زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

وظاهر المحصنات شامل أيضا للأمة والصبيّة ، وغير المسلمة والمجنونة ، ولكن الظاهر أنّها قيّدت بعدمها للإجماع وغيره ، وأيضا إنّ المذكر في الّذين غلب كالتأنيث في المحصنات ، فلو قذفت امرأة أو قذف رجل محصن به يكون الحكم كذلك بالإجماع المنقول في مجمع البيان ، وغيره.

(ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) للشهود المسقط لحدّ القذف شروط مذكورة في محلّه ، مثل كونهم مجتمعين في الدخول للشهادة ، وغير الزوج على الخلاف (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) خبر الّذين بتأويل ، وهو متضمّن لمعنى الشرط فصحّ دخول الفاء في خبره وكذا (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) أي لا تقبلوا للرامين المذكورين الّذين لم يأتوا بالشهود المسقطة للحدّ شهادتهم (أَبَداً) دائما أصلا في أمر من الأمور جلدوا أم لا ، فتعليق الردّ باستيفاء الحدّ كما هو مذهب أبي حنيفة غير جيّد لأنّه خلاف الآية ولوجود الفسق لقوله تعالى (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) فانّ ظاهره أنّ الرمي مع عدم الاشهاد فسق حدّ أم لا ، والظاهر أن ليس أولئك إلخ خبرا آخر للّذين لتغيير الأسلوب ، فانّ الأنسب حينئذ وأفسقوهم أي احكموا عليهم بالفسق ، واعملوا معهم معاملة الفسّاق فهو حكم عليهم بذلك ، وإن كان مقتضى السوق أن يكون هو أيضا خبرا ، ويمكن كونه كذلك ولكن غيّر الأسلوب للتفنّن وغيره.

وبالجملة لا إشكال في ترتّب هذه الأمور الثلاثة : وجوب الحدّ وردّ الشهادة والفسق على القذف مع عدم الاشهاد على الوجه المعتبر ، إنّما الإشكال في متعلّق الاستثناء في قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ندموا عمّا قالوا من الرمي بل غيره أيضا على القول بعدم قبول التوبة إلّا عن جميع المناهي وعزموا على عدم العود.

قالوا المراد بالتوبة هنا إكذاب نفسه عمّا رمى ، والتوبة ظاهرة ، ولكن إصلاح العمل الّذي مذكور دائما بعد التوبة أمّا بهذا القول أو بقول وعمل صالح غير واضح ، وليس بمفسّر أيضا بأمر واضح ، وقيل هو البقاء على التوبة ، ولكن سأعيّن حدّ البقاء وظاهره الإتيان بعمل صالح أي عمل كان ، ويحتمل أن يكون تأكيدا

٦٦١

للتوبة وتقريرا لها ، والإصرار عليها ، فالعمل الصالح والإصلاح هو الإصرار عليها كما مرّ من قبل فتذكّر وقاعدة الأصول تقتضي تعلّق «إلّا» بالجملة الأخيرة على ما رجّحناه في الأصول ، فيكون «الّذين» في محلّ النصب بأنّه مستثنى عن أولئك لعدم الفسق حينئذ أي كلّهم فاسقون إلّا التائب.

ولكنّ الظاهر أنّ الشّهادة أيضا تقبل بعد التوبة ، وإن لم يكن هنا المستثنى متعلّقا به من جهة القاعدة ، ومن جهة أنّه يلزم أن يكون المستثنى المختار الجرّ بالبدليّة ، ولم يصحّ أن يكون في حالة واحدة معربا بإعرابين موافقين فكيف بمخالفين وما نقل في مجمع البيان من كون رجوع الاستثناء إلى الجملتين قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، ليس معناه الرجوع بحسب التركيب واللّفظ بل بحسب المعنى والمسألة ويجوز أن يكون متعلّقا بهما هنا بخصوصه للنصّ ، والعلم بكون الحكم كذلك ويتكلّف في صحّة اللّفظ بأن يكون قبل هذا الاستثناء استثناء آخر راجع إلى الأوّل محذوف بقرينة المذكور أو يكون منصوبا والمختار إنّما يكون فيما لا محذور فيه تأمّل.

واعلم أنّ من جملة أدلّة تعلّق القيد بالأخيرة لزوم ورود عاملين على معمول واحد ، على تقدير تعلّقه بأكثر فتأمّل ، وأنّ هنا تغيّر الأسلوب أيضا يدلّ على قطع «أولئك» عمّا قبله فيكون الاستثناء له فقط فتأمّل وأمّا عدم تعلّقه بفاجلدوا فظاهر فانّ التوبة لم تسقط الحدّ الّذي هو حقّ الناس ، ويؤيّده تعليقه بهما بالمعنى المتقدّم أنّ الكافر إذا تاب تقبل توبته ، وليس القذف بأعظم منه ، بل معلوم أنّه أسهل وأيضا الزاني إذا تاب تقبل توبته ، فالقاذف بالطريق الأولى فإنّه أسهل ذنبا فانّ الرّمي بالفاحشة أسهل من فعلها وهو ظاهر ، وأيضا الكافر إذا رمى وفعل غيره أيضا من أنواع المحرّمات تقبل توبته ، فالنائب هنا بالطريق الأولى ، وقد ادّعي في الأوّلين الإجماع في مجمع البيان وفي الآخر في الكشّاف ، ثمّ قال وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه يجلد القاذف وعليه ثيابه ، ويجلد الرجل قائما والمرأة قاعدة.

ومن شرط توبة القاذف أن يكذّب نفسه فيما قاله ، فان لم يفعل ذلك لم يجب قبول

٦٦٢

شهادته وفيه تأمّل ، إذ قد يكون صادقا فكيف يكذّب نفسه ، فكأنّه للرواية فيورّي للنصّ ثمّ قال : وردت في النساء وحكم الرجال حكمهنّ في ذلك بالإجماع ، وإذا كان القاذف عبدا أو أمة فالحدّ أربعون جلدة عند أكثر الفقهاء ، وروى أصحابنا أنّ الحدّ ثمانون في الحرّ والعبد سواء ، وظاهر الآية يقتضي ذلك ، ولا شكّ في ذلك لو لم يكن معارض وهو ظاهر.

(الثالث)

(حد السرقة)

وفيه آيتان :

الاولى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١).

