زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

للناس متعلّقا بجعلناه صلة له لا مفعولا ، ويحتمل أن يكون مفعولا ثانيا متعلّقا بمقدّر ، أي جعلناه مستقرّا (١) أو معبدا للنّاس ، وسواء بالنّصب يكون حالا بمعنى مستويا العاكف فيه والبادي ، وهما فاعلاه وفي صورة الرفع الجملة حال بالضمير ، وضعفه غير مسلّم كما بيّن في محلّه ، ويكون العاكف مبتدأ مؤخّرا للاهتمام بتقديم السواء والاستواء فانّ المطلوب هنا هو التساوي والمساواة ، وهو ظاهر فافهم.

ويحتمل أن يكون الجملة بدلا أو عطف بيان عن جملة (جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) ومعناه ـ بناء على كون المراد بالمسجد الحرام الحرم تسمية للشيء باسم أشرف أجزائه ولهذا قيل في (أَسْرى بِعَبْدِهِ [لَيْلاً] مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أنّه أسرى من مكّة من شعب أبي طالب لا المسجد الحرام : جعلنا الحرم مستقرا (٢) ومعبدا ومنسكا لهم أو خلقناه لهم كلّهم لم نخصّ بعضا به دون بعض ، فيكون المقيم فيه والطارئ مستويين في سكناه بل سائر التصرّفات ولا يتملّكه أحد ، ولم يكن أولى به من آخر ، غير أنّه لا يخرج عن منزله الذي سكن وسبق كما في المساجد والأوقاف العامّة ، مثل الخانات والأراضي الّتي للمسلمين كافّة ، وفتحت عنوة ، وهذا يكون سبب التسوية الّتي أشار إليها بقوله (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) فإنّه لا شكّ في أنّ مكّة وحواليها فتحت عنوة ، والمفتوحة عنوة مستو فيها الناس : العاكف والبادي ، بمعنى أنّه لا يتملّك ولا يصحّ بيعها نعم المتصرّف فيها أولى بها ما دام قائما بعمارتها ، ونازلا فيها وله التصرّف فيما يخصّه من العمارة والخشب والعمل على أيّ وجه أراد ، وما نقل عن بعض الصحابة من أنّ كراء دور مكة حرام ، فلما قلناه ، لا لأنّ الله قال (سَواءً) ولا لأنّ مكّة كلّها أو الحرم مسجد ، كما نقل عن بعض الأصحاب ، فإنّه بعيد بل لا يفهم له معنى للزوم تجويز الجنابة والنجاسة المتعدية في المسجد وغير ذلك من المفاسد ، وبهذا يجمع بين ما تقدّم وبين فعل المسلمين الآن من البيع والإجارة ونحوهما ، إذ يحمل على أنّه باعتبار ما يخصّه مثل العمل وحينئذ لا خصوصيّة للحكم بمكّة ولا بالحرم.

ويحتمل أن يكون المعنى جعلناه قبلة لصلاتهم وغيرها ، مثل دفن الأموات والذبح ومنسكا لحجّهم والطواف فيه ، وصلوتهم فيه ، فالعاكف والبادي فيه

__________________

(١) مشعرا خ ل.

(٢) مشعرا خ ل.

٢٢١

سواء وهو ظاهر ، ويؤيّده ما نقل أنّ المشركين كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام ، والطواف بالبيت ، ويدّعون أنّهم أربابه وولاته ، فنزلت ففي الآية دلالة على التسوية ، وكون المسجد الحرام معبدا ، وعلى تحريم المنع عن العبادات وعن المسجد الحرام كما في قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) (١).

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) أي في المسجد الحرام وكأنّ المراد الحرم (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) في الكشّاف الإلحاد العدول عن القصد ، هما حالان مترادفان أي كلّ منهما حال عن فاعل يرد ، ومفعوله متروك ليتناول كلّ متناول ، كأنّه قال ومن يرد فيه مرادا مّا عادلا فيه عن القصد ظالما ، يعني أنّ الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده ، وقيل الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته ، وقيل : الاحتكار وقيل قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله. وفيه إجمال حيث ما ظهر كون الباء فيهما بأيّ معنى؟ والاحتياج إلى ضمّ الظلم إلى الإلحاد ، فإنه على ما فهم من قوله يعني إلخ أنّ المقصود من قوله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) فعل الذنب مطلقا فيكون مطلق الذنب فيه كبيرة وموعودا به العقاب ، والباء يحتمل أن تكون للملابسة أي حال كونه ملابسا بإلحاد ، وملابسا بظلم أيضا فإنّ العدول عن القصد يحتمل أن يكون بوجه معقول مشروع غير عدوان في بادي الرأي ، وبحسب أصل المعنى ، فقيّد بالظلم ، ونصّ به لزيادة قبحه وظهوره ليترتّب عليه (نُذِقْهُ) فتأمل.

وقال في مجمع البيان : الباء في بإلحاد زائدة تقديره : ومن يرد فيه إلحادا والباء في بظلم للتعدية ، ونقل أبياتا لكون الباء زائدة (٢) وهو محلّ التأمل إذ بعد صحّة كون الباء زائدة لم يظهر كونها للتعدية في بظلم ، بل جعلها للملابسة والحال كما قلناه أولى ، أي من يرد عدولا عن القصد حال كونه متلبّسا بالظلم ، ثمّ قال فيه : الإلحاد العدول عن القصد لغة واختلف في معناه ههنا ، فقيل : هو الشرك وعبادة غير الله تعالى عن قتادة ، فكأنّه قال : ومن يرد فيه ميلا عن الحقّ بأن يعبد غير

__________________

(١) البقرة : ١١٤.

(٢) راجع مجمع البيان ج ٧ ص ٧٩.

٢٢٢

الله ظلما وعدوانا ، وهذا يشعر بكونها للملابسة والحاليّة ، وقيل : هو الاستحلال للحرم والركوب للآثام ، عن ابن عبّاس والضحّاك ومجاهد وابن زيد.

كأنّ المراد باستحلال الحرم اعتقاد جواز تخرييه وعدم كونه حرما ذا حرمة يجب تعظيمه وترتّب أحكامه الحرميّة عليه من تحريم الصيد وغيره ، وقيل هو كلّ شيء نهي عنه حتّى شتم الخادم فيه ، لأنّ الذنوب هناك أعظم ، وقيل هو دخول مكة بغير إحرام عن عطاء.

(نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) جواب «من» الشرطيّة وخبرها ، أي متى فعل ذلك نعذّبه عذابا وجيعا ، والتفاسير مضطربة والمحصّل معلوم إنشاء الله تعالى وكذا استفادة بعض الأحكام مثل كون كلّ ذنب فيه موجبا للعذاب الأليم ، فيكون كبيرة بل إرادة ذلك ، فهي تدلّ على أنّ إرادة القبيح والحرام فيه قبيح وحرام بل كبيرة ويشعر أيضا بكون محلّ الإلحاد مكّة أو المسجد الحرم ، إذ غير ظاهر كون كلّ الحرم بهذه المثابة مع احتمال كونه كذلك لما علم ممّا سبق قال في الكشّاف (١) وخبر أنّ محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إنّ الّذين كفروا ويصدّون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم ، وكلّ من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك وينبغي أن يقول عن سبيل الله وعن المسجد إلخ.

وقيل في قوله (وَطَهِّرْ) أي يا إبراهيم (بَيْتِيَ) أي البيت الّذي هو القبلة على الظاهر (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) دلالة على وجوب إزالة النجاسة عن المسجد وتحريم إدخالها مطلقا وفيه تأمّل من وجوه ، ويؤيّده ما قال في مجمع البيان وطهّر بيتي من الشرك وعبادة الأوثان عن قتادة (٢) والمراد بالقائمين المقيمين ، وقيل القائمين في الصلاة عن عطاء.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) أي ناديا إبراهيم بينهم بالحجّ بأن تقول حجّوا أيّها الناس أو عليكم بالحجّ ، وروي أنّه صعد أبا قبيس فقال أيّها النّاس حجّوا بيت

__________________

(١) في المطبوعة ن : رمز مجمع البيان ، وهو مذكور فيه راجع ج ٧ ص ٧٩ ، ولكن النص مذكور في الكشاف.

(٢) مجمع البيان ج ٧ ص ٨٠.

٢٢٣

ربّكم ، وعن الحسن أنّه خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أن يفعل ذلك في حجّة الوداع يعني أعلمهم بوجوب الحجّ فحينئذ دلالتها على الأحكام واضحة وعلى الأوّل لا بدّ عن انضمام أن ليس هذا منسوخا وأنّه من اجتماع الشريعتين مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ملّة أبيه إبراهيم عليه‌السلام (يَأْتُوكَ) أي يجيؤن إليك (رِجالاً) أي مشاة جمع راجل كقائم وقيام (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) وركبانا على كلّ إبل ، مهزول حال معطوفة على الحال السابقة كأنّه قيل رجالا وركبانا ، والضّامر الإبل الضعيف ، عن ابن عبّاس أنّه ما يدخل مكّة إبل ولا غيره إلّا هزال (يَأْتِينَ) صفة لكلّ ضامر لأنّه بمعنى الجمع ويحتمل أن يكون صفة له ولرجالا أيضا (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) أي ليحضروا ما ندبهم إليه ممّا فيه نفعهم ، في الكشّاف نكّر المنافع لأنّه أراد منافع مختصّة بهذه العبادة دينيّة ودنيويّة لا توجد في غيرها من العبادات وفي مجمع البيان المنافع التجارات وقيل التجارة في الدنيا والأجر والثواب في الآخرة ، وقيل : هي [عنا] منافع الآخرة ، وهي العفو والمغفرة عن سعيد ابن المسيّب ، وهو المرويّ عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام.

ثمّ اعلم أنّ فيها دلالة على وجوب الحجّ مطلقا بل تشعر بعدم شرط استطاعة الركوب ولكن يقيّد بقوله تعالى (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وقد فسّرت بالزاد والراحلة لإجماع الأصحاب على ما نقل ، وللأخبار ، فيحمل رجالا على الحجّ ماشيا مع استطاعة الركوب أو يحمل الحجّ على الحجّ المطلق الواجب أو المندوب ولعلّ في تقديم رجالا إشعارا بأفضليّة المشي على الركوب ، والروايات مختلفة مذكورة في محلّها مع التوفيق بينها قال في مجمع البيان : وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنه قال لبنيه يا بنىّ حجّوا من مكّة مشاة حتّى ترجعوا إليها مشاة فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول للحاجّ الراكب بكلّ خطوة يخطوها راحلته سبعون حسنة ، وللحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبع مائة حسنة من حسنات الحرم قيل ما حسنات الحرم؟ قال : الحسنة بمائة ألف (١) وفيها دلالة على تفضيل حسنات

__________________

(١) المصدر ج ٧ ص ٨١.

٢٢٤

الحرم على غيرها كما مرّ أنّ الذنوب فيه يضاعف.

(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) في الكشاف : كنّى عن النحر والذّبح بذكر اسم الله لأنّ أهل الإسلام لا ينفكّون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا فذكر اسمه تعالى لازمهما شرعا ، هذا على مذهب الموجب أوضح دون غيره كأبي حنيفة فإنّه لا يقول باللزوم والوجوب ، ثمّ قال : وفيه تنبيه على أنّ الغرض الأصليّ فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه ، وقد حسّن الكلام تحسينا بيّنا أن جمع بين قوله (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) وقوله (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ولو قيل لينحروا في أيّام معلومات بهيمة الأنعام ، لم تر شيئا من ذلك الحسن والرّوعة ، والأيّام المعلومات أيّام العشر عند أبي حنيفة ، وهو قول الحسن وقتادة وعند صاحبيه هي أيّام النحر العيد وثلاثة بعده ، والذبح والنحر مختصّة بهذه الأيّام الأربعة ، فلا معنى لقول أبي حنيفة لأنّ المراد ذكر اسم الله على الذبيحة والمنحورة كما فسّره في الكشاف ، ولقوله (عَلى ما رَزَقَهُمْ) وورد في بعض رواياتنا ، وقول بعض العلماء أنّ المراد به الذكر المشهور يوم العيد ، وأيّام التشريق.

