زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

رزقا لبني آدم أي ينتفع به في الأكل ، أصرح ممّا تقدّمها ففهم كون الأشياء على أصل الحلّيّة منها أولى ، وقال ذلك في مجمع البيان فيما تقدّمها ، ولو ذكر هنا لكان أولى ، ومضمون الباقي تعليق وجوب الشكر لله على عبادتهم إيّاه.

قال في مجمع البيان : وتلخيص الكلام إن كانت العبادة واجبة عليكم لأنّه إلهكم فالشكر له أيضا واجب عليكم بأنّه منعم محسن إليكم ، حاصله كما أنّ العبادة له واجبة فالشكر أيضا كذلك فيفهم وجوب الشكر مطلقا كوجوب العبادة ، وقال فيه أيضا : الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من تعظيم المنعم فهو على وجهين أحدهما الاعتراف بالنعمة متى ذكر المنعم بالاعتقاد ، والثاني الطاعة بحسب جلالة النعمة ، فالأوّل لازم على كلّ حال من أحوال الذكر ، والثاني يلزم في الحال الّتي يحتاج فيها إلى القيام بالحقّ ، وأمّا العبادة فهي ضرب من الشكر إلا أنّه غاية فيه ليس وراءها شكر ، ويعنون بها ضربا من الخشوع ولا يستحقّ العبادة إلّا الله لأنّه منعم بأصول النعم مثل الحياة والقدرة والشهوة وأنواع المنافع ولا يوازيها نعمة.

الرابعة : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) (١).

أي لا تحرّموا على أنفسكم ما أحلّ الله ولا تجتنبوا ذلك تنزّها بل كلوا ما أحلّ الله ورزقكم ، فانّ جميع ما رزقكم الله حلال وطيّب لذيذ فحلال حال مبيّنة لا مقيّدة وكذلك طيّبا ، وهو يحتمل التقييد ، ويكون سبب التقييد ما في ما قبله (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) حيث نهي هناك عن تحريم طيّبات ما أحلّ الله لكم أي ما طاب ولذّ منه ، فإنّه قيل الظاهر أنّ قيد (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ) للوقوع وأنّه محلّ للتحريم ، وإلّا جعل جميع ما أحلّ الله حراما منهيّ ، ويحتمل كون الإضافة بيانيّة أيضا.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه وصف يوم القيامة لأصحابه يوما وبالغ في إنذارهم

__________________

(١) المائدة : ٨٩.

٦٢١

فرقّوا فاجتمعت جماعة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين ، وأن لا يأكلوا اللحم ولا يناموا على الفراش ، ولا يقربوا النساء والطيب ويرفضوا لذّات الدنيا ويلبسوا المسوح أي الصوف ويسيحوا في الأرض أي يسيروا فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك فقال لهم : إنّي لم اومر بذلك إنّ لأنفسكم عليكم حقّا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا ، فانّي أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي ، والرواية مشهورة.

أو لأنّ النفس إليه أميل فلا دلالة في الآية على أنّ الرزق قد يكون حلالا وقد يكون حراما فالحرام يكون أيضا رزقا كما هو معتقد الجهّال والعوامّ الّذين يأكلون أموال الناس ويقولون هذا رزقنا الله ، وهو مقتضى مذهب الأشاعرة وإليه أشار القاضي بأنّه لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذلك الحلال فائدة زائدة ، وهو خيال باطل إذ ما يحتاج ذكر كلّ شيء إلى فائدة زائدة مع وجودها ، وهي هنا الإشارة إلى عدم معقوليّة المنع ، بأنّ ذلك حلال رزقكم الله ، فلا معنى للتحريم والمنع.

وبالجملة القيد قد يكون للكشف والبيان ، وقد يكون للإشارة إلى بيان عدم معقوليّة الاجتناب ، وأنّ ذلك الوصف هو الباعث لمذمّة التارك وقد يكون لغير ذلك وهنا يكفي الأوّلان.

فالآية دلّت على عدم جواز التجاوز عن حدود الله والتشريع ، وعدم حسن الاجتناب عمّا أحلّ الله ، ويحتمل أن يكون باعتقاد التحريم أو المرجوحيّة ، فلا ينافي الترك للتزهّد ، ولئلّا يصير سببا للنوم والكسل وقساوة القلب ، ولهذا نقل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أكل خبز الحنطة ، وما شبع من الشعير ، وزهد أمير المؤمنين عليه‌السلام مشهور ، ولكن ينبغي أن يكون ذلك باعتقاد التأسّي إلّا أنّه لو اجتنب لبعض الفوائد مثل كونه سببا لقلّة النوم وإصلاح النفس وتذليلها ، فالظاهر أنّه لا بأس به مع اعتقاد الحلّيّة.

وممّا يدلّ على أصالة إباحة ما ينتفع به قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) كالمهد الّذي يمهّد للصبيّ فهي محلّ راحتكم (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي جعل

٦٢٢

لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية ، وعرّفكم إيّاها لتسلكوها (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (١) أي خلق الماء وأنزله فأخرج به من الأرض أصنافا كثيرة ممّا ينبت منها مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة تفكّها وطعاما وبقولا ، بعضها لكم وبعضها لبهائمكم ، وبعضها لسقوفكم ، وغير ذلك وفيه التفات (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) قيل حال من ضمير أخرجنا أي أخرجنا أصناف النباتات آذنين لكم في الانتفاع بها قائلين هذا القول وفيه تأمّل ، فيحتمل الاستيناف وكونه مفعولا له ، والتقدير لتأكلوا وغيره (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي فيما خلقنا لكم دلالة واضحة لذوي العقول على وجود الصانع وصفاته الثبوتيّة ، من العلم والإرادة والقدرة حيث يتأمّل في حصول هذه النباتات من الأرض اليابسة ، بسقي الماء من السماء ووجود حكم فيها وأنّ بعضها سمّ قاتل ، وبعضها نافع شاف من الأمراض وبعضها طعام وبعضها فاكهة وبعضها للدوابّ ، وأنّ عمدة رزقهم في الدّوابّ وأنّ رزقها ممّا لم يمكن أن يكون رزقا لهم ، وهذا غاية من الحكمة والعلم والإرادة واللطف.

