زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

أي كائن يوم يحمى ، أو ظرف لهما ، واختار هذه الأعضاء لأنّ الجبهة كناية عن الأعضاء المقاديم المواجهة ، والجنوب عن الأيمان والشمائل والظهور عن المتأخّرة فاستوعب الكلىّ البدن كلّه ، وقيل غير ذلك فتأمل.

(هذا ما كَنَزْتُمْ) الآية بتقدير : تقول لهم خزنة جهنّم هذا ما كنزتم ، والآية ظاهرة في تحريم الكنز ، وعدم الإنفاق ، فقيل نسخت بالزكاة ولا منافاة ، مع أنّ الأصل عدم النسخ ، فيحتمل أن يكون الكنز وعدم الإنفاق كناية عن عدم الزكاة فيكون في الآية إشارة مجملة إلى وجوب الزكاة ، وبيانها من النصاب والقدر المخرج وما يخرج منه علم بالإجماع والأخبار ، ويدلّ عليه الخبر من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام والتفصيل مذكور في الكتب الفقهيّة فليطلب هنا.

ويدلّ ما بعد هذه الآية على أنّ عدد الشهور اثنى عشر ، ثمّ في الآيات بعدها أحكام الجهاد ، ويدلّ على عدم قبول الإنفاق والزكاة من الكفّار بعدها قوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ. وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) (١) خطاب للكفّار بأنّ إنفاقهم طوعا وكرها سواء في عدم القبول ، والمراد بالفسق هو الكفر ، قاله في الكشاف ويؤيّده (وَما مَنَعَهُمْ) الآية وقال أيضا المراد بالأمر بالإنفاق هو الخبر ، لا الإنشاء والطلب ، ففيها دلالة على عدم قبول ما يعتبر فيه القربة منهم ، فتأمّل [في صحّة وقفهم (٢)].

ويدلّ على مذمّة الكسل وعدم قبول العبادة كسلا وكرها قوله (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) ففي صحّة العبادة من المكره عليها مثل الصلاة جبرا والزكاة الّتي يأخذها الإمام قهرا تأمّل إلّا أن يقال : إنّه يؤخذ بحسب الظاهر ويكلّف ، ولو لم يرض لم ينتفع به في الآخرة بل يمكن عدم السقوط في الدنيا أيضا ، ولكن ظاهر كلامهم خلاف ذلك فتأمّل ، وذلك في مثل

__________________

(١) براءة : ٥٥ ، وما بعدها ذيلها.

(٢) فان وقفهم سواء كان على أهل نحلتهم أو لمصالح العامة جائز.

١٨١

الزكاة من الحقوق الماليّة غير بعيد حيث إنّه حقّ الناس ، ويمكن أخذه منه ، فيجب وتبرأ ذمّته وسقطت النيّة منه

فيما يشترط ، وينوي وليّه وهو الامام عليه الصلاة والسلام ، ومن يقوم مقامه ، وأمّا في العبادة المحضة المحتاجة إلى الإخلاص فالظاهر عدم السقوط إلّا مع وجوده ، فان حصل بعد الإكراه فيقبل منه [وسقط عنه التكليف في نفس الأمر] وإلّا يسقط عنه التكليف بحسب الظاهر بمعنى عدم جواز تكليفه مرّة أخرى لا بحسب نفس الأمر فتأمّل.

الرابعة: (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١).

من جملة صفة المتّقين أنّهم يقدّرون في أموالهم نصيبا وحظّا للمستجدي الّذي يطلب وللمتعفّف الّذي يظنّ لذلك غنيّا فيحرم عن الصدقة والإعطاء ، فيمكن أن يستدلّ بها على الترغيب في نذر الأموال ونحوه ، وتعيين شيء منها للمذكورين ولو بالوصيّة وغيرها ، خصوصا إذا يدوم ، وأن يكون إشارة إلى ما تقرّر شرعا وجوبه مثل الزكاة والخمس فيكون المدح حينئذ باعتبار الكسب والإخراج.

الثاني

(في قبض الزكاة وإعطائها المستحق)

وفيه آيات :

الاولى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢).

تدلّ على جواز الصلاة على غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منفردا وكذا يدلّ عليه قوله

__________________

(١) الذاريات : ١٩ ، ومثلها في المعارج : ٢٤.

(٢) براءة : ١٠٤ و ١٠٥.

١٨٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهمّ صلّ على آل أبي أو في (١) وغير ذلك وقال في الكشاف (٢) في تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن لقوله (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) وقوله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وقوله عليه‌السلام «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك وهو أنّها إن كان على سبيل التبع كقولك صلّى الله على النبيّ وآله ، فلا كلام فيها ، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه ، لأنّ ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض (٣).

وقبح هذا الكلام واضح بحيث لا يحتاج إلى التصريح إذ لا معنى لجعل الآيات والأخبار دليل القياس وجعل المدلول قياسا ، ومنع ما صرّح الله ورسوله بجوازه وندبه بل وجوبه لأنّه شعار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأنّه شعار جماعة ، لأنّ الله ورسوله كانا عالمين بذلك ، ومع ذلك ندبا إليها فكأنّه منع علمهما به وكان خفيّا عليهما مفسدة ذلك ، نعوذ بالله من ذلك ، وكونه شعارا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينافي جوازه لغيره على أنّها إنّما صارت شعارا له لمنعهم ذلك وإنّها ليست شعارا له وحده ، بل يذكر معه آله حتّى في الصلاة ، فلا وجه للمنع لآله صلوات الله عليه وعلى آله ، وقد مرّ زيادة بحث فيه فتذكّر.