وفي مجمع البيان : اختلف في هذه الأيّام وفي الذكر فيها ، فقيل هي أيّام العشر ، وقيل لها معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحجّ في آخرها والمعدودات أيّام التشريق عن الحسن ومجاهد ، وقيل هي أيّام التشريق يوم النحر وثلاثة بعده ، والمعدودات أيّام العشر عن ابن عباس ، وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام واختاره الزجّاج ، قال : لأنّ الذكر ههنا يدلّ على التسمية على ما ينحر لقوله (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي على ذبح ونحر ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم ، وهذه الأيّام تختصّ بذلك ، ولا شكّ أنّ الأخير هو الحقّ للرواية ولقوله تعالى (عَلى ما رَزَقَهُمْ) ولكن ينبغي أن يقول يوم النحر وأيّام التشريق لا أيّام التشريق ثمّ يفسّرها به وبثلاثة بعده ، فانّ العيد ليس بداخل في

٢٢٥

أيّام التشريق على المشهور ، ولكن وقع في الرواية كذلك ولعلّه تغليب أو اصطلاح آخر غير المشهور.

ثمّ قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام التعقيب (١) بمنى عقيب خمس عشر صلاة أوّلها صلاة الظهر من يوم النحر ، يقول : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلّا الله والله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.

قال في الكشّاف : البهيمة مبهمة في كلّ ذات أربع في البرّ والبحر ، فبيّنت بالأنعام وهو الإبل والبقر والضأن والمعز ثمّ أمر بالأكل منها والإطعام على وجه أعمّ نيّا ومطبوخا مرقا وغيره بقوله (فَكُلُوا مِنْها) أي من الأنعام (وَأَطْعِمُوا) أي أعطوا وتصدّفوا بشيء منها ، ويحتمل ما بقي من الأكل بل هو الظاهر ، حيث حذف المفعول وتبادر الذهن إلى ما تقدّم وهو النعم المذبوح المأكول منها (الْبائِسَ) أي الّذي أصابه بؤس أي شدّة من الجوع والعري ، وقيل هو الّذي يسأل بكفّه (الْفَقِيرَ) هو الذي أضعفه الإعسار وعدم المعونة كأنّه انكسر فقر ظهره من عدم ما يعيش به من الجوع والعري.

ففي الآية دلالة على وجوب الذبح والنحر في مطلق الحجّ فخصّت بالتمتّع والقران الواجب الذبح فيه كأنّه للإجماع والخبر ، والظاهر ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فتأمّل ، وعلى وجوب التسمية على الذبح لقوله (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) إذ التقدير وليذكروا ، والأمر للوجوب ، فقول أبي حنيفة وغيره بالاستحباب بعيد ، وعلى كون ذلك في أيّام معلومات مفسّرات بالعيد وثلاثة بعده موسّعا ، وعلى وجوب الأكل ، ووجوب التصدّق على الفقراء من الأنعام المذبوحة للأمر الظاهر في الوجوب كما ثبت ، ولوجوب ما تقدّم وما تأخّر بقوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) فيمكن إتمام الاستدلال على المشهور من وجوب تقسيم هدي التمتّع أثلاثا : الأكل من الثلث ، والتصدّق بالثلث على

__________________

(١) في المصدر : التكبير بمنى ، راجع ج ٧ ص ٨١.

٢٢٦

الفقير المؤمن ، والإهداء بالآخر إلى المؤمن ، وينبغي أن يكون فقيرا ، لأنه علم وجوب الأكل والتصدّق ، وكأنّ كلّ من قال بهما قال بالتقسيم المذكور ، وما نعرف وجها لقول العلّامة بالاستحباب سوى الأصل.

وقال في مجمع البيان : وهذا أي الأكل إباحة وندب ، وليس بواجب وكلامه يشعر بوجوب التصدّق حيث قال بعد الحكم بأنّ الأكل ندب ، وأطعموا البائس الفقير فتأمل ، وكلام الكشّاف قريب منه : الأمر بالأكل منها أمر إباحة لأنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يأكلون من نسائهم ، ويجوز أن يكون ندبا لما فيه من مواساة الفقراء ومساواتهم ، ومن استعمال التواضع ، ومن ثمّ استحبّ الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيّته مقدار الثلث ، وقد عرفت دفعه ممّا سبق ، ومعلوم عدم دلالة ما ذكره على تعيين كونه للإباحة أو الندب وهو ظاهر نعم يتوجّه إمكان ذلك بالاحتمال ، ويندفع بما يقتضي الوجوب فتأمل ، على أنّ في قوله مناقشات الاولى الحكم بأنّ الأمر للإباحة ثمّ تجويز الندب وتعليله بقول الفقهاء بالندبيّة المذكورة لجواز كون الأمر للندب ، مع أنّ كونه للندب أقرب من كونه للإباحة غير جيّد الثانية عدم الاستحباب عند الكلّ وهو ظاهر في ذلك (١) الثالثة استحباب أكل مقدار الثلث فإنّه ظاهر في كلّه والمراد الأكل منه وهو ظاهر ومبين.

وبالجملة الحكم بالاستحباب كما فعله العلامة وغيره مشكل لأنّ ظاهر الآية وجوب الأكل ، والإعطاء إلى الفقراء ، وكذا قوله تعالى (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (٢) وهذه أيضا ما تدلّ على التقسيم المشهور إلّا أن يكون المراد بإطعام القانع التصدّق على الفقير ، وبإطعام المعترّ الإهداء إلى المؤمن ، ولكن فهم ذلك مشكل ، ولو كان قائل بوجوب الأكل منه وإعطاء الباقي إلى الفقير البائس والقانع والمعترّ لكان القول به جيّدا ، والحاصل أنّ هذا هو مقتضى الآية وما أحفظ الآن الأخبار ، والظاهر أن لا دلالة فيها أيضا على المشهور.

__________________

(١) أي في أن الاستحباب عند الكل للجمع المحلى باللام.

(٢) الحج : ٣٦.