ففيها وفيما تقدّم دلالة على إباحة الأرض والماء والنبات كلّها لكلّ إنسان بالتصرّف فيها لنفسه ولأنعامه ، ثمّ في قوله (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) دلالة على أنّ الإنسان مخلوق من الأرض ، وأنّه يموت فيدفن فيها فيعود أرضا ثمّ يخرج منها ويخلق منها مرّة أخرى كما خلقهم أوّل مرّة فتكون الإعادة الجسمانيّة بعد العدم بالمرّة حقّا كما هو ظاهر غيرها من الآيات فتأمّل.

وفي قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢) دلالة على جواز ركوب البحر

__________________

(١) طه : ٥٣ ـ ٥٥.

(٢) البقرة : ١٥٩.

٦٢٣

للتجارة وغيرها ممّا ينتفع به من الطيور والسموك ونحوه ، فيكون ذلك مباحا شرعا كما هو كذلك عقلا حتّى يثبت التحريم ، فما مصدرية ، والضمير إمّا للبحر أو للفلك باعتبار الواحد المذكور في ضمن الجمع ، والباء إمّا للسببيّة أو للمصاحبة أو موصولة أي تجري بنفع الناس أو الّذي هو نافع للناس أي تجري لتحصيل ما هو نافع للناس من الأمور المذكورة ، أو بالتأمّل في البحر والفلك حتّى ينتقل إلى ثبوت الواجب واتّصافه بالقدرة والعلم والإرادة ، حيث خلق مثل هذه الأشياء الدقيقة الكثيرة النفع.

فيستدلّ بها على جواز البحث في أصول الكلام كما هو سوق الآية ، بل فيها حثّ على النظر في علم الكلام كما قاله القاضي ، ويدلّ عليه الخبر المذكور في الكشّاف والقاضي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها أي لم يتفكّر فيها والدابّة لغة ما يدب وفي عرف بعض ما يركب ، وفي آخر مخصوصة بالفرس ، وفي بعض ماله الأربع ، والمنفعة هي اللذة والسرور وما أدّى إليها ، والنفع والخير والحظّ نظائر كذا في مجمع البيان.

(الثاني)

(ما فيه إشارة إلى تحريم بعض الأشياء على التعيين)

وفيه آيات :

الاولى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) الاية (١).

قد تقدّم البحث في صدرها إلى قوله تعالى (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وهنا نذكر تتمّتها أعني (وَالْمُنْخَنِقَةُ) أي الّتي ماتت بالخنق وهي ميتة فداخلة فيها وجميع ما بعدها كذلك وذكرت للتصريح وعدم توهّم الحلّ بذلك والمنع عن أكلها لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يأكلونها (وَالْمَوْقُوذَةُ) أي الّتي ضربت بخشب أو حجر ونحو ذلك

__________________

(١) المائدة : ٥.

٦٢٤

من الثقل حتّى تموت (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) أي الّتي تردّت في بئر أو وقعت من علو فماتت (وَالنَّطِيحَةُ) وهي الّتي نطحها اخرى فماتت ، والتاء فيها للنقل ، لأنّ الفعيل بمعنى المفعول لا يفرق بين مذكّرة ومؤنّثة بالتاء.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أي ما أكل السبع بعضه فمات قال القاضي فيه دلالة على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ممّا اصطادته لم يحلّ كأنّه يريد إثبات حلّيّته على تقدير عدم أكله ، وإن قتله الجوارح ولم يدرك ذبحه ، كما في قتل الكلب له ، وليست فيه دلالة على كونه مباحا إذا قتله السبع ، ولم يأكل منه شيئا وهو ظاهر ، وعموم اشتراط التذكية متّبع حتّى يثبت ما يخرجه (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) إلّا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرّة ، والظاهر أنّ الاستثناء متعلّق بما يقبل الذكاة لا بما أكل السبع فقط ، كما قيل ، والذكاة أعني قطع العروق الأربعة بمحدّد مع الشرائط معروفة.

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدّون ذلك قربة وقيل هي الأصنام ، وكلمة «على» حينئذ بمعنى اللام كعكسه في (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (١) أي عليك ، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمّى عليها ، كانوا يفعلون كذلك فحرّم ذلك ، والظاهر أنّه أعمّ من أن يكون على وجه الذبح وغيره ، فيمكن أن يكون الذبح على ذلك الوجه حراما على المسلمين.

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) أي وحرّم عليكم الاستقسام بالأقداح أي السهام والنشّاب ، وذلك أنّهم كانوا إذا قصدوا فعلا مبهما مثل السفر ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربّي ، وعلى الآخر نهاني ربّي ، والثالث غفل لا كتابة عليه ، فان خرج الأمر مضوا على ذلك ، وإن خرج النهي تجنّبوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام ، وقيل هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة ، وواحدها

__________________

(١) الواقعة : ٩١.

٦٢٥

زلم كحمل وزلم كصرد.