وهي تدلّ على وجوب أخذ الزكاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إن جاء أهلها بها إليه : وأنّ الزكاة تطهير للمال وتنمية ، ووجوب الدعاء عليه لأهله ، وأنّ دعاءه ممّا يسكن إليه قلوبهم وتطمئنّ به ، ولا تدلّ على وجوب الدفع إليه ولا إلى النائب ، ولا على وجوب الدعاء على مطلق الآخذ ، أي الساعي والنائب ، لأنّ الأمر مخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله بل لا يدلّ على وجوب الأخذ والدعاء عليه أيضا مطلقا لأنّها واردة في جماعة مخصوصة مثل أبي لبابة وأصحابه وقصّتهم مشهورة (٤) والضمير راجع إليهم فتأمّل.

__________________

(١) سنن أبى داود ج ١ ص ٣٦٨ ، الدر المنثور ج ٣ : ٢٧٥.

(٢) راجع في ذلك ص ٨٦ فيما تقدم ، والبحث هناك مستوفى.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٥٤٩.

(٤) كما رواه في الاستيعاب في ترجمة أبي لبابة ، وقد قيل في نزول الآية غير ذلك راجع مجمع البيان ج ٥ ص ٧٩ ، الدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٦. سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٥٣١ راجع شرح ذلك فيما علقناه على كنز العرفان ج ١ ص ٢٢٧.

١٨٣

وعلى قبول التوبة ، وقبول الزكاة على الله بل سائر العبادات ، بل وجوب العلم بذلك ، وكذا كونه رحيما ، وهي أنّ جماعة تخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين ذهب إلى الجهاد قيل هم ثلاثة ، وقيل عشرة ، سبعة منهم أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لمّا بلغهم ما نزل في المتخلّفين ، فأيقنوا بالهلاك ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل المسجد فصلّى ركعتين وكان عادته ذلك كلّما قدم من سفر ، وكأنّه لذلك يستحبّ لكلّ قادم ذلك كما ورد به الرواية وذكر في الدروس ، فسأل عنهم فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يحلّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال أنا اقسم أن لا احلّهم حتّى اؤمر فيهم ، فنزلت الآية المتقدّمة على هذه ، وهي (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) (١) فأطلقهم وأعذرهم فقالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه أموالنا الّتي خلّفتنا عنك فتصدّق بها وطهّرنا ، فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم ، فنزلت (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) الآية فأخذ منهم الزكاة المقرّرة شرعا.

الثانية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٢).

هذا بيان لصفة الصدقة : أمر المؤمنون بالإنفاق ـ لأنّهم المنتفعون به كما مرّ ـ من بعض طيب مكسوباتهم ، سواء كانت من تبعيضيّة أم ابتدائيّة ، أي حلاله أو جيّده المحبوب عندهم كما أشار إليه في قوله (مِمَّا تُحِبُّونَ) (٣) وبالإنفاق من طيب ما أخرجته الأرض ، فخذف المضاف بقرينة ما سبق ، أو أريد ممّا هو الطيّب من الغلّات والثمار والمعادن والكنوز ، ونهاهم عن قصد إنفاق الخبيث أي الردىّ أو الحرام من المال مطلقا «وتنفقون» كأنّه حال عن فاعل «تيمّموا» أي لا تقصدوا

__________________

(١) تمامه ، خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم ان الله غفور رحيم خذ من أموالهم الآية.

(٢) البقرة : ٢٦٧.

(٣) آل عمران : ١٩٢.

١٨٤

الخبيث من المال حال كونكم منفقين منه أو بأن تنفقوا منه ، فيكون بيانا لتيمّموا ويحتمل أن يكون «منه» متعلّقا بتنفقون ويكون حالا عن الخبيث وضمير منه راجعا إليه ، وفيه تكلّف (وَلَسْتُمْ) أي حالكم وشأنكم أنّكم لا تأخذون الخبيث في عوض حقوقكم إذا كانت لبعضكم على بعض ، لرداءته (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) وتسامحوا في أخذ الخبيث بالمعنيين ، فالاغماض مجاز في المسامحة من أغمض بصره إذا غمّضه فكما أنّه إذا كانت العين مغمّضة يؤخذ الرديّ والمعيب لعدم العلم فكذلك إذا سامح فكأنّه لا يرى عيبه ورداءته ، وكذا في الحرام أيضا لكن في الأوّل أظهر وعن ابن عبّاس أنّهم كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ) عن إنفاقكم بالجيّد والرديّ وإنّما يأمركم لمصلحتكم وانفاعكم و (حَمِيدٌ) بإثابته إيّاكم على الإنفاق وقبوله ، فهو حقيق بالحمد. ترغيب وبيان لانتفاعهم ولهذا عقّبه بقوله تعالى (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي الشيطان يعدكم الفقر في الإنفاق يعني يقول لا تنفقوا فإنّكم إذا أنفقتم تصيرون فقراء محتاجين ويأمركم بالفحشاء أي المحرّمات من عدم الإنفاق وإنفاق الرديّ أو الحرام وغيره أو البخل وغير ذلك من سائر المعاصي ، والله يعدكم مغفرة منه لذنوبكم وفضلا أي خلفا أفضل ممّا أنفقتم في الدنيا من البركة وتزكية المال من الحرام ، والنفس من البخل ، وفي الآخرة من الأجر العظيم ، والثناء الجميل والله واسع الفضل لمن أنفق عليم بما تعملون ، من إنفاق الرديّ والحرام والجيّد والحلال ، فيجازي كلّا بعمله.

فظاهرها وجوب إنفاق الطيّب بالمعنى المتقدّم ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى وجوب إخراج ما يجب في الزكاة من الحلال والجيّد المكتسب ، وتكون المكتسب عبارة عن المال الّذي يجب فيه الزكاة من النقدين والمواشي من الغنم والبقر والإبل فإنّها تحصل بالكسب والعمل ، والخمس من جميع ما يكتسب ، فلا يجوز إخراج الحرام ولا الردىّ من المرضى والمعيبات من غيرها ، ولا يكون مجزية أيضا لأنّه المقصود من النهي ، ولعدم العلم بحصول براءة الذمّة مع العلم بالاشتغال ، وأكّد

١٨٥

ذلك بقوله (وَلا تَيَمَّمُوا) إلخ وإلى وجوب الزكاة في الغلّات وبعض الثمار وجميع ما يخرج من الأرض والخمس فيه أيضا حتّى المعادن والكنوز إلّا ما اخرج بالدليل من الإجماع والأخبار كجواز إخراج الرديّ على تقدير كون ما يخرج منه كلّه رديّا أو بالقيمة السوقيّة على ما يقولون من جواز إخراج القيمة.