أي الّذي سرق ، والّتي سرقت ، فصحّ دخول الفاء في الخبر ، أي فمقول في حقّهما ذلك ، فالانشائيّة خبر بالتأويل ، و «جزا ـ ونكالا» منصوبان على المفعول له ، أو المصدر ، ودلّ على فعلهما «فاقطعوا» والظاهر الأوّل وفي ذكر السارقة صريحا مبالغة في القطع (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قادر على الانتقام ويعاقب بحكمته في الدنيا والآخرة.

(فَمَنْ تابَ) من السرقة (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي سرقته (وَأَصْلَحَ) أمره كأنّه كناية عن البقاء على التوبة أو العمل الصالح وإصلاح العمل ، كما ورد في بعض الآيات الأخر ، ولكن فسّروها أيضا بالبقاء أو بعبادة اخرى غير التوبة بعدها ، ويحتمل أن يكون كناية عن استقرارها والجدّ في الندامة والعزم عليها ، لعدم وجوب غير التوبة لقبول التوبة للأصل ، بل الإجماع ، والآيات والأخبار (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ

__________________

(١) المائدة : ٣٨ و ٣٩.

٦٦٣

عَلَيْهِ) يقبل توبته تفضّلا لقوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فلا ينافي وجوبه للوعد ، بل يدلّ على وجوبه كما مرّ. فانّ الله تعالى لا يعذّبه في الآخرة بالسرقة ، وإن كان المال في ذمّته فيعاقب بحقّ الناس.

أمّا العذاب في الدنيا يعني القطع فظاهر الآية السقوط لعموم قوله (فَمَنْ تابَ) الآية فإنّ ظاهرها عدم تعذيبه تعالى إيّاه أصلا ، ولا شكّ أنّ قطع اليد تعذيب ولكن لا شكّ أنّ هذا القطع فيه حقّ الناس ولهذا لو عفى عنه قبل الإثبات وقبل المحاكمة يسقط وحقّ الناس لا يسقط بالتوبة ، ويمكن السقوط لو تاب قبل الإثبات والظفر ، وعدمه بعده ، على ما قالوه كأنّه للأخبار والإجماع ويؤيّده أنّه ليس بأعظم من المحارب ، مع أنّ في حدّ المحارب أيضا شائبة حقّ النّاس.

واعلم أنّ للقطع بالسرقة شرائط مذكورة في الفروع ، مستخرجة من الأخبار وإجماع الأمّة ، وأنّ محلّ القطع من أصول الأصابع عند الطائفة الإماميّة ، وعند غيرهم من الزند فتأمّل ، ثمّ يفهم من الآية الّتي بعدها أنّ سماع الكذب حرام إمّا بمعنى مجرّد الاستماع ، أو إجابته وقبوله ، من قولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب.

(الرابع)

(حد المحارب)

وفيه أيضا آيتان :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) قيل : يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله ، وهم المسلمون ، جعل محاربتهم محاربتهما ، أو المراد محاربتهما باعتبار عدم سماع النهي عن المحاربة فيحاربون من نهى عن محاربته ، فكأنّهم حاربوا الناهي فالمراد قطّاع الطريق وقد عرّف المحارب في الفروع بأنّه من شهر السّلاح لإخافة المسلم في البرّ والبحر والبلدان وغيرها ، والظاهر أنّ المراد من شهره ليخوّفه من القتل بقصد أخذ ماله غيلة وجهرا بحيث لو لم يخف ولم يترك المال له لقتله وأخذ ماله ، لا كلّ من شهر السلاح للاخافة فيدخل فيه كلّ مخوّف غيره بشهر السلاح

__________________

(١) المائدة : ٣٣.

٦٦٤

وقالوا أيضا : السلاح أعمّ من المحدد وغيره ، فيدخل فيه العصا.

(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) كأنّه بيان لتحقّق معنى المخاربة ، وتأكيد لثبوت حقيقته و «فسادا» يحتمل كونه علّة ومصدرا أيضا بغير لفظه ، لأنّ السعي في الأرض للمحاربة فساد فكأنّه قيل : ويفسدون في الأرض فسادا ، وفيه أيضا إشارة إلى أنّ الفساد موجب لجواز القتل.

(أَنْ يُقَتَّلُوا) خبر «جزاء» أي يقتّلون قصاصا أو حدّا على تقدير العفو من غير صلب إن اقتصروا على قتل النفس (أَوْ يُصَلَّبُوا) معه إن قتلوا وأخذوا المال ، قيل الصلب بعد القتل ، وقيل : القتل بالصلب ، والأخير أظهر من الآية (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) ويتركوا حتّى يموتوا قيل اليد اليمنى والرجل اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا ، فيها إجمال من جهة موضع القطع منهما ، وأنّ المراد الرجل اليمنى واليد اليسرى أو العكس ، والظاهر جواز ما يصدق ، وعدم التعدّي إلى ما لا يتحقّق دليله.

(أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أي من بلد إلى بلد ، بحيث لا يمكّنوهم من القرار في بلد ، ولا يطعمونهم إن اقتصروا على الإخافة ، والآية محمولة على هذا التفصيل وقيل للتخيير يعني الإمام مخيّر بين جميع المذكورات في كلّ محارب ، وهو الظاهر من الآية ، وأحكام المحارب مذكورة في الفروع بتفاصيلها ، ولما كان الحكم إلى الامام عليه‌السلام ما كان تحقيقها من وظائفنا ، ولهذا تركنا أكثر ما يتعلّق به عليه‌السلام لأنّ الغرض معرفة ما يجب علينا ونحن عاجزون منه فلا نتعدّى إلى غيره (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) ذلّ وفضيحة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم ذنوبهم.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) معلوم أنّ السّاقط بالتوبة إنّما هو الحدّ الّذي هو حقّ الله ، لا حقوق الناس ، مثل القتل قصاصا ويؤيّده (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فالقتل الواجب حدّا يسقط ، ويبقى الجائز قصاصا وقيّد التوبة بقبل القدرة فلو قدروا عليهم ثمّ تابوا لم يسقط عنهم شيء من الحدود وحقوق الله في الدنيا ، وأمّا الذنب في الآخرة فيسقط بالتوبة مطلقا في حقوقه تعالى.