وقال في مجمع البيان وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما‌السلام أنّ الأزلام عشرة إلى قوله ، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّؤنه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى الرجل وثمن الجزور على من يخرج له الّتي لا أنصباء لها وهو القمار فحرّمه الله عزوجل (١) وقيل هي كعاب فارس والروم الّتي كانوا يتقامرون بها ، وقيل هو الشطرنج وقيل على الأوّل سبب التحريم أنّه دخول في علم الغيب وضلال واعتقاد أنّ ذلك طريق إليه افتراء على الله وعلى هذا يفهم منه تحريم الاستخارة المشهورة الّتي قال الأكثر بجوازها بل باستحبابها ، ويدلّ عليه الرّوايات فهو دليل بطلان الأوّل ، أولا يكون سبب التحريم ما ذكره بل مجرّد النصّ المخصوص بذلك الفعل الخاصّ والوجه الخاصّ أو يكون الاستخارة خارجة عنه بالنصّ (ذلِكُمْ فِسْقٌ) تأكيد يحتمل كونه مخصوصا بالاستقسام ، ويحتمل الرجوع إلى الجميع أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله أي معصية (فَمَنِ اضْطُرَّ) متّصل بالمحرّمات المتقدّمة ، وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنّب عنها ، وهو أنّ تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدّين الكامل والنعمة التامّة ، أي فمن دعته الضرورة إلى أكل هذه (فِي مَخْمَصَةٍ) أي مجاعة حتّى لا يمكنه الامتناع (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) غير مائل إلى إثم بأن يأكل زيادة على الحاجة أو التلذّذ أو غير متعمّد لذلك ولا مستحلّ ، أو غير عاص بأن يكون باغيا أي خارجا على الإمام أو عاديا متجاوزا عن قدر الضرورة أو عمّا شرع الله له بأن يقصد اللّذّة لا سدّ الرمق فإن أكل للضرورة فلا يعاقبه الله (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوب عباده جميعا (رَحِيمٌ) لعباده بأن جوّز لهم الأكل في المخمصة ، ولم يلزمهم بالموت وعدم الأكل ، فإنّ الغفران ينافي ذلك.

الثانية : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً (٢) أي في القرآن أو مطلق الوحي

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ١٥٨ ، تفسير القمي ص ١٥٠.

(٢) الانعام : ١٤٥.

٦٢٦

سواء كان قرآنا أم لا ، هذا تنبيه واضح على أن لا تحريم إلّا فيما وجده بالوحي لا غير فلا تحريم فيما لم يجده ولم يجد إلّا بالوحي فإنّه (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) تأكيد (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) الطعام (مَيْتَةً) المراد بها ما فارقته الروح بغير ذبح شرعيّ ذكرا كان أو أنثى (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي مصبوبا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال وإن كان ذلك أيضا حراما لكن بوجه آخر لا لأنّه دم ، فدما عطف على ميتة ، وقال القاضي عطف على أن مع ما في حيّزه وفيه تأمّل وقد مرّ البحث في بيان تحريم الدّم ونجاسته وتقييده فتذكّر فإنّه غير واضح (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) أي الخنزير أو لحمه أو كلّ واحد ممّا تقدّم (أَوْ فِسْقاً) عطف على لحم الخنزير أو ما عطف عليه ، أي أحد المحرّمات ما هو فسق ولكن هو مجمل لم يظهر إلّا بالبيان ولعلّ قوله (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة موضحة لبيانه ولعلّ المراد ما ذبح بغير التسمية سواء سمّى غير الله أم لا.

والآية محكمة لأنّها تدلّ على عدم وجود محرّم إلى تلك الغاية إلّا هذه الأمور ، فلا ينافيه تحريم أمور أخر بعدها ، فلو وجد محرّم آخر بخبر لا يكون نسخا للكتاب بالسنة فإنّ الظاهر عدم جواز ذلك إلّا أن يكون متواترا وهو أيضا غير معلوم هنا ، وبالجملة لا يمكن بهذا إثبات جواز نسخه بالخبر ، وأيضا لا ينافيه وجود محرّمات أخر في تلك الحالة مع التسليم ، إذ قد يكون الحصر إضافيّا أو يكون داخلا بدليل آخر ، فيختصّ عموم الإباحة المفهوم من الحصر بدليل من خارج كسائر العمومات فلا نسخ أيضا وأيضا لا تدلّ على عدم حلّ الأمور الآن غير هذه إلّا مع انضمام الاستصحاب والأصل وتتبّع دليل التحريم في الجملة ، إذ لا ينبغي الحكم بالعدم بمجرّد أنّ الأصل هو العدم فانّ الظاهر أنّه لا بدّ من التفتيش والاستفصال ، وإن لم يجب الاستقصاء كما قيل في الأصول ، فإنّ التعبير في الجملة ظاهر فتأمل.

الثالثة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (٢) الخمر معلوم لأنّه عبارة عن كلّ

__________________

(١) النجم : ٤.

(٢) البقرة : ٢١٩.

٦٢٧

شراب مسكر ومغطّ للعقل ومذهب له ، عند الأصحاب والشافعيّ وعند أبي حنيفة ما غلا واشتدّ وقذف بالزبد من عصير العنب وللأصحاب روايات مثل كلّ مسكر خمر ، وهو في الأصل مصدر خمر يخمر : إذا ستره ، سمّي به المسكر للمبالغة.

و «الميسر» القمار قال في مجمع البيان اشتقّ من اليسر وهو وجوب الشيء لصاحبه من قولك إنّ هذا الشيء يسر يسرا وميسرا إذا وجب لك وقال في الكشاف الميسر القمار ، مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما ، أي وعد ورجع يقال يسرته إذا قمرته ، الأولى تقول يسرته إلخ ، واشتقاقه من اليسر لأنّه أخذ مال رجل بيسر وسهولة ـ شخص أولى ـ من غير كدّ ولا تعب أو من اليسار لأنّه سلب يساره قال وفي حكم الميسر أنواع القمار ، الأولى أن يقول يشمل الميسر إلخ من النرد والشطرنج وغيرهما وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاكم وهاتين الكعبتين المشومتين فإنّهما من ميسر العجم وعن علي رضي‌الله‌عنه أنّ النرد والشطرنج من الميسر والمعنى يسألونك عمّا في تعاطيهم واستعمالهم الخمر والميسر بدليل (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) عظيم من الكبائر مع أنّه يودّى إلى ارتكاب سائر المحرّمات وترك الواجبات (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) من كسب المال والطرب فإنّه الجواب عمّا في تعاطيهما (وَإِثْمُهُما) العقاب في تعاطيهما (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار والطرب فيهما والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشرة الحكّام والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وسلب الأموال بالقمار والافتخار على من لم يعلم أو لم يفعل.

