زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

(كتاب)

(الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر)

وفيه آيات :

منها: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

أي ولنكن جماعة هي بعضكم ، فمن تبعيضيّة كما هو الظاهر (يَدْعُونَ) ذكّر باعتبار حمل أمّة على جماعة من الذكور ، وإن دخلت النساء فيه تغليبا (إِلَى الْخَيْرِ) أي الدّين أو مطلق الأمور الحسنة شرعا وعقلا ، من المعروف وترك المنكر فيكون مجملا تفصيله (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالطاعة والأمر يكون للرّجحان مطلقا أعمّ من الندب والوجوب (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي خلاف الطاعة من كونه مكروها وحراما ، ويكون الوجوب الّذي يستفاد من الأمر أي (وَلْتَكُنْ) ومن حصر الفلاح في «الآمرون والناهون» المفهوم من قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) باعتبار المجموع وبعض الافراد ، ويحتمل تخصيص الأمر بالواجبات والنّهي بالمحرّمات فيكون صريحا في الوجوب.

وأمّا تفصيل الوجوب وشرائطه المعتبرة فموجودة في الكتب الفقهيّة ولا ثمرة كثيرا في البحث عن الوجوب عينيّا أو كفائيّا والأولى منه في ذلك كون البحث عن كونه عقليا أو نقليا والظاهر أنّه كفائيّ كما هو ظاهر هذه الآية ، وكون الغرض هو الردّ عن القبيح والبعث على الطاعة ليرتفع القبيح ، ويقع المأمور به والحسن ، ولا دليل في العقل يدلّ على الوجوب مطلقا.

نعم يمكن كونه واجبا عقليّا في الجملة ، وعلى من ظهر عنده قبحه بمعنى ترتّب

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

٣٢١

الذنب على الترك وهو أيضا ظاهر فيمكن القول بأنّه عقليّ والآيات الدالّة على ذلك كثيرة ، مثل قوله تعالى في هذه السورة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١) الآية أي وجدتم خير جماعة مخلوقة أو أخرجتم من العدم إلى الوجود لتأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر ، فمشعرة بأنّ الخيريّة باعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والايمان بالله. فتأمل.

ومنها (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) (٢) وهو الإنصاف والتوسّط في جميع الاعتقادات والأفعال والأقوال ، وعدم التفريط والإفراط والميل إلى أحد الجانبين فلا يكون اعتقاده في حقّ الله ناقصا ولا فوق ما لا يجوز ، بأن يعتقد الشركة والإفراط والاتّصاف بالصفات الناقصة واتّصاف النبيّ بالألوهيّة ، وكذا في الإمامة ، وكذا في العبادات لا يجعلها ناقصة عن الوظيفة ولا يخترع فيها فوق ما عيّنه الشارع ، وبالجملة لا يخرج عن الشرع الشريف (وَالْإِحْسانِ) إلى الغير وهو التفضّل ولفظ إحسان جامع لكلّ خير ، والأغلب استعماله في التبرّع ويحتمل في العبادات كما قيل إنّه إحسان في الطاعات وهو إمّا بحسب الكميّة فبفعل النوافل ، والكيفيّة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فان لم تكن تراه فإنّه يراك (٣).

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي أنّ الله يأمر بإيتاء الأقارب ما يحتاجون إليه وصلة الرحم وهو تخصيص بعد تعميم ، للاهتمام ، بل الإحسان أيضا كذلك قال في مجمع البيان : وهذا عامّ وقيل إنّ المراد بذي القربى قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المشار إليهم في قوله (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) و (لِذِي الْقُرْبى) (٤) في قسمة الخمس والمرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال نحن هم كأنّه إشارة إلى ذلك (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) الإفراط في متابعة القوّة الشهوانيّة كالزنا فإنّه قبيح بل أقبح أحوال الإنسان وأشنعها (وَالْمُنْكَرِ) ما ينكر على فاعله من جميع المعاصي تعميم بعد تخصيص (وَالْبَغْيِ) الاستعلاء والاستيلاء على الناس ، والتجبّر والتكبّر المحرّم بل بمنزلة الكفر ، قيل الفحش ما يفعله الإنسان

__________________

(١) آل عمران : ١١٠.

(٢) النحل : ٩٠.

(٣) الدر المنثور ج ١ ص ٩٣.

(٤) الشورى : ٢٣ ، الأنفال : ٤١.

٣٢٢

في نفسه من القبيح ممّا لا يظهره لغيره ، والمنكر ما يظهره للنّاس ممّا يجب إنكاره عليهم والبغي ما يتطاول من الظلم لغيره ، وقيل العدل استواء السريرة والعلانية ، والإحسان كون السريرة أحسن من العلانية ، والمنكر أن يكون العلانية أحسن من السريرة (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) معناه يعظكم الله بما في هذه الآية الشريفة من مكارم الأخلاق أو من الأمر والنهي المميّزين بين الخير والشرّ ، لكي تتّعظوا وتتذكّروا وتتفكّروا وترجعوا إلى الحقّ وتعملوا به وعن ابن مسعود : هذه الآية أجمع آية في كتاب الله.

قال في الكشّاف : العدل هو الواجب والإحسان هو الندب والفاحشة ما جاوز حدود الله ، والمنكر ما ينكره العقول ، والبغي طلب التطاول بالظلم ، وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليه‌السلام أقيمت هذه الآية مقامها ولعمري إنّها كانت فاحشة ومنكرا وبغيا ، ضاعف الله لمن سنّها غضبا ونكالا وخزيا إجابة لدعوة نبيّه «وعاد من عاداه». قال المحشّي يريد بلعنة الملاعين من لعن عليّا عليه‌السلام من بني أميّة وبني مروان والّذي أسقط اللعنة عمر بن عبد العزيز والّذي سنّ ذلك معاوية انتهى وأشار بدعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما وقع في يوم الغدير من دعائه له بذلك وهو مشهور وفي الكتب مسطور غنيّ عن البيان وهذا الكلام صريح في لعن معاوية وفي مواضع من الكشّاف يظهر بغض المصنّف له ، وأنّه ما كان على الحقّ ، وما كان جهاده مع علي عليه‌السلام باجتهاد ولا معذورا فيه ، بل متعمّدا وظالما ، وحاكم جور عالما منها (١) ما ذكره في آخر سورة يونس (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٢) روي أنّ أبا قتادة رضي‌الله‌عنه تخلّف عن تلقّي معاوية حين قدم المدينة وقد تلقّته الأنصار ثمّ دخل عليه فقال له : مالك لم تتلقّنا؟ قال لم يكن عندنا دوابّ ، قال فأين النواضح؟ قال قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا معشر الأنصار إنكم ستلقون بعدي أثره قال معاوية فما ذا؟ قال : قال : فاصبروا حتّى تلقوني ، قال : فاصبر! قال : إذا نصبر ، فقال عبد الرحمن بن حسّان :

__________________

(١) اى من المواضع التي يظهر بغض صاحب الكشاف لمعاوية.