٦٦٥

(كتاب الجنايات)

وفيه آيات :

الاولى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (١) أي بسبب قتل قابيل هابيل قضينا على بني إسرائيل وبيّنا لهم حتّى يعلموا ولم يقع منهم مثل ما وقع منه (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس يوجب القصاص (أَوْ) بغير (فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) قيل كالشرك وقطع الطريق أو إشارة إلى أنّ أحدهما كاف لجواز القتل وأنّ في التحريم لا بدّ من نفيهما ، والظاهر من الفساد أعمّ فيدلّ على إباحة القتل للفساد ، ويدلّ على جوازه لمطلق الفتنة أيضا قوله تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (٢) ولكنّ الفتنة والفساد مجملتان غير واضحتين نعم ، الظاهر أنّ ما يوجب القتل حدّا داخل فيه ، مثل اللّواط وزني المحصن ، ونحو ذلك ولو وجد القائل بقتل من يوقع الفتنة والفساد بين المسلمين ، بأن يفعل ما يوجب قتلهم ظلما ، مثل الّذي يسعى في استحقاق قتل المؤمن ، بأنّه رافضي وسبّاب وليس كذلك ، ويجعل فتنة كبيرة لكان حسنا والله أعلم.

(فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) من حيث إنّه هتك حرمة الدماء وسنّ القتل ، وجرّأ الناس عليه ، أو من حيث إنّ قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله تعالى والعذاب العظيم.

(وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أي ومن تسبّب لبقاء حياتها بعفو عن قصاص ، ومنع عن القتل ، أو استنقاذ عن بعض أسبابه ، مثل الحرق والغرق فكأنّما فعل ذلك بجميع الناس ، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها. أو يكون إشارة إلى التودّد ومحبّة بعض إلى بعض كما أشير إليه في الأخبار بأنّ قتل واحد بمنزلة الباقي كلّه فيتألّم له جميع الناس ، فانّ ضرب واحد ضرب الكلّ ، وإذا حصل نفع وفرح لواحد

__________________

(١) المائدة : ٣٢.

(٢) البقرة : ١٩١.

٦٦٦

فيكون ذلك للكلّ ، فينبغي رفع الحسد والبغض ، والنظر إلى نفع الكلّ ، والاجتناب عن تضرّرهم والتألّم لهم ، إلّا على وجه شرعيّ من حدّ وتعزير.

ففيها إشارة إلى منع الحسد ، وجميع المفاسد ، والضرر ، وقصد جميع الخير بالنسبة إلى نفسه وغيره ، من قريب وبعيد ، واحتساب أنّ نفع الغير نفعه ، وكذا ضرره وإذا عمل الإنسان ذلك لم يقع فساد أصلا.

الثانية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) (١).

أي فرض وواجب عليكم التعويض فيمن قتل منكم بأن يفعل بالقاتل منكم عمدا ما فعل بالمقتول ، بمعنى أن ليس له أن يأبى عن ذلك بل يسلّم نفسه لو أراد ذلك صاحب الحقّ ، فلا ينافيه جواز أخذ الدّية والعفو من غير شيء ، فإنّه إحسان وما على المحسنين من سبيل ، كما يبرأ ذمّة من عليه الحقّ كما يفهم من الآية والأخبار ولا عدم جواز القتل في غير العمد لأنّ المراد هنا العمد بالإجماع ، وأدلّة أخرى ، فيجب على الحرّ أن يسلّم نفسه للقتل إن قتل حرّا عمدا ، وكذا العبد والأنثى ، سواء كانت أمة أو حرّة قال في مجمع البيان : أما من يتولّى القصاص فهو إمام المسلمين وهذا خلاف ما عليه أكثر الأصحاب فإنّه القائل به والشيخ في المبسوط والعلّامة في القواعد ، مع أنّهما أيضا في غيرهما على عدم الاشتراط ويدلّ عليه الأصل ، وعموم الأخبار والآيات ، وخصوص (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (٢).

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) قيل : المراد بمن القاتل ، وبالأخ المقتول وتسمية القاتل بأخ المقتول ، تدلّ على عدم خروجه بالقتل عن إخوّة الايمان فالقاتل مؤمن ولم يخرج عنه بالقتل ، فدلّ على عدم اعتبار ترك المعاصي حتّى قتل المؤمن في الايمان ، وقيل المراد بالأخ العافي الّذي هو وليّ الدّم سمّاه الله أخا للقاتل ليشفق عليه بأن يقبل الدية أو يعفو بالكلّية ، أو لا يقتله على طريق المشقّة ولا يبغضه

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

(٢) أسرى : ٣٧.

٦٦٧

فيفهم كمال الاهتمام بإخوة الايمان.

قال في الكشّاف وتفسير القاضي ومجمع البيان وفي قوله «شيء» دليل على أنّ بعض الأولياء إذا عفى سقط القود ، لأنّ شيئا من الدّم قد بطل بعفو البعض والله تعالى قال (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية والضمير في «له» و «في أخيه» كلاهما يرجعان إلى «من» وهو القاتل أي من ترك له القتل ورضي عنه بالدية ، هذا قول أكثر المفسّرين قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد ، ولم يذكر سبحانه العافي لكنّه معلوم أنّ المراد به من له القصاص والمطالبة وهو وليّ الدم.

وأنت تعلم أنّ عفو بعض الورثة لا يسقط القود الثابت لباقي الورثة على ما هو في كتب الأصحاب وادّعى الإجماع عليه الشهيد الثاني في شرح الشرائع ولا دلالة في الآية عليه ، إذ معناها الله يعلم أن ليس من العافي إلّا الاتّباع ، ومن المعفوّ له إلّا الأداء بالإحسان ، ولا يفهم منه حكم غير العافي ، فما كان له باق غير ساقط وهو ظاهر وقال في الكشّاف والقاضي أنّ عفى الشيء بمعنى تركه ، حتّى يكون شيء مفعولا به له ، لما جاء في اللغة ، إذ لا يقال عفاه بل أعفاه فهو لازم ، فالمعنى من عفي له من جهة أخيه شيء من العفو ، فالشيء مفعول مطلق.