كأنّه يقول فيهما إثم عظيم ونفع قليل ، بل ليس بالنسبة إلى ذلك نفعا فإنّه أمر فإن ولذة قليلة أيضا والعقاب عظيم ودائم ، فكأنّ سبب ذكر النفع هو الإشارة إلى أنّه أمر هيّن ليس بملتفت إليه عند العقل والشرع ، بل النفع الّذي تخيّله الإنسان فيه ليس بنفع حقيقة ، إذ ما يستلزم دخول النار وسخط الرّب والفضيحة في دار القرار عند الرسل والأئمّة المختار ، والدخول تحت الفجّار والخروج عن حزب الصلحاء والأبرار ، ليس بنفع حقيقة بل مجازا أيضا عند ذوي العقول والأبصار ، وإلّا فذكره غير مناسب في هذا المقام ، وقرئ كثير بالثاء أيضا ، ومعنى

٦٢٨

الكثرة أنّ أصحاب الخمر والميسر يقترفون فيهما الإثم من وجوه كثيرة لازمة لعدم العقل والدخول مع الفجّار والفسّاق في فسقهم.

ثمّ اعلم أنّه لا شكّ في دلالة الآية على تحريم الخمر مؤكدا ومعلّلا فإنّه قال (فِيهِما إِثْمٌ) وهو الذنب وأكّد بالكبر وبإثمهما وبيّن بأنّه مشتملة على مفاسد كثيرة وهي أكثر ممّا يتخيّل أنّه منفعة والحكمة تقتضي تحريم ما فيه المفسدة فكيف المفاسد كما بين في الأصول وإن قلنا بالحسن والقبح الشرعيّين فقط وأنّ أفعاله تعالى ليست معلّلة بالأغراض ، وأنّه يجوز خلوّ الأحكام عن علل ومصالح لأنّ ذلك لا يجوز عند ظهور المفاسد ولم يقل به من يقول بالشرعيّين.

ولذلك أصحاب القياس ما يجوّزون كون وجود وصف صالح للعلّية غير علّة ولا يقولون بخلوّ الحكم عن علّة وإن جاز الخلوّ مهما أمكن ، ويقولون التعبّد قليل بل ليس ، وأنّ هذه المفاسد مصلحة للترك لا علّة فلا يصحّ قول القاضي : والأظهر أنّها ليست كذلك لما مرّ أي كون المفاسد محرّمة للخمر ، لأنّ الحسن والقبح ليسا بعقليّين فتأمّل فيه والظاهر أنّها ما كانت محلّلة في الإسلام بل في سائر الأديان على ما هو المشهور بين الأصحاب وسبب النزول في هذا المقام يدلّ على التحليل في زمان الإسلام أيضا.

قال في الكشاف والقاضي : ونزلت بمكة (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، وذلك ليس بظاهر وقيل معنى سكرا رزقا حسنا وما يزيل العقل ليس بحسن.

ثمّ قالا إنّ عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل ومسلبة للمال ، فنزلت (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فشربها قوم وتركها آخرون ، وهذا أيضا غير واضح إذ فيه إسناد تحليل حكم إلى الله تعالى مع أنّ عمر وبعض الصحابة يعرفون كونها مفسدة ويريدون تحريمها.

ثمّ قالا ودعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم أي صار في صلاة الجماعة إماما ، وقرء «قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزلت

٦٢٩

(لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (١) فقلّ من يشربها ، فيه أيضا أنّ ما سبقها أدلّ على التحريم فعدم ترك الأكثر إلّا عند هذه لعدم الفهم من السابق والفهم منها بعيد.

ثمّ قالا : دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقّاص فلمّا سكروا افتخروا وتناشدوا حتّى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاريّ بلحي بعير فشجّه موضحة فشكى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عمر اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٢) فقال عمر : انتهينا يا ربّ ، وعن عليّ رضي‌الله‌عنه : لو وقعت قطرة خمر في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذّن عليها ولو وقعت في البحر ثمّ جفّ ونبت فيه الكلأ لم أرعه ، وعن ابن عمر لو أدخلت إصبعي فيه لم يتبعني ، يعني قطعتها ، وهذا هو الإيمان حقّا وهم الّذين اتّقوا الله حقّ تقاته.

وفي كلامه هذا أيضا نظر ، فانّ عدم فهم الصحابة التحريم ممّا تقدّم بعيد كما عرفت ، وأنّهم سألوا البيان والتحريم ولم يبيّن لهم مع ذكر الجواب لهم واشتماله على المفاسد المذكورة ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع أنّ معظم الأصوليّين ما يجوّزونه بل نقل الإجماع إلّا عن نادر ممّن قال بجواز التكليف بالمحال ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك السؤال حتّى سأل غيره ، وأنّ عمر مع علمه باشتمالها على المفاسد وسماعه هذه الأجوبة ما ترك شرب الخمر وهو بعيد عنه حيث قال انتهينا وأنّ وصفه لعلي عليه‌السلام وابن عمر بكمال الايمان يشعر بعدمه في غيره ممّن سبق ذكره وهو أيضا بعيد عنه بل محال.

ورجوع قوله وهذا هو الايمان إلى الكلّ بعيد جدّا ويأباه سوق الكلام ولعلّه لذلك ترك القاضي النقل عن عليّ وابن عمر ، والقول بأنّه هذا هو كمال الإيمان مع نقله ما سبقه.

__________________

(١) النساء : ٤٣.

(٢) المائدة : ٩٠.

٦٣٠

ثمّ اعلم أنّ ظاهر الآية تحريم الخمر وكلّ مسكر مطلقا وكذا كلّ قمار وميسر ، لكن مع أخذ الرهن على ما فهم من اشتقاقه والأصحاب يحرّمونه مطلقا لعلّه لأخبار أو إجماع أو كون الميسر أعمّ هنا عندهم ، وإن كان في الأصل خاصّا.