فالآية دلّت على وجوب إنفاق بعض ما يكتسب ، وما يخرج من الأرض ، وكون المخرج من الطيّب ، ويحتمل أن يكون المقصود منها وجوب الزكاة والخمس على الإجمال : فيشعر بوجوب زكاة التجارة أيضا لكنّها غير ظاهرة ، والأصل وخبر أبي ذرّ ـ وهو ما رواه زرارة في الصحيح قال كنت قاعدا عند أبي جعفر عليه‌السلام وليس عنده غير ابنه جعفر فقال : يا زرارة إنّ أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال عثمان كلّ مال من ذهب أو فضّة يدار ويعمل به ليتّجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول فقال أبو ذرّ : أمّا ما يتّجر به أو دير وعمل به فليس فيه زكاة إنّما الزكاة فيه إذا كان ركازا أو كنزا موضوعا ، فإذا حال عليه الحول ففيه الزكاة ، فاختصما في ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال فقال [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله] القول ما قاله أبو ذرّ الخبر ـ (١) ينفيانه وكون المراد هو الرّجحان المطلق فيشمل الواجب والمندوب وكون المخرج من الكسب استحبابا كذا قيل وفيه بعد.

الثالثة: (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) (٢).

أي أعط حقّ هؤلاء ، حقّ ذي القربى صلة الرحم بالنفس والمال على الوجه الّذي يمكن ويليق ، ويحتمل وجوب نفقة الأقارب وتخصيصها بالأبوين والأولاد لإجماع الأصحاب وأخبارهم وحقّ المسكين وابن السبيل يحتمل أن يكون الزكاة وما يليق أن يراعى المسكين وابن السبيل : وقيل معناها فأعط يا محمّد حقوق ذوي قرابتك الّتي جعلها الله لهم من الأخماس عن مجاهد والسدّى ، وروى أبو سعيد

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من أبواب ما نجب فيه الزكاة : ح ١.

(٢) الروم : ٣٨ ، وما يعدها ذيلها.

١٨٦

وغيره أنّها لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى فاطمة عليها‌السلام فدكا وسلّمه إليها وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام وقيل إنّه خطاب له ولغيره ، والمراد بالقربى قرابة الرجل وهو أمر بصلة الرحم بالمال والنفس وآت المساكين والمسافر المحتاج ما فرض الله لهم من مالك ، كما ذكرناه أوّلا فيحتمل أن يكون الأمر للوجوب ويكون المراد إعطاء النفقة الواجبة على الأبوين والأولاد ، والزكاة على المسكين وابن السبيل ، ونحو ذلك ممّا يجب بإجماع ونحوه ، وللرّجحان المطلق فيشمل الصلة الواجبة والمندوبة للأقارب وغيرهم فيكون التفصيل والبيان من غيرها (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إعطاء الحقوق مستحقّها خير لمن يريد رضى الله دون الرئاء والسمعة ، فإنّه شرّ لمن يريدهما وأولئك الّذين يريدون وجه الله هم الفائزون بثواب الله والقرب لديه.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) في هذه الربا قولان أحدهما أنّه ربا حلال وهو أن يعطي الرجل العطيّة أو يهدي الهديّة ليثاب أكثر منها ، فليس له أجر ولا وزر عليه عن ابن عباس وطاوس ، وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام والقول الآخر أنّه الربا المحرّم ، فعلى هذا يكون كقوله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (١) وفي قوله (يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) دلالة على اشتراط الإخلاص في الإنفاق فكأنّه النيّة فافهم.

الرابعة: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢).

فيها دلالة مّا على وجوب الزكاة ، وحصر من يزكّى عليه ، واللّام للاختصاص

__________________

(١) البقرة : ٢٧٦.

(٢) براءة : ٦١.

١٨٧

في الجملة بمعنى الربط المطلق والتعلّق ، لا الملكيّة ، لأصل عدم الملك ، وكون اللّام للأعمّ ويؤيّده «وَفِي الرِّقابِ. وَفِي سَبِيلِ اللهِ» فانّ «في» ليس للملكيّة ، ولهذا حملها الأصحاب على بيان المصرف والاستحقاق ، لا الملك ، وإلّا يلزم البسط على جميع الأصناف ، والشركة بينهم وبين الملّاك ، فلا يجوز تصرّفهم بغير إذنهم ، بل الإعطاء لبعضهم بغير إذن الباقين وأيضا يلزم إعطاء العين لا العوض ، ونحو ذلك من لوازم الملك والشركة ، والكلّ خلاف الإجماع على الظاهر.

والمراد من الفقراء والمساكين هنا واحد ، والذكر للتأكيد ولا فائدة هنا للبحث عن الأسوء ، والمراد من لا يقدر على قوت السنة له ولعياله الواجب نفقتهم ولو بالصنعة والكسب ، والعامل هو الّذي يجمع الزكاة ولا يشترط فيه إلّا العمل بظاهر الآية ، والمؤلّفة هي الطائفة من الكفّار الّتي يعطون حتّى يعينوا المسلمين على الكفّار ولا يشترط فيهم أيضا إلّا ذلك ، وفي الرقاب المراد به المماليك تشترى من الزكاة وتعتق واشترط البعض كونهم تحت الشدّة وبعض الكتابة ، وظاهر الآية خلاف ذلك ، وينبغي أن يعتقه الإمام أو المالك أو الوكيل بعد الشراء ، ويحتمل العتق بمحض الشراء ، والغارم هو الّذي عليه دين وليس له عوضه وظاهر الآية عدم اشتراط صرفه في المباح ، ولكن قيّد به للخبر ، ويمكن للإجماع ، وفي سبيل الله قيل الجهاد والظاهر أنّه مطلق القربات غير المذكورات ، وابن السبيل هو الّذي انقطع عن بلده وليس عنده ما يوصله إليه ، وإن كان له في بلده شيء ، ويمكن اشتراط عدم القدرة على التديّن وغيره للوصول إلى البلد ، فانّ المتبادر من ابن السبيل هو العاجز عن الوصول إلى بلده فتأمل ويحتمل العدم لظاهر اللفظ وعدم ظهور التبادر.