٢٢٧

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) في الكشّاف قضاء التفث قصّ الشارب والأظفار ونتف الإبط وفي مجمع البيان : ليزيلوا قشف الإحرام (١) من تقليم ظفر وأخذ شعر وغسل واستعمال طيب وقيل معناه ليقضوا مناسك الحجّ كلّها عن ابن عبّاس وابن عمر ، قال الزجّاج قضاء التفث كناية عن الخروج من الإحرام إلى الإحلال والمراد به قصّ الشعر ونتف الإبط وغيره من إزالة الشعر بأيّ وجه كان (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ويجب أن يفعلوا ما وجب عليهم في الحجّ بالنذر وأخويه كأنّه كان متعارفا أن ينذروا أعمال البرّ في حجّهم ولا خصوصيّة له بالحجّ فإنّه يجب إيفاء النذر مطلقا ويمكن أن يكون لكونه مكانا شريفا وزمانا كذلك يضاعف فيه الأعمال الحسنة فأمروا بالوفاء هناك في تلك الأزمنة لذلك فتدلّ على سعة وقت النذر وأفضليّة المكان والزمان ، قال في مجمع البيان : قال ابن عبّاس هو نحر ما نذروا من البدن وقيل : ما نذروا من أعمال البرّ في أيّام الحجّ وما نذروا إن رزقهم الله الحجّ أن يتصدّقوا ، وإن كان على الرجل نذور مطلقة فالأفضل أن يفي بها هناك.

ويجب طواف البيت الّذي في المسجد الحرام وهو القبلة سمّي بالعتيق لأنّه أوّل بيت وضع للناس ، وقيل غير ذلك أيضا ، وقيل المراد طواف الزيارة وقيل طواف النساء ويحتملهما معا وقيل طواف الوداع ويحتمل الكلّ مجازا والظاهر الأوّل حيث كان الكلام في الحجّ ، وأنّه ذكره بعد التحليل والذبح ، ويمكن فهم وجوب الترتيب في الجملة بين مناسك منى فافهم (ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك ، وفي مجمع البيان : أي هكذا أمر الحجّ والمناسك (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ) أي التعظيم (خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) في الآخرة ، والحرمة ما لا يحلّ هتكه ، وجميع ما كلّفه الله عزوجل بهذه الصّفة من مناسك الحجّ وغيرها ، فيحتمل

__________________

(١) القشف محركة قذر الجلد ورثاثة الهيئة ، وفي المصدر المطبوع ج ٧ ص ٨١ : شعث الإحرام.

٢٢٨

أن يكون عامّا في جميع التكاليف ، ويحتمل أن يكون خاصّا فيما يتعلّق بالحجّ ، وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام والشهر الحرام ، والمحرم حتّى يحلّ ، فينبغي تعظيم المحرم أيضا بل جميع من هو مشتغل بالعبادة ، ومعنى التعظيم العلم بأنّها واجبة المراعاة والحفظ ، والقيام بمراعاتها.

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) يعني جميع الأنعام حلال (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) آية تحريمه مثل قوله تعالى في سورة المائدة «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (١) الآية ونحوها ، وحاصله أنّ الله قد أحلّ لكم الأنعام كلّها إلّا ما استثناه في كتابه ، ويحتمل أن يجعل أعمّ أي إلّا ما يعلّمكم أنّه حرام بأيّ وجه كان بإلهام وقرآن وكلام آخر ، ونحو ذلك ، فحافظوا على حدوده وإيّاكم أن تحرّموا ممّا أحلّ الله شيئا كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة (٢) وغير ذلك وأن تحلّوا ممّا حرّم الله شيئا كاحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك ، هكذا في الكشّاف فدلّت على الحكم المذكور فيها (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) في مجمع البيان : أي اجتنبوا الرجس الّذي هو الأوثان فمن بيانيّة ، وروى أصحابنا أنّ اللّعب بالشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار من ذلك ، وهو غير واضح ، وكأنّ للوثن معنى آخر يصدق عليها حقيقة أو مجازا ، وقيل إنّهم كانوا يلطخون الأوثان بدماء قرأ بينهم فسمّي ذلك رجسا (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) وهو الكذب وروى أصحابنا أنّه يدخل فيه الغنا (٣) وسائر الأقوال الملهية وروى أيمن بن حزيم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قام خطيبا فقال : يا أيّها

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) في معناهما اختلاف بين اللغويين والمفسرين وسيجيء شرح ذلك في كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص. فراجع.

(٣) وذلك من معانيه اللغوية كما في القاموس.

٢٢٩

الناس عدلت شهادة الزور الشرك بالله ـ وزاد في الكشاف مرّتين ـ ثمّ قرأ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) الآية يريد أنّه قد جمع في النهي بين عبادة الوثن وشهادة الزور ، فقول الزور شهادة الزور ، وقيل هو الكذب والبهتان ، وقيل : قولهم هذا حلال وهذا حرام وغير ذلك من افترائهم وفي الكشاف لمّا حثّ على تعظيم حرماته ، وأحمد من يعظّمها أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور ، لأنّ توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات وأسبقها خطرا ، وجمع الشرك وقول الزور في قران واحد ، وذلك أنّ الشرك من باب الزور ، لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن يحقّ له العبادة فكأنّه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان الّتي هي رأس الزور ، واجتنبوا قول الزور كلّه لا تقربوا شيئا منه لتماديه في القبح والسماجة ، وما ظنّك بشيء من قبيل عبادة الأوثان ، وسمّي الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام على طريق التشبيه ، يعني أنّكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء ، مثل تلك النفرة ، ونبّه على هذا المعنى بقوله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) جعل العلّة في اجتنابه أنّه رجس والرّجس مجتنب ، وفهم هذا كلّه لا يخلو عن بعد فافهم ، ومعلوم دلالتها على ما فيها من الأحكام على كلّ الأقوال ، فلا يحتاج إلى التصريح بها.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا) (١) أي شرع الله لكلّ أمّة (مَنْسَكاً) هديا ينسكونه لوجه الله وعلى وجه القربة ، وجعل العلّة في ذلك أن يذكر اسمه بقوله (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ففيها أيضا دلالة على ذبح الهدي ، وذكر الاسم عليه وكذا في غيرها أيضا.

(وَالْبُدْنَ) (٢) جمع بدنة وهي الإبل (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام الشريعة الّتي شرعها الله ، وإضافتها إلى اسم الله تعظيم لها (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) أي منافع الدّنيا والآخرة لأنّ من احتاج إلى لبنها شربها ، وإلى ظهرها ركبها (فَاذْكُرُوا

__________________

(١) الحج : ٣٤.

(٢) الحج : ٣٦.

٢٣٠

اسْمَ اللهِ عَلَيْها) وذكر اسم الله عبارة عن ذكر التسمية عند النحر كما مرّ غير مرّة (صَوافَّ) قائمات ولهذا قالوا يستحبّ نحرها قائمة قد صففن أيديهنّ وأرجلهنّ (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي إذا وقعت جنوبها على الأرض أي ماتت بالنحر (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا) منها (الْقانِعَ) الّذي يقنع بما يعطى (وَالْمُعْتَرَّ) الّذي يعتريك ويسألك أن تعطيه ، وقد مرّ البحث فيه.