(الثالث)

(في أشياء من المباحات)

وفيه آيات :

الأولى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) (١) أي عن ما أحلّ لهم بعد ما بيّن لهم المحرّمات وحصل لهم الشبهة في موضع يحتمل التحريم ولم يكنفوا بالبراءة الأصليّة وطلبوا النصّ فقال الله (قُلْ) يا محمّد (أُحِلَّ لَكُمُ) أي أحلّ الله لكم (الطَّيِّباتُ) أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه عادة وعلى سبيل الغلبة ، ويمكن أن يكون ما لم يدلّ دليل على تحريمه من عقل أو نقل ، فيكون مؤيّدا للحكم العقليّ فاجتمع العقل والنقل على إباحة ما لم يدلّ دليل على تحريمه ، وبمفهومه يدلّ على تحريم المستخبثات لمقابلة الطيّبات كما دلّ عليه (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) بمنطوقه (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) يحتمل أن يكون عطفا على الطيّبات ولكن بحذف مضاف أي مصيّد ما علّمتم من الجوارح أي الكلاب الّتي تصيدون بها بقرينة قوله (مُكَلِّبِينَ) فإنّه مشتقّ من الكلب أي حال كونكم صاحبي كلاب.

فيلزم كون الجوارح كلبا فيحلّ ما ذبحه الكلب المعلّم إذا لم يقصّر في الذبح ولم يغب عنه وبالجملة بالشرائط المقرّرة في الفروع ، وقيل : المراد مطلق الجوارح ، وهو الطيور وذوات الأربع من السباع وإطلاق المكلّبين باعتبار كون المعلّم في الأغلب كلبا فيلزم إباحة ذبيحتها أيضا بالشرائط وهو خلاف الظاهر ، بل لا يمكن كونه مرادا وخلاف مذهب الأصحاب ورواياتهم ، قال في مجمع البيان في تفسير الجوارح قبل قوله (مُكَلِّبِينَ) قيل الجوارح هي الكلاب فقط عن ابن عمرو الضحّاك والسدّي

__________________

(١) المائدة : ٤.

٦٣١

وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام فإنّهم قالوا هن الكلاب المعلّمة خاصّة ، أحلّه الله إذا أدركه صاحبه ، وقد قيل لقوله (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده إلى أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب ، فقال لا تأكل إلّا ما ذكّيت إلّا الكلاب ، فقلت إن قتله؟ قال : كل فإنّ الله يقول (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) ثمّ قال عليه‌السلام كلّ شيء من السباع يمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب المعلّمة فإنّها تمسك على صاحبها وقال إذا أرسلت الكلب المعلّم وذكرت اسم الله عليه فهو ذكاته (١) وهو أن يقول بسم الله والله أكبر.

ويؤيّد هذا المذهب ما يأتي بعد من قوله (مُكَلِّبِينَ) أي أصحاب الصيد بالكلاب وقيل أصحاب التعليم للكلاب.

(تُعَلِّمُونَهُنَّ) أي تؤدّبونهنّ حتّى يصرن معلّمة ، وفي هذا دلالة مّا على أنّ صيد الكلب الغير المعلّم حرام إذا لم يدرك ذكاته ، وأمّا معنى تعليم الكلب فقد ذكره الفقهاء وظاهر الآية ما يصدق عليه المعلّم فتأمّل ، قيل حدّ التعليم أن يذهب إذا استرسل ويقف إذا زجر ، وقيل ذلك إنّما يكون قبل أن يرى الصيد إذ بعده لا يمتنع بوجه وقيل حدّ ذلك ثلاث مرّات ، وقيل لا حدّ له ، فإذا فعل ما قلناه من الترغيب والمنع امتثل ، ويمكن اعتبار ما يفهم أنّ ذلك عادة له ، ويؤيّده ثبوت اشتراط التذكية حتّى يعلم كونه كلبا معلّما ، و (تُعَلِّمُونَهُنَّ) حال ثانية أو استيناف و (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) متعلّق به أي تعلّمون الكلاب ممّا علّمكم الله من الحيل وطرق التأديب ، فانّ العلم به إلهام منه تعالى أو اكتساب بالعقل الّذي هو عطيّة من الله تعالى فهو من تعليمه تعالى أو ممّا علّمكم الله من اتباع الكلب الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره كما مرّ وهو الأظهر.

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) متفرّع على ما تقدّم ، ويحتمل كونه جزاء

__________________

(١) تفسير القمي ص ١٥١.

٦٣٢

لقوله (وَما عَلَّمْتُمْ) فتكون هي شرطا أي إن أمسكن الجوارح المعلّمة من الكلاب قال القاضي وهو ما لم يأكل منه فاشترط في حلّه أن يكون الكلب ما أكل منه فلو أكل حرم ثمّ قال : وإليه ذهب أكثر الفقهاء ونقل فيه رواية وفيه تأمّل فإنّ فهم هذا المعنى من قوله (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) لا يخلو عن إشكال نعم لو صحّت الرّواية أو ثبت اتّباع الأكثر فهو المتّبع وإلّا فلا ويمكن أن يقال ثبت اشتراط التذكية إلّا ما خرج بالدليل وقد وجد في الكلب المعلّم الّذي لم يأكل ، فبقي الباقي تحت تحريم الميتة فتأمّل والظاهر أنّ المراد على تقدير اشتراط عدم الأكل ، عدم كونه عادة له فلو أكل نادرا لم يضرّ.

(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) الضمير لما علّمتم ، والمعنى سمّوا عند إرسال الكلب أو لمّا أمسكن عليكم أي سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته أو سمّوا عند أكله والأوّل هو المشهور وهو المفهوم من الرواية السّابقة إلّا أنّه فهم منها تعيينه بقوله بسم الله والله أكبر والظاهر أنّه ليس كذلك إذ لا قائل به فيحمل على الاستحباب والأولى العمل بها (وَاتَّقُوا اللهَ) في محرّماته (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيؤاخذكم بما جلّ ودقّ ، ففيه إشارة إلى الملاحظة التامّة في الصيد وغيره من الأحكام.

الثانية : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (١) أكّد تحليل الطيّبات وقد مرّ معناها ، والمراد باليوم الآن لا اليوم المتعارف وعطف عليه (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) قيل المراد بالطعام ذبائحهم ، قال في مجمع البيان قاله أكثر المفسّرين وأكثر الفقهاء وجماعة من أصحابنا ، ولا يخفى بعده إذ ليس معنى الطعام الذبيحة لا لغة ولا عرفا ولا شرعا وأنّ المشهور بين أصحابنا هو أنّ ذبيحتهم حرام لقوله تعالى (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) و (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ولرواياتهم وقد تقدّمت في تفسير (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وفي مجمع البيان أنّه لا يجوز أكل ذبائحهم بل ذبائح من خالف الحقّ مطلقا عندنا فتأمّل في التوفيق بين الكلامين.