وهنا أحكام تطلب من كتب الفروع ، مثل اشتراط الايمان أو حكمه مثل أطفال المؤمنين في غير المؤلّفة ، وعدم كونه هاشميا إذا كان المعطي غيرهم للخبر والإجماع على الظاهر ، إلّا مع العجز ، فيعطوا ما يسدّ الرّمق ، مثل ما يؤكل حال الضرورة ما لا يجوز أكله للعقل والنقل ، ويحتمل مقدار دفع الضرر العرفيّ الّذي

١٨٨

لا يتحمّل مثله ، ويجوز من الهاشميّ لهم فتأمل ، وعدم اشتراط العدالة في الفقراء للأصل ، وعموم الآيات والروايات ، وعدم دليل صالح له ، نعم الظاهر اعتبارها في العامل ليحصل الوثوق به ، ولدعوى الإجماع عليه في الدروس ، والأحوط اعتبارها فيهم ، واشتراط عدم كونه ممّن يجب نفقته (١) على المزكّي في الفقراء والمساكين بل لا يحتاج إلى الذكر لأنّ ذلك قادر على القوت.

ويدلّ على أنّ إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حرام ويحتمل أن يدلّ على وجوب القتل والارتداد قوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) (٢) الاذن هو الرجل الذي يصدّق كلّ ما سمع ، ويقبل قول كلّ أحد ـ إلى قوله ـ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يحتمل العذاب الأليم القتل والخلود في النار ، ويدلّ أيضا على أنّ كون الشخص بحيث يقبل قول كلّ أحد ويعمل بمقتضاه ولا يحمله على الكذب ولا يظنّ ذلك ممدوح كما هو المقرّر حتّى قبول الايمان من المخالف والمنافق ، والعمل بمقتضى ظاهرهما ، ولا يكلّف ببواطنهم ، وأداه صلوات الله عليه وعلى آله يمكن أن يشمل حال حياته وموته من الاستهزاء والسخريّة ، وكذا ذرّيّته كما روي أنّه قال : فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني (٣) وغير ذلك من الأخبار الدالّة على ذلك.

الخامسة: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٤).

أي إن تظهروا الصدقات وإنفاقها فنعم الشيء تلك الصدقة المبداة ، يعني

__________________

(١) كذا في عش ، وفي سن : واشتراط كونه ممن لا يجب نفقته.

(٢) براءة : ٦١ ، وهي ذيل آية الزكاة.

(٣) حديث متواتر مشهور ، رواه الفريقان ، راجع مشكاة المصابيح ص ٥٦٨.

(٤) البقرة : ٢٧١ وقراءة عاصم وابن عامر كما في المصحف المطبوع «يكفر».

١٨٩

أنّ إبداءها نعم شيء لا قبح فيه ، بل فيه ثواب وحسن ، وإن تخفوا الصدقات وتؤتوها الفقراء خفية ، فذلك الإنفاق خير لكم من إظهاره ، والله يسقط بسبب الإنفاق مطلقا أو الإنفاق المخفيّ بعض الذنوب عنكم ، فمن تبعيضيّة ، قيل : تلك الذنوب صغائر وقيل : أعمّ فإنّ العبادات اللّاحقة تسقط الذنوب المتقدّمة وجوبا ، وهو مذهب الإحباط والتكفير وعلى مذهب الأصحاب من بطلان الإحباط والتكفير عندهم على ما هو المشهور (١) بل ادّعي عليه الإجماع يكون ذلك الاسقاط تفضّلا من الله تعالى بعد ذلك الإنفاق فما يصير واجبا إلّا بوعده وقوله ، لا قبله بسبب الإنفاق ، وكذا جميع ما ورد مثله في الإحباط والتكفير من الآيات والروايات ، أو يقال : المجمع على بطلانهما هو إحباط المتأخّر ـ ولو كان قليلا ـ جميع ما تقدّم من الطاعة والمعصية ، لا إسقاط ما يساويه ، الله يعلم.

قال الفخر الرازي : القول بالإحباط باطل ، لأنّ من أتى بالايمان والعمل الصالح استحقّ الثواب الدائم ، فإذا كفر بعده استحقّ العقاب الدائم ، ولا يجوز وجودهما جميعا ، ولا اندفاع أحدهما بالآخر ، إذ ليس زوال الباقي بطريان الطاري أولى من اندفاع الطاري لقيام الباقي ، والمخلص أن لا يجب عقلا ثواب المطيع ولا عقاب العاصي.

وفيه نظر : أوّلا أنّه لا دخل لقوله «ولا يجوز» إلخ في بطلان الإحباط ، بل مؤيّد له ، وثانيا عدم ذكر بطلان ارتفاعهما وثالثا النقض بإيجاد المعدوم ، وبالعكس وبطريان الضدّ كما قيل ، ورابعا الحلّ بأنّه لا يجوز رجحان علّة الثاني والطاري على الباقي الأوّل ، وخامسا لا شكّ في إحباط الكفر بالايمان ، وبالعكس ، وهو صريح القرآن والأخبار ، ونقل عليه الإجماع ، بل يوجد الإحباط مطلقا فيهما وسادسا أنّ هذا بالحقيقة بطلان استحقاق الثواب والعقاب ، لا الإحباط فتأمّل ، وسابعا أنّ المخلص ليس بمخلص ، فإنّه ليس بإبطال الإحباط ، لأنّه إنّما هو على

__________________

(١) الإحباط بطلان ثواب الحسنات ، والتكفير بطلان عقاب السيئات.