(٢) يونس ١٠٩.

٣٢٣

إلا أبلغ معاوية بن حرب

أمير الظالمين نثا كلامي

بأنّا صابرون فمنظروكم

إلى يوم التغابن والخصام

ومنها (١) (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢) أي إلى العبادات الّتي هي موجبة لمغفرة عظيمة من ربّكم ، وموجبة لدخول دار المتّقين والمنفقين والمحسنين أخلاقهم (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يفهم أفضليّة الصلاة وسائر العبادات في أوّل أوقاتها والمسارعة إليها من غير تهاون وكسل ، إلّا ما استثني لدليل مثل تأخير العشاءين إلى المزدلفة كما هو المسطور في محالّه.

ويستفاد منها أنّ الغرض الأصليّ من بناء الجنّة دخول المتّقين أي المطيعين لله ولرسوله بترك المعاصي وفعل الطاعات ، كما أنّ الغرض من خلق النار دخول الكفّار فيها ، كما قال تعالى قبلها (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فلا ينافي دخول غيرهم في النار تبعا ، مثل الفسّاق ، ودخول الأطفال والمجانين والفسّاق الجنّة كذلك فتدلّ على عظم الاعتداد بشأن التقوى ، والموصوف به ، بخلاف الضدّ فلا اعتبار للفاسق عند الله ، وإن دخل الجنّة ، وأيضا إنّ لوصف الإنفاق في العسر واليسر والغنى والفقر دخلا عظيما في ذلك.

ولهذا ورد في الأخبار الكثيرة مدح السخاء وذمّ البخل قال في مجمع البيان أوّل ما عدّد الله سبحانه من أخلاق أهل الجنّة السخاء وممّا يؤيّد ذلك من الأخبار ما رواه أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : السخاء شجرة في النار ، أغصانها في الدنيا من تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنّة والبخل شجرة في النار ، أغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى النار ، وقال عليّ عليه‌السلام : الجنّة دار الأسخياء ، وقال : السخيّ قريب من الله وقريب من الجنّة وقريب من الناس بعيد من

__________________

(١) أى من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف ، عطف على قوله فيما سبق ومنها إن الله يأمر بالعدل إلخ.

(٢) آل عمران : ١٣٣.

٣٢٤

النار ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنّة بعيد من الناس قريب من النار (١) ومثلها في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢).

وورد أخبار كثيرة في ذلك في الكافي مثل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : السخي محبّب في السموات محبّب في الأرض خلق من طينة عذبة ، وخلق ماء عينيه من ماء الكوثر والبخيل مبغض في السموات مبغض في الأرض خلق من طينة سبخة وخلق ماء عينيه من ماء العوسج (٣).

وعن أبي الحسن موسى عليه‌السلام السخيّ الحسن الخلق في كنف الله لا يتخلّى منه حتّى يدخله الجنّة ، وما بعث الله عزوجل نبيّا ولا وصيّا إلّا سخيّا ، وما كان أحد من الصالحين إلّا سخيّا ، وما زال أبي يوصيني بالسخاء حتّى مضى ، وقال عليه‌السلام : من أخرج من ماله الزكاة تامّة ، فوضعها في موضعه ، لم يسأل من أين اكتسبت مالك.

وفيما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ضيافة إبراهيم عليه‌السلام قال له جبرئيل أرسلني ربّك إلى عبد من عبيده يتّخذه خليلا قال إبراهيم : فأعلمني من هو أخدمه حتّى أموت قال فأنت هو ، قال : وممّ ذلك قال : إنّك لم تسأل أحدا شيئا قطّ ولم تسأل شيئا قطّ فقلت لا.

وعنه عليه‌السلام قال : أتى رجل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيّ الناس أفضلهم إيمانا فقال أبسطهم كفّا. وعنه عليه‌السلام قال لبعض جلسائه ألا أخبرك بشيء يقرّب من الله ويقرّب من الجنّة ويباعد من النار؟ فقال : بلى ، فقال : عليك بالسخا فانّ الله خلق خلقا برحمته لرحمته فجعلهم للمعروف أهلا ، وللخير موضعا وللناس وجها يسعى إليهم ، لكي يحيوهم كما يحيي المطر الأرض المجدبة أولئك هم المؤمنون الآمنون يوم القيمة.

وعن عليّ بن إبراهيم رفعه قال أوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام لا تقتل السامريّ فإنّه سخيّ.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ : ص ٥٠٥.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٤٠.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٣٩ ، والسبخة الأرض المالحة ، والعوسج شجر له شوك.

٣٢٥

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال شابّ سخيّ مرهق في الذنوب أحبّ إلى الله من شيخ عابد بخيل.

وعن جميل ابن درّاج عنه عليه‌السلام خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم ، ومن خالص الايمان البرّ بالإخوان والسعي في حوائجهم ، وإنّ البارّ بالإخوان ليحبّه الرحمن ، وفي ذلك مرغمة للشيطان ، وتزحزح عن النيران ودخول الجنان ، يا جميل أخبر بهذا غرر أصحابك قلت جعلت فداك من غرر أصحابي؟ قال : البارّون بالإخوان في العسر واليسر ، ثمّ قال : يا جميل أما إنّ صاحب الكثير يهون عليه ذلك ، وقد مدح الله عزوجل في ذلك صاحب القليل ، فقال في كتابه (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وهذه الأخبار كلّها مسندة (١) وحذفت السند اقتصارا وكذا تركت الأخبار في الإنفاق وذمّ البخل وما ورد في غير هذا الكتاب مثل الفقيه (٢) وغيره.