ثمّ قال فيه أيضا وقيل إنّه يختصّ بالحبوب وما لا يحتاج إلى التذكية وهو

__________________

(١) المائدة : ٥.

٦٣٣

المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام وهذا مؤيّد لصحّة ما تقدّم ، والطعام في عرف بعض النّاس عبارة عن البرّ والشعير فيمكن إطلاقه على كلّ الحبوب للمناسبة وهو في الأصل من الطعم بمعنى المطعوم فيصدق على كلّ مطعوم ، ويمكن تخصيصه بما تقدّم لدليل من خارج ، وقيل المراد أعمّ كما هو الظاهر فكلّ ما يصدق عليه طعامهم فهو حلّ ما لم يعلم تحريمه من دليل مثل المغصوب والنجس.

وهذا القول غير بعيد لأنّه المتبادر فينبغي الحمل عليه ، وليس طعامهم من حيث أنّه طعامهم حراما عليكم بل هو وغيره سواء ، فيجب أن يخرج عنه ما علم تحريمه بدليل فيخصّص كسائر العمومات فتكون ذبائحهم وما باشروه بالرطوبة قبل تطهيره خارجا عنه وحراما على تقدير ثبوت تحريم ذبائحهم ونجاستهم كما هو ظاهر أكثر الأصحاب ، والكتابيّ من له كتاب فيعمّ جميع أهل الكتاب ولا يدخل فيه غيرهم ، وإن كان طعامهم أيضا بهذا المعنى حلالا لنا ويكون تخصيص أهل الكتاب للسّؤال أو لكثرة الحاجة إليهم والمخالطة والمعاملة معهم دون الحربيّ ، وكذا يحلّ لهم طعامنا فيجوز لنا أن نعطيهم إيّاه بالبيع وسائر المعاملات بل بلا عوض.

فهذه الآية تدلّ على جواز إعطائهم عطيّة فافهم قال في مجمع البيان وطعامكم يحلّ لكم أن تطعموهم.

الثالثة : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

مضمونها حصر التحريم في جميع الانتفاعات بما مات بغير ذكاة شرعا وبغير التسمية فإنّه يعلم اعتبارها من أهلها ، أو يكون تخصيصا بعد تعميم أو أكله لكنّ الأوّل أولى كما بيّن في الأصول إلّا أن يكون هناك قرينة دالّة على الأكل ونحوه ولا يبعد هنا حيث ذكر الأكل قبله وبعده أيضا وهو المتبادر منها ومن لحم الخنزير فيفهم تحريم باقي الانتفاعات من دليل آخر وهو الأخبار ولعلّه الإجماع أيضا والدم وهو

__________________

(١) البقرة : ١٧٣.

٦٣٤

ظاهر ولحم الخنزير كذلك قيل خصّ اللّحم لأنّه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له فلا يفهم تحريم الانتفاعات به من الآية نعم لما ثبت نجاستها فلا يجوز استعمال شيء منها فيما يشترط فيه الطهارة.

وقال في مجمع البيان : اللّحمة قرابة النسب ، وأصل الباب اللزوم ، ومنه اللحم للزوم بعضه بعضا ولعلّ يدخل فيه الخبر المشهور في الرضاع والولاء ، وقال أيضا صاحب العين رجل لحم إذا كان أكول اللحم ، وبيت لحم يكثر فيه اللحم ، والظاهر أن ليس ذلك هو المراد ممّا روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الله يبغض البيت اللحم على تقدير الصحّة لأنّه قال في الكافي بعد تعريف اللحم بأنّه سيّد الطعام بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّا يروى عندنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الله يبغض البيت اللحم فقال كذبوا إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البيت الّذي يغتابون فيه الناس ويأكلون لحومهم وقد كان أبي لحما ولقد مات يوم مات وفي كمّ أمّي ثلاثون درهما للّحم ، وروى أيضا بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كان رسول الله عليه‌السلام لحما يحبّ اللّحم (١) بل مراده بيت يغتاب فيه الناس كما نقل في الكافي وكأنّ نفي هذا القول عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخبر باعتبار المعنى الظاهر كما علم فلا تعارض بينهما ، واعلم أنّ الظاهر من الخبر تحريم الغيبة للناس مطلقا مؤمنا وغيره وسيجيء تحقيق البحث فيه إن شاء الله تعالى.

والإهلال في الأصل رفع الصوت بالتسمية ، ومنه الهلال لغرّة القمر لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير ، والمحرم يهلّ بالإحرام بالتلبية ، واستهلّ الصبي إذا بكى وقت الولادة كذا في مجمع البيان والأولى رفع الصوت من غير ذكر التسمية كما يدلّ عليه تتمّة كلامه هنا واللّغة ولعلّ مراده في الذبح لكنّه بعيد ففهم تحريم الانتفاع بالميتة مطلقا حتّى الإسراج بشحمه وإدهان الحيوانات به أو أكله فقط لما مرّ.

(وَالدَّمَ) عامّا أي أيّ دم كان مسفوحا وغيره ، ولا يتوهّم حمله على المسفوح

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٣٠٨.

٦٣٥

لما وقع في آية أخرى مقيّدا به لوجوب حمل المطلق على المقيّد كما قاله الشهيد الثاني في شرح الشرائع لأنّ الحمل إنّما يجب إذا كان بينهما منافاة وليس هنا إذ يجوز تحريم مطلق الدّم والمسفوح أيضا وكذا نجاستهما نعم يصلح ذلك عند من يقول بمفهوم الوصف لوجود المنافاة حينئذ أو يقال إنّه حصر المحرّم في الآية المتقدّمة في الدم المسفوح ، فلا يكون غيره حراما ، ولكنّ الظاهر أنّ هذا الحصر غير مراد وأنّه حصر لما وجد في ذلك الوقت ، فانّ صدرها (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً).