١٩٠

تقدير الاستحقاق ، وأيضا إنّ الإحباط ممكن على تقدير الاستحقاق الشرعيّ وما أبطله حينئذ فما بطل الإحباط وقد كان المطلوب ذلك ، وثامنا ينبغي أن يقول ولا اندفاع الباقي بالطاري كما يقتضيه مدّعاه ، ودليله ، وإلّا يصير الدليل أخصّ من المدّعى وهو ظاهر فتأمل ، وتاسعا أن لا معنى لنفي الاستحقاق العقلي أصلا مع أنّ دليله ينفي الشرعيّ أيضا فإنّ القائل لم يدّع الاستحقاق عقلا من غير شرع بل يدّعي أنّ العقل يحكم به بعد ورود الشرع ، لوجود الآيات الكثيرة الدالّة على ذلك ، والقرآن مشحون بذلك مثل «جزاء بما كنتم تعملون (١)» و «بما كسبتم (٢)» وأمثال ذلك كثيرة جدّا والأشاعرة يدّعون أن ليس ذلك بالاستحقاق لا عقلا ولا شرعا وقال العلّامة الدوانيّ في إثبات الواجب : الثواب والعقاب ليسا لسابقة استحقاق من غير قيد بالعقل ودليلهم يدلّ على ذلك وهو أنّ فعل العبد ليس باختياره ، وأنت تعلم فساد هذا الكلام ، فانّ الآيات والأخبار مشحونة باستحقاق العبد إيّاهما مثل ما مرّ ، وهب أن لا استحقاق للثواب ، لاحتمال التفضيل ، فلا معنى للعقاب بغير استحقاق وهو ظاهر ، والمخلص أن لا معنى لنفي الحسن والقبح العقليّين ولا لعدم استحقاق الثواب فالعقاب بالعمل ، وجواز إدخال الشيطان وسائر العصاة الجنّة ، والأنبياء النار ، كما جوّزه الأشعريّ ، وأنّ ما يدلّ على الإحباط كثير جدّا والتأويل ما تقدّم فتأمل.

«والله عليم ـ بجميع ـ ما تعملون» من الإنفاق أو مطلق العمل سرّا وجهرا ليلا ونهارا حسنا وقبيحا ويجازي على ذلك العمل على قدر الاستحقاق ، ويتفضّل على قدر ما يريد بفضله.

ثمّ إنّ ظاهر الآية ، يدلّ على أفضليّة إخفاء الصدقة مطلقا ، ويدلّ عليه بعض الروايات أيضا مثل صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ وتطفئ الخطيئة

__________________

(١) في القرآن العزيز آيات كثيرة بهذا المعنى ، مثل قوله تعالى (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواقعة ٢٤ ، واما ما ذكره في المتن فلا يوجد في القرآن الكريم.

(٢) راجع البقرة : ١٣٤ و ١٤١ ، ولفظه (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) وقوله تعالى (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) ، الزمر : ٥١.

١٩١

كما يطفئ الماء النار ، ويدفع سبعين بابا من البلاء (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سبعة يظلّهم الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه : الامام العادل ، وشابّ نشأ في عبادة الله تعالى ، ورجل قلبه متعلّق بالمسجد حتّى يعود إليه ، ورجلان تحابّا في الله : اجتمعا عليه ، وتفرّقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنّي أخاف الله عزوجل ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لم يعلم يمينه ما ينفق شماله ، ورجل ذكر الله خاليا أي وحده في الخلوة ففاضت عيناه (٢).

والمشهور بين الأصحاب أنّ الإظهار في الفريضة أولى ، سيّما في المال الظاهر ، ولمن هو محلّ التهمة لدفع تهمة عدم الدّفع ، وبعده عن الرئاء ، ولأن يتّبعه الناس في ذلك ، والإخفاء في غيرها ليسلم من الرئاء ، والمرويّ عن ابن عبّاس أنّ صدقة التطوّع إخفاؤها أفضل ، وأما المفروضة فلا يدخلها الرئاء ويلحقها تهمة المنع فإظهارها أفضل وما رواه في مجمع البيان عن عليّ بن إبراهيم بإسناده إلى الصادق عليه‌السلام قال الزكاة المفروضة تخرج علانية وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعها سرّا فهو أفضل (٣) فإن ثبت صحّته أو صحّة مثله فيخصّص هذه الآية ويفصّل به ، وإلّا فهي على عمومها ، ومعلوم دخول الرياء في الزكاة المفروضة ، كما في سائر العبادات المفروضة ، ولهذا اشترط في النيّة عدمه ، ولو تمّت التهمة لكانت مختصّة بمن يتّهم.

__________________

(١) أخرجه الطبرسي في المجمع ج ٢ ص ٣٨٥ ، والظاهر أنه متلقط من أحاديث راجع الوسائل ب ١٣ من أبواب الصدقة ، ومستدركه ص ج ١ ٥٣٤.

(٢) أخرجه في الجامع الصغير كما في السراج المنير ج ٢ ص ٣٣٧.

(٣) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٨٤.

١٩٢

(الثالث)

(في أمور تتبع الإخراج)

وفيه آيات :

الاولى: (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (١).

فيها تحريض على الإنفاق بالخير كأنّه المال بأنّ ذلك أنفع للمنفق لا للمنفق عليه ، وبأنّه موجب لتوفية الأجر ، واشتراط القربة والإخلاص لأنّ الظاهر أنّ المراد بالنفي في قوله «وما تنفقون» النهي فيفهم النيّة ، فافهم.

الثانية: (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢).