ثمّ قال في مجمع البيان : والقول الآخر أنّ المراد بقوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) وليّ الدم ، والهاء في «له» و «أخيه» يرجع إليه ، وتقديره فمن بذل له من أخيه يعني أخ الوليّ ، وهو المقتول الدية ، ويكون العافي معطي المال ذكر ذلك عن مالك ومن نصر هذا القول قال : إنّ لفظ شيء منكّر ، والقود معلوم ، فلا يجوز الكناية عنه بلفظ المنكّر ، إلى قوله وهذا ضعيف ، والقول الأوّل أظهر وقد ذكرنا القول في تنكير شيء هذا.

وقد عرفت أنّه غير منطبق على كلام الأصحاب إذ المشهور عندهم جواز القود للبعض مع رضا البعض بالدية والعفو فيؤدّى حصص الباقين ، نعم نقل في الإسقاط رواية والعمل بها والقائل غير معلوم ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أنّ كلّ العفو وبعضه مساو في الحكم وهو اتّباع بالمعروف ، وأداء إليه بإحسان.

٦٦٨

وأيضا قال : وأمّا الّذين لهم العفو عن القصاص فكلّ من يرث الدية إلّا الزوج والزوجة عند غير أصحابنا فلا يستثنونهما ، وفيه أيضا تأمّل إذ الزوج والزوجة لا يرثان القصاص ، ولعلّ ما فيه خلاف عندهم ، نعم يرثان من الدية مع العفو عليها فلا معنى لعفوهما عن القصاص ، فكأنّه يريد إرث الدية فتأمّل.

(فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي فعلى العافي اتّباع بالمعروف أي لا يشدّد في الطلب وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة على حقّه ، وعلى المعفوّ له أداء إليه أي إلى الوليّ بإحسان ، أي الدفع عند الإمكان من غير مطل وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقيل المراد فعلى المعفوّ عنه الاتّباع والأداء و (ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما تقدّم (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) معناه جعل القصاص والدية والعفو والتخيير بينهما تخفيف من الله ورحمة لكم ، قيل كان لأهل التوراة القصاص فقط ، ولأهل الإنجيل العفو مطلقا.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بأن قتل بعد قبول الدية والعفو ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام وقيل بأن قتل غير القاتل سواء قتله أيضا أم لا ، أو طلب أكثر ممّا وجب له من الدية ، وقيل بأن يجاوز الحدّ بعد ما بيّن له كيفيّة القصاص ، وقال القاضي : يجب الحمل على الجميع للعموم (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة كذا في المجمع والكشّاف ويحتمل كون العذاب في الدنيا أيضا بالقصاص وبالتعزير ، وكذا يمكن حمل الاعتداء على الأعمّ من المذكورات ، بأن لا يتّبع بالمعروف ولا يؤدّي بالإحسان ، أو لا يسلم القاتل نفسه للقصاص ، وبالجملة ومن تعدّى عمّا شرّع أعمّ من القاتل والمقتول وغيرهما ، وعن أحكام القصاص وغيره لعموم اللّفظ.

فتركيب الآية أنّ القصاص مفعول قائم مقام فاعل كتب ، والحرّ مبتدأ وخبره بالحرّ متعلّقا بمقدّر ، مثل يقتصّ ، وكذا ما بعده ، والمجموع بيان لكيفيّة القصاص ، أو يكون الحرّ فاعل فعل محذوف أي يقتصّ الحرّ وكذا الباقي و «من» في (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) موصولة مبتدأ ، والجملة صلته «وشيء» مفعول مطلق قائم

٦٦٩

مقام فاعل «عفي» و «فاتّباع» مبتدأ وخبره محذوف أي فعليه اتّباع أو فالواجب عليه اتّباع ، أو خبر مبتدأ محذوف أي فحكمه اتّباع ، أو فاعل فعل مقدّر أي فليكن اتّباع والجملة خبر «من» والفاء يصحّ لتضمّن المبتدأ معنى الشرط ، والظاهر أنّ ضمير إليه راجع إلى «من» وهذا يدلّ على أنّ الاتّباع والأداء كلاهما حال المعفوّ له ووصف له ، وهو وليّ الدم كما مرّ في التأويل الأخير ، وعلى الأوّل يحتاج إلى التقدير أي فعلى عافى من عفي له اتّباع وعليه أداء إلى ذلك العافي فضمير إليه أيضا للعافي المعلوم من عفي وهو أيضا خلاف الظاهر ، وموجب للتفكيك ويكون «وأداء إليه» عطف الجملة على الجملة ، لا عطف المفرد على المفرد ، وإن صحّ ذلك أيضا على الإجمال كما مرّ فتأمّل.

و «ذلك» مبتدأ و «تخفيف» خبره و «رحمة» عطف على تخفيف و «فمن» أيضا موصولة مبتدأ والجملة صلته ، وعائدة ضمير اعتدى و «عذاب» مبتدأ و «أليم» صفته و «له» متعلّق بمقدّر خبره ، والجملة خبر «من» وصحّت الفاء لتضمّن معنى الشرط كما مرّ.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر الآية الشريفة كون القصاص وحده هو موجب القتل ، حيث اقتصر عليه ، والغير وهو الدية منفيّ بالأصل ، وإن سلّم أنّ الوجوب المستفاد من كتب أعمّ من التخييريّ والعينيّ ، وأنّه ليس بمتبادر ، وأنّ التخيير ليس بنسخ للواجب العينيّ ، مع وجود شرائطه ، فهو متعيّن في الآية لأنّ وجوب القصاص منصوص والغير منفيّ بالأصل ، والتخيير ليس بنسخ له ولو وجد ، لأنّه كان ثابتا بأصل عدم الغير ، والنسخ إنّما يكون لحكم شرعيّ فكأنّ هذا معنى احتجاج الحنفيّة بها على أنّ مقتضى العمد هو القود ، فلا يرد عليهم قول البيضاويّ : وهو ضعيف إذ الواجب على التخيير يصدق عليه ، أنّه وجب ، وكتب. ولذلك قيل التخيير بين الواجب وغيره ليس بنسخ لوجوبه.