نعم قد استثنى الأصحاب ما بقي في المذبوح بعد الذبح ، وخروج ما يمكن أن يخرج من الدم ، بشرط أن لا يكون بحيث يدخل الدم جوفه ، ولعلّ دليلهم الإجماع والخبر أو الحرج وليس بواضح ، نعم يمكن أن يقال لا نسلّم فهم العموم من الآية والأخبار بل مطلق فيحمل على ما هو المحقّق ، وهو الدّم المسفوح ، ويبقى الباقي على أصل الحلّ لكنّه لا يخلو عن بعد إذ الظاهر منهما العموم فتدبّر.

وقد استثني من تحريم هذه الأشياء الأكلّ للمضطرّ حال اضطراره إذا لم يكن باغيا ولا عاديا والاضطرار ما لم يمكن الصبر عليه مثل الجوع والفرق بينه وبين الإلجاء أنّ الإلجاء بتوفّر الدواعي إلى الفعل من جهة الضرّ والنفع ، وليس الاضطرار كذلك ، وأصل البغي الطلب والعدي التعدّي فمعناه من اضطرّ إلى كل هذه المحرّمات بل إلى فعل مطلق المحرّمات ، لعموم اللفظ إلّا ما أخرجه الدليل مثل قتل النفس على أيّ وجه كان الاضطرار ، وتلك الضرورة ضرورة سدّ رمق أو إكراه أو حرج أو غير ذلك من ضرب وشتم لا يمكن تحمّلها عادة حال كونه غير باغ للذة ، ولا عاد أي غير متجاوز عن حدّ الضرورة (فَلا إِثْمَ) عليه ولا ذمّ ولا تحريم عليه ، وذكر الغفور والرّحيم بعد ذلك كأنّه للدلالة على أنّ الله غفور رحيم لا يضيّق على عباده بل يوسّع عليهم فكأنّه لا يشترط الضرورة الكلّيّة بحيث لا يمكن الحياة بدون فعل الحرام أو أنّه إذا فعل حراما ثمّ تاب يتوب الله عليه (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) بالرخصة وغيرها.

٦٣٦

وقد قيل لها معنى آخر مثل ما قاله في الكافي بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ عمّن ذكره عن أبى عبد الله عليه‌السلام (١) أنّه قال الباغي الّذي يخرج على الامام ، والعادي الّذي يقطع الطريق لا يحلّ له الميتة وفي السند ضعف لسهل بن زياد ، وفي المتن أيضا قصور مّا فافهم ، مع أنّه يمكن أن يكون بطريق التمثيل وأنّ المذكور داخل فيهما لا الحصر ، وبالجملة الأعمّ أولى ما لم يثبت التخصيص ، ومعه يمكن إثبات الحكم عامّا بطريق القياس المعلوم علّته كما قاله القاضي وقيل غير باغ على الوالي ولا عاد يقطع الطريق فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعيّ وقول أحمد وأنت تعلم أنّه قياس غير معلوم فيه اشتراك العلّة ، بل الظاهر عدمه فانّ الخروج على الامام وقطع الطريق ليسا بمتساويين لكلّ المعاصي ، حتّى يكون العاصي لسفره مثلهما ، وهو ظاهر ، ولعلّ لهما دليلا آخر لو كان هذا مذهبهما.

وقال القاضي أيضا فإن قيل إنّما يفيد قصر الحكم على ما ذكر ، وكم من حرام لم يذكر ، قلت المراد قصر الحرمة على ما ذكر ممّا استحلّوه لا مطلقا أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنّه قيل إنّما حرّم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطرّوا إليها. قلت الأوّل غير ظاهر الوقوع ، والثاني بعيد جدّا ، مع أنّ الظاهر من تحريم كلّ محرّم ، إنّما هو حال الاختيار دون الاضطرار ، ويدلّ عليه العقل والنقل فعاد السؤال ويمكن أن يقال الحصر إضافيّ بالنسبة إلى ما حرّموه على أنفسهم على ما مرّ قبل هذه الآية في سبب نزول قوله تعالى (كُلُوا) الآية يعني ليس المحرّم ما حرّمتم بل هذه أو بحذف وغيرها ممّا حرّم الله ، بل ما حرّمتم أنتم أو يكون المحرّم حين النزول هذه فقط مثل (قُلْ لا أَجِدُ) الآية.

الرابعة : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ) (٢) أي أيّ غرض لكم في التحرّج عن أكله وما يمنعكم عنه يعني لا حرج فيه ولا يجوز جعل شيء مانعا عنه دون ما نهى الله عنه (وَ) الحال أنّ الله تعالى (قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وما لم يحرّم عليكم

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٥.

(٢) الانعام : ١١٩.

٦٣٧

بقوله (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) الآية وغيرها وبلسان نبيّه في الأخبار (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) ممّا حرّم عليكم فإنّه أيضا حلال حال الضرورة والاضطرار ففي مفهوم هذه الآية تحريم ما لم يذبح باسم الله ، أي لم يذكر اسم الله عند ذبحه كما مرّ.

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع إنصاف وتدبّر وتفكّر لأنّ من لم يسمع بقبلة فكأنّه أصمّ لا يسمع وفيها دلالة على إباحة الماء والأرض بالنقل أيضا فعلى أيّ وجه يريد الإنسان يتصرّف فيهما ما لم يدلّ دليل على خلاف ذلك.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) (١) قد ذكر في أوّل هذه السورة في الكشّاف أنّ الأنعام هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام ، وأكثر ما يقع على الإبل وقد أنّث هناك بقوله (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وفيها (وَتَحْمِلُ) وذكّره هنا بقوله (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) والضمير راجع إليه فذلك إمّا لأنّ الأنعام اسم جمع وليس بجمع فيعتبر تارة معناه فيؤنّث واخرى لفظه فيذكّر ، أو يكون جمعا والتذكير هنا باعتبار إرجاعه إلى بعض الأنعام المفهوم منها فإنّ اللّبن الّذي في البطون ليس في البطون كلّها ، بل بعضها ، ونقل أفراده في الكشّاف والقاضي عن سيبويه ، أي لكم في الأنعام وما يحصل منها عظة واعتبار لو تأمّلتم ثمّ بيّن ذلك بقوله (نُسْقِيكُمْ) فهو استيناف كأنّه قيل كيف العبرة فقيل (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) أي يخلق الله اللّبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كلّه قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته وكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما والكبد قسّام مسلّط على هذه الأصناف الثلاثة يقسمها فيجري الدّم في العروق واللّبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته ، لمن تفكّر وتأمّل ، وسئل شقيق عن

__________________

(١) النحل : ٦٩ ـ ٧٢.