(الثاني)

(في أنواعه وأفعاله وشيء من أحكامه)

وفيه آيات :

الاولى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١).

المراد بالحجّ والعمرة معناهما الشرعيّ المتعارف عند الفقهاء ، ولهما أفعال مخصوصة معلومة من كتب الفروع ، وأتمّوهما يعني ائتوا بهما تامّين مستجمعين للشرائط مع جميع المناسك وتأدية كلّ ما فيهما ، كذا في الكشّاف وتفسير القاضي ومجمع البيان ، أي المراد الإتيان بهما لا الإتمام بعد الشروع فيهما ، ويؤيّده قراءة أقيموا الحجّ والعمرة ، قال القاضي : وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من

__________________

(١) البقرة : ١٩٦.

٢٣١

دويرة أهلك أو تفرد لكلّ منهما سفرا ، أو أن تجرّده لهما ، ولا تشوبه بغرض دنيوي أو أن يكون النفقة حلالا ، وفي الخبر الصّحيح أنّ الإحرام من الميقات من تمام الحجّ وفي حسنة عمر بن أذينة قال كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام بمسائل بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العبّاس وجاء الجواب بإملائه عليه‌السلام سألت عن قول الله عزوجل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) يعني به الحجّ والعمرة جميعا لأنّهما مفروضان وسألت عن قول الله عزوجل : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال يعني بتمامهما أداءهما واتّقاء ما يتّقي المحرم فيهما ، وسألت عن قوله تعالى (الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ما يعني بالحجّ الأكبر فقال : الحجّ الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار والحجّ الأصغر العمرة (١) وقال في مجمع البيان : وقيل معناه أقيموهما إلى آخر ما فيهما ، وهو المرويّ عن أمير المؤمنين وعليّ بن الحسين وعن سعيد بن جبير ومسروق والسديّ «لله» أي لوجه الله يعني اقصدوا الحجّ والعمرة لله ، وافعلوهما له خاصّة ، أي لامتثال أمره ولموافقة إرادته وثوابه كما قيل في النيّة.

فعلى هذه التفاسير كلّها تدلّ الآية على وجوب الحجّ والعمرة ابتداء وإن لم يكن شرع فيهما ، والظاهر أنّه لا خلاف عندنا فيه ، ويدلّ عليه الأخبار أيضا وعلى وجوب القربة في فعلهما ، فيفهم وجوب النيّة فيهما وفي سائر العبادات لعدم القائل بالفصل كما هو مذهبنا ، فاندفع بها قول الحنفيّ بعدم وجوب النيّة ، وعدم وجوب العمرة ، وأمّا دلالتها حينئذ على إتمام الحجّ المندوب ، وإتمام الحجّ الواجب الفاسد والعمرة كذلك كما قيل فليست بواضحة إلّا بتكلّف ، نعم لا يبعد وجوب إتمامهما في الفاسد بدليل وجوب أصلهما ، وأصل عدم سقوط الباقي بالإفساد والأصل بقاؤه.

ولكنّ ظاهر الآية مع قطع النظر عن التفاسير الّتي تقدّمت وجوب إتمامهما بعد الشروع ، فتفيد وجوب إتمام كلّ منهما بعد الشروع فيهما ندبا أو مع الإفساد

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٢٦٤.

٢٣٢

وحينئذ لا تدلّ على وجوبهما أصالة وقبل الشروع.

والعجب من صاحب الكشّاف (١) أنّه فسّر أتمّوا الحجّ والعمرة لله بائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان ، وسلّم أنّ الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما بدليل قراءة من قرأ «وأقيموا» مع أنّها غير ظاهرة في ذلك والقراءة غير ثابتة ، وسلّم أيضا أنّ الأمر للوجوب ، وقال أيضا في آية الوضوء تفسير لفظ واحد بمعنى الوجوب والندب مثل فاغسلوا إلغاز وتعمية ، فلا يجوز وقال : فان قلت : فهل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت : ما هو إلّا أمر بإتمامهما ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوّع جميعا إلّا أن نقول الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما ، بدليل قراءة من قرأ «وأقيموا الحجّ والعمرة» والأمر للوجوب في أصله إلّا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب كما دلّ في قوله تعالى «فَاصْطادُوا» «فَانْتَشِرُوا» ونحو ذلك فيقال لك : فقد دلّ الدليل على نفي الوجوب وهو ما روي أنّه قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العمرة واجبة مثل الحجّ؟ قال : لا ، ولكن أن تعتمر خير لك ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله الحجّ جهاد والعمرة تطوّع وقال والدليل الّذي ذكرنا أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقي الحجّ وحده فيها ، فهما بمنزلة قولك : صم شهر رمضان وستّة من شوّال فإنّك تأمره بفرض وتطوّع.

وأجاب عن معارضتهما بقول ابن عبّاس إنّ العمرة لقرينة الحجّ بأنّ معناه إنّ القارن يقرن بينهما ، أو أنّهما تقترنان في الذكر فيقال حجّ فلان واعتمر ، وعن المعارضة بقول عمر لرجل قال : إنّي وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا : «هديت لسنّة نبيّك» بأنّ الرّجل فسّر كونهما مكتوبين بقوله أهللت لأنّه ارتكب تفسير الآية أوّلا بغير الظاهر ، مع كونه خلاف الخبر الّذي نقله.

ومنع حمل اللّفظ على الوجوب والندب ، معا ، وقال إنّه إلغاز وتعمية ، وارتكبه هنا مع إمكان حملها على ما لا ينافي بل هو الظاهر كما مرّ ، فانّ ظاهرها الأمر بالإتمام بعد الشروع وأشار إليه بقوله : «ما هو إلّا أمر بإتمامهما» ولا شكّ

__________________

(١) راجع ج ١ ص ٢٦١.