وإنّ كظم الغيظ بمنزلة التقوى والإنفاق في ذلك المذكور ، لأنّ الظاهر أنّه عطف على «المتّقين الّذين» إلخ وإن جاز عطفه على «الّذين» ولعلّ الأوّل أولى ، وإلّا كان المناسب ويكظمون الغيظ عطفا على ينفقون قال في مجمع البيان : أصل الكظم شدّ رأس القربة عن ملئها تقول كظمت القربة أي ملأتها ماء ثمّ شددت رأسها وفلان كظيم مكظوم إذا كان ممتلئا حزنا وكذا إذا كان ممتلئا غضبا لم ينتقم والكظامة القناة الّتي تجري تحت الأرض سمّيت بذلك لامتلائها تحت الأرض وفي غريب الحديث لأبي عبيدة عن أوس أنّه رأي النبيّ أتى كظامة قوم فتوضّأ ومسح على قدميه والفرق بين الغيظ والغضب أنّ الغضب ضدّ الرضا ، وهو إرادة العقاب المستحقّ بالمعاصي ولعنه وليس كذلك الغيظ لأنّه هيجان الطبع بتكرّه ما يكون من المعاصي ولهذا يقال : غضب الله على الكفّار ، ولا يقال : اغتاظ منهم (٣) وكأنّ في التعبير عن عدم

__________________

(١) راجع الكافي كتاب الزكاة باب معرفة الجود والسخاء ج ٤ من طبعة دار الكتب.

(٢) راجع الفقيه كتاب الزكاة باب فضل السخاء والجود ، ج ٢ ص ٣٣.

(٣) مجمع البيان ج ٢ ص ٥٠٣.

٣٢٦

إنفاذ الغيظ وترك العمل بمقتضاه بالكظم بالمعنى المذكور إشارة إلى عدم خروج شيء منه أصلا ولو قليلا فانّ المطلوب شدّ رأس القربة بحيث لا يترشّح منه شيء أصلا وإلّا لم يحصل الغرض ، بل ينزل الماء ويبلّ ما تحته ويخرب فتأمل.

وكذا العفو عن الناس ، وهو عدم عقابهم ممّا يستحقّونه بفعلهم ، ولكن ينبغي أن يكون بالنسبة إلى نفسه وبحيث لا يؤل إلى إبطال الحدود والتعزيرات الشرعيّة والتهاون فيها قال في مجمع البيان : روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال هؤلاء في أمّتي قليل إلّا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم الّتي مضت ، وفيه دليل واضح على أنّ العفو عن العاصي مرغّب فيه ، مندوب إليه ، وإن لم يكن واجبا وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما عفا رجل عن مظلمة قطّ إلّا زاده الله بها عزّا (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) والمحسن هو المنعم على غيره ، على وجه عار عن وجوه القبح ، ويكون المحسن أيضا هو الفاعل للأفعال الحسنة من وجوه الطاعات والقربات (١) ولا يبعد كونه إشارة إلى الموصوفين المذكورين كأنه قال : والله يحبّهم فعبّر عنهم به ، ليدلّ على كون ذلك حسنا أيضا وعدم الاختصاص بذلك الأوصاف فدلّ على محبّة الله لهم وهو فوق إعداد الجنّة لهم.

فدلّت الآية على كون التقوى والإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان الّذي يجده العقل وبيّنه الشرع عبادات وقربات ، وكذا المسارعة إليها بمنزلة عظيمة عند الله ، وهو ظاهر ، ويدلّ عليه الأخبار ويجده العقل أيضا فيرجى من الله كظم غيظه عن غير الكفّار ، والعفو عن الناس سواهم ، والإحسان إليهم بل الإنفاق عليهم ، لأنّه إنفاق وكظم وعفو خال عن وجه قبح ، فلا يترك مع أمر الناس الضعفاء به وكونها محبوبة عنده.

ثمّ قال في مجمع البيان ممّا جاء فيه من الأخبار ما رواه أبو أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كظم غيظه وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه يوم القيمة رضا ، وفي خبر آخر ملأ الله قلبه يوم القيمة أمنا وإيمانا ، ثمّ قال : روي أنّ جارية لعليّ

__________________

(١) راجع مجمع البيان ج ٢ : ٥٠٥.

٣٢٧

ابن الحسين عليه‌السلام جعلت : تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصّلاة ، فسقط الإبريق من يدها فشجّه فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية إنّ الله عزوجل يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها قد كظمت غيظي ، قالت (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال عَفَا اللهُ عَنْكَ») قال (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال : اذهبي فأنت حرّة لوجه الله (١).

وفي هذه الرواية دلالة على عدم البأس بالاستعانة للوضوء ، فقد روي مثلها عن الحسين بن عليّ عليهما‌السلام أنّه جاء عبده وبيده طبيخ للضيف ، وهو معهم عليهم‌السلام فوقع الظرف من يده على رأسه عليه‌السلام فنظر إليه فقال العبد إلخ الله أعلم حيث يجعل رسالته.

قيل في معنى (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) : كعرضهما وكنّي بالعرض عن مطلق المقدار وهو متعارف ، ونقل على ذلك الإشعار في مجمع البيان أو أنّه لمّا علم عرضه الّذي هو أقلّ من الطول عرفا في غير المساوي علم أنّ طوله أيضا يكون إمّا أكثر أو مثله ، أمّا كونها مع ذلك في السماء فالظاهر أنّ المراد يكون بعضها فيه بأن يكون البعض الآخر فوقه أو يكون أبوابها فيها أو فوق الكلّ وما ذكره الحكماء غير مسموع شرعا وهو ظاهر ، كما قيل إنّ النار تحت الأرض فتكون الآية دليلا على بطلان ما قالوه ، وظاهر الآية أنّها مخلوقة وكذا النار كما يدلّ عليه بعض الأخبار وقال به الأصحاب وصرّح به الشيخ المفيد في بعض مسائله ، وقال : إنّ الجنّة مخلوقة ومسكونة سكنتها الملائكة.

فتدلّ الآية على رجحان المسارعة إلى الطاعات والإنفاق في السرّاء والضرّاء وحسن الخلق بكظم الغيظ ، والعفو عن الناس والإحسان مطلقا كما وردت بها روايات كثيرة مثل : اصنع المعروف إلى كلّ أحد فإن كان أهله وإلّا فأنت أهله.

«وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٥٠٥.

(٢) آل عمران : ١٣٥ و ١٣٦.