قيل تقديره اعمدوا للفقراء ، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء ، أو يكون خبرا لمبتدإ محذوف أي صدقاتكم للفقراء ، ولمّا بيّن الإنفاق الّذي هو خير ، أراد أن يشير إلى المنفق عليه الّذي الإنفاق عليه خير ، فقال (لِلْفُقَراءِ) فيحتمل أن يكون التقدير هو للفقراء أي إعطاؤه للفقراء خير ، أو ينبغي كون ذلك للفقراء كاخفائه ، أي للّذين ليس لهم نفقة السنة فعلا [أ] وقوّة ، وأحصروا أنفسهم في سبيل الله ، يعني منعوا أنفسهم عن الكسب بالتجارة وغيرها للتهيّؤ للجهاد أو لمطلق العبادة ولا يقدرون على الرواح في التجارة والكسب لاشتعالهم بالجهاد أو العبادة مطلقا (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ) من جهة عفّتهم وعدم سؤالهم ، وكأنّ جملة :

__________________

(١) البقرة : ٢٧٢.

(٢) البقرة : ٢٧٣.

١٩٣

لا يستطيعون بيان لجملة أحصروا أو صلة اخرى للّذين أو حال ، وكذا (يَحْسَبُهُمُ) و (تَعْرِفُهُمْ) بعلاماتهم من الضعف وصفرة الوجه كأنّ الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لكلّ من يتأمّل في شأنهم «و (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً») أي إلحاحا إمّا مصدر فانّ الالحاف سؤال خاصّ أي السّؤال بحيث يلازم المسئول حتّى يعطيه ولا يفارقه إلّا بإعطاء ، أو حال بمعنى ملحفين ، والمعنى لا يسألون الناس وإن سألوا لضرورة فلا يسألون سؤال ملحف وملحّ ، وقيل : المراد نفي السؤال والالحاف جميعا ، ونقل من كلام العرب مثله (١) وهذا هو المناسب لو فهم ، والمراد ليسوا كغيرهم يسألون الناس إلحافا لا أنّهم يسألون ولا يلحفون ، وبالجملة ذكر الالحاف ليس للاعراض (٢) بل هو للوقوع ، ووقوعه من غيرهم وكثرة قبحه ، وفي الحديث : إنّ الله يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف ويبغض البذيّ السائل الملحف (٣).

وما تنفقوا من مال ، لهم ولغيرهم ، سرّا وعلانية في سبيل الله ، فإنّه يعلمه ويجازي عليه على قدر الاستحقاق والمشقّة ، وحسن المال وحسن الإنفاق ، والمنفق عليه ، والمكان والزمان ، وحذفت النون لتضمّن «ما» معنى الشرط ، ولهذا دخل الفاء في الخبر ، قيل الفقراء هم أصحاب الصفّة وهم نحو من أربع مائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، وكانوا في صفّة المسجد يتعلّمون القرآن بالليل ويلتقطون النوى بالنّهار وكانوا يخرجون مع كلّ سريّة بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى (٤) وعن ابن عبّاس وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما على أصحاب الصفّة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال أبشروا يا أصحاب الصفّة فمن بقي من أمّتي على النعت الّذي أنتم عليه راضيا بما فيه ، فإنّهم من رفقائي (٥).

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ذيل الآية الشريفة.

(٢) للاحتراز خ صح ، كذا في هامش عش.

(٣) أخرجه في الدر المنثور ج ١ ص ٣٥٩ ، مجمع البيان ج ٢ ص ٣٨٧.

(٤) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٨٧.

(٥) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٨٥.

١٩٤

فالحديث إشارة إلى حسن حال أصحاب الصفّة وأنّهم على أمر عظيم ، وكذا من هو مثلهم ، ومضمون الآية الشريفة حثّ الأغنياء على الإنفاق على أمثالهم ، واستحبابه ، وحثّ الفقراء على الاتّصاف بصفة هؤلاء الموصوفين من الاشتغال بالعبادات وبذل النفس وحبسها في سبيل الله ، والصبر على الفقر ، والرضا به ، وعدم السؤال فإنّ الظاهر أنّ الحكم غير مختصّ بهؤلاء المذكورين كما يفهم من سوق الآية وذكر العلماء إيّاها في باب الزكاة ، والخبر المنقول آنفا ، وأيضا لعدم وجود الفارق للاتّصاف بالصفات الحسنة وحينئذ لا كراهة في أخذ الزكاة ، وترك الكسب اشتغالا بالعبادة ، سيّما طلب العلوم الدينيّة فإنّه كالجهاد ، بل أعظم على ما قالوا وورد به بعض الروايات ، بل يكون مستحبّا إلّا أن يكون صاحب عيلة فيسعى في الكسب لهم دون الاشتغال بالعبادة لاحتمال حصول الزكاة ، الله يعلم.

ثمّ حثّ على الإنفاق أيضا بل على الإنفاق دائما وبكلّ ماله بقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قال في الكشّاف وتفسير القاضي ومجمع البيان إنّه قال ابن عباس إنّها نزلت في علىّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث كانت معه أربعة دراهم فتصدّق بواحد نهارا وبواحد ليلا وبواحد سرّا وبواحد علانية ، قال في مجمع البيان وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام (١) وقيل غير ذلك أيضا مثل أنّها نزلت في خيل المرابطة ، وقيل في كلّ منفق كذلك ، والظاهر أنّها نزلت فيه عليه‌السلام للأخبار والشهرة ولكنّها عامّة فكلّ من يفعل ذلك فله هذا ، ولكنّ السابق هو عليه‌السلام فله أجر كلّ من يفعل من غير أن ينقص من أجر الفاعل شيء للخبر المشهور (٢).

وهذه تدلّ على حسن الإنفاق واستحبابه ولو بكلّ المال ، وفي كلّ وقت وعدم الخوف والحزن لعدم حصول النفقة له على احتمال ، إذ حاصلها وصف الّذين يعمّون الأوقات والأحوال ، وأموالهم بالصّدقة ، لحرصهم على

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٨٨.

(٢) من سن سنة حسنة إلخ.