٢٣٣

أنّه مناف للمعنى الّذي ذكره أوّلا وهو ظاهر ، على أنّه يبعد بل لا يجوز إخراج الآية الّتي هي قطعيّة عن معناها بعد القول بذلك المعنى إلى معنى آخر ، وحملها على المجاز بمثل هذين الخبرين الّذين هما غير معلومي الصحّة ، ولا ظاهري الدلالة ، بحيث يقتضي ترك القاطع بسببهما ، إذ نفي وجوب مثل وجوب الحجّ لا يدلّ على نفي مطلق الوجوب دلالة يقتضي ذلك وكذا كون الإتيان بالعمرة خيرا لا ينفي وجوبها مطلقا وكذا كون الحجّ جهادا ، والعمرة تطوّعا لاحتمال التطوّع وجوبا لا يكون مثل وجوب الجهاد ، مع أنّه لا عموم لهما ، لاحتمال أن يكون المراد عمرة بعد فعل الحجّ مع عمرته مفردا أو قارنا أو متمتّعا ، يعني لا تجب عمرة أخرى غير الّتي لا بدّ منها مع الحجّ مقدّمة أو مؤخّرة ، مع أنّه سلّم معارضتهما بقول ابن عبّاس وعمر.

وبالجملة ترك القرآن القاطع لا يمكن إلّا بقاطع إمّا من حيث المتن أو الدلالة وأمّا الوجوب عن المعارضة بقول ابن عبّاس وعمر مع أنّها غير موجّهة إذ قد يكون ذلك رأيه ، والهداية لسنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستلزم الوجوب وكذا تسليم عمر مكتوبيّته مع أنّها مبيّنة بالسنّة ويجوز كونها باعتقاده وفهمه سنّة ، ولأنّه ليس ممّا يصلح للمعارضة بخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ظاهر لأنّه يطرح قول عمر عند قوله ، ولأنّه ليس معنى خبر ابن عبّاس أنّهما مقارنان في الذكر أو القارن يقرن بينهما بل أنّهما مقارنان في أحكام الشرع ، وهو ظاهر ، وأيضا ليس أهللت تفسيرا للمكتوب وهو أيضا ظاهر ، فإنّه مرتّب عليه ، ولهذا نقل في بعض النسخ فأهللت. والعجب من القاضي أيضا أنّه سلّم المعارضة حيث قال بوجوب العمرة للآية وأجاب عن الخبر بأنّه معارض حيث قال وما روى جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قيل : يا رسول الله إلى آخر ما نقلناه معارض بما روي أنّ رجلا إلى آخر خبر عمر ، وأجاب عن كون أهللت تفسيرا بما قلناه من أنّه رتّب الإهلال على الوجدان ، وهو ظاهر.

الحصر والإحصار هو المنع كالصدّ والاصداد ، قال في الصّحاح (١) حصر

__________________

(١) الصحاح ج ٢ : ٦٣٢ وفيه : الحصر بالضم اعتقال البطن تقول منه ، حصر الرجل إلخ.

٢٣٤

الرّجل وأحصر على ما لم يسمّ فاعله ، قال ابن السكّيت أحصره المرض إذا منعه من السّفر أو من حاجة يريدها ، قال الله تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) ثمّ قال : وقد حصره العدوّ يحصرونه إذا ضيّقوا عليه وأحاطوا به ، وحاصروه محاصرة ، وحصرت الرّجل فهو محصور أي حبسته قال وأحصرني بولي وأحصرني مرضي : أي جعلني أحصر نفسي قال أبو عمرو الشيبانيّ حصرني الشيء وأحصرني أي حبسني فقد علم أنّه في الأصل المنع عن الشيء مطلقا سواء كان المانع المرض أو العدوّ ، ولكنّ الظاهر ممّا قيل في سبب نزوله من أنّه نزل في الصدّ في الحديبيّة وقوله تعالى (فَإِذا أَمِنْتُمْ) أنّ المراد به هنا هو الصدّ بالعدوّ ، وقوله (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) يدلّ على أنّه بالمرض إذ البعث إنّما هو في المرض عند أصحابنا وأمّا حكم الصدّ بالعدوّ ، عند أصحابنا والشافعيّ فهو الدّبح موضع الصدّ ، كما بيّن في الفقه ، ونقل من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك في الحديبيّة ، وهي من الحلّ على ما قالوا ، وحمل الآية على بلوغ الهدي موضعا يحلّ ويبيح ذبحه فيه ، حلّا كان أو حرما ، كما هو مذهب مالك والشافعيّ بعيد جدّا لأنّه تصير لفظة حتّى والبلوغ لغوا وكذا المحل لحصول الإجمال مع الزيادة ، إذ المناسب حينئذ الاختصار على (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أو يضمّ إليه «فيه» يعني فعليكم ذبح هدي ميسّر في ذلك المكان حينئذ وأمّا عند أبي حنيفة فلا فرق بينهما ، ومحلّ الهدي هو الحرم وزمانه متى شاء فالبعث متحقّق عنده فيهما في بعض الأوقات بأن يكونا في الحلّ لا في الحرم ، فيرد عليه أيضا الإشكال الّذي ورد على الشافعيّ في الجملة على أنّه ينافيه فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبيّة بناء على أنّه من الحلّ على ما قالوه.

وأما أصحابنا فكأنّهم يجعلونه مخصوصا بالمرض ، وما يسلّمون سبب النزول ويجعلون «أمنتم» بمعنى أمنتم من المرض فقط أو العدوّ أيضا وإن لم يكن منع العدوّ مذكورا بخصوصه ويجعلون مكان الهدي في العدوّ موضعه وزمانه زمان إرادة التحليل قبل أن يفوت الحجّ ويخصّون ذلك باسم الصّدّ سواء كان في الحجّ أو العمرة ، وفي المرض : منى ، يوم النحر إن كان حاجّا ومكّة ، الساعة الّتي وعدهم فيها إن كان

٢٣٥

معتمرا ، فلا بدّ فيه من البعث لأنّه ممنوع عن الوصول إلى محلّ الذّبح المذكور فرضا ، فعندهم فرق بينهما بذلك وبغيره أيضا مثل حصول التحلّل في المصدود ، من كلّ ما حرّمه الإحرام حتّى النساء كما حصل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأصحابه في الحديبية بخلاف المحصور فإنّه لا يحلّ له النساء حتّى يطوف طوافهنّ بنفسه إلّا أن لا يحصل له المضيّ إلى مكة فيستنيب.