٣٢٨

«والّذين» إمّا عطف على المتّقين كما قالوه (١) أو على ما عطف عليه مثل الكاظمين فمعناه أنّ الجنّة أعدّت للمتّقين وللّذين إلخ فتكون معدّة للمتّقين والتائبين وهم يكونون الغرض الأصليّ من خلق الجنّة ، فلا ينافي كونها لغيرهما أيضا بالتبع كما أنّ النار معدّة للكفّار ويدخلها الفسّاق أيضا.

فقول الكشّاف «وفي هذه الآية بيان قاطع أنّ الّذين آمنوا على ثلاث طبقات متّقون وتائبون ومصرّون ، وأنّ الجنة للمتّقين والنائبين منهم دون المصرّين فمن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربّه» باطل ، لما قلناه ، ولغيره ممّا يدلّ على دخول غيرهما فيها من الآيات ، مثل ما يدلّ على العفو والتفضّل والإحسان والمغفرة لمن يشاء ، ومن عمل صالحا يجز به وسائر ما يدلّ على وجوب اتّصال ثواب العمل إلى صاحبه ، وأنّ الايمان موجب لدخول الجنّة ، وللأخبار العامّة والخاصّة ولأنّه يلزم خلود النار من فعل ذنبا واحدا آخر عمره ، ولم يتب ، وهو بعيد جدّا وأنّ ما ذكره مبنيّ على أنّ كلّ ذنب كفر ومحبط لما قبله ، وهما باطلان ولأنّ ظاهر قوله تعالى (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) كالصريح في أنّ ذلك جزاء عملهم.

فدلّت على أنّ الجزاء وأجر العمل الموجب لدخولها مخصوصة بهما ، فلا تدلّ على عدم دخول غيرهما تفضّلا وإحسانا وعفوا وكظما للغيظ الّتي هي محبوبة لله تعالى ويحرّض عليها عباده ، فيبعد أن يمنع نفسه هذه الصفات الكاملة مع ترغيبه العبد الضعيف الّذي الانتقام كالخلق والطبع له ، على أن ليس الدلالة إلّا بمفهوم ضعيف كما بيّن في الأصول ، ولهذا قال سبحانه تعالى في سورة الحديد (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (٢).

فعلم أنّ ذكر المتّقي للاهتمام أو غيره لا للحصر ، وأنّه يبقى قسم آخر ، و

__________________

(١) يعني الطبرسي في مجمع البيان ، القاضي في أنوار التنزيل ، الزمخشري في الكشاف.

(٢) الحديد : ٢١.

٣٢٩

هو الّذي لم يتب ولم يصرّ ، إمّا عالما أو جاهلا ، إلّا أن يسمّى تارك التوبة مطلقا مصرّا ، والظاهر خلافه ويحتمل كونه عطفا على «الّذين» أي أعدّت للمتّقين الّذين كذا وكذا وللمتّقين الّذين كذا وكذا ، ولا ينافي صدور الذّنب مع التوبة ، وعدم الإصرار الوصف بالتقوى قبله ، وبعده أيضا ، وإمّا مبتدأ وخبره «أولئك» بأن يكون مبتدأ ثانيا «وجزاؤهم» ثالثا «ومغفرة» خبره ، والجملة خبر الثاني والمجموع خبر الأوّل ويحتمل كون ترك الفاء وثمّ في قوله (ذَكَرُوا اللهَ) إشارة إلى أنّ مطلق ما يصدق عليه ذكر الله والتوبة كاف سواء كان بعده بلا فصل أو مع فصل كثير.

قالوا : المراد بالفاحشة الزنا ، وبالظلم مقدّماته وغيرها ، أو الفاحشة الكبيرة والظلم الصّغيرة أو الفاحشة الفعليّ والظلم القوليّ ويحتمل كون الفاحشة الظلم على الغير بتضييع حقوقه ، وبالظلم الظلم على نفسه بتضييع حقوق الله ، ومعنى (ذَكَرُوا اللهَ) ذكروا عقاب الله ووعيده «فاستغفروا الله» أي ندموا وعزموا على عدم العود فيكون كناية عن التوبة (وَلَمْ يُصِرُّوا) زيادة تأكيد وبيان له ، أو يكون الاستغفار طلب المغفرة من الله بالقلب واللّسان ، مثل اللهمّ اغفر لنا ، وعدم الإصرار يكون كناية عن التوبة.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) أي لا يغفر الذّنوب (إِلَّا اللهُ) لأنّ الاستفهام إنكاريّ فاصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، اللّذين هما بحكم شيء واحد ، للإشعار بأنّ الله يغفر وأن لا غافر غيره ، وإذا كان لا ملجأ إلّا هو لا يغفر الذّنب إلّا هو ، إذ الذنب الّذي هو عصيانه لا يمكن أن يغفره غيره ، وكرمه واستغناؤه اقتضى أن يغفر له ، ولا يعاقبه بسوء ما فعله ، تفضّلا وإحسانا وإيفاء للوعد الّذي في الآيات والأخبار على ذلك ، فقبول التوبة وإسقاط العقاب بها عقبها محض التفضّل ، ووجوبه سمعيّ لأنّه وعده تفضّلا وكرما ، فلا ينافي كونه تفضّلا كما قاله في مجمع البيان هنا إنّه تفضّل أو أجر وجزاء ، ونقل الإجماع قبله على أنّه واجب لا أنّه واجب عقلا لأنّ قبول العذر واجب عقلا كما قاله المعتزلة ، ومنهم صاحب الكشاف إذ العقل

٣٣٠

لا يقبّح الانتقام والانتصاف بل هو محض العدل كما أشار إليه سلطان المحقّقين في التجريد ، فقول الكشّاف : لأنّ عدله يوجب المغفرة للنائب لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار ، وجب العفو والتجاوز باطل.