١٩٥

الخير ، فكلّما نزلت بهم حاجة محتاج عجّلوا قضاءها ولم يؤخّروها ولم يتعلّلوا بوقت ولا حال ، ولا مال دون آخر ، خوفا من الفوت وعدم الوصول إلى مرضات الله به ، والظاهر من (أَمْوالَهُمْ) جميع الأموال ، ويدلّ عليه سبب النزول أيضا ، وكأنّ معنى الآية الإنفاق في النهار سرّا وعلانية ، وكذا في اللّيل ، ولعلّ محصّل سبب النزول ذلك والإشارة إلى الإنفاق مطلقا والمبالغة في ذلك ، وعدم تركه وعدم جعل شيء مانعا له ، وإلّا فالسرّ إمّا ليلا أو نهارا ، وكذا العلانية وبالعكس فتأمّل.

ويفهم من قوله تعالى (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أنّ ذلك بالاستحقاق وفي القرآن العزيز والأثر الشريف أمثالها كثيرة فقول المجبّرة بأنّ العبد لا يستحقّ شيئا بعمله باطل ، وتفخيم الأجر ، وأنّه أجر عظيم (١) وأنّ ذلك أجر الإنفاق وأنّه لا خوف عليهم من أهوال يوم القيامة ، ولا هم يحزنون فيه ، مع عظم هول ذلك اليوم وحزن الناس فيه كما هو المعلوم والآيات والأخبار مشحونة به وبالجملة عذاب هذا اليوم وشدّته معلوم من الدين ضرورة ، بحيث لا يحتاج إلى الإشارة ، ومع ذلك المنفق المذكور آمن من ذلك كلّه بالإنفاق المذكور ، فكان الإنفاق أمرا عظيما عند الله ، وأنّ لله اهتماما بحال الفقراء ، وفي الأخبار أيضا ما يدلّ عليه.

الثالثة: (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢).

السؤال طلب الجواب ، وأمّا كونه بصيغة مخصوصة كما قيّد به في مجمع البيان فغير واضح ، والنفقة ، الظاهر أنّها صرف المال ، وقال فيه : إنّها إخراج الشيء عن ملكه ببيع وهبة وصلة وغير ذلك ، وقد غلب في العرف على إخراج ما كان من

__________________

(١) بأنّه أمر عظيم. سن.

(٢) البقرة : ٢١٥.

١٩٦

المال من عين أو رزق ولعلّ المراد بالوالدين أعمّ ممّن كان بواسطة أو بلا واسطة حقيقة أو تغليبا ، والأقربين : أقارب المنفق غيرهما ، واليتيم : طفل لا أب له ، والمسكين من ليس له نفقة السنة ، وابن السبيل المسافر المنقطع به (ما ذا يُنْفِقُونَ) «ما» مبتدأ و «ذا» خبره ، وهما بمنزلة لفظ واحد مفعول «ينفقون» ، و «ما» موصولة متضمّنة لمعنى الشرط ، وأنفقتم صلتها و «من» بيان «ما» وحال عن العائد المحذوف «فللوالدين» خبر مبتدأ محذوف والمجموع خبر «ما» وصحّ دخول الفاء لتضمّنها معنى الشرط.

قال في مجمع البيان : إنّها نزلت في عمر وبن الجموح وكان شيخا كبيرا وكان ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله بما ذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية (١) والمعنى يسألونك يا محمّد أيّ شيء ينفقون؟ وكأنّ المراد ما ينفقون على وجه كامل ، فيدخل المنفق عليه أيضا والقرينة أنّه كان في سؤال عمرو وأنّه المقصود الحقيقيّ وأنّه مذكور في الجواب فبيّن في الجواب كلّا ممّا سئل من المنفق والمنفق عليه ، لأنّه بيّن أنّ كلّ ما أنفق فهو حسن إذ بيّن أنّ المنفق لا بدّ أن يكون خيرا أي ما لا فهو مقدّر في طرف القلّة بما يسمّى خيرا وأمّا في طرف الكثرة فلا حدّ له فلا يحتاج إلى أن يقال : إنّه ترك المنفق وبيّن المصرف مع أنّ السؤال عن المنفق للإشارة إلى أنّ الأهمّ هو بيان المنفق عليه فينبغي السؤال عنه لا عن المنفق ، فإنّه أيّ شيء كان فهو حسن.

ثمّ إنّه قال في الكشّاف عن السدّي : هي منسوخة بفرض الزكاة واعترض عليه القاضي أنّه لا ينافي الزكاة حتّى ينسخ بها ، والظاهر أنّ المراد أنّها كانت نازلة في الزكاة ثمّ نسخت ببيان مصرفها بآية الزكاة ، ولهذا ليست في فرض الزكاة فقطّ بل في بيان المصرف ويؤيّده ما قاله في مجمع البيان وقال السدىّ : الآية واردة في الزكاة ثمّ نسخت ببيان مصارف الزكاة ، فالمنافاة حاصلة باعتبار الإنفاق على الوالدين مع عدم جواز إعطائها لهما اتّفاقا على ما قالوه ، وكذا بعض الأقارب

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٠٩.

١٩٧

وهم الأولاد ، فما يمكن حملها على الزكاة الواجبة المتعارفة الآن ، فيمكن حملها على الإنفاق الواجب أعمّ من الزكاة والنفقة الواجبة للوالدين ، أو يكون المراد مطلق الراجح أعمّ من المندوب والواجب ، والمندوب يكون أعمّ ، والواجب يكون مخصوصا بغيرهم ، أو يكون المراد الإنفاق المندوب لا غير ، الله يعلم بما أراده.

الرابعة: (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (١).

السائل هنا أيضا عمرو بن الجموح سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن النفقة في الجهاد أو الصدقات ، ويحتمل الأعمّ : أي أيّ شيء ينفق (قُلِ الْعَفْوَ) أي أنفقوا العفو فهو منصوب على أنّه مفعول فعل محذوف ، وقرئ بالرّفع أي المنفق العفو ، وهو ما فضل عن الأهل والعيال ، أو الفضل عن الغني ، أو الوسط من غير إسراف ولا تقتير ، وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام أو الفاضل عن قوت السنة عن الباقر عليه‌السلام قال ونسخ بآية الزكاة ، وبه قال السدّى ، أو أطيب المال وأفضله كذا في مجمع البيان (٢) ولا شكّ في بعد النسخ لأنّه خلاف الأصل ، والمنافاة غير ظاهرة إلّا بالتأويل.