ودليلهم على ذلك وباقي الأحكام من المشتركة والمختصّة ـ مثل وجوب نيّة التحلّل بالذبح ، وأوجب بعضهم الحلق أو التقصير أيضا معه للتحلّل كالشيخ زين الدين في شرح الشرائع استدلالا بالآية المذكورة ، ولا دلالة فيها بل على عدمه كما سيظهر ـ أخبار عن أهل البيت عليهم‌السلام مثل صحيحة معاوية بن عمّار وحسنته عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول المحصور غير المصدود ، المحصور المريض ، والمصدود الذي يصدّه المشركون كما ردّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ليس من مرض ، والمصدود يحلّ له النساء ، والمحصور لا يحلّ له النساء.

قال : وسألته عن رجل أحصر فبعث بالهدي قال : يواعد أصحابه ميعادا ، إن كان في الحجّ فمحلّ الهدي منى يوم النحر ، فإذا كان يوم النحر فليقصّر من رأسه ولا يجب عليه الحلق حتّى يقضي المناسك ، وإن كان في عمرة فلينظر مقدار دخول أصحابه مكّة ، والساعة الّتي يعدهم فيها ، فإذا كان تلك الساعة ، قصّر وأحلّ وإن كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد الرجوع إلى أهله رجع ونحر بدنة أو أقام مكانه حتّى يبرء إذا كان في عمرة ، وإذا بريء فعليه العمرة واجبة ، وإن كان عليه الحجّ رجع أو أقام ففاته الحجّ فانّ عليه الحجّ من قابل ، فانّ الحسين ابن عليّ خرج معتمر أفمرض في الطريق فبلغ عليّا عليه‌السلام ذلك وهو في المدينة فخرج في طلبه فأدركه بالسّقيا (١) وهو مريض بها فقال يا بنيّ ما تشتكي؟ فقال أشتكي رأسي فدعا عليّ عليه‌السلام ببدنة فنحرها وحلق رأسه وردّه إلى المدينة فلمّا برأ من

__________________

(١) السقيا بالضم موضع بين المدينة ووادي الصفراء.

٢٣٦

وجعه اعتمر قلت أرأيت حين برأ من وجعه قبل أن يخرج إلى العمرة حلّ له النساء؟ قال لا يحلّ له النساء حتّى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، قلت فما بال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين رجع من الحديبية حلّت له النساء ، ولم يطف بالبيت؟ قال ليسا سواء كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مصدودا والحسين محصورا (١).

ومثله صحيحته أيضا قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول المحصور غير المصدود وقال : المحصور هو المريض ، والمصدود هو الّذي يردّه المشركون كما ردّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس من مرض ، والمصدود تحلّ له النساء ، والمحصور لا يحلّ له النساء (٢) وغير ذلك من الأخبار.

ولا شكّ في دلالة الأخبار على المطلوب كما ترى ، ولكن في الرواية الأولى دلالة على جواز النحر بل وجوبه موضع الحصر ، ولا يجب البعث وهو خلاف ما ذهب إليه الأصحاب وأيضا في متنها أشياء حتّى أنه يتوهّم المنافاة بين أوّلها وآخرها ممّا نقل عن فعله عليه‌السلام بالحسين عليه‌السلام وأيضا فيها تغييرات ففي التهذيب غير الّذي في الكافي وفي الفقيه غيرهما (٣) فانّ فيه أنّه فعل الحسين ذلك بنفسه لا أمير المؤمنين عليه‌السلام وفي التهذيب فيها زيادة بعد قوله «فانّ عليه الحجّ من قابل» : «فان ردّوا الدراهم عليه ، ولم يجدوا هديا ينحرونه وقد أحلّ ، لم يكن عليه شيء ولكن يبعث من قابل ويمسك أيضا». والأصحاب حملوها على أنّه محلّ ولا يبطل إحلاله ، ولكن يبعث الهدي في القابل ويمسك عمّا يمسك عنه المحرم من حين البعث ، ومثلها ما في رواية غير صحيحة في الكافي قلت له ـ أي لأبي جعفر عليه‌السلام أرأيت إن ردّوا عليه دراهمه ولم يذبحوا عنه ، وقد أحلّ فأتى النساء؟ قال : فليعد أي ثمن الهدي وليمسك الآن عن النساء إذا بعث (٤).

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٣٦٩.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٣٠٤ وهو صدر الحديث الأول.

(٣) راجع الفقيه ج ٢ ص ٣٠٥ ، التهذيب ج ١ ص ٥٦٧.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٣٧١.

٢٣٧

فقال بعض لا يعقل وجوب الإمساك بعد تحقّق التحلّل فحمل على الاستحباب وقال بعض إنّه لا استبعاد بعد وقوعه في النصّ وأنت تعلّم أنّ قوله عليه‌السلام فان ردّوا الدراهم عليه لا يدلّ على أنّه محلّ حتّى يرد الاستبعاد ، ويحتاج إلى التكلّف في دفعه ، بل الظاهر أنّ معناه ما عليه إثم ولا كفّارة ولكن يبعث ويكون محرما ممسكا عمّا يمسك عنه المحرم ، كما كان قبل البعث ، إذ قد يراد بقوله «وقد أحلّ» أنّه فعل أفعال المحلّ واعتقد أنّه محلّ ويؤيّده «فأتى النساء» في الثانية. على أنّ هذه الزيادة ليست بموجودة في غير التهذيب ، والثانية ضعيفة ، فلو لم يكن لهم دليل على ذلك من إجماع ونحوه لم يبعد القول بما ذكرناه فيندفع الاشكال.

وأيضا يمكن القول بالتخيير في المحصور بالمرض وحمل فعله عليه‌السلام بالحسين على الجواز وكذا البعث بمعنى أحد الفردين الواجبين على التخيير حتّى يندفع التنافي بين الروايات ، بل بين أوّل هذه الرواية وآخرها كما وقع في التهذيب والكافي فإنّ فيها فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الذّبح مكان الحصر مع التصريح قبله بالبعث.

فالمعنى على ما يفهم من رأي الأصحاب فإن منعتم بالمرض من الحجّ أو العمرة بعد كونكم محرمين بأحدهما ، وأردتم الإحلال أو مطلقا كما هو الظاهر من اللفظ فعلى الثاني يكون الإحلال بالهدي واجبا أراد التحلّل أم لا ، وعلى الأوّل على تقدير الإرادة ، والثاني هو المفهوم من ظاهر الآية والأوّل هو المفهوم من كلام الأصحاب فعليكم أو فالواجب عليكم أو فاذبحوا أو أهدوا أو ابعثوا للتحلّل ما استيسر من أيّ نوع كان من الهدي إبلا أو بقرة أو شاة أي فتحلّلوا إذا ظننتم ذبح الهدي فما إمّا خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ، أو مفعول فعل محذوف والجملة جزاء «إن أحصرتم».

