يقول هذا ظنّ مجتهدي ، وكلّ ما هو ظنّه يجب علىّ العمل به ، والأولى فرضيّة ، والثانية إجماعيّة ، بل فرضيّة أيضا بل يمكن دعوى العلم أيضا كما قلناه في المجتهد ، فلا فرق ، وقد صرّح في الأصول كما أشار إليه القاضي أيضا كما سيجيء أنّ تقليد المجتهد ليس بتقليد حقيقة ، بل مجازا ، فإنّه قبول قول الغير بغير دليل وله دليل ، بل قالوا لا فرق بين قبول قوله وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يدخل في الظنّ المذموم في القرآن والأخبار ، فإنّه ليس بظنّ كالمجتهد فلا يحتاج إلى ما أجيب بأنّ المراد بالظنّ المذموم فيها في أصول الكلام لا في الفروع ، وما بقي لا يجاب الاجتهاد على كلّ أحد ونفي التقليد ـ كما نقل عن البعض لأنّ التقليد ظنّ وهو مذموم ، بل هو منهيّ ـ معنى فتأمّل.

فلا يحرم على المقلّد بيان المسائل مثل أن يقول : هذا حرام ، ولهذا نجده متداولا بين الناس العامّة والخاصّة من غير نكير ، ففي منع غير المجتهد من قول هذا حرام أو واجب وباطل وصحيح وحسن ما لا يخفى إذ قد يكون مقلّدا وله ذلك بالوجوه الّتي ذكرناها في المجتهد بعينها ، فافهم.

وأنّ في قول القاضي : فيه دليل إلخ تأمّلا فإنّه لا يدلّ على ذلك ، إذ لا يلزم من نهي القول على الله من غير علم إلّا عدم جواز القول على الله من غير علم لا غيره حتّى القول على الغير جهلا فما ظنّك بالظنّ وأيضا يفهم من كلامه عدم جواز العمل بالظنّ للمقلّد أيضا مع أنّه ليس ذلك عنده أيضا إلّا أن يقول ذلك أيضا ليس بظنّ بل الظنّ في الطريق كما قلناه ، ولكن بعيد من كلامه حيث ما ذكره مع خفائه

٦١٨

وذكر ما هو ظاهر ومذكور في الكتب إلّا أن يقال : وهو داخل في اتّباع ظنّ المجتهد فتأمّل فيه ، أو يقال إنّ ذلك خرج بالدليل اليقينيّ من إجماع ونحوه ممّا ثبت اعتباره بالدّليل اليقينيّ وإلّا يمنع جواز العمل بذلك الظنّ ، وهو أيضا بعيد ، إذ كثير من المسائل الأصوليّة إنّما تثبت بالظنّ كما يظهر لمن تتبّع فقد تكون هذه كذلك إلّا أن يقال وجوب اتّباع الظنّ الشرعيّ يقينيّ بالعقل والنقل ، كما قيل ذلك في اتّباع ظاهر القرآن والخبر المتواتر فتأمّل ، ويحتمل أن يكون مراده بالمنع من اتّباع الظنّ رأسا في القول على الله وهو بعيد جدّا ، بل لا تسع العبارة ذلك فتأمّل.

ثمّ اعلم أيضا أنّه قال في قوله تعالى (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد ، وأمّا اتّباع الغير في الدّين إذا علم بدليل مّا أنّه محقّ كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام فهو في الحقيقة ليس بتقليد ، بل اتّباع لما أنزل الله تعالى بعد أن قال : الواو للحال أو العطف والهمزة للردّ ، وأنت تعلم أنّه يفوّت المعنى الوصليّ الّذي فيه المبالغة فتأمّل فيه والمعطوف عليه غير ظاهر فيقدّر.

وفي الكشّاف أيضا جعله للحال وفي المطوّل للعطف وأيضا أنّه على تقدير الحاليّة لا دليل فيه أصلا فإنّ معناه ذمّ اتّباع الآباء حين عدم العقل وعدم الاهتداء وهو لا يستلزم عدم جواز تقليد من كان ذا عقل واهتداء أيضا بل لا دلالة فيها إلّا على تحريم ترك ما أنزل الله واتّباع الآباء لا على تحريم التقليد مطلقا لمن قدر على الاجتهاد فقط فتأمّل.

وأيضا لا يكفي في الاتّباع مجرّد كون المتّبع محقّا بل لا بدّ من دليل على الاتّباع حتّى يخرج من التقليد المذموم ، ويدخل في اتّباع الدليل كما أشرنا إليه سابقا فتأمّل.

وأيضا جواز تقليد من قدر على الاجتهاد لمن هو محقّ ومتّبع لما أنزل الله غير ظاهر إذ لا يجوز للمجتهد أن يقلّد آخر كما بيّن في الأصول فلا ينبغي تجويز

٦١٩

ذلك وكأنّه أيضا لا يجوّزه كما يدلّ عليه قوله من قبل «دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد» لكن ظاهر كلامه الأخير أنّ اتّباع المجتهد مطلقا ليس بتقليد فتأمّل.

وبالجملة الظاهر عدم جواز ذلك إذ معلوم أنّ الظنّ الحاصل بالاجتهاد أقوى ممّا يحصل بالتقليد ، مع ورود المنع من اتّباع الظنّ والتقليد في القرآن كثيرا ظاهرا كما اطّلعت عليه ، وستطّلع إنشاء الله تعالى وإن أمكن تأويله كما مرّ.

ووجود الدليل عليه ظاهر إذ لا إجماع فيه ، وهو عمدة دليل جواز تقليدهم ولا حرج ولا ضيق المنفيّين عقلا ونقلا ، ولهذا اختلف في الأصول في أصل جواز التقليد ثمّ في مادّة من يعرف صحّة الدليل وفسادها هل يجوز له التقليد من غير ذكر دليل عنده والمنع هنا غير بعيد ، وهو ظاهر عند من تأمّل في أدلّة جواز التقليد مطلقا وعدمه وتأمّل في كلام المجتهدين ورأى الخبط والخلط والوهم والسهو في كلامهم كما هو شأن الإنسان الغير المعصوم في المسائل الظنيّة ، ولو لا الضرر والحرج لكان عدم جوازه مطلقا أوجه ، لكن الظاهر أنّه ضرر عظيم ، وحرج وضيق منفيّ عقلا ونقلا بل غير مقدور لأكثر الناس فتأمّل.

الثالثة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١).

مضمون أوّلها قريب ممّا تقدّم إلّا أنّها خاصّة باعتبار المخاطب وعامّة باعتبار ما يتعلّق به الأكل ، فإنّها تشمل غير ما يخرج من الأرض أيضا والأمر للترغيب أو لإباحة أكل ما يستلذّه المؤمنون ويستطيبونه ويعدّونه طيّبا ، لا خبيثا ينفر عنه الطبع ويجزم العقل بقبح أكله مثل الدم والبول والمني والحشرات وغيرها فيفهم منه كونه طاهرا أيضا إذ النجس خبيث وليس ممّا يعدّونه طيّبا ، فهو في الدلالة على إباحة أكل جميع ما يعدّه العقل طيّبا ولا يجد فيه ضررا ولا نجاسة ولا خبثا ممّا يسمّى

__________________

(١) البقرة : ١٧٢.

٦٢٠