فقد عرفت ممّا قرّرناه عدم التدافع بين نقل إجماع مجمع البيان على وجوب قبول التوبة ونفي التجريد فافهم قال في مجمع البيان ، الإصرار أصله الشدّ من الصرّ ، وهو شدّة البرد ، وقال أيضا : لم يقيموا على المعصية ولم يواظبوا عليها ولم يلزموها ، وفي الكشّاف وتفسير القاضي : ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين ، فالّذي فهم منها أنّ الإصرار هو المداومة والمواظبة والإقامة على الفعل ، فلو فعل مرّة أو مرارا في أوقات لم يكن مصرّا ، وإن كان في عزمه العود إلى ذلك وهو بعيد ، فانّ الظاهر أنّ ذلك فسق ومناف للعدالة ، وبعيد عن المعنى اللّغويّ أيضا فإنّه أعمّ من ذلك ، ويمكن الفهم منهما أيضا أنّه ترك التوبة حيث قالا : غير مستغفرين. فأرادا بالاستغفار التوبة تفسيرا للإصرار ، فما لم يتب يكون مصرّا وهو أيضا بعيد إذ يلزم عدم الفرق بين الصّغيرة والكبيرة في أنّه لا يغفر إلّا مع التوبة ، ويكون بدونها فاسقا غير عدل ، والحال أنّ المشهور بين الفقهاء أنّ الصغيرة لا تضرّ ، وبعيد من المعنى اللّغويّ أيضا لأنّه أخصّ ، ولا يبعد أن يكون المراد هو المواظبة على القبيح ، أو العزم عليه ثانيا مع التذكّر ، فهو مناسب للمعنى اللّغوي وقواعد الفقهاء ، والمعنى المتعارف.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قال في مجمع البيان : معناه وهم يعلمون الخطيئة ذاكرين لها غير ساهين ، أو أنّهم يعلمون الحجّة في أنّها خطيئة ، وهي جملة حاليّة وقيد للمنفيّ لا النفي ، وهو ظاهر.

فالآية دلّت على تحريم الفاحشة والظلم ، ولو على نفسه ، بأن يجرح بدنه ويضربه ، بل يشتم نفسه ، وتحريم الإصرار ، وتحريم طلب مغفرة الذنوب إلّا من الله ، والترغيب على طلبه منه ، بل على وجوبه ووجوب التوبة ، ووجوب قبولها على الله بالمعنى المتقدّم ، وكون الجاهل معذورا بل الساهي أيضا ، وأنّ التائب

٣٣١

من الذنب كمن لا ذنب له كما ورد به الأخبار فيكون عدلا بمجرّد التوبة ، فتقبل شهادته بعدها بلا فصل ، لأنّه قرين المتّقين وعطف عليه ، بل يحتمل كونه نفسه كما قلناه ، ولأنّه يبعد ردّ شهادة من شهد له تعالى بالمغفرة وما بعدها فتأمّل ولا يحتاج إلى ضمّ العمل الصالح ، الّذي هو مذكور في بعض الآيات بعد التوبة ، ومذكور في بعض الكتب أيضا مع عدم ظهور معناه ، فقول الشيخ قدس‌سره «تب أقبل شهادتك» غير بعيد ، إلّا أنّ تعريف العدالة بالملكة لا يساعده فانّ تحقّق ذلك بمجرّد التوبة مشكل ، بعد العلم بعدمها ، فيحتمل كون العمل الصالح إشارة إلى تحقّقها فتأمّل ، ويحتمل الدوام على التوبة ، وعدم الإصرار على الذنب وإرادة عمل مطلق أيّ عمل كان ، مثل تصدّق فلس أو صلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

واعلم أنّ الظاهر أنّه لو فعل أحد صغيرة ثمّ انتهى عنها لم يخرج عن العدالة ولا يحتاج معاشرته والخروج عن نهي المنكر إلى العلم بتوبته ولا يكلّف بذلك على ما ذكرناه من معنى الإصرار والمعنى الأوّل الّذي نقلناه عنهم ، بخلاف الثاني فإنّ العزم والعود مرّة أخرى شرط في وجوب التوبة وصيرورتها كبيرة ، والأصل عدمه بخلاف عدم التوبة فإنّ الأصل تحقّقه ويؤيّده أنّه لم ينقل تكليف فاعل المعصية بها بعد نهيه أو انتهائه عنها ، لا فعلا ولا قولا من العلماء والفقهاء ، بل ظاهر كلامهم أنه لا يجوز نهيه ، بل ذكر أنّه فعل ذنبا بعد الانتهاء وهو كذلك لأنّه ذكر فاحشة وتشنيعها غيبة له نعم يمكن المنع ، وإظهار عدم العود على مثله لو علم منه العزم على ذلك إمّا لجهله بأنّه معصية ، أو علمه مع عدم المبالاة بفعل أمثاله ، وأنّ الترك ليس لكونه منتهيا عنه ، بل عدم الباعث ونحوه.

والظاهر أنّه يحتاج إلى التوبة فعل الكبيرة فمجرّد نهيه وانتهائه عن القبيح لا يكفي حتّى يعلم التوبة والندامة ، ولو لم يعلم لم يسقط وجوب الأمر والنهي بدونها ، ولكن ينبغي الملاحظة التامّة في نهيه ، بحيث لا يحصل له الأذى من غير استحقاق ، وقصد التقرّب والإخلاص ، لا تشهّي النفس والعمل بهواها كما هو معتبر في سائر العبادات والأعمال.

٣٣٢

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (١) قالوا الباء متعلّقة بلنت وما زائدة فيفيد الحصر ، أي ما كان لينه لهم إلّا برحمة من الله أي ربط الله على قلبه وتوفيقه للرفق حتّى كان يغتمّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم بعد أن خالفوه لأنّه سبب لعقابهم ، وتكرار الحجج والبراهين وتقريرها عليهم على وجه الشفقة واللّطف مرّة بعد اخرى ، وتواضعه لهم وتجاوزه عنهم وعدم مؤاخذته لهم إنّما هو برحمة الله سبحانه ، حيث جعله لينا حسن الخلق ، فهي تدلّ على أنّ حسن الخلق إنّما هو من عطاء الله وفضله ولا يحصل إلّا بتوفيقه ، وليس العبد مستقلا ، وليس مقتضى مزاجه كسائر الأمور المرغوبة وهو ظاهر.