وأنّ ظاهرها وجوب التماثل في القصاص ، يعني إنّما يجب القصاص إذا كان القاتل والمقتول متساويين في الحرّية والعبديّة ، والذكورة والأنوثة بمفهومها ، و

٦٧٠

أنّ قوله «الحرّ» إلخ. بيان للقصاص الواجب فلا يكون غيره واجبا ، وبما نقل من سبب النزول : وهو أنّه كان في الجاهليّة بين حيّين من أحياء العرب دما ، وكان لأحدهما طول على الآخر كأنّه قوّة وتسلّط فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منّا وكذلك الذكر بالأنثى ، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت وأمرهم أن يتبأوا.

فتدلّ على عدم جواز قتل الحرّ بالعبد وبالعكس ، وهو ظاهر فقول البيضاوي أنّها لا تدلّ عليه ، فانّ المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم وقد بيّنّا ما كان الغرض كأنه إشارة إلى سبب النزول ومنع العرب ممّا أرادوا أن يفعلوا محلّ تأمل إذ سبب النزول يدلّ على ذلك فإنّهم أرادوا قتل الحرّ بالعبد فمنعوا بالآية وأيضا قد يقال : لم يكف في حجّيّة المفهوم عدم ظهور غرض سوى اختصاص الحكم بل لا بدّ من ظهور عدم غرض سواه فانّ دليل الحجيّة لزوم اللغو ، وذلك غير لازم إلّا على الثاني لا الأوّل فتأمل ، نعم يمكن أن يقال لم يظهر كون ذلك بيانا ، وعلى التقدير يكون منفيّا بالأصل ، لا بالآية ، والمفهوم ليس بمعتبر لأنّه إمّا لقب أو صفة وما ثبت في الأصول اعتبارهما فارجع إليه.

وأمّا سبب النزول فالظاهر منه أنّ المقصود نفي تفاضل إحدى الحيّين على الآخر كما كان مرادهم ، والمفهوم من قولهم «كان لأحدهما طول» ومن قولهم «لنقتلنّ الحرّ منكم بعبد منّا» وكذا من الذكر بالأنثى ، وقولهم والاثنين بواحد كما نقله في الكشّاف بعد قوله بالأنثى ـ وقال في مجمع البيان وأقسموا لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منهم وبالمرأة منّا الرجل منهم ، وبالرجل منهم الرجلين منّا ، والظاهر أنّ في الكتاب سقم والصحيح. وبالرجل منّا الرجلين منهم (١) ـ وجعلوا أيضا جراحاتهم على الضعف من جراحات أولئك حتّى جاء الإسلام فأنزل الله الآية ، ويكون الغرض من ذكر الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى مجرّد نفي

__________________

(١) كما هو المطبوع في طبعه صيدا ج ١ ص ٢٦٥.

٦٧١

تفاضلهم ، والردّ عليهم بأن لا يقتلوا اثنين بواحد ، ولا حرّ غيرهم بعبدهم من دون العكس ، وهذا المقدار يكفي لإخراج المفهوم عن الحجّية على تقديرها لأنّه ما صار التخصيص لغوا لو لم يكن فائدته نفي الحكم عن غير المذكور.

وبعد هذا كلّه فلا يبعد أن نقول المفهوم يدلّ على ذلك ، وهو معتبر هنا في الجملة لكن يفهم جواز قتل العبد بالحرّ بالطريق الأولى ، وكذا قتل الأنثى بالرجل ولما لم يكن على العبد سوى نفسه شيء فلا يؤخذ من مولاه شيء آخر غير نفس العبد بخلاف المرأة فإنّها تقتل بالرجل ، ويمكن أن تؤخذ نصف الدية أيضا لأنّها نصف الرجل ويمكن عدم إثبات شيء سوى نفسها ، وأمّا نفي قتل الحرّ بالعبد فنقول أنّه مفهوم من الآية ، ونقول به ، وأمّا قتل الرجل بالمرأة فيقول به الأصحاب من دليل آخر وهو الأخبار بل إجماعهم فيخصّص به مفهوم الآية ، وبالجملة المفهوم حجّة ولكن يترك بأقوى منه وقد بيّناه.

والحاصل أنّ العمدة في تفاصيل الأحكام الأخبار والإجماع ، ومن هذا علم أنّها ليست بمنسوخة ، وإن قلنا بمفهومها بقوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) كما قاله في الكشاف حيث قال : وعن سعيد بن المسيّب والشعبيّ والنخعيّ وقتادة والثوريّ وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه أنّها منسوخة بقوله (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فالقصاص ثابت بين العبد والحرّ ، وبين الذكر والأنثى إلخ فإنّه لا يصحّ أمّا أوّلا فلأنّ النفس بالنفس حكاية ما كان واجبا ومكتوبا في التوراة وليس بمعلوم ثبوت ذلك في المسلمين ، وأمّا ثانيا فلأنّه لا عموم له بحيث ينسخ به شيء خاصّ ، وأمّا ثالثا فلأنّ المفهوم على تقدير حجّيّته دليل ضعيف فلا ينسخ به المنطوق إذ لا صلاحيّة له للتعارض فهو ترك مفهوم بمنطوق إلّا أن يثبت العمل بالمفهوم ثمّ ترك النفس بالنفس ، وأمّا رابعا فلأنّه يمكن التخصيص وهو أولى من النسخ ، وأمّا خامسا فلأنّه لا شكّ في بقاء بعض الأحكام في الآية فلا يصحّ الحكم بأنّها منسوخة إلّا أن يريد نسخ المفهوم (١).

__________________

(١) العموم خ ل.

٦٧٢

الثالثة : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١).

تدلّ على مشروعيّة القصاص ولمّه.

الرابعة : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) (٢) نهى نهي تحريم عن قتل الإنسان ويمكن الأعمّ بغير سبب مبيح لذلك ، مثل الارتداد والقصاص (إِلَّا بِالْحَقِّ) وهو السبب المبيح لذلك كما مرّ وأشار إلى بعض الأسباب المبيحة بقوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) أي بغير سبب مبيح بل ظلما وعدوانا (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فقد جعل الله تعالى لوليّ المقتول الّذي تقرّر شرعا سلطنة وتسلّطا على ذلك القاتل في الاقتصاص منه ويحتمل أن يكون المراد بغير سبب مبيح ، وإن لم يكن عدوانا فقد جعل لوليّه تسلّطا على الإعواض فيشمل الخطاء وشبهه أيضا.

(فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي وليّ الدم لا يتجاوز حدّ ما شرّع له من القتل ، على وجه القصاص الّذي شرّع له في الشرع ، فإنّه لو تجاوز فقد جعل من تعدّى عليه منصورا بشرع التعويض له ، مثل أن مثّل الوليّ قاتل أبيه ثمّ أراد قتله ، فجعل الله القاتل منصورا بشرع القصاص في المثلة ثمّ القصاص ونحو ذلك ، وبالجملة لا يجوز له أن يتعدّى الشرع بأن يقتل الاثنين بواحد وحرّا بعبد ومسلما بكافر ، ولا يتجاوز في طريق القتل عمّا حدّ له ، ويحتمل كون الضمير للوليّ يعني حسبه إنّ الله تعالى قد نصره بأن أوجب له القصاص والتعويض ، فلا يستزد على ذلك ، وبأنّ الله نصره بمعونة السلطان ، وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحقّ فلا يبغ ما وراء حقّه ، ويحتمل للمظلوم بأنّ الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله ، وينصره في الآخرة بالثواب.

وهذه الآية كالصريحة في جواز استيفاء الحقّ من القصاص والدّية مستقلا بغير إذن الحاكم وثبوت عنده فقول البعض بعيد.

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

(٢) أسرى : ٣٣.

٦٧٣

الخامسة : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (١).

أي قاصدا إلى قتله عالما بإيمانه وحرمة قتله وعصمة دمه ، فيحتمل أن يكون الخلود حينئذ كناية عن كثرة المدّة ومقيّدا بعدم العفو والتوبة أو مستحلا لذلك ، أو قاتلا لإيمانه فيكون كافرا ، فلا يحتاج إلى التأويل والأخير مرويّ وقال في مجمع البيان وقيل معنى التعمّد أن يقتل على دينه ، رواه العياشيّ بإسناده عن الصّادق عليه‌السلام وظاهر الآية يدلّ على عدم الكفّارة والدية للمقابلة ، ولكن ثبت كفّارة الجمع بالاتّفاق والأخبار ، بل القصاص أيضا ولهذا ذكرناها هنا وتفصيل أقسامه وتحقيق الكفّارة في الفقه ، وكذا تحقيق أنّ الحقّ للوارث فقط أوله وللمقتول أيضا وأنّه يفوت حقّ الوارث لو لم يصل إليه ومات فيرجع إلى الأوّل كما نبّه عليه المحقّق الثاني على ما نقل عنه في تحقيق المال ولا غرض مهمّة يتعلّق بتحقيق ذلك والظاهر أنّه لهما ، ولكنّ حقّ المقتول باق ، وإن سلّم القاتل نفسه للقصاص اقتصّ أم لا ، وبريء من حقّ الوارث الله يعلم ، وأيضا على القاتل توبة ولكن لا بدّ فيها من الخروج عن حقوق الورثة وأيضا يجوز العفو لله عنه وعن سائر العصاة إن شاء إلّا المشرك (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فيعوّض عن المقتول ووارثه حتّى يرضوا ويتجاوزوا عن حقوقهم.

والوعيد بالعقاب حقّ لله تعالى وتركه غير قبيح بل حسن كما أن توعّد عبدك بالضرب والقتل ثمّ مع القدرة تعفو عنه فإنّه لا محالة يعدّ حسنا ما لم يتضمّن تضييع حقّ غيرك ، ومفسدة أخرى ، والوعيد مقيّد بالمشيئة وعدم مشيّة الترك والعفو وهو ظاهر.

السادسة : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) (٢) أي ما صحّ وما استقام أو ما جاز له (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) بغير حقّ واستحقاق كالقصاص والحدّ لعلّة من العلل أصلا (إِلَّا خَطَأً)

__________________

(١) النساء : ٩٥.

(٢) النساء : ٩٦.

٦٧٤

أي إلّا لخطاء بأن قصد مثلا بسهمه صيدا فقتل به مؤمنا وبالجملة أن لا يقصد القتل بفعله الّذي ترتّب عليه القتل ولم يكن ممّا يترتّب عليه القتل فهو مفعول له ، أو في حال من الحالات إلّا حال كونه خطأ فهو حال أو ظرف أو قتلا خطاء ، فهو صفة مفعول مطلق محذوف أو قتل خطاء فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والاستثناء متّصل على التقادير.

قال البيضاويّ وقيل «ما كان» نفي في معنى النهي والاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطاء فجزاؤه ما يذكر ، ويحتمل حينئذ الاتّصال أي يحرم قتل المؤمن مطلقا إلّا خطاء وفي الكشاف مفعول له أي ما ينبغي له أن يقتله لعلّة من العلل إلّا للخطاء وحده ، وفيه تأمّل فإنّ معناه ينبغي قتل المؤمن خطاء.

قال في مجمع البيان : أجمع المحقّقون من النحويّين على أنّ قوله «إلّا خطأ» استثناء منقطع من الأوّل على معنى ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتّة إلّا أن يخطأ المؤمن إلى قوله : فمعنى الآية على ما وصفناه ليس من صفة المؤمن أن يقتل مؤمنا إلّا خطأ وعلى هذا فالاستثناء متّصل ومن قال منقطع قال قد تمّ الكلام عند قوله أن يقتل مؤمنا ثمّ قال فإن كان القتل خطأ فحكمه كذا ، وإنّما لم يحمل قوله «إلّا خطأ» على حقيقة الاستثناء لأنّ ذلك يؤدّي إلى الأمر بقتل الخطأ أو إباحته ولا يجوز واحد منهما ، والخطاء هو أن تريد شيئا فتصيب غيره إلخ وفيه تأمّل.

(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فيلزمه أو فعليه أو فالواجب فهو إمّا فاعل أو مبتدأ خبره محذوف أو خبر مبتدأ محذوف ، والمراد بالرقبة هو الرقّ والمملوك مطلقا وتوصيفه بالمؤمن يخرج غيره كأنّه الّذي يطلق عليه في الشرع ذلك ومن يكون بحكمه فلا يبعد إجزاء المولود من المؤمنين بل من مؤمن وغيره أيضا لأنّه بحكم المؤمن شرعا إلّا على تقدير اشتراط البلوغ ، والظاهر أنّه لا يشترط ولا فعل الصّلاة والصوم ، والمراد بالمؤمن هو المسلم عند الجمهور ، ويحتمل كونه بالمعنى الخاصّ عند الأصحاب وتمام تحقيقه في الفقه.