قال في الكشّاف : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق مالا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع يقال للأرض السهلة العفو ، وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ رجلا أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال خذها منّي صدقة فأعرض عنه رسول الله فأتاه من الجانب الأيمن فقال مثله فأعرض عنه ثمّ أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه ، فقال هاتها مغضبا فأخذها ، فحذفه بها حذفا لو أصابه لشجّته أو عقرته ثمّ قال : يجيء أحدكم بماله كلّه يتصدّق به ، ويجلس ويتكفّف الناس ، إنّما الصدقة عن ظهر غنى (٣) ولا يخفى بعد هذا الخبر فإنّه بعيد عن خلقه من غير ذنب

__________________

(١) البقرة : ٢١٩.

(٢) مجمع البيان ج ٢ ص ٣١٦ ، وهكذا تفسير العياشي ج ١ ص ١٠٦.

(٣) أخرجه في المستدرك ج ١ ص ٥٤٤ عن غوالي اللئالي ، وتراه في سنن ابى داود ج ١ ص ٣٨٩.

١٩٨

وبعيد من الفاعل أيضا ذلك وأيضا في الأخبار ما يدلّ على مدح الصدقة عن جهد واحتياج ، والأخبار الّتي تدلّ على مواساة الإخوان أو التسوية قد تنافي ذلك ، ويكفي في ذلك فعل أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم‌السلام حتّى نزلت هل أتى ، وقوله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (١) أي حاجة ولكن يوافق الأوّل (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٢) ومثله «خير الصدقة ما أبقت غنى» (٣) ولعلّ وجه الجمع باعتبار الأشخاص فكلّ من يقدر على الصبر ، ولا تجرّه الصدقة إلى السؤال ، وارتكاب المحذورات ، تكون تصدّقه بجهده أفضل ، ومن لم يكن كذلك فلا ، أو بالنسبة إلى العيال والأهل وعدمهم ، الله يعلم.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) والحجج في أمر النفقة والخمر والميسر المذكورين في صدر الآية (٤) أو مطلق أحكام الشرع بيانا مثل هذا البيان أو يبيّن لكم الآيات والدلائل في أمور الدين والدنيا ، فكذلك ، صفة لمفعول مطلق محذوف. لكي تتفكّروا في أمور دينكم ودنياكم ، وتفهمونها وتختارون ما هو الأصلح وأنفع لكم مثل العفو على الجهد أو تتفكّرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما نفعا ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله (إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي لتتفكّروا في عقاب الإثم في الآخرة ، والنفع في الدنيا حتّى لا تختاروا النفع القليل العاجل على العقاب العظيم.

الخامسة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥).

أي أنفقوا أيّها الّذين آمنتم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبما جاء به ، فكأنّ تخصيصهم لأنّهم المنتفعون ، فانّ الكفّار أيضا مكلّفون بالفروع على المذهب الصحيح ، فكأنّه

__________________

(١) الحشر : ٩.

(٢) أسرى : ٢٩.

(٣) الكافي ج ٤ : ٤٦.

(٤) صدرها : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ما ذا ينفقون الآية.

(٥) البقرة : ٢٥٤.

١٩٩

أمر وإيجاب بإخراج النفقة ، مثل الزكاة ونفقة العيال الواجبة أو صرف المال في الحجّ وفي سدّ جوعة المسلم ، وبالجملة جميع الواجبات الماليّة ، فدلّت على وجوب الإنفاق في الجملة ، وخصّ وبيّن بالإجماع في المواضع المعيّنة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ) يوم القيامة الّذي لا يكون فيه بيع أصلا حتّى تستدركوا ما فاتكم بالإنفاق في الدنيا من الثواب العظيم ، وإسقاط العقاب الأليم ، ولا خلّة أي ولا محبّة حتّى يعينكم أحلّاؤكم وأحبّاؤكم ويساعدوكم على ذلك إذ لا خلّة يومئذ إلّا بين المتّقين كما قال الله تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (١) ولا شفاعة هناك إلّا لمن ارتضى أو لمن أذن له الرحمن ليشفعوا لكم لحطّ ما في ذمّتكم إذ قد لا يأذن الرحمن لكم بالشفاعة ولم تكونوا من أهلها ، أو لم يشفع لكم أحد.

وتاركو الإنفاق هم الظالمون ، فعبّر عن تارك الزكاة بالكافر للمبالغة ، كما عبّر عن تارك الحجّ به في قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٢) وأيضا حصر الظالمين فيهم للمبالغة والإشارة إلى كمال الاهتمام بحال الإنفاق ، ويحتمل أن يكون هذه جملة مستقلّة ويكون الغرض الإخبار بأنّ الكفر ظلم عظيم كما قال الله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٣) لأنّه ظلم على نفس الكافر بالحرمان عن السعادة والوقوع في الشقاوة الأبديّتين بالكلّيّة وأنّ يوم القيامة هم الّذين ظلموا أنفسهم لا أنّ الله ظلمهم ، ويحتمل أن يفهم أنّ ترك الإنفاق ظلم لكنّ الكفر ظلم عظيم وهذا بالنسبة إليه ليس بظلم وحينئذ يحتمل أن يكون الإنفاق شاملا للواجب والمندوب كما قيل ، وليس بذلك البعد ، والله يعلم.

السادسة: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٤).

أي مثل صدقة الّذين ينفقون كمثل حبّة أو مثل الّذين ينفقون كمثل زارع

__________________

(١) الزخرف : ٦٧.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) لقمان : ١٣.

(٤) البقرة : ٢٦١.

٢٠٠