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) قيل : أي لو كنت جا في اللّسان سيّئ الكلام ، قاسي القلب ، صعبا غير لين تفرّقوا عنك ، وخلّوك وحدك فما آمنوا بك ، ولا يجادلوا معك عدوّا فلا يتمّ لك الأمر ، ففيه إشارة عظيمة إلى فائدة حسن الخلق ظاهرا وباطنا (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ويحتمل أن يكون المراد منه ومن ذلك اللّين أن تعفو عنهم ما بينك وبينهم من حقوقك ، فلا تؤاخذهم بها وأن تستغفر لهم الله فيما بينهم وبين الله ، ليغفر لهم باستغفارك ، ولا تعرض عنهم بمجرّد ذنب وإصرار ، بل أصلح حالهم بحسن الخلق (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قيل أمر الدنيا والحرب ولقاء العدوّ ، وفي مثل ذلك يجوز أن تستعين برأيهم كما تستعين بيدهم وقتالهم مع العدوّ ، ويحتمل أن يكون بمجرّد إظهار اللين والتلطّف لا العمل بقولهم ورأيهم ، بل إن رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله صوابا عمل به لأنّه رأيه وأنّه صواب ، وإلّا بيّن خطأه وأظهر رأيا صوابا عندهم أيضا ، فالمشاورة لا يستلزم العمل برأيهم والاستعانة بذلك ، ولهذا ورد في مشاورة النساء : شاوروهنّ وخالفوهنّ بل فيها فوائد الأمن من اعتراضهم إذا وقع أمر يسوءهم وتطييب لقلوبهم واستمالة لهم بإظهار اعتبارهم وحسن المداراة والخلق معهم كما مرّ ، وترغيب للنّاس في المشاورة كما في الأخبار أيضا.

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

٣٣٣

(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) قالوا إذا وطّنت نفسك على شيء ، بعد التأمّل والشورى ، فتوكّل عليه في إمضاء أمرك على ما هو الأصلح والأليق بحالك فانّ ما هو صلاح لك لا يعلمه إلّا الله ، لا أنت ولا مشاورك ، يعني لا تعتمد على رأيك ولا رأيهم وفعلك وفعلهم ، وإن أصبت الحقّ بذلك ، بل إن فعلت ذلك اعتقد أنّ الّذي هو صلاح لك وتفعله ويحصل لك إنّما هو بتسهيله تعالى إيّاه لك ، وإلهامك عليه وإعلامه بأنّه الأصلح ، حيث لقيت ما هو الرشاد ، سواء كان الّذي اقتضاه رأيك أم غيره ، فإنّ الأصلح لا يعلمه إلّا هو ، وإنّما أنت آلة ومكلّف بظاهر الأمر الّذي تجده نافعا ، وأمّا ما في نفس الأمر لا يعلمه إلّا الله فالّذي يجب من التوكّل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى غيره ـ كما يدلّ عليه ما بعدها وغيرها حتّى أنّ في بعض الآيات إشارة إلى أنّ من لا توكّل له لا إيمان له كقوله (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) هو التوكّل بهذا المعنى يعني تفويض الأمر إلى الله ، واعتقاد أنّ الّذي تفعله قولا وفعلا وتجده صوابا لست بمستقلّ فيه ، بل إنّما هو بعناية الله وتوفيقه له إيّاك وإنّما أنت تفعل ما يظهر كونه مشروعا ونافعا لك مع اعتقاد أنّ إصابة الحقّ والصواب إنّما هو توفيقه تعالى وتسهيله ، فليس للمكلّف فيه دخل إلّا بطريق الآليّة والمحلّية والفاعليّة.

وكأنّ هذا معنى التوكّل الواجب الّذي فسّر في مجمع البيان بأنّه إظهار العجز والاعتماد على الغير والتوكّل على الله هو تفويض الأمر إليه والثقة بحسن تدبيره وأصله الاتّكال في فعل ما يحتاج إليه بمن يستند إليه ، ومنه الوكالة لأنّها عقد على الكفاية بالنيابة ، والوكيل هو المتوكّل عليه بتفويض الأمر إليه ، يعني جعل نفسه كالمعزول والمعدوم فيما يفعله ، مثلا إنّ من اتّجر للرزق أو زرع فوّض الأمر إلى الله بمعنى أنّه يعتقد أنّه يرزقه الرزق والمال والزرع ، فهما ليسا بفعله ، بل يفعله الله ، فهو الفاعل ، والمتّكل عليه ، والحافظ للكلّ ، إذ العبد والمال تحت قدرته ، فلو لم يوفّق له لم يحصل له شيء من الزرع والتجارة إلّا التعب ، وبالجملة النفع بالحقيقة

__________________

(١) المائدة : ٢٣.

٣٣٤

منه تعالى والأثر المترتّب على فعل العبد والأصلح من الله ، فيتّكل على الله لا على فعله ، ويعتقد ذلك.

فليس معناه الواجب أن لا يفعل شيئا أصلا ويتّكل عليه بأن يريد الزرع والربح من غير عمل ويقول أنا متّكل على الله لأنّه واجب أو يريد الرزق بغير طلب كذلك أو يريد هلاك العدوّ والغلبة عليه بغير قتال والتدبير ، أو يريد الخفاء عن العدوّ ولا يختفي عنه بما يقدر مع علمه بطلبه له ، أو يقدر على الهزيمة ولا يفعل بل يقول : الله يحفظ وأنا متوكّل عليه لأنّ الفعل والسعي أيضا مطلوب ومرغوب بل واجب في بعض الأوقات كالتوكّل ، وإلقاء النفس في التهلكة حرام وإنّ الله تعالى لا يفعل أمثال ذلك غالبا إلّا بالأسباب الّتي تكلّف العباد بها.

نعم قد يفعل ذلك بلا سبب بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء إن أراد ، فإذا علموا ذلك فلهم أن يفوّضوا إليه بالكلّية كما ورد في الأخبار بالنسبة إلى بعض الأئمّة عليهم‌السلام من عدم هربهم عن الأسد ، وقولهم إنّه لو لم يعص الله الشخص لقدر على حمل الأسد مثل الدابّة ، فلا يقاس فعلهم بفعل غيرهم ، ولا يجعل قولهم كلّيا. فما ورد أنّ التوكّل على الله هو أن لا يخاف أحدا غير الله ، ويعلم أنّ غيره لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يسأل أحدا شيئا ويقطع الطمع عمّن سواه تعالى ، كأنّه مؤوّل بما قلناه من أنّه النافع ، والقادر على دفع الضّرر ، وإن أراد النفع ينفع من غير مانع وكذا الضرر ، وكذا قادر على دفع العدوّ وضرره ، أو أنّه لا يخاف غيره خوفا يوقعه في المحرّمات وترك الواجبات ، وكذا يعتقد أنّ غيره يضرّ وينفع ، فيقع فيهما لذلك وكذا السؤال ، كما قيل مثل ذلك في التأسّف والحزن على ما فات والفرح بما هو آت اللّذين هما منهيّان بالآية الشريفة (١) والسنّة الكريمة وغيرها من الآيات والأخبار الّتي هي مؤوّلة مثل ما ورد في صفة المؤمن.