٦٣٨

الإخلاص فقال تمييز العمل عن العيوب كتمييز اللّبن من بين فرث ودم ، كلّه من الكشّاف.

وهذا تشبيه ما أحسن به! وفيه وجوه كثيرة دقيقة جدّا منها أنّه في الصعوبة مثله لا يقدر عليه إلّا الله وتشبيه الرياء وغيره ممّا يضيع العمل بالروث والدم كراهة ورائحة وقذارة وغير ذلك. (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) سهل المرور في الحلق ، ويقال إنّه لم يغصّ أحد باللّبن قطّ وفيها دلالة على إباحة لبن الأنعام والترغيب على الاتّعاظ والاعتبار والتفكّر في أفعال الله تعالى.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) قيل متعلّق بمحذوف أي ونسقيكم من عصيرهما بحذف المضاف أو بإرادته منها مجازا ، وليس متعلّق بنسقيكم المذكور ، ولا المقدّر المعطوف عليه ، إذ يلزم كونه بيانا لعبرة الأنعام ، فهو استيناف لبيان الاسقاء عبرة أو منّة أخرى أو متعلّق بقوله (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ويكون كلمة «منه» تكرارا لا للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها وتذكير الضمير باعتبار العصير أو الثمر ، والسكر مصدر سمّي به الخمر للمبالغة وحينئذ إمّا أن تكون منسوخة إن كانت قبل تحريم الخمر أو يكون جمعا بين العتاب والمنّة ، وقيل المراد به يسدّ الجوع من السكر وقيل المراد من السكر النبيذ ، وهو عصير العنب والتمر والزبيب ، إذا طبخ حتّى يذهب ثلثاه ، ثمّ يترك حتّى يشتدّ ، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حدّ السكر ويحتجّ بهذه الآية وبقوله عليه‌السلام الخمر حرام بعينها والسكر من كلّ شراب أي حرام ، وفي دلالة الآية والخبر على مطلوب أبي حنيفة خفاء.

قال في مجمع البيان السكر لغة على أربعة أوجه الأوّل ما أسكر من المسكرات والثاني ما طعم من الطعام ونقل شعرا ، والثالث السكون ونقل شعرا ، والرابع المصدر في قولك سكر سكرا ومنه التسكير التحيّر في قوله (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا).

وقال فيه أيضا قال قتادة نزلت الآية قبل تحريم الخمر ، وروى الحاكم في صحيحة بالإسناد عن ابن عباس أنّه سئل عن هذه الآية قال السكر ما حرّم من ثمرها

٦٣٩

والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرها كالخلّ والزبيب والربّ والتمر ، وقيل المراد بالسكر ما يشرب من أنواع الأشربة ممّا يحلّ والرزق الحسن ما يؤكل ، قال أبو مسلم لا حاجة إلى ذلك سواء كان حراما أم لم يكن لأنّه تعالى خاطب المشركين وعدّد أنعامه عليهم بهذه الثمرات ، والخمر من أشربتهم ، فكانت نعمة عليهم وفيه تأمّل.

وقال أيضا وقد أخطأ من تعلّق بهذه الآية في تحليل النبيذ لأنّه سبحانه إنّما أخبر عن فعل يتعاطونه فأيّ رخصة في هذا اللفظ ، وأنت تعلم أنّ البعض لا يخلو عن تكلّف وهو ظاهر ، ويحتمل أن يكون هذه عبرة بتقدير ولكم في الأشجار أيضا لعبرة نسقيكم ، أو تتّخذون من ثمرات النخيل على ما تقدّم من كون (مِنْ ثَمَراتِ) متعلّقه بنسقيكم المقدّر ، أو (تَتَّخِذُونَ) ومثل هذا الحذف غير عزيز في القرآن العزيز وهو ظاهر لمن تأمّله.

وحينئذ لا شكّ في وجود العظة والعبرة بأخذ الخمر الّذي هو في غاية المرارة والسكر ، وفيها منافع للبدن في الدنيا كما أشار إليه في قوله (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وأخذ الدّبس منه ، وكذا الخلّ والتمر والعنب ، والغرض إظهار القدرة على الأشياء العزيزة البعيدة عن العقل لتجوّز الإعادة للثواب والعقاب ، لرفع استبعاد المشركين وإن لم يكن حلالا ، إذ يجوز عدم كون الغرض في الكلّ الامتنان فإنّ الّذي قادر على إيجاد مثل هذه الأمور من الشجر اليابس بل من نواة مرّة لا شكّ أنّه قادر على الإعادة ، كما أنّ القادر على إخراج لبن خالص من بين الفرث والدم من غير مخالطة بأحدهما لونا وطعما وريحا فتأمّل.

وكذلك يحتمل أن يكون الغرض في ذكر النحل وإظهار قدرته على البيت المشتمل على الأمور الغريبة الّتي لم يقدر عليه أقوى المهندسين وحصول العسل منه الّذي يعجز عن فهمه العقول وعن إدراكه الفحول ، بحيث يتيقّن كلّ عاقل أنّه لا يقدر على مثل ذلك الممكن ، بل الواجب القادر على كلّ شيء المتّصف بالصّفات الكاملة الّتي لا يعرفها إلّا هو ، والمبرّئ عن الصّفات الناقصة ، وبالجملة لا شكّ في

٦٤٠