قال في مجمع البيان : الرقبة المؤمنة هي البالغة الّتي آمنت وصلّت وصامت

٦٧٥

لا يجزي في كفّارة القتل الطفل ولا الكافر عن ابن عبّاس والشعبيّ وإبراهيم والحسن وقتادة وقيل يجزي كلّ رقبة ولدت على الإسلام عن عطاء والأوّل أقوى لأنّ لفظ الرقبة لا يطلق إلّا على البالغ الملتزم للفرائض إلّا أنّ من ولد بين مؤمنين فلا خلاف أنّه يحكم له بالايمان.

وهذا الكلام يشمّ منه رائحة التنافي ، وأنّ العمل شرط في صدق الايمان وأنّ مراده بالمؤمن المسلم فتأمّل فيه ، والظاهر أنّ المراد بالمؤمن هنا من يصدق عليه المسلم ولو حكما للأصل وللصدق لغة وعرفا عامّا وشرعا ولقوله بعده (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ) الآية فيكفي المسلم البالغ مطلقا والحاصل من مسلم وإن كان أحد أبويه كافرا كما هو مصرّح في شرح الإرشاد وغيره لما مرّ.

(وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي ويلزم بالقتل ويجب به حقّ آخر غير حقّ الله أي عتق الرقبة ، وهو دية يجب تسليمها إلى أهل المقتول ووارثه وهذا أولى من تقدير «عليه» لقلّة التأويل في اللزوم على العاقلة ، فهو مؤيّد لتقدير مثل يلزم في الأوّل وظاهر الآية والعقل لزومها على القاتل إلّا أنّ النصّ والإجماع حملها على العاقلة وتفصيل مقدار الدية وأنّه في كم يؤدّي وأنّها على العاقلة ، ومن العاقلة وأنّ من يرثها يطلب من الفقه.

(إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يعني إلّا أن يتصدّق أهل المقتول بالدية على من يجب عليه من العاقلة استثناء من التسليم الواجب على كلّ حال الّذي يدلّ عليه مسلّمة واللزوم المقدّر الّذي هو متعلّق الدّية فإنّ التقدير يلزم به الدّية أو عليه كما مرّ ، فهو منصوب على الحال من الفاعل أو الأهل أو الظرف ويعلم منه إطلاق التصدّق على إبراء ما في الذمّة وصحّته به ، والعفو فليس بمخصوص بالعين فيصدق التصدّق في العين والدين كما يدلّ عليه أيضا قوله تعالى (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ معروف صدقة ، وقيل في التعبير بالتصدّق حثّ على العفو فانّ ثواب التصدّق كثير ، ومعلوم ومعروف.

٦٧٦

(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي إن كان المقتول خطاء من جملة قوم عدوّ لكم أي كفّار مشركين لا عهد ولا ميثاق بينكم وبينهم ، وهو في نفسه مسلم ولم يعلم قاتله إسلامه فقتله وهو يظنّ أنّه مشرك (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فاللازم إعتاق رقبة مؤمنة فقط ، لا الدية أيضا للمقابلة فلا دية له لهذه الآية ، لا لأنّ ورثته كفّار لا يرثون المسلم ، إذ قد يكون له ورثة مسلمين ، وقد ثبت أنّهم لا يعطون الدّية مطلقا كما هو ظاهر الآية ، ولأنّ الدّية قد لا تكون كالإرث ، ولهذا يعطون إن كان من قوم بيننا وبينهم ميثاق مطلقا مع عدم الإرث.

قال في مجمع البيان : فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة وليس فيه دية عن ابن عبّاس ، وقيل معناه إذا كان القتل في عداد قوم أعداء وهو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر فمن قتله فلا دية له وعليه تحرير رقبة مؤمنة فقط ، لأنّ الدية ميراث وأهله كفّار لا يرثونه عن ابن عبّاس في رواية أخرى وفيه تأمّل لما مرّ.

وأمّا تفصيل الدّية والرقبة وأنّهما من ماله أو من بيت المال إذا كان في الجهاد فمعلوم من الفقه كغيره من الأحكام فليطلب هناك (وَإِنْ كانَ) المقتول (مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي عهد وذمّة وليس بينكم وبينهم حرب (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) تحرير الرقبة كفّارة القتل والدية حقّ للورثة والظاهر من سوق الكلام كون هذا القتل أيضا خطاء وأنّ ديته أيضا على العاقلة لأهل المقتول مطلقا ، والكفّارة على نفسه ، وقال في مجمع البيان : وهو المرويّ عن الصادق عليه‌السلام وأنّ المراد كون هذا المقتول أيضا مؤمنا ولم يعلمه القاتل وإلّا لا وجه للكفّارة.

قال في مجمع البيان قيل إنّه كافر يلزم ديته بسبب العهد ، وقيل مؤمن يلزم قاتله الدّية ويؤدّيها إلى قوم مشركين لأنّهم أهل ذمّة عن الحسن وإبراهيم ورواه أصحابنا أيضا إلّا أنّهم قالوا نعطي ديته ورثته المسلمين دون الكفّار وهو خلاف ظاهر الآية فإنّ الظاهر أنّه لا بدّ من الدية لأهل المقتول من كان وأيضا يلزم عدم الدية على تقدير كون الأهل كفّارا وهو أيضا خلاف ظاهر الآية إلّا أن يقال : يكون

٦٧٧

للإمام عليه‌السلام ، وهو المراد بأهله حينئذ لأنّ المراد به الوارث وهو الوارث على ما بيّن في محلّه فتأمّل فيه ، إلّا أن يثبت رواية توجب العمل بها فيتبيّن الآية بها ، وإلّا لعمل بظاهر الآية ، وإن لزم كون حكم الدية غير حكم الإرث ، أو توريث الكافر من المسلم ، ولعلّ المسئلة إنّما تقع مع حضور المعصوم ، وهو عارف بها ، فلا يحتاج إلى كثرة البحث عنها فتأمّل.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي لم يقدر على تحرير الرقبة إمّا بأن لا يجد الرقبة ولا ثمنها أو لم يجدها مع وجود ثمنها أو يجدها ولكن لم يجد ثمنها. فقول مجمع البيان : بأن لا يجد العبد ولا ثمنه محلّ التأمّل.

(فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) فيجب صيام شهرين ظاهره أعمّ من الهلاليّ والعدديّ وإن كان الأوّل أظهر ، وأيضا ظاهره عدم تحقّق التتابع إلّا بتتابع الجميع ولكن ذكر الأصحاب أنّه يحصل بشهر ويوم من الثاني للرواية ، ولعلّه لا خلاف عندهم فيه ، وكذا ظاهره وجوبهما على العبد أيضا فالتنصيف له لما مرّ ، مع أنّه قد يقال العبد غير داخل في الآية ، لأنّ الصوم بعد أن وجب عليه الإعتاق وعجز ولا عتق عليه ويمكن أن يجاب بأنّه قد يكون عليه العتق على القول بتملّكه كما هو الظاهر فيكون هذا مؤيدا له ، أو بأنّه يصدق عليه عدم وجدان الرقبة والعجز عن الإعتاق فيدخل تحت الصوم ، ولم يعلم اشتراط وجوب الصوم بإمكان وجوب العتق ، ثمّ العجز وهو ظاهر ، فتخصّص الآية بما تقدّم فتأمّل.

(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) قيل نصب على المصدر ، أو على المفعول له ، أي تاب الله عليكم توبة بالكفّارة أي قبل توبتكم ، أو للتوبة أي شرع ذلك للتوبة ، أي لقبولها من تاب الله إذا قبل التوبة «من الله» صفة توبة ، وفي المعنى تأمّل إذ لا ذنب في القتل خطاء فلا يحتاج إلى التوبة إلّا أن يقال كان يمكن الاحتراز [بالتحقيق] ولكنّه ما كان مكلّفا وكأنّه لذلك قال في مجمع البيان قيل المراد بالتوبة هنا التخفيف من الله لأنّه سبحانه إنّما جوّز للقاتل العدول إلى الصيام تخفيفا عليه ، ويكون كقوله سبحانه (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) فتأمّل.

٦٧٨

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) أي لم يزل عالما بكلّ الأشياء فمنه حال القاتل وقصده والمقتول وإيمانه (حَكِيماً) فيما يأمر به وينهى عنه مطلقا ، وكان مخفيا علينا في بعض الموادّ مثل التوبة في هذا المقام ، وإيجاب الكفّارة والدية مع عدم التكليف ، وكذا إيجابها على العاقلة من غير مدخليّتها فيريد الإشارة إلى أنّه إذا خفي عليكم الحكمة لا تحكموا بعدمها ، أو عدم علم الحاكم فإنّه كفر نعوذ بالله ، وخفاؤها لا يدلّ على نفيها فينبغي فيه التفكّر ليصل ، فان لم يصل يحكم بوجودها وعلم الحاكم بها ، وعدم فهمه لنا ، إمّا لعدم التفكّر على ما ينبغي أو وجود ما يمنع الفهم من الكدورات الظاهريّة والباطنيّة ، أو لحكمة تكون في عدم الفهم الله يعلم.

السابعة : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) (١).

أي فرضنا عليهم في التوراة أنّ النّفس تقتل بالنفس ، إذا قتلها بغير حقّ ، وكذا العين تفقأ بالعين والأنف يجذم بالأنف ، والاذن تقطع بالاذن ، والسنّ يقلع بالسنّ (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي كلّ جرح ذي قصاص يثبت لصاحبه القصاص ، كانّ المراد غير ما ذكر أو أعمّ فليس من إجمال الحكم بعد تفصيله كما قاله القاضي والمعلوم أنّ المراد جرح يمكن قصاصه ، وإلّا فالأرش والحكومة ، وتفصيله في غير هذا المحلّ.

(فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي من تصدّق بالقصاص بأن يعفو عنه مطلقا فالتصدّق كفّارة للمتصدّق يكفّر الله به ذنوبه ، ففيه أيضا دلالة على إطلاق التصدّق على الإبراء والعفو والاسقاط ، وعلى وقوع التكفير والآيات والأخبار مملوّة منه.

واعلم أنّ الظاهر أنّه وقع الإجماع على وجود الحكم بعينه في شرعنا ، كأنّه بمنزلة قوله كتبنا عليهم في التوراة كذا وكذلك عليكم هنا فهو موجود في أمّة

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

٦٧٩

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالآية ، وإلّا فلا شكّ في وجوده فيها بالأخبار والإجماع فتأمّل.

الثامنة : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (١).

التاسعة : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٢).

هما تدلّان على جواز القصاص في النفس والطرف والجروح ، بل جواز التعويض مطلقا حتّى ضرب المضروب ، وشتم المشتوم ، بمثل فعلهما ، فيخرج ما لا يجوز التعويض والقصاص فيه ، مثل كسر العظام والجرح والضرب في محلّ الخوف والقذف ونحو ذلك وبقي الباقي ، وأيضا تدلّان على جواز ذلك من غير إذن الحاكم والإثبات عنده والشّهود وغيرها ، والأخيرة تدلّ على عدم التجاوز عمّا فعل به وتحريم الظلم والتعدّي وعلى حسن العفو وعدم الانتقام ، وأنّه موجب لأجر عظيم حيث أضاف الأجر إلى الله فالّذي يفعله إنّما يكون شيئا عظيما لا يقدر عليه غيره.

في الكشاف : عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم إلى قوله : وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم قال فيقوم خلق فيقال لهم ما أجركم على الله؟ فيقولون نحن الّذين عفونا عمّن ظلمنا ، فيقال لهم ادخلوا الجنّة بإذن الله ، والعقل أيضا يدلّ عليه ويدلّ عليه آيات أخر مثل (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) الآية ، وقوله تعالى (وَلَمَنْ صَبَرَ) على الظلم والأذى (وَغَفَرَ) ولم ينتصر وفوّض أمره الله إلى الله «إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» (٣).

في الكشّاف سمّى الفعل الأوّل باسم الثاني للمزاوجة ، قيل عليه الأولى

__________________

(١) الشورى : ٤١.

(٢) الشورى : ٤٠.

(٣) فصلت : ٣٤ ، الشورى : ٤٣ ، النحل : ١٢٥ ـ ١٢٧.

٦٨٠