وممّا يؤيّد ذلك أنّ الإنسان مخلوق ضعيفا وبالطبع يخاف ممّا يؤذيه ويضرّه ويريد ويميل إلى ما ينفعه ويشتهيه ، ولهذا كلّف وأثيب بالطاعات وترك المعصيات

__________________

(١) يعنى قوله تعالى (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ، الحديد : ٢٣.

٣٣٥

ولهذا كان بعض الأنبياء يخافون من الأعداء وهاجر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة المعظّمة إلى المدينة المشرّفة ، وخاف موسى على نبيّنا وعليه‌السلام من عصاه حتّى قيل له (لا تَخَفْ) (١) ونقل أنّه بعد ذلك أخذه بكمّه وغير ذلك ، ولهذا وجبت التقيّة.

وبالجملة عدم وجوب التوكّل بهذا المعنى الّذي فسّر بحسب الظاهر واضح بل معلوم كونه حراما إذا كان جهلا وإيقاعا في المهلكة ، فلا بدّ من التأويل إمّا بما مرّ ونحوه ، أو تخصيصه بالبعض على بعض الوجوه والأحوال والأزمان ، كما أشرنا إليه.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) في مجمع البيان : يعني الواثقين والمعتمدين عليه والمنقطعين إليه ، والواكلين أمورهم إلى لطفه وتدبيره ، ثمّ قال فيه : في هذه الآية دلالة على اختصاص نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، ومن عجيب أمره صلوات الله عليه وآله أنّه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمع الناس لدواعي الترفّع ثمّ كان أدناهم إلى التواضع وذلك أنّه عليه‌السلام كان [أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم وهذه كلّها من دواعي الترفّع ، ثمّ كان] يرقّع الثوب ويخصف النعل ، ويركب الحمار ، ويعلف الناضح ، ويجيب دعوة المملوك ، ويجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض (٢) ثمّ في الآية أحكام نقلناها لأجلها.

قال في مجمع البيان : وفي الآية ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء وحثّهم على الاستغفار لمن يذنب منهم ، وعلى مشاورة بعضهم بعضا فيما يعرض لهم من الأمور ونهيهم عن الفظاظة في القول ، والغلظة والجفاء في الفعل ، ودعاهم إلى التوكّل عليه ، وتفويض الأمور إليه وفيها أيضا دلالة على القول باللطف لأنّه سبحانه نبّه على أنّه لو لا رحمته لم يقع اللين والتواضع ، ولو لم يكن كذلك لما أجابوه فبيّن أنّ الأمور المنفّرة منفيّة عنه ، وعن سائر الأنبياء ومن يجري مجراهم في أنّه حجّة على الخلق وهذا يوجب تنزيههم أيضا عن الكبائر لأنّ التنفير في ذلك أكثر انتهى كلامه رحمه‌الله ، وهو كلام حسن وكأنّه يريد بالترغيب الاستحباب

__________________

(١) القصص : ٢٥.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٢٠٧.

٣٣٦

للمؤمنين لعدم القول بالوجوب على الظاهر لأنّه ما كان واجبا عليه أيضا ويحتمل الوجوب ، وكذا البحث عن الاستغفار والمشاورة ، ولهذا عفى يعقوب ويوسف على نبيّنا وآله وعليهما‌السلام عن إخوته واستغفرا لهم ، وكأنّه يريد بنهيهم عن الفظاظة التحريم ، فإنّه على من لا يستحقّه حرام لحصول الأذى المحرّم ، وعدم حصول الغرض المطلوب إذا كان معلّما أو آمرا أو ناهيا ، وبدعاهم إلى التوكّل : الوجوب بالمعنى المتقدّم أو الاستحباب بالنسبة إلى بعض الأفراد فتأمّل ، فإنّ من تأمّل هذه الآية مع ما تقدّم من آية كظم الغيظ ، يفهم أنّ حسن الخلق والمداراة مع خلق الله خصوصا عن الرؤساء والعمداء ، الّذين يريدون إرشاد الناس في مرتبة عظيمة ، لا يصل إليها إلّا من وفّقه الله.

وأشار في مجمع البيان إلى المعنى الأوّل في تفسير الآية الّتي بعد هذه وهي (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لمّا أمر الله سبحانه نبيّه عليه وآله السلام بالتوكّل ، بيّن معنى وجوب التوكّل عليه فقال (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) على من ناواكم فلا يقدر على غلبتكم ، وإن كثر من ناواكم ، وقلّ عددكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أي يمنعكم معونته ويخلّي بينكم وبين أعدائكم لمعصيتكم إيّاه فلا يقدر أحد على نصركم ، والهاء عائدة إلى اسم الله على الظاهر والمعنى على حذف المضاف أي من بعد خذلان الله والظاهر أنّه لا يحتاج إلى حذفه ، كما قال في الكشّاف «من بعده» أي من بعد خذلانه أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان ، تريد إذا جاوزته ويحتمل أن يكون المراد بالتوكّل على الله الاتّكال عليه ، وتفويض الأمر إليه بمعنى ترك العمل والاستعانة بغيره في الأمور ، ولكن لا كلّه بل بعد فعل ما ورد الشرع به مثل الهرب من العدوّ مهما أمكن إذا ظنّ أو علم هلاكه أو ضرره ، ثمّ الاتّكال عليه في الباقي بمعنى عدم استعمال شيء فإذا خاف عدوّا لا ينقطع إلى غير الله ولا يسأل أحدا شيئا من الرّزق إذا لم يجب ، ولا يتضرّع للأغنياء والسّلاطين طمعا من دفع الضّرر الموهوم ، والنفع الغير الواجب ، ولكن وجوبه شرعا بهذا المعنى

٣٣٧

ما لم ينته تركه إلى فعل محرّم أو ترك واجب غير ظاهر فيمكن حمل الآيات والأخبار على الرجحان المطلق فتأمّل.

قال في مجمع البيان : قد تضمّنت هذه الآية التنبيه على أنّ كلّ من دهمه أمر فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١) وقد صحّت الرواية عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فانّي سمعت الله سبحانه يقول بعقبها (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) الآية وروي عن ابن عبّاس أنّه قال كان آخر كلام إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل ، وقال نبيّكم مثلها وتلا هذه (٢) يريد بالآية قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (٣) الآية.