ويحتمل كون الحصر بمعنى المنع المطلق كما في اللغة لا بالمعنى المصطلح عندهم ، فيكون التقدير (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) إن بعثتم كما في المريض وحتّى يذبح في محلّه إن كان المنع بالعدوّ كما وقع في الحديبية فتركه

٢٣٨

في الآية لوقوعه في الحديبية وظهوره وبيانه بالأخبار كما في سائر الآيات ، أو يجعل بلوغ الهدي محلّه كناية عن حصول ذبحه في محلّه في العدوّ ، محلّ الصدّ ، وفي المرض ما مرّ ويكون ذلك البيان مستفادا من الأخبار ، مع أنّه غير بعيد من الفهم لدلالة العقل على عدم البعث حين الصدّ بالعدوّ غالبا ، ولعلّ معنى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) لا تحلّوا ممّا أحرمتم ولا تخرجوا من الإحرام حتّى يبلغ هديكم الواجب عليكم للتحليل في المحلّ الّذي يحلّ ويجوز ويباح ذبحه أو نحره فيه ، بمعنى عدم التحريم فلا ينافي الوجوب في ذلك المحلّ وهو مكّة إن كان محرما بالعمرة ، ومنى يوم النحر إن كان محرما بالحجّ ، فالحلق الّذي هو أقوى ما يحصل به الإحلال أطلق وأريد منه ذلك أو يكون بمعناه يعني لا تحلقوا إلى ذلك الوقت ، ويفهم غيره أيضا بالمقايسة أو يقدّر : ولا تفعلوا شيئا من محرّمات الإحرام ، ولعلّ الأوّل أولى.

ثمّ اعلم أنّ ههنا أبحاثا :

الأول : هل الهدي واجب على الممنوع مطلقا أو مقيّدا بإرادة التحلّل ، الظاهر من الآية الأوّل فيجب الذّبح والتحلّل أيضا وتقييد القاضي وغيره الآية بقوله : إن أردتم التحلّل كما أشرنا إليه غير ظاهر الوجه.

الثاني : هل هو مخصوص بصورة عدم الشرط وقت الإحرام بقوله حلّني حيث حبستني أو مطلق ، الظاهر هو الثاني لعدم القيد في الآية ، وعدم ثبوت المخصّص ومجرّد الاشتراط لا يدلّ عليه إذ قد يكون فائدته مجرّد حصول الثواب أو غيره ، والأوّل مذهب السيّد المرتضى وهو بعيد عنه ، لعدم خروجه عن الآية إلّا بيقين ولا يقين وهو يفهم من الفقيه أيضا وفي صحيحة حمزة بن حمران الّذي ما وثّق بل قيل له كتاب في باب الحصر من الفقيه سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الّذي يقول حلّني حيث حبستني فقال : هو حلّ حيث حبسه الله عزوجل ، قال أو لم يقل ، ولا يسقط الاشتراط عنه الحجّ من قابل (١) وكذا في حسنة زرارة في التهذيب في باب الإحرام هو حلّ إذا

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٣٠٦.

٢٣٩

حبسه اشترط أو لم يشترط (١) دلالة مّا على سقوط الهدي مع الشرط وبدونه ، ولكن يقيّدان بالآية ، ويؤيّده عدم السقوط بدون الشرط بالإجماع على الظاهر ، ولصحيحة محمّد بن مسلم ورفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّهما قالا : القارن يحصر ، وقد قال واشترط «فحلّني حيث حبستني» قال يبعث بهديه ، قلنا هل يتمتّع من قابل؟ قال : لا ، ولكن يدخل في مثل ما خرج منه (٢) فانّ فيهما دلالة على عدم السقوط وفيهما دلالة أيضا على عدم إجزاء التمتّع عن القران ، فلا يصحّ العدول مطلقا أيضا ، وذلك مذهب البعض وليس بجيّد.

الثالث : هل يتحقّق الإحلال بمجرّد حضور وقت المواعدة لنائبه في الذبح أو لا بدّ من تقصير أو حلق مع نيّة التحلّل بهما؟ أكثر الروايات خالية عنه والأصل أيضا مؤيّد ، ولكنّ الاستصحاب يقتضي البقاء على الإحرام حتّى يتحقّق المحلّل (٣) وصحيحة معاوية المتقدّمة حيث قال فيها فليقصّر صريحة في وجوب التقصير وكذا قوله فيها قصّر وأحلّ يدلّ على وجوب التقصير فتأمل وكأنّه لا قائل بتعيّنه فيكون واجبا مخيّرا بينه وبين الحلق ، ويمكن استفادته من الآية حيث قال فيها (وَلا تَحْلِقُوا) أي لا تحلّوا بمعنى لا تفعلوا شيئا يحلّلكم حتّى يبلغ ، فيفهم من الغاية حينئذ وجوب فعل المحلّل وليس إلّا الحلق أو التقصير أو أنّه نفى وجوب الحلق إلى حين بلوغ الهدي ، فيكون التقدير فاحلقوا بعد البلوغ فتأمّل أو يقال يكفي انتهاء التحريم فيفهم جواز الحلق بعده ، ويحتمل أن يكون المراد كما هو الظاهر لا تفعلوا من محرّمات الإحرام حتّى يبلغ ثمّ يحلّ ذلك لكم بمعنى رفع الحظر والمنع والتحريم فيفهم جواز الحلق بعد البلوغ ، فلا يكون التقصير متعيّنا وقد علم كونه واجبا فيكون الحلق مثله فتأمّل.

الرابع : هل النية واجبة لهذا الحلق أو التقصير وشرط بحيث إذا انتفت

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٤٦٩.

(٢) راجع التهذيب ج ١ ص ٥٦٨ الفقيه ج ٢ ص ٣٠٥ ، الكافي ج ٤ ص ٣٧١.

(٣) وتحققه بمجرد حصول الوقت غير ظاهر ، منه رحمه‌الله.

٢٤٠