والتنبيه غير بعيد ، حيث رتّب الانقلاب بنعمة وفضل ، وعدم المسّ بقول حسبنا الله ، والرواية صريحة في بيانه فعلم عدم اختصاصه بالجماعة السابقة ، وعدم مدخليّة الزيادة ، والرواية موجودة في الأصول (٤) ولكن ما عرفت صحّتها وهو أعرف ، ولا دلالة في نحو قوله سبحانه (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٥) على عدم الخوف عن غير الله والخوف عنه فقط مطلقا لأنّ المراد على ما في التفاسير عدم الخوف في الجهاد من الكفّار بعد وعد الله بالنصر والغلبة عليهم ، والخوف من الله بترك الجهاد وغيره ، فتأمّل.

ومنها (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) (٦) أي القرآن (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها) أي ينكرونها (وَيُسْتَهْزَأُ بِها) إن هي المخفّفة ، وإذا للشرط ، ويكفر ويستهزئ حالان عن المفعول والجملة شرطيّة وقوله (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) جزاؤها ، و «غيره» صفة حديث ، وليس بمعرفة لتوغّله في الإبهام

__________________

(١) آل عمران : ١٧٣.

(٢) آل عمران : ١٧٣.

(٣) مجمع البيان ج ٢ ص ٥٤١.

(٤) الفقيه باب النوادر والحديث صحيح.

(٥) آل عمران : ١٧٥.

(٦) النساء : ١٤٠.

٣٣٨

والجملة قائمة مقام فاعل نزل ومضمونه نهي المؤمنين عن مجالسة المعاندين والمستهزئين وقت إظهار العناد والكفر والاستهزاء بالآيات من الكفّار ، فضمير (فَلا تَقْعُدُوا) للمسلمين ، و (مَعَهُمْ) و (يَخُوضُوا) للكفّار والمستهزئين (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أي إن تقعدوا حينئذ معهم فأنتم مثل الكفّار والمستهزئين بآيات الله ، في الإثم ، إن قدرتم على المفارقة وعدم المجالسة معهم أو في الكفر والاستهزاء إن رضيتم بفعلهم فإنّ الجالس معهم الراضي بذلك الفعل ، مثل الفاعل ، فيقيّد بقوله إن كنتم راضين بذلك.

فهي صريحة في تحريم المجالسة معهم حين الكفر والاستهزاء ولا يبعد فهم تحريم تلك المجالسة مع كلّ فاسق حين فسقه ، مع القدرة على عدمها ، وعدم الضرر ، قال في مجمع البيان : ومتى كانوا راضين بالكفر كانوا كفّارا لأنّ الرضا بالكفر كفر ففيها دلالة على وجوب إنكار المنكر مع القدرة على ذلك وزوال العذر وأنّ من ترك مع القدرة عليه فهو مخطئ آثم وفيها أيضا دلالة على تحريم مجالسة الفسّاق والمبتدعين من أيّ جنس كانوا ، قال جماعة من المفسّرين ومن ذلك إذا تكلّم الرجل بكذب فيضحك منه جلساؤه فيسخط الله عليهم ، وروى العيّاشيّ بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ ويكذّب به ويقع في أهله ، فقم عنه ولا تقاعده (١).

واعلم أنّ ظاهر الآية جواز مجالستهم بعد ذلك وعدم اتّصافهم به وإن كانوا كفّارا ومستهزئين لقوله (حَتَّى يَخُوضُوا) أي حتّى يشرعوا في حديث غير الاستهزاء لأنّه غاية للتحريم قال في الكشّاف فلا بأس أن تجالسهم حينئذ ، فلا يحرم مجالسة الفسّاق في غير وقت الفسق بالطريق الأولى وهو خلاف المشهور بين الفقهاء فإنّهم يقولون بتحريم الاختلاط مع الفسّاق ، ووجوب الاعراض عنهم ، لتحريم الميل إليهم ومودّتهم ومحبّتهم ، ولأن ينتهوا عنه ، ولكن يمكن أن يقال (حَتَّى يَخُوضُوا) علّة للنهي ، يعني لا تقعدوا معهم ، حتّى يتركوا ذلك ، فانّ الجلوس

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٨١.

٣٣٩

عندهم قد يكون سببا لذلك فإنّهم قد يريدون أن يغيظوا المسلمين ، فإذا لم يكونوا معهم لم يفعلوا ، وقد يكون الجلوس عندهم موجبا لذكر آلهتهم فيريدون انتقام ذلك فيكفرون ويستهزؤن بآيات الله ، وإليه أشير في قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي آلهتهم (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١) وهذه صريحة في عدم جواز فعل مباح بل واجب لو كان موجبا لسبّ الإله ونحوه ، فلا يفعل شيء يلزم منه ذلك من سبّ آلهتهم وغيره مثل سبّهم وسبّ أصحابهم ، إذا كان موجبا لسبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام والمؤمنين وهو ظاهر عقلا أيضا.

والمراد بما نزّل ما هو المذكور في الأنعام بقوله (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢) أي وإن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم فلا تقعد معهم بعد أن ذكرته ، قيل : الإنساء ، فعل الله أضيف إلى الشيطان لجري عادته تعالى بفعل النسيان عند الاعراض عن الفكر ، ووسوسة الشيطان ظاهره أنّ الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحتمل أن يكون من قبيل «فاسمعي يا جارة» أو سمّي عدم الإحضار وتوجّهه إليه بالفعل إنساء ، فلا يدلّ على إنساء الشيطان الأنبياء.

قال في مجمع البيان قال الجبائي : وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الإماميّة في جواز التقيّة على الأنبياء والأئمّة وأنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء ، وأنت تعلم أنّ الآية لا تدلّ على عدم جواز التقيّة فإنّها مطلقة يجوز تقييدها بعدم الخوف والضّرر ، وعدم المفسدة ، مع أنّهم لا يجوّزون التقيّة على الأنبياء وقد عرفت حكاية النسيان مع أنّه قد جوّزه بعضهم في غير الأحكام وقد فصّل ذلك الصدوق وذكره مفصّلا أيضا في مجمع البيان حيث قال في جواب الجبّائيّ وهذا القول غير صحيح ولا يستقيم ، لأنّ الإماميّة إنّما يجوّزون التقيّة على الإمام ـ إلى قوله : وأمّا السّهو

__________________

(١) لفظ الآية هكذا (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الانعام : ٢٠٨.

(٢) الانعام : ٦٨.

٣٤٠